-->

بحث عن أبو الفتح عثمان بن جني المشهور بـابن جني عالم نحوي

بحث عن أبو الفتح عثمان بن جني المشهور بـابن جني عالم نحوي
    بحث عن أبو الفتح عثمان بن جني المشهور بـابن جني عالم نحوي
    أبو الفتح عثمان بن جني

    حياته ونشأته وعلمه :
    عصره: في القرن الرابع الهجري، أصيب العالم الإسلامي بانقسام كبير،فهذا العصر يمثل عصر ضعف الدولة العباسية، فالخلفاء مغلوبون على أمرهم والأمر لغيرهم، فمصر في أيدي الإخشيديين ثم في أيدي الفاطميين، وولايات فارس يتداولها المتغلبون، وبلاد كثيرة تحت أيدي الحمدانيين،1 لذلك تعرض الكثير من الخلفاء للخلع والإذلال، ولم يكن الخليفة معهم إلا بالاسم، فعاث العامة في الأرض الفساد، وتفاقم شر اللصوص، وانتشرت الفوضى والمنازعات وساءت الأحوال.2

    الحالة العلمية:
    هذا التردي الذي سبق لم يؤثر في الحالة العلمية، فالعالم الإسلامي في هذا القرن كان أعلى شأناً في العلم من القرون التي كانت قبله، فقد تم في هذا العصر امتزاج الثقافات، وأخذ الخلفاء إلى يشجعون الطب والتنجيم، كما نفذ العلماء إلى أبواب الفلسفة والرياضيات، وعنى الأمراء والعلماء بجمع الكتب وتأليفها، وأنشئت في هذا العصر الكثير من دور الكتب والمؤسسات العلمية.فلهذا كله تطور العلم تطوراً كبيراً وخطى خطوات واسعة في التقدم.3
    اسمه ونسبه:
    أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي اللغوي، كان أبوه ـ جني ـ مملوكاً رومياً لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي.4
    ولقد أراد ابن جني تفسير اسم أبيه جني الرومي ، فوجد أنه يعني في العربية : الفاضل، وتعني في اليونانية: كريم ، نبيل، عبقري، مخلص.5
    مولـــــــــــــده:
    ولد في الموصل قبل سنة ثلاثمائة، وقيل قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة.
    صفاته:
    كان ابن جني أعور، يقول المترجمون:أنه كان ممتعاً بإحدى عينيه، كناية عن العور.6وكان رجل جد وامرأ صدق في فعله وقوله فلم يعرف عنه اللهو والشرب والمجون، وكان عف اللسان والقلم يتجنب البذيء من الألفاظ. ولم يكن همه رضاء الملوك ومنادمتهم كأدباء عصره.7
    شيوخه: أخذ ابن جني النحو عن الأخفش وبعده عن أبي علي الفارسي،وأخذ عن كثير من رواة اللغة والأدب منهم أبو بكر محمد المعروف بابن مقسم ، وروى عن ثعلب، كما روى عن المبرد. ويروي ابن جني عن الأعراب الذين لم تفسد لغتهم، وممن أخذ عنهم أبي عبد الله الشجري.8
    صحبته لأستاذه أبي علي الفارسي:
    لقد أخذ عنه وأحسن الأخذ عنه، وهو الذي أحسن تخريجه ونهج له البحث.9 وتجمع الروايات على أن أبا الفتح صحب أبا علي بعد سنة 337هـ ولازمه في السفر والحضر أربعين سنة، وأخذ عنه.10
    صحبته للمتنبي:
    كان ابن جني يعجب بالمتنبي ويستشهد بشعره في المعاني، وهو أول من شرح ديوانه.11
    أثر ابن جني فيمن بعده:
    فتح ابن جني في الغربية أبواباً لم يتسن فتحها لسواه. ووضع أصولاً في الاشتقاق ومناسبة الألفاظ للمعاني، وإهمال ما أهمل من الألفاظ وغير ذلك.ومن الذين استفادوا من بحوثه ابن سيده، وابن سنان الخفاجي وابن الأثير وغيرهم.12
    عقيدة ابن جني:
    لم يعرف عن ابن جني أنه كان شيعياً، وإن كان الظاهر من أمره ذلك، والأظهر أنه إنما كان يصانعهم، وكان من دواعي مصانعته لهم أن كان ذوو السلطان من آل بويه منهم، وهو كان متصلاً بهم صلة قوية وكان البويهيون يحرصون على إظهار شعائر الشيعة.13
    مذهبه النحوي:
    كان ابن جني بصري المذهب كشيخه أبي علي، ويجري في كتبه ومباحثه على أصول هذا المذهب ويدافع عنه، على أن ابن جني لشدة حبه للعلم فكان يأخذه من أهله، بصرياً كان أو غيره، فيكثر من النقل عن ثعلب و الكسائي ويمدحهما على اختلافه معهما في المذهب.14
    غير أن شوقي ضيف يعده بغدادي من طراز خاص.15
    شعر ابن جني:
    كان ابن جني يقول الشعر ولكنه كان مقلا فيه، غير مشهور به.16
    أسرته:
    لا يعرف من أسرة ابن جني غير أبيه، وعلى الرغم من شهرته بكنيته(أبي الفتح) إلا أن المصادر لم تذكر أن له ولداً بهذا الاسم ، وما ذكر له :علي وعالٍ وعلاء، يقول فيهم ياقوت الحموي:(كلهم أدباء فضلاء، قد خرجهم والدهم، وحسن خطوطهم فهم معدودون في صحيحي الضبط، وحسني الخط)17

    مصنفاته:
    ترك ابن جني للأجيال بعده من مصنفاته ما بلغ سبعة وستين مصنف، مابين وجيز ووسيط وبسيط ، منها ما هو مطبوع، ومنها ما ذكر المفهرسون مكان وجوده، ومنها ما لا نجد له ذكرا ولا في فهارس المخطوطات18، ومن مصنفاته المشهورة:
    كتاب الخصائص، اللمع في النحو، المحتسب في شرح الشواذ، المقصور والممدود، المذكر والمؤنث،وتفسير ديوان المتنبي وغيرها.19
    وفاته:
    في بغداد، وفي خلافة القادر، وتحديدا يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة من الهجرة رحل ابن جني عن دنيا الناس، تاركا مؤلفاته وذخائره العلمية تتحدث عنه وتحييه بينهم من جديد .
    مذهبة :أما مذهبه الكلامي فقد كان معتزلياً كما ذكر ذلك السيوطي في المزهر20
    قال: " ذلك أنّا لم نر أحدا من علماء البلدين ( البصرة والكوفة) تعرض لعمل أصول النحو ، على مذهب أصول الكلام والفقه "
    كتاب الخصائص
    هو أحد أشهر الكتب التي كتبت في فقه اللغة وفلسفتها، وأسرار العربية ووقائعها. يقول المؤلف في مقدمة كتابه عنه: «كتاب لم أزل على فارط الحال، وتقادم الوقت، ملاحظا له، عاكف الفكر عليه، منجذب الرأي والروية إليه وأدا أن أجد مهملا أقيله به، أو خللا أرتقه بعمله، والوقت يزداد بنواديه ضيقا، ولا ينهج إلى الابتداء طريقا، هذا مع إعظامي له، وإعصامي بالأسباب المناطة به، واعتقادي فيه أنه من أشرف ما صنف في علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر .. وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة ...». يناقش ابن جني في هذا الكتاب بنية اللغة وفقهها وأصوله. يبدأ الكتاب بباب في مناقشة إلهامية اللغة واصطلاحيتها، وعرض لقضايا من أصول اللغة: كالقياس، والاستحسان، والعلل... والحقيقة والمجاز، والتقديم والتأخير، والأصول والفروع، واختتم بحديث عن أغلاط العرب، وسقطات العلماء. فتح ابن جني بهذا الكتاب في اللغة العربية أبوابا جديدة لدراستها. أهدي هذا الكتاب للسلطان بهاء الدولة البويهي. تمت طباعة الكتابة لأول مرة في مصر في عام 1913 م إلا أن الكتاب وقتها لم ينشر كاملا. بعدها طبع الكتاب كاملا محققا على يد محمد علي النجار عام 

    ابن جنّي والمصطلح اللغوي:
    عاش ابن جني كل حياته في القرن الرابع الهجري، وقد تميز بعقلية علمية رفيعة، فكان علماً من أعلام علوم العربية كافة مبرزاً في نحوها وصرفها وأصواتها وفقهها، إلى جانب حذقه لعلوم الدين وعلم الكلام. إذ لا بد من أنه قد حذقها وعرف أصولها ومناهجها، مما كان له الأثر الأكبر في تكون شخصيته العلمية. وتدلنا كتبه ومؤلفاته الكثيرة على أننا إزاء شخصية مبدعة، فقد كانت له اجتهاداته اللغوية الكثيرة. وعلى الرغم من تتلمذه على عدد من المبدعين في مجالات الدارسة اللغوية ولا سيّما شيخه أبو علي الفارسي، فإن ابن جنّي استقل بآرائه وتعليلاته وتأويلاته في مجال اللغة. وقد تحدث مترجمو حياته أن مؤلفاته تجلت فيها مظاهر ثلاثة: المظهر اللغوي، والمظهر الفقهي، والمظهر الكلامي، إذ قيل إنه كان ينزع إلى مذهب المعتزلة(22).
    كل هذا كان له أثره في اهتمام ابن جني بموضوع (المصطلح اللغوي) إذ لم يكن مجرد ناقل مردّد لما وضعه شيوخه، على الرغم من أنه كان تلميذاً وفياً للبصريين نقل عنهم وردد مصطلحاتهم(23).
    ولكن ابن جني المجتهد اللغوي ابتدع مصطلحات خاصة به، وقد صرح هو نفسه بذلك في خصائصه، نحو وضعه مصطلح الاشتقاق الأكبر.
    وأما فيما يتعلق بموضوعات هذه المصطلحات فإننا نجد ابن جني قد استنبط موضوعاتها في اللغة محاكاة للقضايا الفقهية أو الكلامية إلى جانب القضايا اللغوية. أو أنه استقى موضوعاتها مما كان يأنس به شيوخه الأدنين كأبي علي الفارسي.
    يضاف إلى ذلك وضع ابن جني مصطلحات فرعية لمسائل في اللغة محاكاة لبعض فروع الفقه. وسنشير فيما بعد إلى هذه المصطلحات وأصولها.
    ويرى بعض الدارسين المحدثين في الحديث عن عقلية ابن جني ومنهجه في كتبه وبحوثه أنه كان "يلمح الإشارة الخاطفة فيأخذها ويتبناها ويبني عليها حتى يتملكها وتعرف به، فرب عبارة أو إشارة لمحها فعقد عليها باباً أو أكثر، وأخرجها إلى الوجود فكرة واضحة محدودة المعالم، من مثل الاشتقاق الأكبر، والجوار، والتجريد... وغيرها"(24).
    ويعجب الباحث أن ابن جني لم يردد ما يسميه الدارسون (المصطلحات الكوفية) على الرغم من إعجابه ببعض علمائهم البارزين من مثل أبي العباس أحمد بن يحيى الملقب بثعلب (ت291هـ).

