-->

بحث عن السيميائية

بحث عن السيميائية

    بحث عن السيميائية

    بحث عن السيميائية

    أ-معنى (السيمياء) باللغة العربية:
    السيمياء: العلامة، مشتقة من الفعل "سام" الذي هو مقلوب "وَسَمَ"، وزنها "عِفْلَى"، وهي في الصورة "فِعْلَى"، يدل على ذلك قولهم: سِمَةٌ، فإن أصلها: وِسْمَةٌ، ويقولون: سِيمَى بالقصر، وسيماء بالمد، وسيمياء بزيادة الياء وبالمد، ويقولون: سَوَّمَ إذا جَعَلَ سمة، وكأنهم إنما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصّل إلى التخفيف لهذه الأوزان، لأن قلب عين الكلمة متأتٍ خلاف قلب فائها، ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من "سَوَمَ" المقلوب، وإنما سمع منه فعل مضاعف في قولهم: سَوَّمَ فرسَهُ، أي: جعل عليه السيمة، وقيل: الخيل المسومة هي التي عليها السيما والسومةُ، وهي العلامةُ(2).
    وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قوله تعالى: )تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناسَ إلحافاً(. البقرة(273). وقوله: )وبينهما حجابٌ وعلى الأعراف رجالٌ يعرفون كلا بسيماهم(، الأعراف(46). وقوله: )ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم(، الأعراف (48)، وقوله: )سيماهم في وجوههم من أثر السجود(، الفتح(29). وقوله: )يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام(، الرحمن(41).
    وقد وردت كلمة السيمياء كذلك في الشعر، ومنه قول أسيد بن عنقاء الفزاري يمدح عميلة حين قاسمه ماله:
    غُلاَمٌ رماه اللهُ بالحسنِ يافعاً لَهُ سيمياءٌ لا تَشُقُّ على البصر
    كَأنَّ الثُّرَيا عُلِّقَتْ فوقَ نحرهِ وفِي جيدِه الشعرَى وفي وجهه القَمر(3)
    وفي مقدمة ابن خلدون بحث كامل عنوانه: (علم أسرار الحروف) أو علم السيمياء كما فهمه القدماء.
    يتَّضحُ مما أوردنا أن كلمة سيمياء مشتقة، وهي بمعنى العلامة أو الآية، أي بالفرنسية (Signe)(4). والأولى لنا استخدام هذا المصطلح (سيمياء) دون غيره لأنه مصطلح ضارب في الأصل العربي. ويعبر عنه حالياً بمصطلحين، هما: "Sémiologie" بالفرنسية و"Sémiotice" بالإنكليزية. وهذان المصطلحان مشتقان من اللفظة الإغريقية لـ "Sémion" بمعنى الإشارة أو العلامة.
    ب- (سيمياء) اصطلاحاً:
    إن مصطلح «سيمياء» يعني في أبسط تعريفاته وأكثرها استخداماً نظام السمة أو الشبكة من العلاقات النظمية المتسلسلة (5)، وفق قواعد لغوية متفق عليها في بيئة معينة.
    إن السيمياء هي "عبارة عن لعبة التفكيك والتركيب، وتحديد البنيات العميقة الثاوية وراء البينات السطحية المتمظهرة فونولوجياً ودلالياً"(6)، وهي بأسلوب آخر "دراسة شكلانية للمضمون، تمر عبر الشكل لمساءلة الدوال من أجل تحقيق معرفة دقيقة بالمعنى"(7).
    وهناك شبه اتفاق بين العلماء يعطي مكانة مستقلة للغة، يسمح بتعريف السيمياء على أنها دراسة الأنماط والأنساق العلاماتية غير اللسانية(9). إلا أن العلامة في أصلها قد تكون لسانية (لفظية)، وغير لسانية (غير لفظية)(10). 


