بحث عن خطبة حجة الوداع
خطبة حجة الوداع
قال ابن إسحاق رحمه الله : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه فأرى الناس مناسكهم وأعلمهم سنن حجهم وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : (أيها الناس اسمعوا قولي ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت ، فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون . قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية . أما بعد أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاما ويحرمونه عاما ، ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله . إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان . أما بعد أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقا ، ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي ، فإني قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا ، أمرا بينا ، كتاب الله وسنة نبيه . أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم اللهم هل بلغت ؟ فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم ا شهد )
تاريخ الخطبة
خطبة الوداع هي آخر خطبة ألقاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه هي الخطبة التي ألقاها بجبل عرفات في التاسع من ذي الحجة سنة 10 هـ. ويمكن اعتبار حجة الوداع أكبر تجمع إسلامي في العهد النبوي، فقد تجمع بعرفات في ذلك الوقت نحو 125 ألفا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ألقى رسول الله هذه الخطبة قبل وفاته بنحو شهرين، وأعلن فيها بصورة أخيرة ونهائية كل تلك الأشياء التي بعث من أجلها
تسميتها
وسبب تسميتها بخطبة الوداع ظاهر، فقد كانت إيذانا بدنو أجله - صلى الله عليه وسلم - وتوديعا منه لأصحابه رضوان الله عليهم، وذلك في هذا اللقاء المهيب الذي كان في علم الله وفي إلهام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاء توصية ووداع !
يقول ابن هشام في بيان سبب تسمية هذه الخطبة خطبة الوداع: لم يحج - صلى الله عليه وسلم - بعدها، وقيل لأنه ودع فيها الناس وأعلمهم بدنو اجله). وعند البخاري من رواية ابن عمر قال: ((.وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات، في الحجة التي حج، وقال: (( هذا يوم الحج الأكبر)). فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( اللهم اشهد)). وودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع..)) [كتاب الحج/ 1742] ومن الناس من يكره تسميتها بذلك، ويسميها حجة الإسلام.
ولم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة إلا حجة واحدة في السنة العاشرة وهي حجة الوداع، وأما قبل الهجرة فقد حج حججًا كثيرة، ولذلك يقول الحافظ ابن حجر في الفتح [8/107] : ( بل الذي لا أرتاب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشًا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، فإذا كان هذا حال قريش. فكيف يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يتركه؟! ) أهـ مختصرًا. والمقطوع به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حج حجتين قبل الهجرة يقينا، وهما اللتان بايع فيهما الأنصار عند العقبة.
هذا وقد اجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحجة ما لم يجتمع مثله معه في أي مشهد آخر، فقد كانوا أحرص الناس على الحج معه والتأسي به - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد اختلف في عدد من شهدوا معه هذا المشهد: فقيل إنه قد حج معه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحجة مائة وأربعة وعشرون ألف نفس، وقيل: مائة وأربعة وأربعون ألفًا.
الدراسة:
يستهل الرسول (صلى الله عليه وسلم) خطبته بقوله:
((أيها الناس: اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف أبداً)).
نلحظ أول ما نلحظ هذا النداء القريب إلى النفوس، إذ استغنى عن أداة النداء ((يا))، وغيرها تحقيقاً لهذا القرب والتلاحم مع أبناء الأمة الذين زالت الهوة بينهم وبين معلمهم وهاديهم.
إن حذف أداة النداء قد حقق هذا القرب والتلاحم، فكأن الناس قريبون إليه يناديهم بأرق النداء وأعذبه ليستميل قلوبهم إلى ما يلقي عليهم من حسن التوجيه وسديد الإرشاد.
ويا للنداء وضع في أصله لنداء البعيد، بدليل أنهم عدوا الأداتين ((الهمزة وأي)) للقريب
وأما ((يا)) فقال ابن الحاجب: أنها حقيقة في القريب والبعيد لأنها لطلب الإقبال مطلقاً، وقال الزمخشري: إنها للبعيد))
وإذا كان الأمر كذلك فإن من الواضح أن يكون حذف أداة النداء دالاً على قرب المنادي للمنادى، والالتصاق به والتحبب إليه:
وليس يسعنا في هذا الموضع أن نحمل حذف الأداة على خلاف مقتضى الظاهر، لأن ذلك يدعونا إلى القول إن المنادى ممن سها أو غفل، وما كان له أن يكون على ذلك الحال، إلا أن حذف الأداة هنا جاء على الحقيقة والحال وليس عدولاً عنها تنزيهاً من الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين عن السهر والغفلة.
((اسمعوا قولي)) اسمعوا فعل أمر، وللأمر وجهتان في التعبير البلاغي: حقيقي ومجازي، وللمجازي أغراض متعددة.
ينبغي أن نحدد بادئ ذي بدء مدلول الأمر الحقيقي والمجازي لنتبين في أي المسارات تتجه هذه الصيغة.