    تطوير ابن جني لمصطلحات شيوخه:
    أ- المصطلحات اللغوية:
    سبقت الإشارة إلى أنّ ابن جني قد تلقى علوم العربية عن شيوخ عرفوا بالمهارة والإتقان والإبداع سواء من حيث الموضوعات اللغوية التي ورثوها عن شيوخهم، أو من حيث ابتكار الموضوعات أو التفسيرات للظواهر اللغوية المتنوعة. وقد أثر عن ابن جني أنه تلقف علوم البصريين فنشرها وطورها ولا سيما تلك القضايا اللغوية التي ذكرها سيبويه في الكتاب. وكان لأبي علي الفارسي – بعد سيبويه – الفضل في صقل شخصية ابن جني اللغوية، بل كان له الأثر الطيب في تكوين ثقافته إذ لم يقف عند حدود النقل عن شيوخه فكان يضع المصطلحات للمسائل اللغوية التي استقاها منهم، ويزيد عليهم بالتفسير والتقسيم والتطوير، وكان أحياناً يختار مصطلحه من أقوال شيوخه، فيختصر كلاماً كثيراً لهم ليضع مصطلحاً واضحاً وموجزاً.
    المطرد والشاذ:
    والواقع أن ابن جني لم يبتدع تسمية المطرد والشاذ، ولكنه اختصر كلاماً كثيراً لشيخه أبي علي الفارسي وشيخ شيخه ابن السراح. فها هو ذا ابن السراج ينثر كلامه حول المطرد والشاذ في صفحات كثيرة(25).
    ثم يأخذ تلميذه أبو علي الفارسي بكلام شيخه فيضعه في باب في كتاب (المسائل العسكرية) أطلق عليه (معرفة ما كان شاذاً في كلامهم) (26). وجعل الشيخان الشاذ ثلاثة أنواع:
    شاذ عن الاستعمال مطرد في القياس.
    ب- مطرد في الاستعمال شاذ عن القياس.
    ج- وشاذ عنهما.
    ثم يأتي ابن جني فيلحظ أن القسمة تحتاج نوعاً رابعاً، فإن كل نوع له ما يقابله إلا الشاذ في الاستعمال والقياس، فإن ما يقابله لا بد من أن يكون المطرد في الاستعمال والقياس، ولذلك جعل المطرد والشاذ ليس عنواناً للباب فحسب، وإنما جعله مصطلحاً لمسائل في اللغة ارتبط فيها الاطراد والشذوذ في الاستعمال والقياس.
    بدأ ابن جني الباب (باب القول على المطرد والشاذ) بتعريف المصطلحين وبيان تطور المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي، فعرف مصطلح (المطرد) بقوله: "أصل مواضع (ط ر د) في كلامهم التتابع والاستمرار، فذكر استعمالات (طرد) واستشهد لمعانيها بما ورد في كلام العرب. ثم انتقل بعد ذلك إلى مادة (ش ذ ذ)، فقال: "وأما مواضع (ش ذ ذ) في كلامهم فهو التفرق والتفرد. ثم خلص إلى بيان معنى المصطلحين: "هذا أصل هذين الأصلين في اللغة، ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على سمة وطريقة في غيرهما، فجعل أهل علم العرب ما استمر من الكلام في الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مطرداً، وجعلوا ما فارق عليه بقية بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذاً، حملاً لهذين الموضعين على أحكام غيرها"(27).
    ثم أخذ ابن جني يفصل للأنواع الأربعة من المطرد والشاذ. ولعلنا هنا نسجل لابن جني ليس لاستخدامه المصطلحين فحسب، ولكن لأن عقليته المنظمة قد فرقت بين كل نوع بشكل واضح مقنن، فإنه يذكر كل نوع فيوضحه، ثم يضرب له الأمثلة، ويضع لها قواعد يسير عليها مَنْ جاؤوا بعده في تبويب القضايا اللغوية وتوضيحها واستنباط أحكامها.
    وهذا الذي طوره ابن جني تطويراً بديعاً جعل السيوطي ينقل الباب كله تقريباً عن ابن جني فجعل (المطرد والشاذ) باباً خاصاً من أبواب كتاب المزهر في علوم اللغة(28).

    ب- الاشتقاق الأكبر:
    عرف اللغويون العرب القدامى الاشتقاق. ولعل أول من ألف في الاشتقاق (الأصمعي) في كتيب سماه (الاشتقاق)، وأراد العلماء الأوائل من الاشتقاق ما عرف لاحقاً بالاشتقاق الصغير/ الأصغر أو العام وهو الاشتقاق التصريفي، وقد عني به البصريون الذين كانوا يرون أن الكلام يشتق بعضه من بعض، وأن المصدر أصل المشتقات. وهذا موقف البصريين، وكان ابن جني تلميذهم الوفي.
    ولقد طور اللغويون درس الاشتقاق فاستنبطوا له أنواعاً لا نوعاً واحداً وما أن أهل القرن الرابع الهجري حتى عرفنا للاشتقاق ثلاثة أنواع هي:
    الاشتقاق الصغير/ العام.
    والاشتقاق الكبير، وهو الإبدال.
    والاشتقاق الأكبر، وهو الاشتقاق التقليبي، وصاحب تسميته ابن جني على ما صرح في باب الاشتقاق الأكبر. على أن ابن جني اعترف بالفضل لشيخه أبي علي الفارسي الذي كان يأنس به(29).
    والاشتقاق الأكبر هو أن تأخذ أصلاً من الأصول ثم تجري قلباً لمواطن الحروف فيتكون لنا من كل أصل عددٌ من الصور هي: الصور الست للحروف الثلاثة المختلفة من حيث النظم، والأربع والعشرون للأربعة، والمائة والعشرون للخمسة(30).
    ولكن بعض اللغويين، ومنهم السكاكي سمى هذا اللون من الاشتقاق بالاشتقاق الكبيـر.
    ويظهر أن الذي دعا ابن جني إلى تسميته بالاشتقاق الأكبر وجعله من باب الاشتقاق أن الصور المختلفة للأصل الواحد/ للحروف ينتظمها معنى واحد، وقد طبق ذلك على عدد من ألفاظ اللغة نحو اشتقاق المواد التالية: ك ل م، ق و ل، ل م س، و ج د، ج ب ر.
    ولكن ابن جني اعترف بعدم اطراد الاشتقاق الأكبر في كل ألفاظ اللغة. ويرى أحد الدارسين المحدثين أن الذي فتح الباب لابن جني في الاشتقاق الأكبر كان عمل الخليل بن أحمد في معجم العين حين جعل المقلوبات جزءاً من منهج العين(31).
    وأما الاشتقاق الأكبر عند اللغويين فهو ما يسمى بالإبدال اللغوي، وشرطه أن تتفق كلمتان في أغلب حروفهما على أن يكون المعنى واحداً أو متوافقاً لكلا الكلمتين، يقول عبد الله أمين: "وهذا الضرب من الاشتقاق يمكن أن ينتفع به في اشتقاق اسمين لمسميين متشابهين في الشكل والعمل، أو في أحدهما إن كان بين الاسمين والمسميين ملاءمة. مثال ذلك: الغُمْنة والغُمْرَة: تمر ولبن تطلي به المرأة وجهها ويديها، حتى تَرِقَّ بشرتها"(32).
    ويذهب بعض الدارسين إلى أن أحمد بن فارس (ت 395هـ) بنى معجمه (مقاييس اللغة) على فكرة هذا الاشتقاق.
    غير أن بعض الدارسين عكس التسمية فجعل الاشتقاق الكبير للمقلوبات والاشتقاق الأكبر للإبدال اللغوي(33).
    اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين:
    وهذا عنوان باب في الخصائص جعله ابن جني - كما يبدو من تكملة عنوان الباب - "في الحروف والحركات والسكنات". إذ استعار عنوان الباب مما ذكره اللغويون قبله في تقسيم ألفاظ اللغة، فقد ورد هذا التقسيم في كتاب سيبويه كالآتي:
    اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين نحو: جلس وذهب.
    اختلاف اللفظين والمعنى واحد، نحو ذهب وانطلق. وهذا الذي استخدم له اللغويون مصطلح (الترادف).
    واتفاق اللفظين والمعنى مختلف، نحو: وجدتُ عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وجدان الضالة. وهذا هو المسمى بالمشترك اللفظي(34).
    صرح ابن جني في الباب أن غرضه منه "ليس ما جاء به الناس في كتبهم..." فإن هذه الأنواع قد كثر تناولها" وقد تناهبتها أقوالهم، وأحاطت بتحقيقها أغراضهم"، ولكن ابن جني استعار (المصطلح) وتناوله بطريقته الخاصة، بأن قسم الكلام ثلاثة أنواع كالآتي:

    أ- اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين في الحروف:
    ويقصد ابن جني بهذا النوع الألفاظ التي تتفق حروفها في المفرد والجمع ولكن معانيها مختلفة، نحو كلمة: دلاص التي تستخدم للمفرد فيقال درع دلاص، وتجمع مكسرة: أدرع دلاص، ثم مثل للمفرد بألفاظ نحو: ناقة كِناز، وامرأة ضِناك، وبين أن ألف (دِلاص) للمفرد بمنزلة ألف كِناز وضِناك. وأما ألف الجمع في أدرع دِلاص، فهي بمنزلة الألف في ظِراف وشِراف، "وذلك لأن العرب كسرت فِعالاً على فِعال، كما كسرت فعيلاً على فِعال نحو كريم وكِرام، ولئيم ولِئام".
    ويفسر ابن جني هذه الظاهرة بقوله: "وعذرها (يعني العرب) في ذلك أن فعيلاً أخت فِعال، ألا ترى أن كل واحدة منهما ثلاثية الأصل، وثالثها حرف لين، وقد اعتقبتا أيضاً على المعنى الواحد، نحو: كليب وكلاب، وعبيد وعباد"(35).
    ب- اتفاق الحركات:
    وينطبق ما قال ابن جني في الحروف على الحركات إذ يقول: "هذه الحال موجودة في الحركات وجدانها في الحروف". وجاء بأمثلة افتراضية بقوله: "وذلك كامرأة سميتها بحيثُ، وقبلُ، وبعدُ، فإنك قائل في رفعه: هذه حيث، وجاءتني قبل، وعندي بعد". وينبّه ابن جني على أن الضمة في الأصل هي للبناء، ولكنها تصير بعد التسمية ضمة إعراب. وهذا ينطبق على كل الكلم المبنية، نحو أين وكيف، "وكذلك لو سميت رجلاً بأمس".
    ولكن ابن جني استثنى من هذه الألفاظ المبنية "هؤلاء" التي يرى أن كسر همزتها قبل التسمية وبعد التسمية سواء. وأما سبب هذا فهو "أن هؤلاء مما يجب بناؤه، وحكايته بعد التسمية به على ما كان من قبل التسمية، ألا ترى أنه اسم ضم إليه حرف فأشبه الجملة"(36).
    ج- اتفاق السكون:
    وهذا للألفاظ التي لا يتغير سكون أحد حروفها في حالتي الإفراد والجمع، نحو صنو للواحد، وصنوان للجمع، وقنو وقنوان. ويرى ابن جني أن سكون المفرد والجمع "مختلفان تقديراً" على الرغم من اتفاقهما لفظاً. ومثل لهذا الاختلاف التقديري بألفاظ في اللغة اختلف مفردها عن جمعها، نحو: شبث وبرق فإنها تجمع على شبثان وبرقان، فدل ذلك على اختلافهما. ولهذا يرى ابن جني أنه لا بد من اختلاف صِنْو وصِنْوان، وقِنْو وقِنْوان، لأن سكون الواحد غير سكون الجمع، وسكون الجمع ليس لسكون الواحد، بل هو "شيء أحدثته الجمعية". ولذلك وصف الفرق بين نوعي الجمع اللذين ذكرهما – أي شبثان وصنوان - بالنسبة إلى مفرديهما، بقوله: "فكما أن هذين مختلفان لفظاً (شبث وشبثان)، فكذلك ذانك السكونان (صِنْو وصِنْوان) هما مختلفان تقديراً"(37).
    عدم النظير:
    وهو عنوان باب في الخصائص يتابع فيه ابن جني رأي سيبويه في أنه "إذا دل الدليل فإنه لا يجب إيجاد النظير"، وهذا هو مذهب صاحب الكتاب الذي مثل على وزن (فعل) بكسر الفاء والعين بلفظة واحدة هي (إبل). وخلص ابن جني إلى أنه "لم يمنع الحكم بها عنده إن لم يكن لها نظير، لأن إيجاد النظير بعد قيام الدليل إنما هو للأنس به، لا للحاجة إليه"(38).
    ويرى أحد الدارسين المحدثين أن مصطلح (النظير) من "المصطلحات التي وجدت عند علماء أصول النحو بعد سيبويه"، فقد استخدمه ابن السراج، وأكثر من استخدامه ابن جني مفرداً (النظير)، وجمعاً (النظائر) (39).
    باب في فرق بين البدل والعوض:
    والبدل والعوض مصطلحان يستخدمهما اللغويون في تفسير ما يقع في الألفاظ من تغيير وتبديل وتعويض. وجعل ابن جني هذا الباب توضيحاً لمن قد يقع في اللبس في التفريق بين المصطلحين. ويتضح من خلال الأمثلة وتفسيرها مواقع البدل ومواقع العوض، فمن ذلك فإن الألف من الفعل (قام) "بدل من الواو التي هي عين الفعل، ولا تقول فيها إنها عَوْض منها".
    وأما العوض فهو من لفظ (عَوْض)، وهو الدهر ومعناه، كما في بيت الأعشى:
    رضيعي لبان ثدي أم تقاسما بأشحم داج: عَوْض لا نتفرق
    ومن أمثلة العوض التي يذكرها ابن جني: "التاء في (عدة) و (زنة) فهي عوض عن فاء الفعل، ولا تقول إنها بدل منها"، وكذلك الحال في ميم (اللهم) "إنها عوض من (يا) في أولها، ولا تقول: بدل..".
    وقد قرر ابن جني في هذا الباب حقيقة "أن البدل أشبه بالمبدل منه من العوض بالمعوض منه. وإنما يقع البدل في موضع المبدل منه، والعوض لا يلزم فيه ذلك"(40).
    مصطلح التجريد:
    وعقد ابن جني للتجريد باباً نص في أوله أنه يقتدي به أثر شيخه أبي علي الفارسي الذي كان "به غرياً معنياً"، غير أنه لم يفرد له باباً في كتبه "ولكنه وسمه في بعض ألفاظه بهذه السمة، فاستقريتها منه، وأنقت لها".
    وعرَّف ابن جني (التجريد) بأن "معناه أن العرب قد تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر، كأنه حقيقته ومحصوله، وقد يجري ذلك إلى ألفاظها لما عقدت عليه معانيها"(41).
    ونقل ابن جني للتجريد مثالاً نسبه إلى سيبويه وهو: "أما أبوك فلك أب، أي لك منه أو به أو بمكانه أب". وذكر سيبويه هذا المثال في باب سماه (باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات)، وأشار محقق الكتاب إلى أن الرماني ترجم عنوان الباب بـ "باب اسم الجنس الجاري على طريقة أما كذا فكذا"(42).
    ويدرك ابن جني أن ما ذكره سيبويه وشيوخه قد يشوبه شيء من عدم الوضوح فذكر أمثلة أخرى وفسرها ووضحها – على سمته وطريقته -، ومن ذلك قوله: لئن لقيت زيداً لتلقينّ منه الأسد، ولئن سألته لتسألنَّ منه البحر. "فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسداً وبحراً، وهو عينه هو الأسد والبحر، لا أن هناك شيئاً منفصلاً عنه وممتازاً منه".
    وزاد ابن جني (التجريد) توضيحاً فبين أن معناه كأن يجرد الإنسان من نفسه شخصاً آخر فيخاطبه، وأكثر ما يجيء هذا في الشعر، فقال: "وعلى هذا يخاطب الإنسان منهم نفسه، حتى كأنها تقابله أو تخاطبه، ومنه قول الأعشى:
    وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
    وهو الرجل نفسه لا غيره". ثم مثل على التجريد ببعض القراءات القرآنية كما في قراءة قوله تعالى: "قال اعلم أن الله على كل شيء قدير"(43). (البقرة 259).

    مصطلح تلاقي اللغة:
    وموضوع تلاقي اللغة يعني ورود لفظين تشابهت حروفهما أو أوزانهما فتلاقت "في عرض اللغة من غير قصد لجمعها ولا إيثار لتقاودهما". وعزا ابن جني التنبّه لهذا اللون من الألفاظ إلى شيخه أبي علي الفارسي، فنقل عنه قوله: "في باب أجمع وجمعاء، وما يتبع ذلك من أكتع وكتعاء، وبقيته: إن هذا اتفاق وتوارد وقع في اللغة على غير ما كان في وزنه منها". وقصد أبو علي الفارسي بذلك أن "باب أفعل وفعلاء، إنما هو للصفات، وجميعها تجيء على هذا الوضع نكرات، نحو: أحمر وحمراء، وأصفر وصفراء... وأخرق وخرقاء. هذا كله صفات نكرات، فأما أجمع وجمعاء فاسمان معرفتان، وليسا بصفتين". وخلص الفارسي إلى حقيقة أن هذا إنما هو "اتفاق وقع بين هذه الكلم المؤكد بها".
    وأقر ابن جني شيخه على ما أورده لهذا الاتفاق والتوارد، فسمى الباب الذي عقده لهذه الظاهرة اللغوية "بتلاقي اللغة"، وأضاف أمثلة أخرى من نحو قولهم في العلم: سلمان وسلمى، فهما أشبه بوزن (فَعْلان) الذي مؤنثه (فَعْلى)، ولكنه نبه إلى أن "فعلان الذي يقاوده فعلى إنما بابه الصفة كغضبان وغضبى وسكران وسكرى". ونفى ابن جني أن يكون سلمان من سلمى بمنزلة الصفات المذكورة، لأنهما ليستا "بصفتين ولا نكرتين.. غير أنهما كانا من لفظ واحد فتلاقيا في عرض اللغة من غير قصد لجمعهما، ولا إيثار لتقاودهما، ألا تراك لا تقول: هذا رجل سلمان، ولا امرأة سلمى، كما نقول: هذا سكران، وهذه سكرى، وهذا غضبان، وهذه غضبى"(44).