    السيميائيات:
    هي علم نظام العلاقات ، في تعريف مختصر لها ،
    لكن السيميائية بوجه عام هي اكبر من ذلك ، Semiologie : هو علم السيميائية :
    وهو علم العلامات في تعبير وتعريف آخر ،
    باعتبار ان موضوع السيميائية هو كبير جدا ومتشعب ، لكنه فعلا ينظم العمل الفني ، فعملية البناء تتطلب الترصيص وتتطلب نظاما ينظم العلائق بين العناصر المكونة . السيميائية لاتفرض توحيد العرض باستعمال اداة معينة او تصور موحد او..... لعمل جماعي لمجموعة لوحات لفنان واحد او عرض جماعي لفنانين متعددين ، السيميائية تفوق الحدود ، بحيث ان هذا المعطى يمكن امكانه. لكن داخل فضاء اللوحة كنسق فني قائم : بناء اللوحة يتطلب معطيات داخل الذات وأخرى خارجها . نظام العلاقات داخل فضاء اللوحة ، الأستاذ حيدر يرمز فيها إلى أشياء معينة نبعت من مشاعره الجياشة ، باستعماله للرموز لابد أن يخضع لنظام سيميائي يحكم العلاقات بين الرموز والعلامات بطرق تخضع لقواعد متلائمة مع المجال الذي اشتغل عليه وفيه . لابد من الجانب العلائقي في النظم التشكيلي لكي يتسنى للرموز والعلامات ان تكسب صفة السيميائية .
    باختصار شديد : السيميائية علم ينظم العلاقات داخل فضاء اللوحة التشكيلية : داخل الفضاء لابد من وجود علائق : لوجود العلائق لابد من وجود رموز وعلامات ولابد من ضبط طرق النظم أثناء صياغة المحتوى التشكيلي . هذا من جهة اما من جهة ثانية وتتعلق بالضفة الأخرى من حيث القارئ : 
    فموريس يرى أنه يجب التمييز بين ثلاث فروع للسيميائية نكتفي نحن باثنين فقط على حد الحاجة :
    1 التركيب : ويعني به موريس : دراسة العلاقات الشكلية بين العلامات والدلالة ويعني بها علاقة العلامات بالأشياء .
    2 التداولية : ويعني بها موريس : دراسة علاقة العلامات أو الرموز بمؤوليها . وفي هذا الصدد يقول بيرس : لايتسنى التفكير بدون علامات والتفكير هو بالعلامات او الرموز .
    حيث ان بيرس تبنى فكرة : العلامة الفكر . وهي منهج لمعرفة التصورات التجريدية .
    تعريف موريس جعل النهوض قائما لدراسة الظواهر النفسية والاجتماعية وغيرها الموجودة داخل انظمة العلامات وكذلك دراسة التصورات التجريدية . ففهم الرموز يتوقف على فهم موضوعها .
    ربط الرموز في اطار علاقات منتظمة يبرر موضوعها ويكشف أسرارها ، وحتى كذلك لا نسقط فيما يسميه بيرس : قصور العلامة .باعتبار العلامة او الرمز هما الدليل لكنه وحيثيات الموضوع .
    النظام السيميائي اذن في بوثقته وأصله يصب في ابراز المعنى او الموضوع داخل التشكيلات والتعقيدات الرمزية والعلاماتية واللونية .
    السيميائية البنيوية :هي تقصي الهيكلة التي انبنى عليها الموضوع ، لأن الخلاصة هي أن تصل القراءات المتعددة للوحة الى معنى مشترك أجمع النقاد المحدثون على أنَ ( بيرس ) لم يلتقِِ ، أو لم يقرأ عن سوسير والعكس صحيح أيضاً ، إلاَ أنَ معطياتهما تكاد تكون متقاربة ومنسجمة في بعض المواضع ، فكلاهما أسس لعلم نقدي لغوي شامل ، وهو علم السيميائية ( Semiology ) أو علم العلامات ، وكلاهما انطلق من تأسيس ذلك من خلال الحديث عن معطيات العلامة وتصنيفاتها ومداخلها ، وميادين تنظيرها وتطبيقها ، وكلاهما أسهم في إنعاش الحركة النقدية والمعرفية الأوربية ، وعُدت معطياتهما طرائق يُهتدى بها في السلوك التحليلي الفلسفي والنقدي واللغوي الحديث .