الأمر الحقيقي: ((صيغته موضوعة لطلب الفعل استعلاماُ، لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك وتوقف ما سواه على القرينة))
أما صيغة الأمر المجازي – فكما قال القزويني – قد تستعمل في غير طلب الفعل بحسب مناسبة المقام، كالإباحة... والتهديد... والتعجيز... والتسخير))
وإني أرجح أن الأمر في هذا الموضع مجازي، وذلك بدلالة الاستهلال الرقيق، فلا يسوغ أن يكون النداء يحمل في تضاعيفه من معاني التودد والتلطف ثم يعثبه مباشرة بما يدل على الأمر خشية أن يقع ذلك من نفوس سامعيه موقعاً لا يرتضيه، ولما يحصل من التفاوت بين الرقة والتلطلف وبين الشدة التي يحملها الأمر الحقيقي مدلولاً من مدلولاته.
أقول ذلك من غير أن يتبادر إلى الذهن أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا قبل له بأن يأمر قومه بما يشاء فيطاع، هذا أمر لا مشاحة فيه بقدر ما نود أن نرسم من خلال هذا المقطع صورة التناغم البياني بين أجزاء المقطع، وتلك خصوصية من خصوصيات البلاغة النبوية الكريمة. ولذلك فإن المعنى المجازي الذي أرجحه من خلال صيغة الأمر هو لفت الأنظار وتوجيه النفوس أو تنبيه الجمع المخاطب إلى ما يعرضه عليهم من توجيهات.
وما يلي هذا الأمر من العبارات يعزز مجازيته، وذلك في قوله (صلى الله عليه وسلم):
((فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا...)) فجملة المقطع تتسم بالإنسيابية وهدوء النبرة، مما يتسق مع مجازية الأمر السابق على هذا المقطع، ولما في الأمر الحقيقي – لو كان المراد – من القوة والشدة.
فإني لا أدري...: إن: من أدوات التوكيد، وهي ترد في غضون الخطبة بكثرة ملحوظة، ولكل موضع ترد فيه ((إن)) دلالة التوكيد والأهمية.
فهل كانت ((إن)) من مؤكدات مضمون هذا القول، وهل هي من مقتضياته؟
أما كان منتظراً أن يقول: فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا؟.
أقول: لو جاء الكلام على هذه الشاكلة لما تأتى لهذا الكلام أن يفعل فعله التوجيهي العقائدي.
إن جو الكلام منذ استهلاله يوحي بأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد وقف وقفة الوداع، فأراد أن يقرر حقيقة رحلة الإنسان من حياته الدنيا، بتقريره أنه – وإن كان رسولاً يوحى إليه – فهو لا يدري متى سيكون رحيله.
– فإني لا أدري –: أي حتى هو بوصفه نبياً يوحى إليه – يجهل حقيقة هذا الأمر، ولعل مما يخالج نفوس المسلمين من أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعلم بذلك، فلكي يستقر هذا المفهوم بكل أبعاده من غير أن يعتري السمع شك في ذلك جاء بصيغة التوكيد الذي من شأنه أن يرسخ الفكرة في الأذهان.
وربما يرد في هذا الموضع سؤال مفاده: أليس هذا يعني أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أوحي إليه بدنو أجله؟.
نقول: ربما أوحي إليه بذلك، ولكن لم يرد أن يقطع بشيء من ذلك، فالله وحده الذي يقرر. والاستشعار بدون الأجل ليس معناه معرفة ساعة الرحيل على وجه الدقة والضبط، ثم أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يشأ أن يجعل المسلمين في دوامة الاضطراب والقلق خشية أن ينفرط شملهم ويصيبهم من الذهول ما لا يرتضيه لهم.
ومن الملاحظ البلاغية في استخدام ((إن)) في هذا الموضع أنها جاءت في عقب جملة سابقة فقد كان مجيء ((إن)) ضرباً من ضروب التوثيق بين الجملتين.
قال الزملكاني: ((وتجيء – أي إنّ – اربط بين جملتين لتوصل أحداهما بالأخرى، فتراهما بعد دخولها كأنهما قد افرغا في قالب واحد))
ويرى الزملكاني أنه يسع المتكلم أن يأتي بالفاء مكان ((إن)) ولكن لا تؤدي مؤداها من قوة الربط والتوكيد والامتزاج.
يقول في ذلك: ((... لرأيت الامتزاج والألف مقاصراً عما كان عليه))
ولعل في هذا جواباً على تساؤلي في موضع سابق: ألم يكن منتظراً أن يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): ((اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم))، ففي كلام الزملكاني ما يغني عن التفصيل والبيان.
((لعلي)) أداة الترجي، هذه الأداة لم تحظ بعناية البلاغيين قدر ما عدوه أداة نحوية فحسب.
وكان الأجدر البلاغيين أن يتحدثوا عن هذه الأداة في جملة ما تحدثوا به عن غيرها من أساليب التعبير كالأمر والاستفهام والنهي والتمني وأن يعدوها في الإنشاء غير الطلبي بوجه خاص، كما فعلوا بصنوها ((ليت)).
والمعنى الأساس للأداة ((لعل)) هو الترجي. ولو تتبعنا دلالاتها المجازية لوجدت أنها تخرج إلى معان أخر، وربما كان التقرير أو التمويه أو التمني من جملة دلالاتها.
وإني انفي أن تكون دلالتها في الخطبة ترجياً، بل هو تقرير وإشعار بدنو الأجل، ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يجعل الأمر مرهوناً بالآجال التي قرر أنه لا يدري مواقيتها.
ويحجزنا الحياء عن القول إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يموّه على أصحابه الأمر، فيبعد أذهانهم من قضية رحيله وفراقه، فساق الموضوع بصيغة تقريرية تنسحب دلالتها على كل إنسان، فكلنا معرضون للموت في كل لحظة.
