-->

نمادج من المقاومات الشعبية في الجزائر

نمادج من المقاومات الشعبية في الجزائر
    نمـــــادج من المقاومات الشعبية في الجزائر

      بعد إمضاء معاهدة الاستسلام بين دي بورمون والداي حسين في جويلية 1830، خُيّلَ للإدارة الفرنسية أنّها ستحكم قبضتها بسرعة وبكل سهولة على كافة القطر الجزائري، لكنها فوجئت بحركات مقاومة عنيفة شلت حركتها -مدة معتبرة- وجعلتها تقف عند حدود الجزائر العاصمة، ومن أبرز تلك الحركات، مقاومة أحمد باي في الشرق الجزائري ومقاومة الأمير عبد القادر في الغرب الجزائر         تعود بوادر حركة المقاومة بالنسبة للطرف الجزائري إلى بدايات الحملة وإلى التخاذل الذي لمسه الجزائريون من مواقف صهر الداي  إبراهيم آغا قائد الجيش الجزائري والتي قادت البلاد إلى الهلاك، عندها قرر أحمد باي الذي كان متواجدا آنذاك بالجزائر العاصمة ساعة تأدية الدنوش للداي العودة بسرعة إلى إقليم قسنطينة لتحصينه وسد الطريق على الجيش الفرنسي.
     في نفس الوقت، ظهرت حركة مقاومة في الغرب الجزائري تصدرتها قبيلة الحشم بقيادة محي الدين وابنه الأمير عبد القادر اللذين أعلنا الجهاد ضد الوجود الفرنسي، خاصة بعد احتلال إقليم وهران عام1831.
    المقاومات الشعبية في الجزائر


    مقــــاومة أحمــــد بـــاي
     اشترك أحمد باي في معركة سيدي فرج ضد الجيش الفرنسي ولكن بعد الهزيمة النكراء التي مُنِيَ بها الجيش الجزائري، عاد إلى قسنطينة وفي طريقه وصلته أخبار حول محاولة انقلاب ضده، لكنه  تمكن من استعادة منصبه بمجرد وصوله بدعم من سكان قسنطينة، وأعلن صراحة استعداده لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وبدأ بتنظيم أموره الإدارية، وألّف مجلس شورى وكوّن مجلسا عسكريا، ووضع الخطط لمواجهة المستعمر رغم الإغراءات الكثيرة التي تلقاها من طرف الفرنسيين في الوقت الذي كان فيه كثير من موظفي الدولة العثمانية يتعاون مع الجيش الفرنسي على أساس أنّه أقوى ضمان لبقائهم في مناصبهم. فحسب ما جاء في مذكرات أحمد باي أن دي بورمون عرض عليه الصلح ، وهو في طريقه إلى قسنطينة، إلاّ أنّ أحمد باي رفض ذلك العرض، كما طلب منه كلوزيل الاعتراف بالسيادة الفرنسية مقابل بقائه بايا على قسنطينة إلاّ أن أحمد باي رفض العرض جملة وتفصيلا[1].
     في شهر أوت 1830 تمكنت قوات أحمد باي من طرد الفرنسيين من عنابة، ودحض أحمد باي بذلك أقوال كلوزيل الذي قال بأنّ احتلال قسنطينة لا يعدو أن يكون مجرد نزهة[2].
     جهّز كلوزيل في حملته على قسنطينة 8700 جندي، ووصلت أخباره إلى أحمد باي فاستعد له ونظم جيشه ووضع خطة عسكرية تقضي بمواجهة العدو ووضع الكمائن له عند أطراف المدينة، وكان النصر من نصيب أحمد باي.
     إنّ هزيمة الجيش الفرنسي جعلت الإدارة الفرنسية تصر على احتلال إقليم قسنطينة خاصة بعد إمضاء معاهدة الهدنة (التافنة) بين السلطة الفرنسية والأمير عبد القادر، وبالفعل عاد الجيش الفرنسي إلى قسنطينة عام 183
    ارتفع عدد الجيش الفرنسي في الحملة الثانية حيث وصل إلى 11000 جندي مدعم بقادة كبار من بينهم تريزيل، كومب، لامورسيار، وبقيادة دامرمون الذي قتل من طرف المقاومين القسنطنيين خلال الحملة.
     حاول أحمد باي تقوية جيشه، وتمكن من كسب ثقة قبائل الحنانشة، والحراكتة التلاغمة، فرجيوة، أولاد عبد النور، ريغة ومجانة، قبائل الأوراس، سواحل سكيكدة، جيجل والقل...