    مصطلح السلب:
    وجعل له ابن جني باباً في خصائصه، واعترف في تقديمه أن شيخه أبا علي الفارسي قد نبه عليه. ثم ذكر أن الأصل في الأفعال والأسماء المشتقة من الأفعال إثبات معناها لا سلبها، فلفظ قام إنما هو لإثبات القيام. فإذا "أردت نفي شيء منها ألحقته حرف النفي، فقلت: ما فعل، ولم يفعل، ولن يفعل، ولا تفعل، ونحو ذلك".
    وأضاف ابن جني أن العرب "قد استعملوا ألفاظاً من كلامهم من الأفعال ومن الأسماء الضامنة لمعانيها، في سلب تلك المعاني لا إثباتها" ومثل على ذلك بتصريف (ع ج م) التي تأتي في اللغة "للإبهام وضدّ البيان" نحو: العجم الذين لا يفصحون، وعجم الزبيب لاستتاره".. وغير ذلك، ولكن هذه الأصول إذا أضيف إليها زيادة بحرف أو أكثر فقد يتحول المعنى من الإثبات إلى النفي، فمادة (ع ج م) إذا زيد عليها الألف/ الهمزة في أولها آل معناها إلى ضده، فصار المعنى: إزالة الإبهام.
    ولا تقتصر الزيادة على الهمزة فحسب، بل قد نضعف عين الكلمة نحو مادة (م ر ض)، فإذا قلت: "مرضت الرجل أي داويته من مرضه حتى أزلته عنه أو لتزيله عنه" فإنك تثبت عكس المعنى الأصلي للمادة وهي الدلالة على المرض(45).

    مصطلح الإتباع:
    عرف اللغويون العرب القدامى الإتباع في الألفاظ وفي الحركات، وانصب اهتمام النحاة من لدن سيبويه ومن جاؤوا بعده بدراسة الإتباع المسمى إتباع الحركات. ولعل أول من ألف في الإتباع في الألفاظ أحمد بن فارس في كتابه الموسوم (الإتباع والمزاوجة)، وقد عرف الإتباع بقوله: "هو أن تتبع الكلمةُ الكلمةَ على وزنها أو رويها إشباعاً وتأكيداً". وجعل ابن فارس الإتباع – وقرن به المزاوجة – على وجهين:
    أحدهما: أن تكون كلمتان متواليتان على رويّ واحد.
    والثاني: أن يختلف الرويان.
    هذا من حيث الشكل، وأما من حيث المعنى فهو ضربان: أحدهما: أن تكون الكلمة الثانية ذات معنى، والثاني: أن تكون الثانية غير واضحة المعنى ولا بينة الاشتقاق، إلا أنها كالإتباع لما قبلها(46).
    ومن الأمثلة على هذا الإتباع ما رُوي عن الكسائي أنه فسر ما نقله أبو عبيد في غريب الحديث "في قوله صلى الله عليه وسلم في الشبرم: إنه حار يار, "والشبرم هو ضرب من الشيح، قال الكسائي في تفسيره: "حار من الحرارة، ويار: إتباع".
    ويذكر السيوطي أن هذا إنما "سمي إتباعاً، لأن الكلمة الثانية إنما هي تابعة للأولى على وجه التوكيد لها، وليس يتكلم بالثانية منفردة، فلهذا قيل: إتباع"(47).
    وأما الإتباع الذي ذكره ابن جني فهو ما تابع فيه ما قال النحاة منذ سيبويه: أي: إتباع الحركات. ويظهر من كلام ابن جني مقارنة بما ورد في كتاب سيبويه أن كلامهما متقارب إلى حد كبير، غير أن سيبويه لم يضع للموضوع مصطلح (الإتباع)، فقد ذكر في باب سماه: "باب الحروف الستة إذا كان واحدٌ منها عيناً، وكانت الفاء قبلها مفتوحة، وكانت فعلاً"، ما يلي: فإن الفاء في وزن (فعيل) تكسر في لغة تميم، ويقصد سيبويه بالحروف الستة: الحروف الحلقية، ومثل لها بالألفاظ الآتية: لِئيم، وشِهيد، وسِعيد، ونِحيف، ورِغيف, وبِخيل، وبِئيس".
    وفسر سيبويه سبب كسر الفاء فيها: "لأنه ليس في الكلام فَعَيْل، وكراهية أن يلتبس فعل بفعل فيخرج من هذه الحروف فعل، فلزمها الكسر ههنا، وكان أقرب الأشياء الفتح، فكسرت ما قبلها حيث لزمها الكسر، وكان ذلك أخف عليهم حيث كانت الكسرة تشبه الألف، فأرادوا أن يكون العمل من وجه واحد"(48).
    وروى ابن جني عن الأخفش (أبي الحسن ت 215هـ) ذكره مصطلح الإتباع في قوله تعليقاً على أن العرب كانت قديماً تقول: مررت بأخويك وأخواك جميعا.. "ولغتهم عند أبي الحسن أضعف من (هذا جحر ضب خرب)، قال: لأنه كثر عنهم الإتباع: نحو: شُدُّ وضُرُّ وبابه، فشبه هذا به"(49).
    وأما ابن جني، فيبدو أنه أقر بما أورده عن شيوخه البصريين، ولكنه يضيف على ما قدموا فبين "أن علة الإتباع في (نِقيذ) وإن عري أن تكون عينه حلقية قرب القاف من الخاء والغين"، ويقصد بذلك ابن جني ما أورده سيبويه من أمثلة على وزن فعيل وجاءت العين حرفاً حلقياً نحو: النِّخير والرِّغيف. وذهب ابن جني إلى جواز "أن تشبه القاف لقربها من حروف الحلق بها، كما شبه من أخفى النون عند الخاء والغين إياهما بحروف الفم، فالنقيذ في الإتباع كالمنخل والمنغل فيمن أخفى النون"(50).
    مصطلح الجوار:
    وهو مصطلح يعرف عند الدارسين بمصطلح (الحمل على الجوار)، وقد ذكره سيبويه في (باب ما يجرى على الموضع لا على الاسم الذي قبله)، فقال: "وقد حملهم قرب الجوار على أن جروا "هذا جحر ضب خرب" ونحوه(51).
    وجاء ابن جني فسمى الباب (باب في الجوار) وقد جعله أقساماً، وهو على ضربين: أحدهما تجاور الألفاظ، والآخر تجاور الأحوال، فأما تجاور الألفاظ فهو قسمان: أحدهما في المتصل، والآخر في المنفصل.
    أ- تجاور المتصل: وذلك نحو: تجاور العين واللام بحملها على حكمها، فقد قالوا في صوم: صيم.
    ويقر ابن جني أن سيبويه قد ذكر هذا القسم ولكنه لم يذكر المصطلح في باب (هذا باب تقلب الواو فيه ياءً لا لياء قبلها ساكنة، ولا لسكونها وبعدها ياء) (52).
    وذكر ابن جني من الأمثلة لجوار الحركات في المتصل قولهم: "هذا بكُر، ومررت ببكِر".
    ب- تجاور الألفاظ في المنفصل، نحو المثال المشهور: "هذا جحر ضبّ خرب"(53).
    وأما تجاور الأحوال فهو يتعلق بأزمنة الظروف، ومثل له ابن جني بقوله: "أحسنت إليه إذ أطاعني.. ويرى أن المعنى أنك لم تحسن إليه في أول وقت الطاعة، فإن ما بعد الظرف (إذ) وهو الفعل (أطاع) زمنه يختلف عن زمن الإحسان... ويذهب ابن جني إلى أن تجاور الأحوال "غريب" وذلك أن "من شرط الفعل إذا نصب ظرفاً أن يكون واقعاً فيه أو في بعضه كقولك: صمت يوماً، وسرت فرسخاً... فكل واحد من هذه الأفعال واقع في الظرف الذي نصبه لا محالة، ونحن نعلم أنه لم يحسن إليه إلا بعد أن أطاعه، ولكن لما كان الثاني مسبباً عن الأول وتالياً له، فاقتربت الحالان، وتجاور الزمانان، وصار الإحسان كأنه إنما هو والطاعة في زمان واحد، فعمل الإحسان في الزمان الذي يجاور وقته، كما يعمل في الزمان الواقع فيه هو نفسه"(54).