    يُعدَ بيرس مؤسس المنهج الفلسفي الحديث البراغماتية ( Pragmatism ) أو ما يطلق عليــه : ( الذرائعية ، التداولية ) وهو منهج أكدته النتائج العلمية ، وراهنت على صحته المؤسسات البرجوازية ومفاده : أنَه ليس هناك معرفة أولية في العقل تُستنتج منها نتائج صحيحة ، بل الأمر كله مرهون بنتائج التجربة الفعلية العملية التي تحل للإنسان مشكلاته ، وأنَ الأفكار والنظريات والمعارف والنتائج تشكل بمجموعها وسائل وذرائع دائمة لبلوغ غايات جديدة ، وأنَ معيار صدق الأفكار والآراء هو في قيمة عواقبها العملية ، وأنَ الحقيقة وفقاً لهذا المنهج تُعرف بنجاحها ، وإن الإله ( موجود ) بقدر تعلق الأمر بانتظام المجتمع حسب ، وقد شارك بيرس في تأسيس تلك المعطيات : وليم جيمس (-1910) ، وجون ديوي (-1952) . ( ينظر : البراجماتزم أو مذهب الذرائع ، يعقوب فام ) .
    ولقد أطلقت الدوائر الأوربية والأوساط السياسية شعارات ومناهج عمل انطلقت من مبادئ الذرائعية ، ومنها : ( الغاية تبرر الوسيلة ) ، و( الوقت هو المال ) … الخ ، وكان من نتائج ذلك تراجع القيمة الإنسانية ، وتعزيز القيمة الرأسمالية ، فضلاً عن انحسار الأخلاق أو اندحارها ، وكان لهذا السلوك الاجتماعي أثر كبير على مجمل المعطى النقدي والتحليلي .
    وأسس بيرس أيضاً الخطوات المنهجية لدراسة العلامة وتقسيماتها وأهمية دراستها ، وتصنيف الحقول التي تسهم العلامة في الاشتغال فيها ، ويمكن القول أنَها تعمل بنشاط في كل ميادين الحياة المختلفة ، وتتسم خطوات بيرس هذه بميزتين :
    الأولى : أنَها تحليل فلسفي منطقــي .
    الثانية : الإيغال في التقسيم والتفصيل .
    فيما يتعلق بالنقطة الأولى اتسم تحليل بيرس للعلامات بوصفه تحليلاً فلسفياً منطقياً من حيث استخدام المصطلح الفلسفي ، ثم تصنيف العلامات وفقاً لذلك ، ولا غرابة في هذا لأن
    ( بيرس ) هو فيلسوف ، واشتغاله في الميدان الفلسفي أوسع وأكبر من اشتغاله بالميدان النقدي ، أما فيما يتعلق بالميزة الثانية فقد كانت تقسيمات بيرس للعلامة وفروعها ، تقسيمات ثلاثية حتى قيل : " أن مزاج بيرس ثلاثي التفريع ، أما مزاج سوسير فثنائي التفريع " ( ينظر: بيرس أو سوسير ، جيرار لودال ، ت : عبد الرحمن بو علي ، مجلة العرب والفكر العالمي ، العدد 3 لسنة 1988 : 117 ) .
    إنَ المفهوم الأساسيّ لسيميائية بيرس هو : الصيرورة ( السيموزيس :  Semiosis)     التي يعمل بموجبها شيء ما بوصفه دليلاً ، وتحوي هذه الصيرورة على
    عوامل ثلاثة : ( الممثل ، والموضوع ، والمؤول ) وهي أقسام العلامة كما صنفها بيرس ، والمهمة الأساسية ـ عنده ـ تكمن في تحليل اشتغال الدليل في الاستعمال الفردي للصيرورة بوصفهه ذات وظيفة دلائلية تواصلية ، وهذه الوظيفة هي خاصية جوهرية للغة محددة بقوانين القواعد ، والوحدات اللسانية ( ينظر : الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة ، مارسيلو داسكال ، ت : حميد لحمداني وآخرون ) .