     لكن النصر هذه المرّة كان إلى جانب الفرنسيين الذين استفادوا من أخطائهم السابقة في حين تمسك أحمد باي بخطته السابقة التي كان قد خبرها الفرنسيون، فسهل عليهم احتلال قسنطينة، زيادة على ضعف الجيش الجزائري الذي جلّه من المتطوعة، زد على ذلك الافتقاد للإمكانيات والعتاد العسكري، وعدم وصول مساعدات من الأستانة أو على الأقل من باي تونس، هذا الأخير الذي اتفق مع الفرنسيين مقابل تسليمه قسنطينة وعنابة.
     انتهت معركة قسنطينة بدخول الجيش الفرنسي، ومع ذلك قرر أحمد باي مواصلة المقاومة ورفض كل النصائح التي تدعوه للاستسلام والتخاذل، ولم يقبل نصيحة الذين أشاروا عليه بمغادرة الجزائر، وفي هذا الشأن قال أحمد باي:« وفي الحين فكرت في محو الهزيمة، لأنّ الله لا يضيع كلّيا إلاّ الذين يهملون أنفسهم، لذلك استدعيت قادة القوم، فاجتمعوا حولي، وبعد أن استعرضت الموقف اقترحت عليهم تشكيل زمالة بجميع الذين خرجوا من المدينة، ثمَّ نقودها إلى مكان أمين في الجنوب، ونُبقيها فيها تحت حماية مشاتنا، أما نحن فنرجع فورا إلى المدينة، ونتمركز في طريق عنابة بحيث نقطع حركة المرور، فنحن نعلم أنّ العدو خسر بالإضافة إلى كبير الجنرالات-دامرمون- عددا آخر من الضباط المعتبرين، وأنّ المؤن قد تكون نفذت، وعليه فإذا استطعنا أن نتمركز في طريق عنابة بحيث نقطع جميع الاتصالات بالمكان الذي يمكن أن يبعث النجدات، فإنه يكون لنا أمل كبير في تحقيق النصر، وتمّت المصادقة على مشروعي، وكاد يدخل في حيز التنفيذ عندما صاح بوعزيز بن قانة قائلا:" ماذا تريدون أن تفعلوا تبتعدون عن بلدكم، وتتوجهون نحو الشمال، إذن فأنتم لا تعلمون أنّ فرحات بن سعيد يقترب بسرعة من الزيبان، وفي الوقت الذي تحاولون فيه الدفاع عن قسنطينة، فإنكم تعرضون أنفسكم للطرد من منطقتكم، ولذلك يجب أن نسرع إلى الصحراء، ندخل عائلاتنا ومن اتبعنا إلى المدن، ثم نخرج متحدين ضد العدو الذي نخشى هجومه أكثر، فالفرنسيون لم يتقدموا، بينما فرحات بن سعيد يزحف علينا، ومن ثمة يجب أن نبدأ بمحاربته، وبعد ذلك نوحد قوانا، ونهاجم الفرنسيين". لم استحسن هذه النصيحة، ولكنه لم يكن لي أهل- عدا أبنائي- أقرب من بوعزيز، فلم أكن أعتقد أنّه يستطيع أن يقترح عليّ ما من شأنه أن يضرَّني، وعيه انضممت إلى رأيه، ولو أنّ الله هداني في ذلك الوقت لفهمْت أنّه يريد جلبي إلى الصحراء ليأخذ أموالي عن آخرها، ولكن إذا حكم القدر على شخص بالهلاك، عُمِيَ بصره وبصيرته، وصار يعتقد الخير فيما يؤدي إلى الخراب، وأكرِّر ، لقد اتبعت رأي بوعزيز، وكان ذلك هو مصابي الأعظم»[3].
      واصل أحمد باي المقاومة حتى عام 1848، ظل يتنقل فيها بين الأوراس والصحراء إلى أن أنهكه المرض، عندها استسلم.
     كان أحمد باي لا يفتقر للحنكة السياسية والقدرة القتالية، ولكنه افتقر للدعم من قبل الآخرين، ففي الوقت الذي انكب فيه لمواجهة الفرنسيين والقضاء عليهم وحماية إقليم قسنطينة وجد نفسه وسط عصبة من الأعداء يتربصون به ساهموا في فشل مخططاته وعدم تمكنه من استرجاع قسنطينة، فبدل أن يواجه جبهة واحدة واجه عدّة جبهات وهي:                                                                                                                   
    -      جبهة مصطفى بومرزاق باي التيطري، الذي لقب نفسه باشا وطلب من أحمد باي الطاعة ودفع اللزمة، رفض أحمد باي العمل بذلك. غضب مصطفى وادعى عزله وعين مكانه إبراهيم الذي سبق له أن كان بايا على قسنطينة وعزله الداي حسين، فتحالف إبراهيم مع فرحات بن سعيد ضد أحمد باي الذي اشتبك معهما مرات كثيرة، وعلى الرغم من الانتصار كان حليفه، إلا أن قوته أصيبت بالهوان، وصارت الضرائب لا تدفع له إلا قهرا بفعل تحريض فرحات بن سعيد للأعراش والقبائل[4].  