    مصطلح التقريب:
    لم يفرد ابن جني للتقريب باباً مستقلاً، ولم يعرفه مصطلحاً لظاهرة لغوية، ولكنه ذكره في أثناء تعريفه ظاهرة (الإدغام)، فقال: في تعريفه: "تقريب صوت من صوت". وهو ضربان: "أحدهما أن يلتقي المثلان على الأحكام التي عليها الإدغام، فيدغم الأول في الآخر، والأول من الحرفين في ذلك على ضربين: ساكن ومتحرك، فالمدغم الساكن الأصل كطاء قطّع، وكاف سكّر، والمتحرك نحو: دال شدّ. والآخر: أن يلتقي المثلان على الأحكام التي يسوغ معها الإدغام، فتقلب أحدهما إلى لفظ صاحبه فتدغمه فيه، نحو: (ودّ) في اللغة التميمية (وأصله وتد)، ونحو امّحى، وامّاز، واثّاقل. وهذا النوع الثاني الذي هو عنده المسمى (التقريب) هو الذي قال عنه: "المعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت"(55).
    وذكر ابن جني أنواعاً أخرى من (التقريب)، ومن ذلك ما سماه الإدغام الأصغر، وهو عنده "تقريب الحرف من الحرف وإدناؤه منه من غير إدغام يكون هناك". ومن ضروبه:
    أ- الإمالة التي "وقعت في الكلام لتقريب الصوت من الصوت، نحو كلمة: (عالم) التي "قربت فتحة العين من عالم إلى كسرة اللام منه بأن نحوت بالفتحة نحو الكسرة، فأملت الألف إلى الياء"(56).
    ب- وضرب آخر من (الإدغام الأصغر) الذي هو "تقريب من غير إدغام" في الألفاظ التي هي على وزن (افتعل) إذا كانت فاؤها صاداً أو ضاداً أو طاءً أو ظاءً: "فتقلب تاؤه طاءً، وذلك نحو" اصطبر، واضطرب، واطرد واظطلم".
    ج- وضرب آخر اجتمع فيه الإدغام مع التقريب، نحو لفظة (ست) التي أصلها (سدس)، فقد قربوا السين من الدال بأن قلبوها تاءً، فصارت (سدت) فهذا تقريب لغير إدغام، ثم إنهم فيما بعد أبدلوا الدال تاءً لقربها منها إرادة الإدغام، فقالوا: ست، وقد سمى ابن جني التغيير الأول تقريباً من غير إدغام. وأما التغيير الثاني فمقصود به الإدغام(57).
    د- تقريب الحركة: ومنه تقريب الصوت من الصوت مع حروف الحلق، نحو: شعير وبعير ورغيف، وهذا التقريب هو الذي ذكره في موضوع (الإتباع) ومنه أيضاً قراءة بعضهم في الفاتحة: الحمد لله، والحمد لله، بضم اللام من لفظ الجلالة في الأولى، وكسرها في الثانية(58).
    هـ- تقريب الحرف من الحرف: وهو ما يسمى عند اللغويين (الإبدال)، كما في قولهم في مصدر: مزدر، وفي التصدير، التزدير.
    و- تقريب الحرف من الحرف من الإشمام، وهو من الإبدال إلا أنه ليس إبدالاً تاماً، نحو قول العرب في المثل: "لم يحرم من فزد له"، وأصله، فصد له، فقد أسكنت الصاد "فلما سكنت الصاد فضعفت به وجاورت الصاد – وهي مهموسة- الدال – وهي مجهورة – قربت منها بأن أُشمت شيئاً من لفظ الزاي المقاربة للدال بالجهر".
    وذكر ابن جني أن لهذه الظاهرة نظائر في اللغة، فقالوا: ضُرْبَ والأصل فيه: ضُرِبَ(59).
    ز- ومن أنواع التقريب التي ذكرها ابن جني ما سماه (إضعاف الحركة)، ويعني بذلك أنه إذا ضعفت الحركة قربت "بذلك من السكون، نحو: "حيي، وأحيي، وأعيي، فهو، وإن كان مخفى، بوزنه محركاً".

    ح- التقريب على سبيل الروم:
    والروم على جهة التقريب – أي تقريب الحركة – "هي كالإهابة بالساكن نحو الحركة، وهو لذلك ضرب من المضارعة، وأخفى منها الإشمام. لأنه للعين لا للأذن"(60).
    ومن المعلوم عند علماء القراءات أن الروم هو اختلاس الحركة أي عدم نطقها كاملة واضحة وهو للأذن، وأما الإشمام فهو للعين في الضم خاصة: تضم الشفتين كأنك تنطق ضمة ولكن من دون إحداث صوت الضمة.
    وقد نبه ابن جني إلى مواضع التقريب الذي يجري مجرى الإدغام ":مما قرب فيه الصوت من الصوت"، ولكنه ليس إدغاماً تامّاً, واستخدم له مصطلح (التقريب).
    وتجدر الإشارة إلى أن ابن جني قد ذكر مصطلحي الإشمام والروم في باب (الساكن والمتحرك) الذي أورد فيه بعض المصطلحات الصوتية، ولكنه لم يعرف هذه المصطلحات تعريفاً شافياً، بل كان يذكرها ويبين ما يحدث فيها من تقريب في الأصوات – أصوات الحروف أو الحركات – كما في قوله في بيان الفرق بين الإشمام والروم: "فأما الإشمام فإنه للعين دون الأذن، لكن روم الحركة يكاد الحرف يكون به متحركاً، ألا تراك تفصل به بين المذكر والمؤنث في قولك في الوقف أنتَ وأنتِ، فلولا أن هناك صوتاً لما وجدت فصلاً"(61).

    ابتداع المصطلح اللغوي ودلالته لدى ابن جني:
    لقد بلغ من عناية ابن جني بالمصطلح أنه بدأ أبواب كتابه الخصائص بعد التقديم – بباب (القول على الفصل بين الكلام والقول)، بأن جعل الكلام والقول مصطلحين قد يخلط الناس بينهما. وقد أفصح في بداية هذا الباب عن منهجه في تناول المصطلحين بقوله: "ولنقدم أمام القول على فرق بينهما، طرفاً من ذكر أحوال تصاريفهما، واشتقاقهما، مع تقلب حروفهما، فإن هذا موضع يتجاوز قدر الاشتقاق، ويعلوه إلى ما فوقه". ووصف ابن جني منهجه الذي أدرك أنه جديد على قارئه، فيخاطبه قائلاً: "وستراه فتجده طريقاً غريباً، ومسلكاً من هذه اللغة الشريفة عجيباً"(62).
    مصطلحات من أصول لغوية:
    مصطلحا القول والكلام:
    طبق ابن جني منهجه الذي أشار إليه في معالجة مصطلح (القول) على طريقة ما سماه فيما بعد بالاشتقاق الأكبر، أي استخراج معنى مشترك أصلي لجميع تقليبات المادة اللغوية، فـإن ( ق و ل) وجهات تراكيبها الست وهي: ق و ل، وق ل، و ل ق، ل ق و، ل و ق، مستعملة في اللغة ومعناها جميعاً "أين وجدت، وكيف وقعت، من تقدم بعض حروفها على بعض، وتأخره عنه، إنما هو للخفوف والحركة".
    ثم أخذ ابن جني يفصل في تعريف كل تقليب على حدة. ثم اتبع ذلك بمعالجة الأصل (ك ل م)، ويرى أنها حيث تقلبت فمعناها الدلالة على القوة والشدة. والمستعمل منها أصول خمسة، وهي: ك ل م، ك م ل، ل ك م، م ك ل، م ل ك"(63).
    وبعد معالجة تقليبات المادتين خلص ابن جني إلى دلالة المصطلحين الكلام والقول، "أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه. وهو الذي يسميه النحويون الجمل".
    "وأما القول فأصله أنه كل لفظ مذل به اللسان، تاماً كان أو ناقصاً، فالتام هو المفيد، أعني الجملة وما كان في معناها.. والناقص ما كان بضدّ ذلك.. فكل كلام قول، وليس كل قول كلاماً. هذا أصله..".
    ولم يكتف ابن جني بذلك، بل أتبع كلامه بتوضيح مجالات استخدام كل من القول والكلام مصطلحين والفرق في استعمالاتهما ونجتزئ من كلامه الدلالات الآتية:
    "يوضع القول على الاعتقادات والآراء وذلك نحو قولك: فلان يقول بقول أبي حنيفة، ويذهب إلى قول مالك، ونحو ذلك، أي يعتقد ما كانا يريانه، ويقولان به، لا أنه يحكي لفظهما عينه، من غير تغيير لشيء من حروفه".
    "ومن أدل الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أنْ يقولوا: القرآن كلام الله، ولا يقال: القرآن قول الله"، وبين ابن جني السبب في استخدام المصطلح الأصلح للقرآن وهو "كلام الله" أن الكلام "لا يكون إلا أصواتاً تامة مفيدة"، وأن القول "قد يكون أصواتاً غير مفيدة، وآراء معتقدة"(64).
    وخلص ابن جني من بيان الفصل بين مصطلحي الكلام والقول إلى "أن الكلام إنما هو في لغة العرب عبارة عن الألفاظ القائمة برؤوسها، المستغنية عن غيرها، وهي التي يسميها أهل الصناعة الجمل، على اختلاف تراكيبها". و "أن القول عندها أوسع من الكلام تصرفاً، وأنه قد يقع على الجزء الواحد، وعلى الجملة، وعلى ما هو اعتقاد ورأي، لا لفظ وجرس"(65).
    ويقول السامرائي في التعليق على تناول ابن جني لمصطلح الكلام:
    "وتعريفه للكلام موافق للنحاة المتأخرين عنه في تعريفهم له. جاء في (أسرار العربية): "أما الكلام فلا ينطلق إلا على المفيد خاصة" ويخلص السامرائي إلى ما يأتي: "فليس من خلاف في المدلول النحوي لهذا الاصطلاح".
    وأما مصطلح القول: فيذكر السامرائي أن النحويين قد اعتمدوا تعريف ابن جني: "أما القول فهو من معنى الإسراع والخفة، ولذلك قيل لكل ما مذل به اللسان وأسرع إليه تاماً أو ناقصاً قول"(66).

    مصطلح (لغة)
    ذهب ابن جني في تعريفه لمصطلح لغة إلى أن أصله عربي من لغا بمعنى تكلم. وقد عرف المصطلح بقوله: "أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"(67)، وقد اشتمل التعريف على أربعة أمور.
    أن اللغة أصوات.
    أنها تعبير.
    أنها تصدر عن (قوم) – أي الناس-.