    لقد استند التحليل السيميائي عند كل من بيرس وسوسير إلى ميراث فلسفي ينطلق من فجر الطرح الفلسفي مع اليونانيين : أفلاطون وأرسطو (-322 ق.م ) ، والرواقيين ( Stoics ) ، والشكيين ( Scepticum ) مروراً بأوغسطين  (- 430 م ) وتوما الأكويني (- 1274 م ) وديكارت (- 1650م ) ، وهيجل (-1831م ) ، ولوك (- 1704 م ) وانتهاءً بأنجلز (- 1895 ) وماركس (-1883م ) ودوركايم  ، وقد تحدث تودوروف بشكل مفصل عن ولادة السيميائية الغربية في كتابه : (Theories of the symbol , Tra : C.  Porter : 19  ) ، وبيَـن أنَ مسيرة السيميائية ممتدة زمنياً ، ولا يمكن اختصارها ، فمعطياتها متشابكة ، وطرحها الفلسفي والنقدي يلفّ العالم أجمعه ، ويطمح إلى رسم فهم للوجود من خلال تفسير العلامات وتحليلها ، وبيان وظائفها وفاعليتها ومساهمتها في إنشاء التواصل بين مختلف الموجودات
    ومن هذا المنطلق توسعت مباحث السيميائية وشملت مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل وحتى النفسية ، ودخلت بشكل كبير ومباشر إلى المعطيات النقدية لما بعد البنيوية ، حتى عُدت ركناً مهماً من أركان التحليل النقدي لما بعد البنيوية ، وقد اتسمت مسيرة السيميائية بالتطور المتنامي المتسارع ، لأنَها شكلت الأداة والمنهجية الدقيقة في تفسير سلوك العلامات وبيان وظائف علاقاتها ، وهذه العلاقات تتسم بقدرتها على التوالد والاستمرار والصيرورة ، إذ بلغت السيميائية مكاناً متميزاً بين المناهج الفلسفية والنقدية العالمية المختلفة ، لقد ابتدأت من تحليل العلامة فقدمت تفسيراً للموجودات ، وفهماً لحركة العالم ، وشرحاً لأنظمة الكون ، وصيغاً لا نهائية لمشاريع مستقبلية تتخذ من سلطان العلامة إطاراً موسوعياً لإبداع رؤى جديدة .
    إنَ تنوع الأبحاث السيميائية هو تنوع في أنساب الجوانب الفلسفية التي تريد فهم الموجودات ، والتواصل الحاصل فيها هو تواصل بين الوجود والموجود ، بين النظام والوظيفة ، بين الدلالة والسياق ، بين المادة والماهية ، بين فعل الخَلق وفعل الإنتاج ، إنَ مسيرة السيميائية هي مسيرة التسلسل المعرفي والنقدي الذي يقابل التأمل بالتحليل ، والنسق بالتأويل .
    إنَ التحليل السيميائي عند بيرس وسوسير هو : عبارة عن بيان شبكة من العلاقات تستهدف دراسة أوجه النشاطات والفعاليات الإنسانية في مظاهرها الدالة ، ودلالاتها الممكنة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، ويستهدف معرفة كيفية عمل الأنظمة الدلالية : ( اللسانية وغير اللسانية ) ، لذلك استخدمت المجاميع والمدارس النقدية المختلفة طرائق متباينة لاستعمال التحليل السيميائي ما بين تحليل سيميائي للتواصل ، وآخر للدلالة ، وللثقافة (ينظر: دروس في السيميائيات ، حنون مبارك : 100).
     ويتضح الفرق النقدي بين معطيات سوسير عن السيميائية ، ومعطيات بيرس عنها بالنقاط الآتية :
    1. إنطلاقة سوسير المنهجية كانت لغوية لسانية ، أما بيرس فمنطلقه فلسفي منطقـي .