ترد بعد ذلك الحقائق التي أراد الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يغرسها في نفوس المسلمين على أنها أحكام للحياة لا تحتمل تأويلاً ولا تقبل حيدة أو جنوحاً. فجملة ما واجه به المسلمين وردت بصيغة التوكيد الحقيقي.
وقد قرر البلاغيون أن ((الإهتمام بالشيء وانفعال النفس به يستوجب ضرباً من تأكيده، أمراً أو نهياً أو خبراً يستلزم طلباً أو خبراً يقع في الجواب))
وقد جاء التوكيد في مقاطع الخطبة بأكثر من وسيلة، وهي:
أداة التوكيد ((إنَّ)) والتكرار، وتقديم ما حقه التأخير (ومنه القصر)، وأدانا التحقيق والتوكيد ((قد وكل)).
ومما جاء مؤكداً بإن:
((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام...))
((وإنكم ستلقون ربكم...))
((وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله...))
((وإن كل دم في الجاهلية موضوع))
((وإن أول دمائكم أضع...))
ومما جاء مؤكداً بالتكرار:
((كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا...)).
إن حرمة الأموال والدماء ولقاء الله ووضع الربا والدماء مما تعد من كبريات القضايا التي كانت تسود حياة العرب، وكان لابد لها من الحسم القاطع، تنقية للمجتمع الإسلامي من كل بقايا الجاهلية ومواريثها، ولذلك تصدرت هذه المقاطع أداة التوكيد ((إن)) التي تضمن الإيصال والتثبيت إضافة إلى حسم التردد والشك في القبول والتلقي.
ولقد ذهب البلاغيون إلى أن استخدام أداة التوكيد واحدة ضمن العبارة هي لحسم الشك والتردد. قال القزويني: ((وإن كان متصور الطرفين، متردداً في إسناد أحدهما إلى الآخر طالباً له حسن تقويته بمؤكد))
وليس هذا الأمر مطرداً على نسق متواصل، فقد يخرج استخدام الأداة في غير هذا الموضع مراعاة لغير الظاهر، كما قرر البلاغيون أنفسهم، فقد ذكر القزويني نفسه ذلك في قوله: ((وكثيراً ما يخرج على خلافه، فينزل غير السائل منزلة السائل – أي المتردد الشاك – إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر، فيستشرف له استشراف المتردد الطالب))
ونحن نقول: إن أداة التوكيد سواء أكانت واحدة أم أكثر فإنها تقيد توثيق الأمر وضمان حسن تلقيه وأثره في نفس المتلقي واتخاذ موقف معين مضامينه، سواء أكان في الأمر شك أم لم يكن، وإلى جانب ذلك إشعار بأهمية الأحكام المعروضة ضماناً لحشد الطاقات النفسية والاجتماعية لاجتثاث ما علق بالنفوس والواقع المعيش من آثار وقيم نسخها الدين الإسلامي.
والتكرار هو الآخر إشعار بأهمية الأمر وإعظام لشأنه. قال (صلى الله عليه وسلم): كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا. والحرمة في حياة المسلمين قضية لها من الخطر والجلال ما لها، وتكرار اللفظة إيقاظ الحواس، ولا يغب عن البال ما أضافه تكرار (هذا) في نهاية كل مقطع من إيقاع لفظي زاد من جلال التوكيد جلالاً، وكان له من الواقع ما يحفز النفوس إلى تثبيت والتملي واستيعاب القضية بكل أبعادها النفسية والفكرية، وهذا ((على جانب من التنغيم النافذ إلى الروح، ندركه دائماً في حسن جرسه وتعانق معانيه وتتابع موجاته، يدفع بعضها في نشاط وتشابه))
ويشير الزمخشري إلى القيمة الفنية والمعنوية في ظاهرة التكرار بأنها ((استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وطريقة الانصات لكل حكم نازل، وتحريك منهم لئلا يفتروا أو يغفلوا عن تأملهم وما أخذوا به))
((وقد بلغت)): في هذا المقطع أكثر من دلالة بلاغية.
1 – استخدام (قد) مفيدة التحقيق هو لون آخر من ألوان التوكيد التي تحفل بها كظاهرة معنوية موظفة للتبليغ والتثبيت ولفت الأنظار نحو الأحكام النبوية.
2 – حذف المفعول به:
يقول الإمام عبدالقاهر في بلاغة الحذف وأثره الجميل في تقوية الفكرة.
((هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فتلك ترى به ترك المذكور أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك انطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن))
إن البيان النبوي قد استغنى عن المفعول به لعمومه، ودلالة ما سبقه عليه من جهة، إذ أنه ((يتناول كل ما يصح أن يدخل تحت هذا الفعل، فليس ذكر البعض بأولى من الآخر)) ، ومن جهة أخرى فإن الاهتمام بالفعل هو المراد، أي أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أشهدهم على أنه قام بالتبليغ، إذن الحديث هو الأرجح في الذكر دون غيره من متعلقاته.
وفي بيان هذا المنحى البلاغي يقول الزمخشري في حديثه عن حذف المفعول.