    وأنها تعبير عن حاجات الناس (أغراضهم)، وهذا يعبر عن اجتماعية اللغة(68).
    ثم ذكر ابن جني تصريف (لغة) فإن وزنها (فعلة) من لغوت أي تكلمت، وأصلها (لغوة)، وتصريفها كتصريف كرة، وقلة وثبة (كلها لاماتها واوات)، ولكنها صيغت من مقلوب الأصل، ومثل على ذلك بثبة التي هي من مقلوب ثاب يثوب.
    وعلى الرغم من اعتراف ابن جني أن لغى يلغى بمعنى هذى، وكذا اللغو، كما في قوله تعالى: "وإذا مروا باللغو مروا كراماً": (الفرقان 72)، ونص على أن اللغو هنا: الباطل، فإن ابن جني احتج بالحديث الشريف: "من قال في الجمعة: صه فقد لغا، وذكر أن معناه "تكلم". وينقض محقق الخصائص هذا الذي ذهب إليه ابن جني لأن شرّاح الحديث فسروا "اللغو بالكلام بما لا ينبغي"، وأن نص الحديث في البخاري في أبواب الجمعة: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت"(69).
    وتجدر الإشارة هنا إلى أن مصطلح لغة قد عرف على الأرجح بعد اتصال العرب بالحضارة اليونانية، فإن اليونانيين يطلقون على اللغة لفظ Logos = لوغوس وهي تعني الكلمة أو اللغة(70).
    أما العرب فالمعلوم أنهم استخدموا لفظ "لسان" للدلالة على اللغة، وبذلك جاء النص القرآني، ونص الأحاديث النبوية الشريفة، وأقوال الصحابة، كما في قوله تعالى: "بلسان عربي مبين" (الشعراء 195)، وقول الرسول (ص): "فإنما أنزل القرآن عليّ بلسان عربي مبين"(71).
    على أن مصطلح (لغة) شاع وذاع – فيما بعد-، وطغى استعمال اللفظ على مصطلح "لسان/ اللسان" لدى كل الدارسين، بعد القرن الثاني للهجرة، حتى صار مصطلح (لغة) لا يعني اختلاف الألسن بين الشعوب والأمم، بل استخدمه اللغويون العرب للدلالة على اختلاف اللهجات العربية. وها هو ذا ابن جني يضع عنواناً في خصائصه لاختلاف لهجات العرب، هو: "باب اختلاف اللغات وكلها حجة"(72).

    مصطلح النحو:
    وعرف ابن جني (النحو) بقوله: "هو انتحاء سمت كلام العرب، في تصرفه من إعراب وغيره، كالتثنية، والجمع، والتحقير، والتكسير، والإضافة، والنسب، والتركيب، وغير ذلك".
    وحدد الغاية العملية من النحو، وهي: "ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها وإن لم يكن منهم. وإن شذّ بعضهم عنها رد به إليها".
    وأما لفظ المصطلح (النحو) فهو "مصدر شائع، أي نحوت نحواً، كقولك: قصدت قصداً، ثم خص به انتحاء هذا القبيل من العلم". وبهذا دلل ابن جني على اختصاص النحو بعلم قواعد العربية. ثم أضاف أن لفظ "نحواً" قد استعملته العرب ظرفاً، وأصله المصدر، وكذا الأمر بالنسبة للمصادر التي استعملت مصطلحات للعلوم، نحو مصطلح (الفقه) الذي هو "في الأصل مصدر فقهت الشيء أي عرفته، ثم خص به علم الشريعة من التحليل والتحريم"(73).
    ويرى بعض الدارسين المحدثين أن تعريف ابن جني "بهذا المعنى شامل علم لا يشمل النحو الاصطلاحي عند المتأخرين، بل هو أوسع منه بكثير"(74).

    مصطلح الإعراب:
    ولابن جني في الإعراب تعريف دقيق يدل على الغاية العملية من الإعراب، وهو قوله: "هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ" وأتبع ذلك بمثالين هما في قوله مخاطباً قارئه: "ألا ترى أنك إذا سمعت: أكرم سعيدٌ أباه، وشكر سعيداً أبوه، علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول".
    ويلاحظ أن ابن جني لم يشر إلى ما ذكره اللغويون من أن الإعراب هو التغيير في أواخر الكلمات، وإن كان ذلك متضمناً في تعقيبه على كلامه السابق: "ولو كان الكلام شرجاً واحداً لاستبهم أحدهما من صاحبه"(75).
    ويبدو أن ابن جني أراد أن يدلل على أهمية الحركات الإعرابية في إيصال المعنى إلى ذهن السامع/ القارئ. ويرى أحد الدارسين المحدثين أن حد الإعراب لدى ابن جني "غير جامع ولا مانع" وأن "أبا الفتح لم يقصد إلى حده النحوي بصورة دقيقة، وإنما قصد إلى إعطاء معناه العام، وعقد الصلة بين النسب اللغوي لهذه الكلمة وما أطلقت عليه في النحو"(76).
    واستطرد ابن جني في بيان أهمية الإعراب أكثر مما فعل في تناول مصطلحي اللغة والنحو فأشار إلى أن لفظ الإعراب "مصدر أعربت الشيء إذا أوضحت عنه، وفلان معرب عما في نفسه أي مبين له وموضح عنه".
    وكذلك جعل ابن جني تسمية (العرب) أصلاً لمصطلح (الإعراب) في قوله: "وأصل هذا كله قولهم "العرب" لما يعزى إليها من الفصاحة والإعراب والبيان".
    واستقرى ابن جني أيضاً المعنى نفسه في تسمية يوم الجمعة بالعروبة: "ومنه عندي عروبة والعروبة الجمعة، وذلك أن يوم الجمعة أظهر أمراً من بقية أيام الأسبوع لما فيه من التأهب لها، والتوجه إليها، وقوة الإشعار بها". وكأني به يعني "صلاة الجمعة".
    ولم يغفل ابن جني الإشارة إلى دلالة مصطلح الإعراب على تغير حركات أواخر الكلمات في الجمل واختلافها وتنوعها، فذهب إلى أن من معاني الإعراب التغيير والاستحالة من حال إلى حال، إذ يقول: "ولما كانت معاني المُسَمَّيين مختلفة، كان الإعراب الدال عليها مختلفاً أيضاً، وكأنه من قولهم: عربت معدته، أي فسدت، كأنها استحالت من حال إلى حال، كاستحالة الإعراب من صورة إلى صورة".
    ونلحظ في تناول ابن جني لمصطلح الإعراب مهارته ودقته في الاستقراء واستخدام الأدلة العقلية، والاحتجاج بالنصوص للتدليل على صحة ما يذهب إليه من استخراج معاني المصطلح.

    مصطلح البناء:
    يبدأ ابن جني بتعريف المصطلح: "وهو لزوم آخر الكلمة ضرباً واحداً من السكون أو الحركة، لا لشيء أحدث ذلك من العوامل".
    ويلاحظ أن هذا التعريف متسق مع ما نقل عن أعلام البصريين كسيبويه، وما نقله عن شيوخه كأبي علي الفارسي الذي سبق أن ذكرنا تعريفه للإعراب بأنه "تغير أواخر الكلم واختلافها باختلاف العوامل، والبناء خلاف ذلك"(77).
    وها هنا يعكس ابن جني تعريف الإعراب بما يلائم تعريف البناء. ثم يبين ابن جني أن الكلمة / المصطلح مستعار من لفظ البناء الحقيقي، فيقول: "وكأنهم إنما سموه بناءً لأنه لمّا لزم ضرباً واحداً فلم يتغير تغير الإعراب سمي بناءً، من حيث كان البناء لازماً موضعه، لا يزول من مكان إلى غيره، وليس كذلك الآلات المنقولة المبتذلة كالخيمة والمظلة.." (78).

    الحقيقة والمجاز:
    وهما مصطلحان عرفا لدى البلاغيين، لكن ابن جني عقد لهما بابين في الخصائص (باب في فرق بين الحقيقة والمجاز) و (باب في أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة).
    عرف ابن جني الحقيقة بقوله: "ما أقر استعماله على أصل وضعه في اللغة". وأما المجاز الذي هو العدول في الاستعمال عن هذه الأصول إلى معان جديدة، فإن ابن جني أردف تعريفه للحقيقة بقوله في تعريف المجاز: "ما كان بضدّ ذلك"(79).
    وتجدر الإشارة إلى أن أحمد بن فارس الرازي عرف الحقيقة بأنها: "الكلام الموضوع موضعه الذي ليس باستعارة ولا تمثيل ولا تقديم ولا تأخير.. وهذا أكثر الكلام"(80).
    وعلى الرغم من أن ابن جني لم يضع تعريفاً شافياً لكل من الحقيقة والمجاز، إلا أنه تطرق إلى الناحية العملية بذكر الفوائد التي تجنيها اللغة من الاستخدام المجازي، وقد حددها في ثلاث: الاتساع، والتوكيد، والتشبيه، التي لا بد من اجتماعها في كل استخدام مجازي. وطبق ابن جني هذه الفوائد الثلاث على وصف النبي صلى الله عليه وسلم جواداً بأنه "هو بحر": "فالمعاني الثلاثة موجودة فيه، أما الاتساع فلأنه زاد في أسماء الفرس التي هي: فرس وطرف وجواد ونحوها: البحر". وأما التشبيه "فلأَنَّ جريه يجري في الكثرة مجرى مائه". وأما التوكيد "فلأنه شبه العرض بالجوهر، وهو أثبت في النفوس منه، والشبه في العرض منتفية عنه..." (81).