    -      جبهة الطامعين في منصبه وأمواله، وعلى رأسهم ابن خالته بوعزيز بن قانة. أما الأمر الذي أثار طمع هؤلاء، هو كرغلية أحمد باي، وافتقاره لقبيلة تحميه، كما هو شأن باقي زعماء حركات المقاومة.  
    -      جبهة الخونة ومنهم فرحات بن سعيد الذي ألب عليه القبائل وتحالف مع الإدارة الفرنسية طمعا في نيل الولاية على كافة الصحراء الشرقية التي كانت امتدادا لإقليم قسنطينة الذي يحكمه أحمد باي.   
    -      جبهة باي تونس الذي اتفق مع الإدارة الفرنسية سعيا لاقتطاع إقليم قسنطينة أوقف المعونات العثمانية التي كان ينتظرها أحمد باي والتي لو قدر وصولها إليه لكانت كفته هي الراجحة.
    -      أخيرا، جبهة الأمير عبد القادر، فبالرغم من اتفاق كلا الطرفين على محاربة الإدارة الفرنسية، غير أنّ نظرة الأمير عبد القادر لأحمد باي لم تكن نظرة المعجب بالمجاهد والمناضل، بل نظرة ازدراء تجاه ممثل لسلطة تركية كانت المتسببة في احتلال الجزائر من قبل الفرنسيين. كما أنّ السلطة الفرنسية تمكنت من زرع الفتنة بين الطرفين خاصة بعد سلسلة الاتفاقيات التي جمعت بين الأمير عبد القادر والجنرالات الفرنسيين وأهمها اتفاق التافنة سنة 1837.
                                    
    مقاومــــة الأمير عبد القادر
    من هو الأمير عبد القادر:
    ولد الأمير عبد القادر بن محي الدين في شهر ماي عام 1807 ببلدة القيطنة قرب مدينة معسكر. تعلّم عبد القادر القراءة والكتابة وهو في الخامسة من عمره، و في سن الثانية عشرة كان متمكنا من القرآن والحديث وأصول الشريعة، ولم يبلغ سن العشرين حتى كان قد طالع أمهات الكتب العربية في التاريخ والفلسفة واللغة والفلك والجغرافية، وحتى الكتب الطبية منها وكانت خزانة كتبه أحب مكان إلى نفسه، وكان إذا خرج إلى وادي الحمام أو غادر قريته إلى مدينة معسكر، حمل معه واحدا من هذه الكتب ليكون رفيقه في رحلته.
    لم يكتف الشاب عبد القادر بتلقى العلوم الدينية والدنيوية بل اهتم أيضا بالفروسية وركوب الخيل وتعلم فنون القتال، فتفوق في ذلك على غيره من الشباب. وبذلك كان عبد القادر من القلائل جدا الذين جمعوا بين العلوم الدينية والفروسية، عكس ما كان عليه الوضع آنذاك إذ انقسم المجتمع إلى المرابطين المختصين في الدين والأجواد المختصين في الفروسية وفنون القتال.
     لقد برز الأمير عبد القادر من خلال المقاومة التي قام بها في البداية الأولى للاحتلال بدءا من واقعة خنق النطاح الأولى بالقرب من وهران في 29 ماي 1832، والتي كانت بقيادة والده محي الدين، حيث كان من ضمن الصفوف المقاتلة في هذه المعركة، كما شارك في معركة خنق النطاح الثانية والتي قادها الأمير عبد القادر بنفسه نيابة عن والده، وفي هذه المعركة اتضحت معالم القائد السياسي والعسكري.
    بعد هذه الأحداث اجتمع أهل الحل والعقد لاختيار من يصلح للإمارة ويكون بمقدوره تحقيق الأمن والاستقرار ومواجهة المحتل الفرنسي، فوقع الاختيار على محي الذين والد الأمير عبد القادر الذي رفض واعتذر لكبر سنه، وبعد إلحاح من أفراد قبيلته، اقترح عليهم ابنه عبد القادر لكي يكون أميرا عليهم، فقبلوا بذلك.
