-->

بحث عن أبو الطيب المتنبي

بحث عن أبو الطيب المتنبي
    بحث عن أبو الطيب المتنبي
    أبو الطيب المتنبي


    أبو الطيب المتنبي، أعظم شعراء العرب، وأكثرهم تمكناً باللغة العربية وأعلمهم بقواعدها ومفرداتها، وله مكانة سامية لم تتح مثلها لغيره من شعراء العربية. فيوصف بأنه نادرة زمانه، وأعجوبة عصره، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء. و هو شاعرحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي. و تدور معظم قصائده حول مدح الملوك. ترك تراثاً عظيماً من الشعر، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير. قال الشعر صبياً. فنظم أول اشعاره و عمره 9 سنوات . اشتهر بحدة الذكاء واجتهاده وظهرت موهبته الشعرية باكراً.

    صاحب كبرياء وشجاع طموح محب للمغامرات. في شعره اعتزاز بالعروبة، وتشاؤم وافتخار بنفسه، أفضل شعره في الحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، إذ جاء بصياغة قوية محكمة. إنه شاعر مبدع عملاق غزير الإنتاج يعد بحق مفخرة للأدب العربي، فهو صاحب الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وجد الطريق أمامه أثناء تنقله مهيئاً لموهبته الشعرية الفائقة لدى الأمراء والحكام، إذ تدور معظم قصائده حول مدحهم. لكن شعره لا يقوم على التكلف والصنعة، لتفجر أحاسيسه وامتلاكه ناصية اللغة والبيان، مما أضفى عليه لوناً من الجمال والعذوبة. ترك تراثاً عظيماً من الشعر القوي الواضح، يضم 326 قصيدة، تمثل عنواناً لسيرة حياته، صور فيها الحياة في القرن الرابع الهجري أوضح تصوير، ويستدل منها كيف جرت الحكمة على لسانه، لاسيما في قصائده الأخيرة التي بدأ فيها وكأنه يودعه الدنيا عندما قال: أبلى الهوى بدني.

    عصر أبي الطيب
    شهدت الفترة التي نشأ فيها أبو الطيب تفكك الدولة العباسية وتناثر الدويلات الإسلامية التي قامت على أنقاضها. فقد كانت فترة نضج حضاري وتصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العرب والمسلمون. فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء وقادة الجيش ومعظمهم من غير العرب. ثم ظهرت الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام، وتعرضت الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية، ثم ظهرت الحركات الدموية في العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ووسيلة صلة بينه وبين الحكام والمجتمع، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلاً يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعراً معروفاً استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب كانت نشأة أبي الطيب، وعى بذكائه الفطري وطاقته المتفتحة حقيقة ما يجري حوله، فأخذ بأسباب الثقافة مستغلاً شغفه في القراءة والحفظ، فكان له شأن في مستقبل الأيام أثمر عن عبقرية في الشعر العربي. كان في هذه الفترة يبحث عن شيء يلح عليه في ذهنه، أعلن عنه في شعره تلميحاً وتصريحاً حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في اللاذقية، فلم يستمع له وإنما أجابه مصرا ً: أبا عبد الإله معاذ أني. إلى أن انتهى به الأمر إلى السجن.
    نشأته و تعليمه
    بعد أن نشأ بالعراق انتقل إلى الشام ثم تنقل في البادية السورية يطلب الأدب وعلم العربية. ثم عاد إلى الكوفة حيث أخذ يدرس بعناية الشعر العربي، وبخاصة شعر أبي نواس وابن الرومي ومسلم بن الوليد وابن المعتز. وعني على الأخص بدراسة شعر [أبو تمام |أبي تمام] وتلميذه البحتري. انتقل إلى الكوفة والتحق بكُتّاب (309-316 هـ الموافق 921-928م) يتعلم فيه أولاد أشراف الكوفة دروس العلوية شعراً ولغة وإعراباً. لم يستقر أبو الطيب في الكوفة، فقد اتجه إلى الشام ليعمق تجربته في الحياة وليصبغ شِعره بلونها، أدرك بما يتملك من طاقات وقابليات ذهنية أن مواجهة الحياة تزيد من تجاربه ومعارفه، فرحل إلى بغداد برفقة والده، وهو في الرابعة عشرة من عمره، قبل أن يتصلب عوده، وفيها تعرف على الوسط الأدبي، وحضر بعض حلقات اللغة والأدب، ثم احترف الشعر ومدح رجال الدولة . ورحل بعدها برفقة والده إلى بادية الشام يلتقي القبائل والأمراء هناك، يتصل بهم و يمدحهم، فتقاذفته دمشق وطرابلس واللاذقية وحمص وحلب . دخل البادية فخالط الأعراب، وتنقل فيها يطلب الأدب واللغة العربية وأيام الناس، وفي بادية الشام والبلاد السورية التقي الحكام والأمراء والوزراء والوجهاء ، اتصل بهم ومدحهم، وتنقل بين مدن الشام يمدح الأمراء والوزراء وشيوخ القبائل والأدباء.
    المتنبي و سيف الدولة الحمداني
    ظل باحثاً عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 هـ، واتصل بسيف الدولة بن حمدان، امير وصاحب حلب ، سنة 337 هـ وكانا في سن متقاربه، فوفد عليه المتنبي وعرض عليه أن يمدحه بشعره على ألا يقف بين يديه لينشد قصيدته كما كان يفعل الشعراء فأجاز له سيف الدولة أن يفعل هذا واصبح المتنبي من شعراء بلاط سيف الدولة في حلب، وأجازه سيف الدولة على قصائده بالجوائز الكثيرة وقربه إليه فكان من أخلص خلصائه وكان بينهما مودة واحترام، وخاض معه المعارك ضد الروم، وتعد سيفياته أصفى شعره. غير أن المتنبي حافظ على عادته في إفراد الجزء الأكبر من قصيدته لنفسه وتقديمه إياها على ممدوحة، فكان أن حدثت بينه وبين سيف الدولة جفوة وسعها كارهوه وكانوا كثراً في بلاط سيف الدولة .