    2 العلامة عند سوسير ثنائية المبنى تتكون من دال ومدلول ، أي : تجمع بين الصورة العيانية والصورة الذهنية ولا تجمع بين الشيء ومسماه ، في حين أنَ العلامة عند بيرس ثلاثية المبنى تتكون من الممثل (المحمول  Interpretant)، والرابطة (الوسيلة Connective )، والموضوع (Object) وهي مبنية على قاعدة رياضية تقول: إنَ كل نظام لابد أن يكون ثلاثياً.
    3.   أكدَ سوسير بشكل كبير أهمية العلامة داخل نظامها في النص ، دون الارتباط بعالم المرجعية خارج النص ، ودرس اللغة من خلال وصفها نظاماً أجزاؤه مرتبطة فيما بينها، في حين أكدَ بيرس أهمية العلامة في علاقتها بعوالم ثلاثة : (عالم الممكنات ـ المقولة الأولانية ، وعالم الموجودات ـ المقولة الثانيانية ، وعالم الواجبات ـ المقولة الثالثانية) ، وقد استمد بيرس هذه المقولات من مقولات الظاهراتيــة : ( فلسفة الكائن ، ومقولة الوجود ، ومحاولة الفكر لتفسير الظواهر ). ( ينظر: ما هي السيميولوجيا ، برنـار توسان ،  ت: محمد نظيف ) .
    4.   العلامة عند سوسير لغوية - حصراً - وتمتاز بكونها تباينية واعتباطية في علاقة دالها بمدلولها ، أما العلاقة عند بيرس فهي لغوية وغير لغوية .
    5.   تتحدد العلامة بعلاقة الدال والمدلول ، ويتحدد الرمز بعلاقة المرموز والمرموز له ، ولا تحوي العلامةُ الرمزَ عند سوسير ، أما عند بيرس فالعلامة تتحدد بعلاقة الحامل مع المحمول مع الموضوع ، فضلاً عن علاقة الآيقون والرمز والإشارة ، بمعنى أنَ العلامة عند بيرس تحوي الرمزَ ويشكل جزءاَ منها .
    6.   علامة سوسير هي أساس السيميولوجيا ( Semiology ) ، وتعدّ جزءاً من علم النفـس (Psychology ) ، أما علامة بيرس فهي أساس السيميوطيقا (Semiotic) ، وتعد جزءاً من علم المنطق ( Logicology ) .
    7.   تشكل اللسانيات جزءاً من السيميائية عند سوسير لأن اللغة فعل سيميائي ، في حين تشكل المقولات الفلسفية عن الوجود والعالم صورة التحليل السيميائي عند بيرس .
    إنَ السيميائية في معالجتها للعلامات المنبثقة من الأشيـاء والأفعال ، أعطت وحمَلت منهجية ما بعد البنيوية إمكانية السيطرة على الممارسات المعرفية ، من خلال امتلاك إدارة تأويل العلامة ، وتحديث صيغ دلالية يستدعي بعضها البعض من خلال عملية تحول دقيقة تجري بين نظاميّ : (العلامة / النسق ) ، و ( الناقد / المعنى ) ، فغاية الناقد ـ المُؤوِّل بشكل عام ـ تفسير العلامة المُتموضِعة في نسقها للوصول إلى المعنى ، في حين يسعى ناقد ما بعد البنيوية للوصول إلى اختلافات المعنى ، وعدم الاقتناع والتسليم بحدَ معين ، والغاية هي الدخول في لعبة يغيب فيها المدلول ، ويحيل فيها الدال إلى دوال أخرى ، وبهذا اتسم تحليل ما بعد البنيوية بصفة التحليل العدمي ، وبلا نهائية الدلالة ( الدلالة غير محدودة ) .