    مصطلح التجنيس:
    والتجنيس عند اللغويين "أن يتقارب اللفظان، ويختلف أو يتقارب المعنيان"(82). وأما البلاغيون فقد جعلوا التجنيس أنواعاً من أهمها:
    التجنيس/ أو الجناس التام، وهو أن تكون الكلمتان متوافقتين في حروفهما وحركاتهما.
    ب- والتجنيس/ الجناس الناقص، وهو أن يختلفا في الهيئة دون الصورة، كقولك البرد يمنع البرد.
    ج- والتجنيس المذيل، وهو أن يختلفا بزيادة حرف كقولك: مالي كمالي، وجدي جهدي(83).
    وقد ذكر ابن جني المصطلح في (باب في تداخل الأصول الثلاثية والرباعية والخماسية)، وصنف الألفاظ من حيث تداخل أصول أبنيتها قسمين:
    أحدهما: قسم تتقارب فيه أصول الثلاثي والرباعي والمعنى واحد، ومثل على ذلك بلفظين هما: رخو، ورخود، فهما "شديدا التداخل لفظاً وكذلك هما معنىً إلا أن تركيب رخو من (ر خ و)، وتركيب رخود من (ر خ د) والواو زائدة." وأما من حيث المعنى، فيقول في تقاربهما: "أفلا ترى إلى ازدحام اللفظين مع تماس المعنيين، وذلك أن الرخو الضعيف، والرخود المتثني، والتثني عائد إلى معنى الضعف".
    والقسم الآخر: ما يتقارب فيه اللفظان والمعنى مختلف، ومثل عليه بقول القطامي الشاعر:
    مستحقبين فؤاداً ما له فاد
    ويذهب ابن جني إلى أن الشاعر يرى "أو يرى أنه قد جنس وليس في الحقيقة تجنيساً"، وفسر ذلك بأن (فؤاداً) من (ف أ د)، وأما (فاد) فهو من (ف د ى)، "ولكنهما لما تقاربا دنوا من التجنيس"(84).
    ونلحظ من خلال الأمثلة التي ساقها ابن جني أن غاية التجنيس غاية جمالية، - على ما يعرف في البلاغة-، وأن ما ذكره في الباب لا يعدو أن يكون تداخلاً بين أصول الألفاظ على اختلاف أبنيتها.
    مصطلح الممطول:
    وذكر ابن جني هذا المصطلح في (باب في اقتضاء الموضع لك لفظاً هو معك إلا أنه ليس بصاحبك)، ومثل عليه بقوله: "لا خيراً من زيد فيها". وفسر محقق الخصائص هذا المصطلح بقوله: "هو ما يعرف بالشبيه بالمضاف عند المتأخرين"(85).
    ومن الجدير بالذكر أن الشبيه بالمضاف "هو ما اتصل به شيء من تمام معناه، معمولاً له، نحو: يا ضاحكاً وجهه، و "يا سامعاً دعاء المظلوم"(86).

    مصطلح حرف اللين المجهول:
    وجعل له ابن جني باباً في الخصائص وعرفه بأنه "مدة الإنكار".
    ويستخدم في اللغة في سؤال من أخبر بخبر، فأراد أن يستوثق منه، نحو: إذا قال له قائل: رأيت بكراً، فيسأله" أبكرنيه، وكذا إذا قال: جاءني محمد، فالسؤال هو: أمحمدنيه، فإذا كان القول: مررت على قاسم، سأله: أقاسمنيه.
    وقد يكون سؤال السائل إنكاراً أو استفهاماً، والغالب أن يكون إنكاراً تحقيقاً لتسمية ابن جني الياء (المدة) بمدة الإنكار.
    وبين ابن جني عناصر الجملة التي يستخدم حرف اللين المجهول (أي مدة الإنكار، وهي:
    همزة الاستفهام / الإنكار، ب- الاسم منوناً، ج- مدة الإنكار (الياء)، د- الهاء.
    وكذلك ذكر ابن جني أن نون التنوين تكسر لالتقاء ساكنين في قوله: "وذلك أنك ألحقت مدة الإنكار، وهي لا محالة ساكنة، فوافقت التنوين ساكناً، فكسر لالتقاء ساكنين، فوجب أن تكون المدة ياءً لتتبع الكسرة".
    ثم فسر ورود الياء لا غيرها من حروف المد، إذ "لا بد أن توجد في اللفظ بعد كسرة التنوين ياء، لأنها إن كانت في الأصل ياء فقد كفينا النظر في أمرها، وإن كانت ألفاً أو واواً فالكسرة قبلها تقلبها إلى الياء البتة".
    وتساءل ابن جني عن ورود غير الياء من حروف المد، وهل اقتصر في الإنكار على الياء فحسب؟
    فأجاب بأنه "لم تظهر في شيء من الإنكار على صورة مخصوصة فيقطع بها عليها دون أختيها، وإنما تأتي تابعة لما قبلها، ألا تراك تقول في: قام عمر: أعمروه، وفي رأيت أحمد: أأحمداه، وفي مررت بالرجل: آلرجليه".
    ويلاحظ أن الياء استخدمت في الأمثلة الأولى بعد تنوين، وفي الأمثلة الثانية في حالة الجر فحسب، بينما وردت الواو والألف في حالتي الرفع والنصب، ذلك حين يكون الاسم غير منون، مثل الممنوع من الصرف كعمر وأحمد(87).
    ولحظ ابن جني الشبه بين مدة الإنكار ومدة الندبة، ولئلا يقع الخلط بينهما نبه على اختلافهما، ذلك أن مدة الندبة كما في: وازيداه :"ليست مدة مجهولة مدبرة بما قبلها، ألا تراها تفتح ما قبلها أبداً، ما لم تحدث هناك لبساً" فإن العرب تقول في الندبة، نحو: وازيداه، ولم يقولوا وازيدوه، رغم أن الواو مضمومة في وازيد.
    ثم أضاف ابن جني مبيناً أحوال الألفين من موضعين: أحدهما أن مد الإنكار مضاه للندبة، والثاني أن الغرض من الموضعين جميعاً إنما هو مطل الصوت(88).

    خلع الأدلة:
    وهو أحد أبواب الخصائص ضمنه ابن جني بعض نظراته اللغوية، وأراد بالأدلة "أعلام المعاني في العربية"، فإن الهمزة "دليل الاستفهام، و (إن) دليل الشرط" وأما المعاني فيراد بها "المعاني التي تحدث في الكلام من خبر واستخبار ونحو ذلك". أي أن ابن جني قصد إلى معاني الحروف، الأدوات لا معاني الأجناس.
    ويرى محقق الخصائص أن ما أراده ابن جني من تسميته (خلع الأدلة) هو "تجريد الحروف والأدوات من المعاني المعروفة والمتبادرة فيها، وإرادة معان أخر لها، أو تجريدها من بعض معانيها"(89).
    ومن الأمثلة المشهورة في اللغة خلع/ أو تجريد (ال) عن التعريف في لفظ الجلالة.
    ونقل ابن جني ما روي عن يونس بن حبيب أن العرب تقول: ضرب مَنٌ مَنَاً أي: إنسانٌ إنساناً، أو رجلٌ رجلاً، ثم اتبع المثال بقوله" "أفلا تراه كيف جرد (مَنْ) من الاستفهام، ولذلك أعربها"(90).

    فك الصيغ:
    أشار ابن جني في (باب في فك الصيغ) إلى عدم تنبه اللغويين له على الرغم من أنه "موضع من العربية لطيف، ومغفول عنه، وغير مأبوه له"(91)، فقد لحظ أن بعض صيغ الكلام يجري عليها تغيير في حالة تغير تصريفها، إذ يحذف منها حرف أو أكثر" إما ضرورة أو إيثاراً"، وسواء أكان المحذوف من الحروف الأصول أم كان من الزوائد، ذلك أن الأصل في التغيير أن يجري على "مثلهم" – أي العرب، فإذا تم تغيير نافر وخالف صيغ كلمهم فإن تغييراً آخر لا بد أن يحدث ليعيد الكلمة إلى مثلهم. وهذا هو الذي أراده ابن جني بتسميته "فك الصيغ". ومن الأمثلة الواضحة على ذلك تصغير أو تكسير (منطلق)، إذا لا تستقيم إلا بفك صيغتها، ويرى ابن جني أنه لا بد من حذف نونه، فتصبح مطلق، ومثاله: مفعل، وهذا وزن ليس مستعملاً في كلام العرب، ومن ثم لا بد من نقله إلى أمثلتهم فيصير "مطلق" وتصغيره: مطيلق، وتكسيره: مطالق.
    ويلاحظ أن ما جرى على الألفاظ التي مثل بها ابن جني في موضوع (فك الصيغ) أمران:
    أ- حذف الزائد/ الزوائد و ب- موافقة بعض أمثلة العرب وصيغها أياً كانت الصيغة.
    ولذلك نراه يقرر ما يأتي: "لا عليك على أي صورة بقي بعد حذف زائده"(92).

    تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني:
    وهذا باب في الخصائص ذكر فيه ابن جني بعض نظراته اللغوية التي استحسنها الدارسون/ اللغويون بعده قديماً وحديثاً، فرددوا ما قاله، وعدّوه رائداً فيما أورده. وقد ذكر ابن جني في هذا الباب ملحوظات لغوية استنبطها مما ورد في اللغة من ألفاظ تتقارب ألفاظها ومعانيها، ويمكن إجمال ما ذكره فيما يأتي:
    اقتراب الأصلين الثلاثيين نحو: رخو ورخود، وأصلهما" رخو، و رخد، وهناك اتفاق في المعنى.
    اقتراب أصلين أحدهما ثلاثي والآخر رباعي، نحو: دمث، ودمثر. وقد ذكر ذلك في موضوع (التجنيس) (93).
    التقديم والتأخير، وهذا الذي أطلق عليه ابن جني مصطلح (الاشتقاق الأكبر) (94).
    تقارب الحروف لتقارب المعاني، وهذا هو الأقرب لعنوان الباب، ومثل له ابن جني بقوله تعالى: "ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا" (مريم 83). وجعل ابن جني أز وهز بمعنى واحد، إلا أنه جعل الأز أقوى في المعنى من الهز لقوة الهمزة(95).