((وقد يحذف المفعول لأن القصد إلى الفعل غير معتمد إلى شيء، يقول في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} وفي قوله: لا تقدموا من غير ذكر مفعول وجهان: أحدهما يحذف ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدم، والثاني إلا يقصد قصد مفعول ولا حذفه))
3 – ورود المقطع بالصيغة الخبرية، ولعل في هذه الصيغة من الثقة والاعتداد بتجاوب المسلمين ما لم يجد معه حاجة إلى إلتماس الأساليب الإنشائية التي تساق غالباً في مواضع بها حاجة إلى استثارة الهمم وقرع النفوس التي قد تتلبس ببعض الغفلة أو التردد.
((وقد بلغت)): صيغة الحسم والقطع، بل صيغة الاشعار بأن هذا هو البلاغ النهائي الذي لا بلاغ من بعده.
ومن أساليب التوكيد التي وردت في غضون هذه المقاطع:
((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام))
((ولكن لكم رؤوس أموالكم))
نجد في المقطع الأول تقدم الجار والمجرور (عليكم) على خبر إن، وهو في عرف النحاة فضلة من حقها أن تتأخر، ولكن له في البيان النبوي تقدم ملموس ظاهر، ترى أكان التناغم اللفظي هو الذي استدعى هذا التقديم، أم أن وراء تقديمه غاية معنوية أخرى.
ليس بوسعنا أن نقطع بإجابة عن واحد من ذينك التساؤلين بقدر ما نود أن نوفق بين التساؤلين.
إن البيان النبوي قد توخى الإيقاع المتناغم الذي يكسب العبارة جمالية محببة إلى النفس من خلال توالي: دمائكم – أموالكم – عليكم –.
إذن نحن لا ننفي هذه الصيغة الجمالية التي هي من أجلى خصائص البلاغة النبوية التي اجتمعت فيها – على حد قول الرافعي – ثلاث صفات هي:
الخلوص والقصد والاستيفاء
إلا أننا في الوقت ذاته نحسّ أن التقديم إن خلا من الفائدة المعنوية فإن الجانب الجمالي يظل حلية خاوية ننزه البلاغة النبوية عن أن تكون هدفاً من أهدافها.
إن الذهن ينتظر خبر (إن) ليكتمل به المعنى الأساس، فإذا بالذهن يقرع بالجار والمجرور (عليكم) خطاباً مباشراً إلى المسلمين؛ إذن الأمر الذي سيسمعونه خطير، فهو يعنيهم ويمس وجودهم وكيانهم، ففي هذه اللحظة يساق الخبر حكماً من الأحكام خطير الشأن، بعد أن هيأ تقديم الجار والمجرور الأذهان لتلقي الخبر.
وكذلك الأمر في قوله (صلى الله عليه وسلم): ((ولكن لكم رؤوس أموالكم)) فإنه إشعار إلى أن ما كان غير محذور يعود إلى أصحابه؛ فرؤوس الأموال حق مشروع من حقوقهم دون ما يتمخض عن الربا من أموال لا يباح لهم تملكها وحيازتها.
ومن أجل أن لا يظنوا أنهم سيضيعون كل شيء بعث في نفوسهم الطمأنينة من خلال (لكم) وهو خبر مقدم، لو قال: ولكن رؤوس أموالكم لكم، فلربما ذهبت الظنون أنها هي الأخرى ستضيع، فالخبر هو الأهم في أن يذكر أولاً، فإن تقدمه باعث على الطمأنينة وراحة البال وفي بلاغة التقديم يقول القزويني:
((إن تكون العناية بتقديمه والاعتناء بشأنه بكونه في نفسه نصب عينك، والتفات خاطرك إليه في التزايد.... أو لعارض يورثه ذلك، كما إذا توهمت إن مخاطبك ملتفت الخاطر إليه ينتظر أن تذكره، فيبرر في معرض أمر يتجدد في شأنه التقاضي ساعة فساعة، فمتى تجد له مجالاً للذكر صالحاً أوردته))
ومن خلال المقاطع السابقة تلفت أنظارنا صيغ جديرة بالوقوف للتعرف على دلالتها الخاصة من خلال تراكيبها الخاصة.
((وإنكم ستلقون ربكم))
إن من أركان العقيدة أن يلقى العباد ربهم ليحاسبهم ويسألهم عن أعمالهم.
والفعل في الجملة مصدر بسين الاستقبال، وهذه السين قد حققت إحساس السامع يقرب هذا اللقاء، وقد عدل البيان النبوي عن ((سوف)) وهو أيضاً حرف استقبال ولكنه يدل على تحقق الفعل بزمن أبعد، وربما كان في استخدامه في ظاهر الحال أكثر دلالة على السين، إلا أن ((السين)) فيها من دلالة القرب ما يشعر أن الأمر واقع لا محالة، ليكون ذلك الإحساس باعثاً على التعجيل بالإلتزام والتمثل والتطبيق.
وحين تحقق السين هذا الإحساس دون سوف الدالة على التراخي الزمني فإن البلاغة النبوية قد حققت مبدأ المطابقة لمقتضى الحال بدقة متناهية متساوقة مع القدرة المتميزة لأعلى ذروة البلاغة البشرية أن تبلغها أو أن تحققها.
ونقف عند الفعل ((فليؤدها)) وهو مضارع مجزوم بلام الأمر جاء جواباً لشرط لا يحتمل إلا هذه المباشرة التي وضحت الحكم بكل أبعاده، فالأمانة ينبغي أن تؤدى، وإذا لم يكن هناك سبيل إلى غير ذلك فلا مناص للمخاطب إلا أن يفعل.