    ومن النتائج المهمة الأخرى التي قدمتها السيميائية للمسار النقدي لما بعد البنيوية هو : ذوبان الإنسان ـ حسب كيلر ـ في سلسلة من الأنظمة ، ومعالجة الثقافات الإنسانية بوصفها علامات ، فضلاً عن دراسة المشاريع المعرفية المستقبلية بوصفها علامات أيضاً ، واكتشاف طبيعة الأبحاث والحقول المختلفة التي تجعل الاتصال الأدبي ممكناً ، وتمييز الاختلافات بين الخطاب الأدبي والخطاب اللاأدبي ، وإحالة الدلالة إلى أنَ الأشكال والمفاهيم لا توجد مستقلة ، بل إنَ دوالها ومدلولاتها هي كيانات علائقية ناتجة من نظم الاختلاف ، وبهذا يمكن للسيميائية أن تقدم فرعاً معرفياً تحليلياً يجمع في منظور شامل ، سلسلة كبيرة من الظواهر تستجيب للمعالجة بطريقة مشتركة عن طريق تفسير العلامات وتحليلها ، ولأجل ذلك كله وُصِفت السيميائية بكونها حركة إمبريالية ( Imperialism ) تتحرك فوق الميادين المعرفية في العلوم الاجتماعية والإنسانية. (ينظر: البحث عن الإشارات، جوناثان كيلر، ت: محمد درويش ، مجلة الرواد ، العدد 1 لسنة 1998 :79 ) .
    أما على صعيد تأثير بيرس وسوسير في المدارس والمفاهيم والنقاد ، فقد كانت حصة سوسير هي الأكبر ، وذلك نتيجة للمسوغات اللسانية واللغوية المستخدمة في تحليلاته وكانت هي الأقرب للتوظيف عند النقاد ، لوضوحها وبعدها عن الإيغال في التبويب والتقسيم والمداخلات المنطقية والفلسفية .
    ولم يكن الحال كذلك مع بيرس الذي استند في تحليلاته العلامة على التقسيم الفلسفي والمنطقـي ، مما جعل هذا التقسيم بعيداً عن الميدان الالسني ، قريبا من التنظير المنطقي ، ومِن أبرز النقاد الذين تأثروا ببيرس ـ بشكل كبير ـ ناقدين اثنين هما : ( كريماس ، وسيبيوك ) ، أُشتهِر كريماس بتحليلاته السيميائية المنطقية لميدان السرديات ( Narratives ) ، وبتقسيماته الدلالية المتعددة لوحداته ، مستخدما منهجية بيرس في تحليل العلامة ، وتحصيل الدلالة .
    وقد ذكر في مقالته : ( نحو سيميائيات للعالم الطبيعي ) ، أنَ السيميائيات لا تمثل إلاَ شبكة من العلاقات ، وأنَ هذه العلاقات هي التي تحدد سمات العالم الطبيعي : (The Natural World) وهي المحرك لتفسير الموجودات ، فضلا عن اعتماد عناصر التواصل الإنساني على الأبعاد الدلالية لتلك العلاقات .
    وأكد أيضاً دور الصيرورة ( Semiosis ) في تحديد حركية العلامات بوصفها موجودات في عوالم الدوال ، وإمكانية السيميائية في تمثيل البعد التاريخي للعالم الإنساني ، وعدم الانفصال بشكل كليّ عن مستواه الظاهري .  (See: On meaning , selected writings in Semiotic theory, Tra : Paul J. Perren & Frank H. Gollins: 17).
    لقد شكلت جدلية ( الصيرورة ) البرنامج الدينامي لتمثل الدوال التي يحيل بعضها على بعض ، والسعي إلى إنتاج المعنى وتحويله من دلالته في الصورة العيانية ، إلى دلالات أخرى تخضع لآلية التأويل ، ويرى كريماس أنَ الخطاب السيميائي هو خطاب إيحائي يتضمن التعبير عن دلالات أيديولوجية ومعرفية وثقافية ، أي أنَ هذا الخطاب يمثل ـ بالضرورة ـ رصيداً معرفياً ، ومعيناً دلالياً مهماً .