    اتفق أهل الحل والعقد على تعيين عبد القادر أميرا عليهم، فأول من بايعه، والده على السمع والطاعة ودعا له، ثم لقبه بناصر الدين، وكذا بقية أسرته، ثم الأشراف والعلماء والأعيان والرؤساء حسب مراتبهم  وطبقاتهم حيث بايعوه على ما بايعه عليه والده[5].   وتمت البيعة بوادي فريحة في سهل غريس تحت شجرة الدردارة التي كانوا يجتمعون إليها للشورى، بتاريخ 27 نوفمبر 1832[6]. أما البيعة العامة فكانت بتاريخ  4 فيفري 1833[7].
     وقد تمت بيعة عبد القادر أميرا، وحمل لواء الجهاد، من طرف القبائل على هذه الصيغة:«... بايعناه على السمع والطاعة، وامتثال الأوامر، ولو في الواحد منا أو في نفسه، وقدمنا نفسه على أنفسنا وحقه على حقوقنا».
    ولقد مرت مقاومة الأمير عبد القادر بمرحلتين حاسمتين، الأولى شهدت انتصارات الأمير عبد القادر وقوة المقاومة، أمّا المرحلة الثانية فهي على العكس، عرفت تقهقرا وتضعضعا انتهى باستسلام الأمير عبد القادر عام 1847.
    المرحلة الأولى 1832- 1837:
              ما إن انتصب عبد القادر أميرا، حتى بادر بتنظيم أمور الدولة، فأسس مجلسا للوزراء ومجلسا للشورى، وشرع في تكوين جيش جزائري وفي إنشاء مؤسسات وفي وضع قوانين مستمدة من تعاليم القرآن الكريم، وسك عملة باسمه، وقسّم البلاد إلى ولايات ونّصب على كل ولاية خليفة، وقد اتضحت ملامح هذه المقاطعات عام 1837 أي بعد عقد معاهدة التافنة.
             من البداية وضع الأمير عبد القادر برنامجا سطره للمقاومة وإرساء قواعد دولة إسلامية مستقلة، تمثل هذا البرنامج في:
              -تحقيق الأمن، والقضاء على الخونة والمأجورين.
              -توحيد القبائل حول مبدأ الجهاد.
              -مقاومة الاحتلال الفرنسي بشتى الطرق والوسائل.
              -إرغام الفرنسيين ودفعهم للاعتراف بالجزائر دولة مستقلة، وبعبد القادر أميرا عليها.
    بدأت المواجهات بين الأمير عبد القادر والإدارة الفرنسية بمحاصرته لوهران ومستغانم، وهذا ما أرغم الفرنسيين على الاعتصام داخل القلاع والحصون، وبعد فشل بوايي في إفشال الحصار عزل وعين مكانه ديمشيل، الذي فشل بدوره في التصدي للأمير عبد القادر، فطلب الصلح وعقد هدنة مع الأمير عبد القادر بتاريخ 26 فيفري 1834، هذه المعاهدة تضم ستة بنود مكتوبة على أعمدة متوازية بالعربية والفرنسية، قد وقعها وختمها الطرفان، بالإضافة إلى النص العربي الثاني السري والذي يحمل ختم الأمير عبد القادر وديمشيل معا، حيث يتم بموجبه احتكار تصدير الحبوب واستيراد الأسلحة[8]، وهذا ما يلام عليه ديمشيل فيما بعد ويتسبب في إقالته.
             كان من نصوص هذه المعاهدة[9] :
    1-           وقف المعارك بين الطرفين وتبادل الأسرى.
    2-           احترام الفرنسيين للمسلمين ومناطق سكناهم.
    3-           لا يدخل أي طرف أرض الطرف الآخر إلاّ بإذن من قنصله لدى الطرف الآخر.
    4-           يحق للأمير شراء الأسلحة وكل ما يحتاج إليه من المواد الحربية، وأن يكون ميناء أرزيو تحت سلطة الأمير.
    5-           أن يبقى الفرنسيون في وهران و مستغانم ويحترموا المسلمين
    كانت هذه محاولة من السلطة الفرنسية لكسب الوقت وإعداد العدة لهجوم جديد على الأمير عبد القادر، لكنها في الوقت نفسه خدمت الأمير عبد القادر بدوره فهو لم يتمكن بعد من تأسيس جيش وطني قوي، فرغم كثرة جنده والذي كان حوالي 60000، إلاّ أنّه لم يكن نظاميا فمعظمه من المتطوعة، زد على ذلك لا يمكن جمع هذا الجيش في وقت واحد لأنّه موزع بين القبائل المنتشرة هنا وهناك[10].