والأمر هنا حقيقي، وحقيقته هي من مقتضى الموقف الذي يتطلب ذلك، وقد سبق أن عرضنا لدلالة الأمر الحقيقي.
ويلفت أنظارنا أن المقاطع التي تصدرتها أدوات توكيد تخللتها مقاطع خلت من تلك الأدوات، مع أن مقتضى الظاهر أن تتصدر بها، لأن مضامينها ليست أدنى درجة من الأهمية عن مضامين تلك الجمل المؤكدة التي تكتنفها قبل وبعد.
((ومن هذه المقاطع قوله (صلى الله عليه وسلم):
((تظلمون ولا تظلمون))
((قضى الله أنه لا ربا))
والجواب عن ذلك يتطلب النظر إلى الموضوع من جهتين:
الأولى: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) استشهد بآية كريمة، والاستشهاد لا يحتمل الإضافة والزيادة.
الثانية: أن الاستغناء عن أدوات التوكيد في عرف البلاغيين لأمرين: إما أن المخاطب خالي الذهن، أي أنه غير متردد في قبول الحكم، أو غير منكر له حتى يتطلب أداة للتوكيد، وأما أن المتكلم ينزل المتردد أو المنكر منزلة خالي الذهن، لأن الموضوع مما لا يحتمل شكاً أو إنكاراً.
قال القزويني في بيان ذلك:
((فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر، والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم))
((وكذلك ينزل المنكر منزلة غير المنكر، إذا كان معه إن تأمله ارتدع عن الإنكار، كما يقال لمنكر الإسلام ((الإسلام حق)) وعليه قوله تعالى في حق القرآن ((لا ريب فيه))
وكأن الله تعالى جعل انتفاء ظلم المؤمن لأخيه المؤمن في معيار الإسلام أمراً لا مشاحة فيه، أي أنه من مستلزمات الروابط الإسلامية في ظل المجتمع الإسلامي أن يخلو من الظلم.
وقوله (صلى الله عليه وسلم): قضى الله أنه لا ربا.
أرى أن ننظر فيه من وجهتين:
الأولى: إن خلو المقطع من أدوات التوكيد هو أيضاً من باب إنزال المتردد أو المنكر منزلة خالي الذهن لوضوح الأمر وبداهته، فكيف يصح في شرع قوامه العدل والحق أن يكون فيه إباحة للربا وهو ظلم فاحش.
الثانية: إنني ألمح أن الصيغة التي سبقت بها العبارة مؤكدة لذاتها، وهذا يدعونا إلى القول أن في المقطع توكيداً ضمنياً يوحي به عموم العبارة، فهل يفهم من الفعل ((قضى)) غير الأمر الجازم الذي لا محيد عنه، وهل يفهم من قوله ((لا ربا)) بهذا النفي غير أن يكون الحكم حاسماً لا خلاف عليه.
ويشبه ذلك ما يستخدم من العبارات الشائعة من قولهم: يجب أن – ولابد أن – ولا مناص من، أليست هذه الصيغ مما يحمل التوكيد ضمناً من تضاعيفها.
وبهذا يمكننا أن نضيف نوعاً جديداً لأساليب التوكيد المعنوي واللفظي نسميه بالتوكيد الضمني. وهو ما يستفاد من عموم العبارة التي تساق بحيث لا تحتمل من المعاني إلا وجهاً واحداً يفيد الجزم والحسم والتوكيد.
وفي الختام تجسد الحرص النبوي على أن تبلغ جملة هذه التوجيهات من مكامن نفوس المسلمين إلى صورة التوكيد. ((فلا تظلمن أنفسكم)) وكان يسعه (صلى الله عليه وسلم) أن يقول: فلا تظلموا أنفسكم، ولكن نون التوكيد هي بمثابة أداة القرع للنفس خشية أن تغفل فتضل.
ثم أعقب ذلك بصيغة إنشائية: اللهم هل بلغت... والصيغة المعتمدة هي الاستفهام، ليستوثق من يقظة المسلمين وتجاوبهم فيسمع منهم الجواب الذي يبعث في نفسه الطمأنينة على أن ما زرعه من كلمات إنما هي هي الشجرة التي ضربت بجذورها في الأعماق، وسمقت إلى الأعالي باسقة ظليلة آنية ثمراً طيباً.
وهنا تستوقفنا الصيغة الاستفهامية لنسأل أنفسنا: هل جاء الاستفهام في هذا الموضع حقيقة أم مجازاً؟
أود أن أعرض للأمر من جانبين: كل جانب يجدد مسار هذا الاستفهام.
الجانب الأول: يتصل بالرسول (صلى الله عليه وسلم) مبلغاً للأمانة، فقد عدل عن الصيغة الإخبارية على النحو الذي ورد في أول الخطبة ((وقد بلغت)) لكي يأتي التقرير أشد في النفس وأوقع، وادعى إلى الطمأنينة.
أي أن الاستفهام مجازي خرج إلى التقرير والتثبيت.
أما الجانب الثاني: فهو مما يتصل بجمهور سامعيه حين حملوا الاستفهام على معناه الحقيقي، فأجابوا: اللهم نعم.