    وصنَف في الإطار نفسه إمكانية الانفصال إلى حركات عدة : ( الحركة الإسنادية ، والحركة النظامية ، والحركة الإيحائية ، والحركة اللاعبة ، والحركة الاتصالية ) ، وتمثل هذه الحركات ـ حسب كريماس ـ مشاريع ثقافية وخطابات تنظم البنيات الاقتصادية والاجتماعية .
    وقد أُشتهِر كريماس بنظريته حول المربع السيميائي : (The Semiotic Sqaure) ، الذي يشير إلى أنَ طبيعة العلامات يمكن أن تُدرك من خلال علاقات التضاد والتناقض ، ويتكون هذا المربع من الأجزاء الآتية :
    1.     علاقة التناقض بين كل من طرفي التعارض في النص .
    2.      علاقة الإثبات القائمة في الطرفين المتناقضين المنفيين .
    3.      علاقة التضاد بين الطرفيين الأولييــن .
    ويشير كريماس إلى أنَ العلاقة بين أجزاء ( علاقات الإثبات ) هي علاقات إيجابية ، بمعنى أنَ تحولات العلامات فيها يكون على مستوى الاتصال ، في حين تكون العلامة بين أجزاء ( علاقات التضاد والتناقض ) علاقات سلبية ، بمعنى أن تحولات العلامات فيها يكون على مستوى الانفصال . وبهذا يتكون المربع السيميائي من عناصر ستة هي :
    1. القاصــد : Sujet .
    2. المقصـود : Objet   .
    3. المناصـر : Adjudaut .
    4. المعارض  : Opposant  .
    5. المؤتي – المانـح : Destinateure .  
    6. المؤاتي – الممنوح :Destinataire  .
    أما سيبيوك فقد أُشتهِر بدراسته لمقاييس الصيرورة (  Criteria of Semiosis ) ، ودراسته النظرية العامة للعلامات عند بيرس ، والأسس المنطقية للسيميائية (Logical Basis of semiotics) ، فضلاً عن علاقة السيميائية بفن العمارة ( Architecture ) والموسيقى ، والتمثيل (Representations) ، والسيرك (Circus) ، والثقافة واللاهوت ، والطب والأدب. (See: Aperfusion of signs , T. A. Sebeok  : 22)  .
    وتشكل نظرية العلامات عند بيرس ـ حسب سيبيوك ـ نظرية في التجربة الدلالية ، ونظرية في الوعي ، لأنَها تدرس إمكانيات علاقة البنية مع الفكر من خلال تحليل العلامة ، واكتشاف فاعلية الصيرورة في النظام العلامي الذي يكتنز معلومات دلالية ، وأبعاد معرفية وثقافية.
    وقد تدخل السيميائية في علاقتها مع الثقافة إلى اللجوء لعملية السمطقة : 
    (Semiotization) التي تبين ـ حسب ريفاتير ـ شعرية النص أو أدبيته (See: Text production , Michael Riffaterre , Tra : Terese Lyons : 114)  ، وتنعش هذه العملية طاقة العلامات من خلال إخفاء السمة الإيحائية على المعطى الثقافي ، وتحويله إلى نسق منمذج للعالم ، وبهذا يكون المقياس الدلالي للصيرورة الذي تحدث عنه سيبيوك ، هو تحديد فلسفة علامية ، تسند لنفسها تقديم رؤية شمولية للمفاهيم والمقولات .
    ويشكل المقياس الدلالي للصيرورة عملية التحول إلى تشكيل العلامات ، وتحول الشيء إلى علامة يعني الدخول في سياق الصيرورة الذي يقتضي أسبقية النظام والبنية على الاستعمال ،  وأسبقية اللغة على الكلام ، ويشكل هذا السياق فرضية العمل : ( البراكسيس - Praxies ) ، وحيوية الصيرورة التي يعمل بموجبها شيء ما بوصفه علامة ، ويقترب هذا الإجراء من المعطى النقدي لعملية السمطقة ، ويتم دراسة ذلك كلَه في أحد حقول السيميائية ومكوناتها وهي : التداولية        ( Pragmatic ) بوصفها قاعدة السانيات ، وطرقاً لمعالجة العلامة بين العلامات ومستخدميها ، ومعالجة علاقة العلامات بمؤولاتها ، ومعالجة المظاهر الحياتية للصيرورة بطريقة شاملة ، ودراسة الأفعال اللسانية والسياقات التي تتم فيها ، فضلاً عن فهم اللغة الشامل عن طريق استعمال تنسيقات العلامات وتحويلاتها .