    ازداد أبو الطيب اندفاعاً وكبرياء واستطاع في حضرة سيف الدولة أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرماً مميزاً عن غيره من الشعراء في حلب . وهو لا يرى إلا أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة، إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده، إلى أنه مطمئن إلى إمارة حلب العربية الذي يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعداً وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضاً هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحياناً بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه. ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية، إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان.
    وفي المواقف القليلة التي كان المتنبي مضطرا لمراعاة الجو المحيط به، فقد كان يتطرق إلى مدح آباء سيف الدولة في عدد من القصائد، ومنها السالفة الذكر، لكن ذلك لم يكن إعجابا بالأيام الخوالي وإنما وسيلة للوصول إلى ممدوحه، إذ لا يمكن فصل الفروع عن جذع الشجرة وأصولها، كقوله:

    من تغلب الغالبين الناس منصبه ومن عدّي أعادي الجبن والبخل


    خيبة الأمل وجرح الكبرياء
    أحس الشاعر بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير. وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر والأمير، ولربما كان هذا الاتساع مصطنعاً إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما. وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وأصابته خيبة الأمل لاعتداء ابن خالويه عليه بحضور سيف الدولة حيث رمى دواة الحبر على المتنبي في بلاط سيف الدولة ، فلم ينتصف له سيف الدولة ، ولم يثأر له الأمير، وأحس بجرح لكرامته، لم يستطع أن يحتمل، فعزم على مغادرته، ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب الصريح والفراق، وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها: (لا تطلبن كريماً بعد رؤيته). بعد تسع سنوات ونيف في بلاط سيف الدولة جفاه الامير وزادت جفوته له بفضل كارهي المتنبي ولأسباب غير معروفة قال البعض أنها تتعلق بحب المتنبي المزعوم لخولة شقيقة سيف الدولة التي رثاها المتنبي في قصيدة ذكر فيها حسن مبسمها ، وكان هذا مما لا يليق عند رثاء بنات الملوك . إنكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربط سيف الدولة بالمتنبي .
    فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلب ، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة وبعد ترحاله في بلاد عديده بقي سيف الدولة في خاطر ووجدان المتنبي .

    المتنبي و كافور الإخشيدي
    الشخص الذي تلا سيف الدولة الحمداني أهمية في سيرة المتنبي هو كافور الإخشيدي. فقد فارق أبو الطيب حلباً إلى مدن الشام ومصر وكأنه يضع خطة لفراقها ويعقد مجلساً يقابل سيف الدولة. من هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوي. دفع به للتوجه إلى مصر حيث (كافور الإخشيدي) . و كان مبعث ذهاب المتنبي إليه على كرهه له لأنه طمع في ولاية يوليها إياه. و لم يكن مديح المتنبي لكافور صافياً، بل بطنه بالهجاء و الحنين إلى سيف الدولة الحمداني في حلب ، فكان مطلع أول قصيدته مدح بها كافور:

    كفى بك داء أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا

    فكأنه جعل كافورا الموت الشافي والمنايا التي تتمنى ومع هذا فقد كان كافور حذراً، فلم ينل المتنبي منه مطلبه، بل إن وشاة المتنبي كثروا عنده، فهجاهم المتنبي، و هجا كافور و مصر هجاء مرا ومما نسب إلى المتنبي في هجاء كافور:

    لا تشتري العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجــاس مناكــيد
    نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بشمن وما تفنى العناقيد
    لا يقبض الموت نفسا من نفوسهم إلا وفي يده من نتنها عود
    من علم الأسود المخصي مكرمة أقومه البيض أم آباؤه السود
    أم أذنه في يد النخاس دامية أم قدره وهو بالفلسين مردود

    و استقر في عزم أن يغادر مصر بعد أن لم ينل مطلبه، فغادرها في يوم عيد، و قال يومها قصيدته الشهيرة التي ضمنها ما بنفسه من مرارة على كافور و حاشيته، و التي كان مطلعها:

    عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد

    ويقول فيها أيضا:

    إذا أردت كميت اللون صافية وجدتها وحبيب النفس مفقود
    ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه أني لما أنا شاكٍ مِنْهُ مَحْسُودُ

    وفي القصيدة هجوم شرس على كافور وأهل مصر بما وجد منهم من إهانة له وحط منزلته وطعنا في شخصيته ثم إنه بعد مغادرته لمصر قال قصيدةن يصف بها منازل طريقه وكيف أنه قام بقطع القفار والأودية المهجورة التي لم يسلكها أحد قال في مطلعها:

    ألا كل ماشية الخيزلى فدى كل ماشية الهيدبى
    وكل ناجة بجاوية خنوف وما بي حسن المشى

    وقال يصف ناقته:

    ضربت بها التيه ضرب القمار إما لهذا وإما لذا
    لإذا فزعت قدمتها الجياد وبيض السيوف وسمر القنا

    وهي قصيدة يميل فيها المتنبي إلى حد ما إلى الغرابة في الألفاظ ولعله يرمي بها إلى مساواتها بطريقه . لم يكن سيف الدولة وكافور هما من اللذان مدحهما المتنبي فقط، فقد قصد امراء الشام و العراق وفارس. و بعد عودته إلى الكوفة، زار بلاد فارس، فمر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد، وكانت له معه مساجلات. و مدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز و ذالك بعد فراره من مصر إلى الكوفة ليلة عيد النحر سنة 370 هـ. :)

    أغراضه الشعرية
    المدح
    الإخشيدي، ومدائحه في سيف الدولة وفي حلب تبلغ ثلث شعره او أكثر ، وقد استكبر عن مدح كثير من الولاة والقواد حتى في حداثته. ومن قصائده في مدح سيف الدولة:

    وقفت وما في الموت شكٌّ لواقف *** كأنك في جفن الرَّدى وهو نائم
    تمـر بك الأبطال كَلْمَى هزيمـةً *** ووجهك وضاحٌ ، وثغرُكَ باسم
    تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى *** إلى قول قومٍ أنت بالغيب عالم
    الوصف
    أجاد المتنبي وصف المعارك والحروب البارزة التي دارت في عصره وخاصة في حضرة وبلاط سيف الدولة ، فكان شعره يعتبر سجلاً تاريخياً. كما أنه وصف الطبيعة، وأخلاق الناس، ونوازعهم النفسية، كما صور نفسه وطموحه. وقد قال يصف شِعب بوَّان، وهو منتزه بالقرب من شيراز :
    لها ثمر تشـير إليك منـه *** بأَشربـةٍ وقفن بـلا أوان
    وأمواهٌ يصِلُّ بها حصاهـا *** صليل الحَلى في أيدي الغواني
    إذا غنى الحمام الوُرْقُ فيها *** أجابتـه أغـانيُّ القيـان
    الفخر
    لم ينس المتنبي نفسه حين يمدح أو يهجو أو يرثى، ولهذا نرى روح الفخر شائعةً في شعره.
    وإني لمـن قـوم كـأَن نفـوسهـم بهـا أنَـفٌ أن تـسكـن اللحـم والعظمـا
    واضف إلى ذلك القصيدة
    الهجاء
    لم يكثر الشاعر من الهجاء. وكان في هجائه يأتي بحكم يجعلها قواعد عامة، تخضع لمبدأ أو خلق، وكثيراً ما يلجأ إلى التهكم، أو استعمال ألقاب تحمل في موسيقاها معناها، وتشيع حولها جو السخرية بمجرد الفظ بها، كما أن السخط يدفعه إلى الهجاء اللاذع في بعض الأحيان. وقال يهجو طائفة من الشعراء الذين كانوا ينفسون عليه مكانته:
    أفي كل يوم تحت ضِبني شُوَيْعرٌ *** ضعيف يقاويني ، قصير يطاول
    لساني بنطقي صامت عنه عادل *** وقلبي بصمتي ضاحكُ منه هازل
    وأَتْعَبُ مَن ناداك من لا تُجيبه *** وأَغيظُ مَن عاداك مَن لا تُشاكل
    وما التِّيهُ طِبِّى فيهم ، غير أنني *** بغيـضٌ إِلىَّ الجاهـل المتعاقِـل
    سائل العلياء عنا والزمانا هل خفرنا ذمة مذ عرفانا
    الحكمة
    اشتهر المتنبي بالحكمة وذهب كثير من أقواله مجرى الأمثال لأنه يتصل بالنفس الإنسانية، ويردد نوازعها وآلامها. ومن حكمه ونظراته في الحياة:

    ومراد النفوس أصغر من أن *** نتعادى فيـه وأن نتـفانى
    غير أن الفتى يُلاقي المنايـا *** كالحات ، ولا يلاقي الهـوانا
    ولـو أن الحياة تبقـى لحيٍّ *** لعددنا أضلـنا الشجـعانا
    'وإذا لم يكن من الموت بُـدٌّ *** فمن العجز ان تكون جبانا


    الاغتراب في شعر المتنبي :
    شعر الاغتراب لون واضح القسمات في أدبنا العربي، مثل شعر الغزل، وشعر المديح، وشعر الفخر، وهو أصدق ألوان الشعر تعبيرًا عن لواعج النفس؛ بسبب الفراق والحنين إلى الأهل والأوطان، ومصدر كل أولئك كما يقول الجاحظ "توقد النار في الأكباد".

    والإحساس بالغربة- كما يرى الدكتور ماهر حسن فهمي- يكاد ينحصر في الهارب، والأسير، والمهاجر، ومن شعر الاغتراب في الأدب العربي: روميات أبي فراس الحمداني (وهو أسير في سجون الروم)، وسرنديبيات البارودي، وأندلسيات شوقي (والأول كان منفيًّا إلى سرنديب، والثاني كان منفيًّا إلى الأندلس).

    ويكثر شعر الغربة عند ابن زيدون والمتنبي في فترة السنوات الثماني التي ترك فيها سيف الدولة، وهناك من شعر الغربة ما هو أرقى وأسمى، وهو شعر "الغربة الروحية" التي يستشعرها الإنسان حتى وهو في وطنه وبين أهله، وغالبًا ما نجد هذا الشعور عند أصحاب المبادئ والمثاليات، الذين يرفضون كثيرًا من الأوضاع الاجتماعية والسياسية في أوطانهم، وقد أشار ابن الرومي إلى هذا اللون في قوله:
    أعاذك أنْسُ المجد من كلِّ وحشةٍ        فإنك في هذا الأنام غريبُ

    وتشتد هموم الشاعر المغترب، وتتوقَّد شاعريته، ويتوهَّج وجدانه إذا ما حلَّ العيد وهو بعيد عن وطنه وأهله وأبنائه، وخصوصًا إذا كان اغترابه إجباريًا قسريًّا، لا يدَ له فيه.
     ونقف في السطور التالية مع شاعرَين من شعراء "الاغتراب": أولهما أبو الطيب المتنبي (303- 354هـ)، والثاني: عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله، ابن حلب الشهباء، الذي وُلد سنة 1915م، وغادر دنيانا من عدة سنوات، ويُعدُّ إبداعه الشعري- الذي جاء في عشرات من الدواوين- من أعظم نماذج "الأدب الإسلامي" فكرًا، وتصويرًا، وتعبيرًا، ومن أشهر دواوينه "مع الله" و"ألوان طيف" و"نجاوى محمدية" و"فلب ورب"، وقد فارق الشاعر وطنه بعد أن سُجن واضطُّهِد، فانطلق سائحًا في الله، في بلاد المشرق والمغرب، وسلاحه المبدأ الصادق، والإيمان العميق، والكلمة الهادية.
     ووقفتنا مع الشاعرَين محددة بشعر الغربة في "العيد"، وقد حلَّ بالشاعرين، وكل منهما "غريب" في غير وطنه.
    وأشهر قصيدة في هذا الموضوع نظمها المتنبي سنة 350هـ وهو يهم بمغادرة مصر إلى غير رجعة قبل العيد بيوم واحد، وهي داليته المشهورة، والتي مطلعها:
    عيدُ.. بأيةِ حال عدت يا عيد؟       بما مضى أم بأمر فيك تجديد؟!
    أما الأحبة فالبيداء دونهمُ            فليت دونك بيدًا دونها بيدُ