ونحن نعلم أن الاستفهام المجازي هو ما لا يحتاج إلى جواب، لأنه ليس من قبيل طلب حصول الفهم – كما يقول البلاغيون))
وبذلك حققت البلاغة النبوية نمطاً فريداً من التعبير راعى فيه حالة المتكلم وموقفه مبدئياً ونفسياً، وراعى في الوقت ذاته المخاطبين وما هم عليه من موقف إزاء ما يلقى عليهم، فوجدوا أنفسهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم): يستفهم بقوله ((هل بلغت)) ليجيء الجواب في إثره: اللهم نعم... وهو جانب يعزز الحالة النفسية للرسول المبلغ حيث استوثق أنه أدى الأمانة كاملة غير منقوصة.
معجزة تتعلق بهذه الخطبة:
ومن المعجزات التي تتعلق بهذه الخطبة: أنه قد سمعها جميع من كان في الحج بدون مكبر صوت، فعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي قال: (( خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول، ونحن في منازلنا)) رواه أبو داود في سننه. [انظر صحيح أبي داود/1724 - 1957].
أنواع الحقوق العامة:
يتعلق بحق الفرد كإنسان مجموعة من الحقوق العامة، أكد الإسلام على مراعتها، ما لم تتصادم بحق أو حقوق أخرى، ووهي أنواع كثيرة، نذكر أهمها:
أولا: حق الحياة: المشار إليها في قوله (ص) في خطبة حجة الوداع " كل مسلم على مسلم حرام دمه وماله وعرضه " وهو من أكثر الحقوق الطبيعية وأولوية، قال تعالى: " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ". والإسلام يراعي حق الحياة منذ بدء ظهور النطفة وهي مادة الخلقة، فلا يبيح الشرع المقدس قتلها، ومن فعل ذلك ترتب عليه جزاء مادي. وعليه فقد احتل هذا الحق مكانة مهمة في الإسلام، يبدو ذلك جليا لمن يطلع على الروايات الواردة في باب القصاص في المجاميع الحديثية، وسوف يجد نظرة أرحب وأعمق له لهذا الحق فيها، ويتدرج ضمن هذا الحق حقوق كثيرة منها:
1. حق الإنسان في الحياة والأمان: جعل الإسلام حق الفرد في الحياة حقا مقدسا، واعتبر الإعتداء عليه اعتداء على المجتمع برمته وفي نفس الوقت جعل توفير متطلبات حياته وإحياءه لجميع الناس. فالله تعالى هو الذي وهب الحياة للإنسان، وليس من حق الآخرين ولا من حق الإنسان ذاته حد لتلك الحياة، أو الإضرار بها. وحتى في الحروب والمنازعات، فقد حرم الإسلام قتل أطفال الأعداء وشيوخهم ونسائهم ن أو التعرض لرجال الدين غير المحاربين. ومن الآيات الواردة في هذا الصدد : قوله تعالى " كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" وقوله سبحانه:" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق"
2. حق الإنسان في المشاركة في الحياة العامة وتولي المناصب: إن المشاركة في الحياة العامة أو صنع القرارات السياسية والاجتماعية كما يقولون بلغة العصر ليست حقا للإنسان في الإسلام فحسب، وإنما ضرورة يحكمها مبدأ " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذي يجمع الفقهاء على أنه فرض كفاية، ويقع إثم شركه على المجتمع برمته فجميع أبناء المجتمع يشارك في المسؤولية العامة لحديث: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"
3. حق التمتع بالأمن : لكل إنسان سوي حق طبيعي في التمتع بالأمن، فلا يجوز لأي كان تعكير صفو حياته، وجعله أسير الحزن والأسى من خلال التهديد والوعيد بالاعتداء على حياته أو عرضه أو ماله. ويتأكد حق الأمان إذا أمن الإنسان إنسانا أخر بموجب ميثاق أو عهد، وقد أكد القرآن الكريم على المسلمين احترام مواثيق الأمان حتى مع الكافرين، كما في قوله تعالى: " ...فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق. " والنبي الأكرم (ص) دعا إلى رعاية هذا الحق لإنساني العام، وقال في هذا السياق: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفا " وفي حديث أخر: " المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ".
ثانيا: حق لإنسان في التملك: الملكية هو كل ما يمكن امتلاكه والإحراز عليه، وهي رابطة شرعية بين المالك وما يملكه، وقد أثارت إلى هذا الحق خطبة حجة الوداع بقول الرسول رحمه الله فيها: " لا يحل لامرئ من أخذي إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمن أنفسكم « وفي طرف أخر منها: " إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ".
ومن هذين النصين الواردين في هذه الخطبة النفسية، نجد أن الإسلام يهدف بنظامه الاقتصادي إلى حفظ كرامة الإنسان، وإطلاق حرياته في الاجتهاد بالعمل وقطف ثمار هذا الاجتهاد والتمتع بخيرات الحياة، قال تعالى: " هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ".
وفي الوقت الذي يحمي الإسلام الملكية الفردية، فإنه يقيدها بقيود قانونية، وخلقية تمنعها من الطغيان، ومجاوزة الحدود، حيث جعل لها ضوابط والتزامات أخلاقية كالزكاة والصدقات والتبادل التجاري المثمر.