    أما بالنسبة لتأثير سوسير على المدارس النقدية واللغوية ، فقد كان كبيراً جداً في مجمل الأوساط اللغوية والنقدية والإجتماعية ، انطلاقاً من المدارس البنيوية ، مروراً بمدارس السيميائية واتجاهاتها ، وانتهاءً بنظريات تحليل الخطاب ، ونظريات الاستقبال والتلقي ، ومنهج ما بعد البنيوية ، وحسب ما ذهب إليه تودوروف في مقالته : ( سيميائيات سوسير ) ، فإنَ أثر سوسير في الطرح النقدي ـ لاسيما حديثه عن العلامات ـ سيكون له مهمة تكملة نظام التعبير العالمي الشامل ، ويمكن أن تتمثل بالطرح الألسني ، وتكون النموذج المتفرد لجميع فروع اللغة ، والمعين الثرّ للنظام السيميائي العالمي .
    وتكمن قيمة سوسير النقدية في ميزان الوسط النقدي لما بعد البنيوية ـ بوصفه أباً ـ بدوره في إرساء قواعد نزع الصفة الجوهرية عن علاقة الدال بالمدلول. ( ينظر: رومان ياكوبسون أو البنيوية الظاهراتية ، المارهو لنشتاين ، ت : عبد الجليل الازدي : 60 ) ، ونعت تلك العلاقة بأنها اعتباطية ، وقد دفع هذا الطرح من توسيع عمليات الفصل بين الدال والمدلول ، بمعنى توسيع عقلنة الدال بوصفه حضوراً ، وعدم ضبط حدود المدلول بوصفه غياباً .
    وقد أدى هذا الطرح أيضاً إلى استغلال إمكانية الدال في الإحالة إلى دوال أخرى ، بمعنى تحويل المسار التقليدي للدال بالإحالة إلى المدلول ، إلى مسار معرفي جديد يقتضي إحالة الدال إلى دال آخر ، في عملية ذات قصد عدمي لتغييب المدلول أو تعمد فقدانه ، وقد استثمر ( جاك دريدا ) هذا الطرح موظِفاً إيَاه في مجمل الطرح النقدي لما بعد البنيوية ، إذ أصبحت المؤسسات النقدية تتحدث عن تضايف المعنى ، وليس عن حقيقته ، وأصبحت نظرية اللعب التفكيكية لدريدا مخططاً نقدياً ، وصيغة عقلانية يمكن البرهنة عليها وتبني فاعليتها ، والحكم على منتقديها بالعبث والتطرف .
    إنَ تأثير سوسير في الطرح النقدي واللغوي كان شاملاً وممتداً في مختلف المجاميع النقدية العالمية ، ولم تخلُ مدرسة لغوية أو نقدية من التأثير السوسيري ـ ولو كان يسيراً ـ فمدارس الألسنية : الوظيفية : ( Functionalism ) ، والتوزيعية : ( Distributionalism ) ، والتوضيحية : ( Glossematiosm ) ، وما بعد السوسيرية : ( Post – Sausurianism ) ، التي  تشمل التوليدية والتحويلية لشومسكي : ( Geneticism and Transformatism ) وغيرها ، كلها وقعت تحت تأثير الطرح اللغوي والنقدي لسوسير ، ويمكن إجمالاً القول أنّ دروس سوسير في اللسانيات أسهمت في مدّ العديد من الاتجاهات والمدارس الألسنية والنقدية والمنهجية بالتمفصلات المعرفية ، والأصول اللغوي