    عزل ديمشيل من قيادة وهران في 15 جانفي 1835، وعين خلفا له الجنرال تريزيل في 20 جانفي 1835[11]. وهذا بعد عملية تحقيق أجرتها السلطة الفرنسية بعد أن شككت في ولاء ديمشيل وحول إبرامه معاهدة سرية مع الأمير عبد القادر مما يهدد السيادة الفرنسية.
    نقض تريزيل المعاهدة المبرمة مع الأمير عبد القادر، وألب قبائل الدوائر والزمالة على الأمير عبد القادر فتجدد القتال  في 2 جويلية 1836، ومني تريزيل بهزيمة كبيرة في معركة المقطع.
    كانت الإدارة الفرنسية تواجه مقاومة قوية من طرف الأمير عبد القادر في الغرب وكذلك مقاومة لا تقل عنها في الشرق وهي مقاومة أحمد باي، لذلك قررت أن تتفرغ كلية لواحدة فبل أن تعود للأخرى، لذلك ولّت الجنرال بيجو على الغرب الجزائري، وقد دخل هذا الجنرال عام 1837 في مفاوضات مباشرة مع الأمير عبد القادر، انتهت بتوقيع معاهدة التافنة في 30 ماي 1837، وضمت 15 مادة، وفي مجملها تدعم وتعترف بسيادة الأمير على ثلثي القطر الجزائري، كما أقرت بتبادل القناصلة مثل: القبطان دوماس من طرف فرنسا لدى الأمير بمعسكر (1837-1839)، وكذا الإيطالي جرافاني قنصل أمريكا بالجزائر الذي عيّن لتمثيل الأمير لدى السلطات الفرنسية في 12 أكتوبر 1837.
    المرحلة الثانية 1839 - 1847:
       بادر المارشال فالي إلى خرق معاهدة التافنة بعبور قواته الأراضي التابعة للأمير، فتوالت النكسات خاصة بعد أن انتهج الفرنسيون أسلوب الأرض المحروقة، كما هي مفهومة من عبارة الحاكم العام الماريشال بيجو: " لن تحرثوا الأرض، وإذا حرثتموها فلن تزرعوها ، وإذا زرعتموها فتحصدوها..." فلجأ الفرنسيون إلى الوحشية في هجومهم على المدنيين العزل فقتلوا النساء والأطفال والشيوخ، وحرقوا القرى والمدن التي تساند الأمير.
              وبدأت الكفة ترجح لصالح السلطة الفرنسية بعد استيلائها على عاصمة الأمير تاقدامت 1841 ثم سقوط الزمالة -عاصمة الأمير المتنقلة- سنة 1843 وعلى إثر ذلك اتجه الأمير إلى المغرب في أكتوبر عام 1843 الذي ناصره في أول الأمر ثم اضطر إلى التخلي عنه على إثر قصف الأسطول الفرنسي لمدينة طنجة والصويرة،  وتحت وطأة الهجوم الفرنسي يضطر السلطان المغربي إلى طرد الأمير عبد القادر، بل ويتعهد للفرنسيين بالقبض عليه. الأمر الذي دفعه إلى العودة إلى الجزائر في سبتمبر 1845 محاولا تنظيم المقاومة من جديد .
    استسلام الأمير:
            في 23 ديسمبر 1847 سلّم الأمير عبد القادر نفسه بعد قبول القائد الفرنسي لامورسير بشروطه، ونقله إلى مدينة طولون، وكان الأمير يأمل أن يذهب إلى الإسكندرية أو عكا كما هو متفق عليه مع القادة الفرنسيين، ولكن أمله خاب ولم يف الفرنسيون بوعدهم ككل مرة، عندها تمنى الأمير الموت في ساحة الوغى على أن يحدث له ذلك وقد عبّر عن أسفه هذا بهذه الكلمات "لو كنا نعلم أن الحال يؤدي إلى ما آل إليه، لم نترك القتال حتى ينقضي الأجل".  وبعدها نقل الأمير وعائلته إلى الإقامة في "لازاريت" ومنها إلى حصن "لامالغ" بتاريخ 10 جانفي 1848 ولما اكتمل عدد المعتقلين من أفراد عائلته وأعوانه نقل الأمير إلى مدينة "بو" PAU  في نهاية شهر أفريل من نفس العام، ليستقر بها إلى حين نقل إلى آمبواز  في 16 أكتوبر 1852 .