أما الملكية العامة، فقد أباحها الإسلام دون قيد ولا شرط، كالأنهار والشواطئ والأحباس، وفي نفس الوقت نجد النظام الرأسمالي يعتبر الملكية خاصة مجردة من جميع القيود تطلق العنان للفرد في التصرف باحتكار الأسواق والبحث عن الأرباح الطائلة بأي طريقة كانت، ولو ألحق الضرر بالغير، كما تشجع على الادخار وحبس الأموال مع المضاعفة على ذلك كلما امتدت المدة وتراكم الرصيد المالي.
ولهذا فنضرة الإسلام إلى الملكية باعتبار خاص متميز عن غيره من الاعتبارات المذهبية الاقتصادية، فالقرآن الكريم ينسب ملكية المال إلى الله تعالى حقيقة وإلى الإنسان مجازا فالله سبحانه هو المالك الحقيقي للكون وللإنسان مجازا ولما في الأرض من كنوز وثمار وأنهار، قال تعالى: " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " وقال سبحانه " أفرآيتم ما تحرثون أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون" فهذه هي حقيقة ملكية الأحوال في الإسلام.
أما نسبة الملكية إلى الإنسان، فيقول القرآن عنها: " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات
ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الارض". وقال: " ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل ". والغية التي أرادها القرآن من نسبة الملكية إلى الإنسان، هي إثارة عواطف الكدح والكسب في نفسه وبعث نشوة الطموح والتنافس.
أهمية المال في الإسلام
المال معناه: كلمة مأخوذة من الحيل والميلان وهو كل ما تصيل إليه النفس، وترغب فيه، والنفس البشرية مطبوعة على حب المال، قال تعالى: " وتاكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما ". وقوله تعالى: " وإنه لحب الخير لشديد ". وعند الفقهاء: المال هو كل ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجه معتاد، كالنقود والحيوان والعقار، وكل المنقولات.
والإسلام يعطي أهمية قصوا للمال، لأنه وسيلة لإقامة الحياة وقيام العمران البشري، وأداء العبادة لذا نراه يقنن له طرفا مشروعة لاكتسابه واستهلاكه:
أ- الطرق المشروعة لتحصيله: حض الإسلام على العمل واكتسابه بطرق الحلال، حيث حث على فلاحة الأرض واستثمارها واستخراج ما فيها من رزق، لقوله عليه السلام، في حديث منه مقال: " أطلبوا الرزق من خبايا الأرض، كما أمر بتحصيله عن طريق التجارة والصناعة وكل المهن الشريفة، وبغض التواكل وعدم الاعتماد على النفس، واكتساب الأموال بالمضاربات الربوية وألوانها من الرشوة والسرقة والغصب والاحتكار، وفرض على العاملين قيودا تضمن طاهرة النفس وشرف الوسيلة ونبل المقصد، وذلك بتفادي الأساليب الالتوائية من سلوك احتيالي للحق والعدل مما يضرب بالفرد والمجتمع.
ب- الطرق المشروعة للاستهلاك: أعطى الإسلام للفرد الحرية في إنفاق المال بأي وجه كان، شريطة أن يخل بالسلوك الإعتدالي المبتعد عن الإسراف والتبذير، ففسح المجال أمام أضرب الإنفاق، مبيحا الاستمتاع بما لذ وطاب، في نطاق الحلال.
وحرصا على المال من الضياع والإتلاف، دعما الإسلام إلى الحجر على السفهاء، والصغار القاصري، وأسند أمرهم إلى من يقوم بشؤونهم، فقال تعالى: " ولا توتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما " كما كره الترف المفرط ولو في المباح، قال تعالى: ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ".
من خلال ما سبقا نلخصه إلى ما يلي:
1. دعوة الإسلام إلى تفتيت المال وتوزيع دائرة الانتفاع به
2. حد الإسلام من الطغيان المادي المستبد بصاحبه المفضي إلى الجشع والتسلط والاستغلال
3. دعوة الإسلام إلى التخفيف من وطأة الفقر المدقع.
4. خلو الإسلام وسلامته من التعامل الربوي.
5. تقنين المال في الإسلام بشروط تربوية.
أما أهم وأبرز المبادئ التي أكدها الرسول (ص) وأوصى أمته بها في هذه الخطبة هي :
1- الإعلان عن حقوق المسلم، وأنه محرم الدم والمال والعرض .
2- الإعلان عن حقوق النساء والأمر بالاعتراف بها وأدائها وكذا حقوق الزوج على زوجته .
3- تحريم الوصية للوارث وتقرير قانون التوارث كما في القران الكريم .
4- الإعتصام بالكتاب والسنة .
5- إلغاء التفاضل بين الناس إلا بالتقوى .
6- العدل والمساواة وحقن الدماء.
وهذه الخطبة أعظم وثيقة رائدة في مجال حقوق الإنسان التي شهدها الدهر العقيم، ولم يظفر منه بشيء الجسد السقيم .
أما ما تضمنته خطبة الوداع من مبادئ وتوصيات، فنقف عند بعضٍ منها، فيما تبقَّى من هذه السطور:
المبدأ الأول حرمة سفك الدماء بغير حق، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: ( أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وحرمة شهركم هذا..) فأين أمة الإسلام اليوم من تطبيق هذا المبدأ، وقد أخذ بعضها برقاب بعض، وتسلط القوي فيها على الضعيف، وآل أمرها إلى ما هو غير خاف على أحد، حتى أضحت في موقع لا تحسد عليه.