     وانطلق المتنبي يعبر عن همومه، ويلعن سنِيَّه في مصر، ويهجو الشعب المصري الذي أكرم مثواه، ويهجو كافورًا الإخشيدي بأحطِّ ألوان السباب؛ فهو عبد، وهو كلب
    جوعان يأكل من زادي ويمسكني        لكي يقال عظيم القدر مقصودُ
    مع أن المتنبي مدحه من قبل بمدائح رائعة، وصل بعضها إلى سيف الدولة، فقال: "كنت أتمنى أن يقول المتنبي فيَّ مثل ما قال في كافور"، وما نقم المتنبي من كافور- على كرمه معه- إلا أنه لم يحقق طمعه في أن يوليه "ولاية" يكون هو حاكمها، والمتصرف فيها.
    وكذلك شعر الغربة عند الأميري رحمه الله؛ فهو يصدر من نفس تقية نقية، قلبه معلق بالله، مؤمن بأن الآخرة خيرٌ له من الأولى؛ ففي جدة في الثلاثين من رمضان 1409هـ (5/5/1989م) ينظم الأبيات الآتية:
    ذهبتْ "راؤُه".. و"نونُ" ختامه            فانبرى في الحديث عن أيامِهْ

    قال: 
    شهري مضى.. ويا فوز عبدٍ         لم ينم عن صيامه وقيامهْ
    هو قد برَّ نفسه فتصدَّى                   للتجلي، واشتد في إقدامِهْ
    والرحيم الرحمن برَّ مُناه                 فتجلى له بفيض سلامِهْ
    أنا حيٌّ في قلبه وستبقى                  ليلة القدر في سنا أحلامه

    وهو لا يستشعر للعيد متعةً، ولا تأخذه به فرحة، ما دامت القدس في يد الأعداء الذين نهبوا الأرض وهتكوا الحرمات، وشرَّدوا الشعب الأصيل:
    ما العيدُ والقدسُ في الأغلال رازحةٌ              والمسلمات سبيَّات لفساقِ؟
    وأستجير برب البيت في قلق                    على "المدينة" من فتكِ وإزهاقِ
    وأرسل الدعوة الحرَّى على ثقة                 بالله في صبر فذِّ العزم عملاق
    فالنصر في قدر الله الحكيم على                 وعدٍ مع الصبر في إيمان سبَّاق

     ويضرب الشاعر في فجاج الأرض داعيًا إلى الله، والحق، والجهاد، ويهلّ العيد، ولا جديد إلا تفاقم البلاء، وتدفق الدماء، وتسلط "الكبار" بظلمهم على الشعوب، ويرى في العيد فرصةً لمحاسبة النفس، بعد أن فقد ما كان يبعثه في النفوس من فرح وسعادة:
    يقولون لي: عيد سعيد، وإنه               لَيوم حسابٍ لو نحسُّ ونشعر
    أعيدٌ، وللبغي العدوُّ تفاقمٌ               وأمرُ ولاة الأمرِ أنكى وأخطر؟!

    إنهما مفهومان متناقضان للعيد عند الشاعرين: عيد المتنبي يعني تحقق ما يرضَى عنه من المطالب المادية والأطماع الدنيا، وعيد الأميري يتمثل في تحرير الوطن والأمة الإسلامية، وانتصار الحق، وإعلاء كلمة الله.
    مقتله

    كان المتنبي قد هجا ضبة بن يزيد الأسدي العيني بقصيدة شديدة مطلعها:

    مَا أنْصَفَ القَوْمُ ضبّهْ وَأُمَّهُ الطُّرْطُبّهْ وَإنّمَا قُلْتُ ما قُلْـ ـتُ رَحْمَةً لا مَحَبّهْ

    فلما كان المتنبي عائدًا يريد الكوفة، وكان في جماعة منهم ابنه محشد وغلامه مفلح، لقيه فاتك بن أبي جهل الأسدي، وهو خال ضبّة، وكان في جماعة أيضًا. فاقتتل الفريقان وقُتل المتنبي وابنه محشد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول غربيّ بغداد.

    قصة قتله أنه لما ظفر به فاتك... أراد الهرب فقال له ابنه... اتهرب وأنت القائل

    الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

    فقال المتنبي: قتلتني ياهذا, فرجع فقاتل حتى قتل ولهذا اشتهر بأن هذا البيت هو الذي قتله

    . بينما الأصح أن الذي قتله هو تلك القصيدة.