وقد كرر عليه الصلاة والسلام هذه الوصية في خاتمة خطبته - كما ذكر ابن هشام في سيرته - مؤكدًا ضرورة الاهتمام بها بقوله: ( تعلَمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين أخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب منه، فلا تظلمن أنفسكم..) .
المبدأ الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، دماء الجاهلية موضوعة...وربا الجاهلية موضوع..) وهذا نص واضح، وتصريح صارخ أن كل ما كان عليه أمر الجاهلية قد بَطَل، ولم يبقَ له أي اعتبار، بل هو جيفة منتة، لا يمكن أن ينهض بأمة، بَلْهَ أن يبني حضارة تكون هدى للبشرية، بل هو إلى الهدم والخراب أقرب.
وثالث المبادئ في خطبته صلى الله عليه وسلم وصيته بالنساء خيرًا ( واستوصوا بالنساء خيرًا ) ما أروعها من وصية، وما أحرى بالإنسانية اليوم أن تلتزم بها وتهتدي بهديها، بعد أن أذاقت المرأة أشد العذاب - تحت مسمى حرية المرأة - ودفعت بها إلى مهاوي الذل والرذيلة، وجردتها من كل معاني الكرامة والشرف، تحت شعارات مزيفة، لا تمت إلى الحقيقة في شيء.
لقد جهل أصحاب تلك الشعارات بل تجاهلوا الفرق بين كرامة المرأة وحقوقها الطبيعية التي كفلها لها شرع الله، وما نادوا به من شعارات تطالب بحرية المرأة، وهي عند التحقيق والتدقيق دعوة لاستباحة الوسائل المختلفة للتمتع بالمرأة والتلهي بها.
إن المرأة اليوم - كما لا يخفى على كل ذي بصر وبصيرة - تنجرف مع تيار كاسح يكاد يختزل المرأة وقيمتها ووظيفتها في الجسد المزوَّق، والمظهر المنمَّق، المعروض في كل مكان، والمبذول لكل راغب ومريد!!
أما المبدأ الرابع فكان وصيته عليه الصلاة والسلام لأمته التمسك بكتاب ربها والاعتصام به، مبينًا أنه سبيل العزة والنجاح ( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله ) صدقت يا رسول لقد ضمنتَ لأمتك الأمان من كل شقاء وضلال إذا هي تمسكت بهدي هذا الكتاب. وهل وصلت أمة الإسلام إلى ما وصلت إليه إلا بهجر كتاب ربها وترك منهج نبيها، ولا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
كم هي البشرية اليوم بحاجة ماسَّة - بعد أن وصلت إلى ما وصلت إليه - إلى مراجعة نفسها وتدارك أمرها والاهتداء بهدي من أرسله الله رحمة للعالمين، فهل تفيء البشرية إلى رشدها أم تبقى في غيِّها لا تلوي على أحد، ولا تُقيم وزنًا لدين أو خلق.
وكان النبي صلى الله عليه وآله كان طوال نبوته يبلّغ ولاية عترته بالحكمة والتدريج ، والتلويح والتصريح ، لعلمه بحسد قريش لبني هاشم ، وخططها لإبعادهم عن الحكم بعده .. بل قد لمس صلى الله عليه وآله مرات عديدة عنف قريش ضدهم ، فأجابهم بغضب نبوي !
المصادر والمراجع:
1 - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية – مصطفى صادق الرافعي، ضبط وتحقيق محمد سعيد العريان – مطبعة الاستقامة مصر – 1945م.
2 - الإيضاح في علوم البلاغة – لجنة من الأزهر – إشراف محمد محيي الدين عبدالحميد – القاهرة.
3 - البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن – كمال الدين الزملكاني – تحقيق. د.أحمد مطلوب. د.خديجة الحديثي – رئاسة ديوان الأوقاف – إحياء التراث الإسلامي – 9.
4 - البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري وأثرها في الدراسات البلاغية د.محمد حسنين أبو موسى – دار الفكر العربي – القاهرة.
5 - البيان والتبيين – الجاحظ – تحقيق وشرح – عبدالسلام محمد هارون ط3 – مؤسسة الخانجي – القاهرة.
6 - التلخيص في علوم البلاغة – القزويني – شرح وتحقيق عبدالرحمن البرقوقي – ط2 – القاهرة 1932م.
7 - الحديث النبوي من الوجهة البلاغية – د.عز الدين علي السيد. دار الطباعة المحمدية – الأزهر – القاهرة – 1973م.
8 - دلائل الإعجاز – عبدالقاهر الجرجاني – تحقيق أحمد مصطفى المراغي – القاهرة.
9 - السيرة النبوية – ابن هشام – تحقيق – مصطفى السقا – إبراهيم الأبياري – عبدالحفيظ شلبي – القاهرة 1955م.
10 - الفائق في غريب الحديث – الزمخشري – تحقيق – علي محمد البجاوي – محمد أبو الفضل إبراهيم – جـ1 – ط2 – مطبعة عيسى البابي الحلبي – 1366هـ.
11 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. الزمخشري – جـ4 – مطبعة الاستقامة.
12 - مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح – ابن يعقوب المغربي – ((ضمن شروح التلخيص)) مطبعة البابي الحلبي – 1937م.