    إمساس الألفاظ أشباه المعاني:
    وهذا باب يعقب الباب السابق ذكر فيه ابن جني ملحوظات لغوية أخرى صوتية وصرفية، ويعترف في بداية الباب بأن الخليل بن أحمد هو الذي ابتدع بعض هذه النظرات اللغوية كما يتضح هذا في مثاله المشهور عن العرب: "كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومداً فقالوا: صرّ، وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً، فقالوا: صرصر".
    ونقل ابن جني عن سيبويه أن المصادر التي جاءت على وزن (فعلان) تأتي للاضطراب والحركة نحو: النقزان والغليان والغثيان(96).
    وأضاف ابن جني – كعادته كلما ذكر شيئاً عن شيوخه السابقين – ملحوظات أو نظرات لغوية جديدة نجملها بما يأتي:
    أن المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير، نحو: الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة.
    أن (الفعلى) في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة، نحو: البشكى والجمزى.
    أن تكرير العين في المثال دليل على تكرير الفعل، نحو: كسّر، وقطّع، وفتّح، وغلّق. وقد أطلق ابن جني على هذه الأمثلة العبارة المشهورة: "قوة اللفظ لقوة المعنى"(97).

    مصطلح تدريج اللغة:
    وفي الباب الخاص بهذا المصطلح يقول ابن جني في تقديمه وتعريفه: "وذلك أن يشبه شيء شيئاً من موضع، فيمضي حكمه على حكم الأول، ثم يرقى منه إلى غيره". ومن الأمثلة التي ذكرها قولهم: "جالس الحسن أو ابن سيرين"، وفي تفسير المثال يقول: "ولو جالسهما جميعاً لكان مصيباً مطيعاً لا مخالفاً، وإن كانت (أو) إنما هي في أصل وضعها لأحد الشيئين، وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس (أو)، بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى (أو)، وذلك لأنه قد عرف أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لما لمجالسته في ذلك من الحظ، وهذه الحال موجودة في مجالسة ابن سيرين أيضاً، وكأنه قال: جالس هذا الضرب من الناس"(98).
    وتجدر الإشارة إلى أن سيبويه قد ذكر ما سماه ابن جني هنا باب "تدريج اللغة" في (باب أو في غير الاستفهام)، ومثل للباب بقوله: "تقول: جالس عمراً أو خالداً أو بشراً، كأنك قلت: جالس أحد هؤلاء ولم ترد إنساناً بعينه، ففي هذا دليل على أن كلهم أهل أن يجالس، كأنك قلت: جالس هذا الضرب من الناس".
    ويلاحظ أن العبارة الأخيرة قد اقتبسها ابن جني في خصائصه رغم اختلاف المثال، وأضاف سيبويه مثالاً وهو قوله تعالى: "ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً" (آية 24 سورة الإنسان)، وقدم للمثال بقوله: "ونظير ذلك قوله عز وجل (الآية)" ثم عقب عليها بقوله: "أي لا تطع أحداً من هؤلاء"(99).
    وأما ابن جني، فقد ذكر الآية بعد مثاله الآنف الذكر وقدم لها بقوله: "وعلى ذلك جرى النهي في هذا الطرز من القول في قول الله سبحانه: "ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً" وكأنه – والله أعلم - قال: لا تطع هذا الضرب من الناس".
    وزاد ابن جني في توضيح معنى "التدريج" بأن أضاف من الأمثلة ما استخدمت فيها (أو) في موضع الواو، كما في قول الشاعر أبي ذؤيب الهذلي.
    وكان سيان ألا يسرحوا نعماً أو يسرحوه بها، وأغبرت السوح
    ويرى ابن جني أن "سواء وسيان لا يستعمل إلا بالواو"، وأن الأمثلة التي ذكرت يصلح فيها الواو، ولكن (أو) فيها قد جرت مجرى الواو، ولذلك حصل لها هذا (التدريج) في الاستعمال، فأجريت مجرى الواو"(100).
    وهناك ظواهر لغوية أخرى تحت عنوان "تدريج اللغة" ذكرها ابن جني، ومنها: قلب الواو من صبوان وصبوة إلى ياء في قولهم: صبيان وصبية "لأنه من صبوت، لانكسار الصاد قبلها، وضعف الباء أن تعتدّ حاجزاً لسكونها"(101).
    وهناك أمثلة كثيرة ذكرها ابن جني في هذا الباب، أغلبها مما جرى استعمال الياء في موضع الواو استحساناً واستخفافاً، ولذلك نرى ابن جني يصرح بأن "جماع هذا الباب غلبة الياء على الواو لخفتها.." (102).

    تركيب اللغات:
    وهذا عنوان باب في الخصائص، إذ هو ليس مصطلحاً لغوياً، وإنما عنى به ابن جني أن العربي قد يجتمع في كلامه أكثر من لهجة، وأخذ ابن جني على اللغويين الذين وصفهم بأنهم "ضعف نظرهم، وخفت إلى تلقي ظاهر هذه اللغة أفهامهم، أن جمعوا أشياء على وجه الشذوذ عندهم، وادعوا أنها موضوعة في أصل اللغة على ما سمعوه بأخرة من أصحابها"، ومثل لما عد شاذاً "ما جاء على فَعِلَ يَفْعُلُ، نحو: نَعِمَ يَنْعُم".
    وسمى ابن جني مجيء هذا في كلام العرب بتركيب اللغات وتداخلها، وفسر هذه الظاهرة بأن يتلاقى "أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا، وهذا لغة هذا، فأخذ كل واحد منهما من صاحبه ما ضمه إلى لغته فتركبت هناك لغة ثالثة". ومن الأمثلة التي عالجها ابن جني في هذا الباب مما اجتمعت فيه لغتان نحو: "قليت الرجل وقليته، فمن قال: قليته فإنه يقول: أقليه، ومن قال: قليته قال: أقلاه"(103).

    2- مصطلحات أصول الفقه وعلم الكلام:
    ذكر ابن جني في مقدمة الخصائص أنه تأثر بمناهج أصول الفقه وعلم الكلام، وأن أحداً من النحويين لم يقم بهذا العمل الجليل قبله، فقال: "وذلك أنا لم نر أحداً من علماء البلدين (أي البصرة والكوفة) تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه"(104).
    ويعترف ابن جني صراحة في موضع آخر من الخصائص أن اللغويين قد احتذوا حذو الفقهاء في استخراج العلل والأقيسة، وذكر على وجه الخصوص محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، المتوفى سنة 189هـ(105)، الذي كانت كتبه نبراساً اهتدى بهديها أهل النحو، إذ يقول: "وكذلك كتب محمد بن الحسن – رحمه الله – ينتزع أصحابنا منها العلل لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه، فيجمع بعضها إلى بعض بالملاحظة والرفق"(106).
    ولو استعرضنا أبواب الخصائص لرأينا عدداً وافراً من الأبواب مستعاراً من أبواب الفقه ومصطلحاته، ويعدُّ ابن جني من أوائل النحاة الذين استخدموا المصطلحات الفقهية في الدرس اللغوي، وقد وصف ابن جني عملهم هذا بأنهم برعوا في موضوع العلة النحوية حتى فاقوا في عللهم علل المتفقهين رغم أنهم انتهجوا مناهجهم(107). ويظهر أن ابن جني يعرض بما ذهب إليه، مما توصل إليه هو نفسه من منزلة عالية في تعليل الظواهر اللغوية – نحوية وصرفية مما جعله مقدماً على كل اللغويين في زمنه – وحتى قبل زمنه-.
    يضاف إلى هذا اعتراف من جاء بعده واحتذى حذوه كأبي البركات ابن الأنباري (ت 577هـ)، والسيوطي (ت 911هـ) بفضل ابن جني وتقدمه في موضوع علم أصول النحو موضوعاً ومصطلحات.

    مصطلح الدور:
    وهو من مصطلحات الفقهاء والمتكلمين. ويبدو أن ابن جني قد استخدم هذا المصطلح بمفهومين يتفق أحدهما مع مفهوم المتكلمين والصوفيين، إذ إن هذا المفهوم يعني "وجود حكم في كل طرف من الطرفين لعلة واحدة في كل منهما، أي أن الشيء يأخذ حكماً بعلة في الشيء الثاني، ثم يأتي الطرف الثاني فيأخذ حكماً بعلة موصوفة في الطرف الأول"(108).
    ويمثل ابن جني في (باب دور الاعتلال) على هذا المفهوم للدور بما يعزوه إلى محمد بن يزيد المبرد (ت 285هـ) من "وجوب إسكان اللام في نحو: ضربن، وضربت إلى أنه لحركة ما بعده من الضمير"، ثم ذهب كذلك إلى سكون اللام "لسكون ما قبله"، ويذهب المبرد إلى أن تحريك ما قبل اللازم وما بعدها إنما يجيء لسكون اللام. ويخلص ابن جني إلى تفسير هذا المثال إلى ما يأتي: "فتارة اعتل لهذا بهذا، ثم دار تارة أخرى فاعتل لهذا بهذا. وفي ظاهر ذلك اعتراف بأن كل واحد منهما ليست له حال مستحقة تخصه في نفسه، وإنما استقر على ما استقر عليه لأمر راجع إلى صاحبه". وعلى الرغم من هذا فقد وصف ابن جني ما ذهب إليه المبرد بأنه "شنيع الظاهر"(109).
    ثم استخدم ابن جني مصطلح الدور بمفهوم يتفق مع مفهوم الفقهاء، وذلك في قوله في باب آخر هو (باب في الدور والوقوف منه على أوّل رتبة). "هذا موضع كان أبو حنيفة – رحمه الله – يراه ويأخذ به، وذلك أن تؤدي الصنعة إلى حكم ما، مثله مما يقتضي التغيير، فإن أنت غيرت صرت أيضاً إلى مراجعة مثل ما منه هربت، فإذا حصلت على هذا وجب أن تقيم على أوّل رتبة ولا تتكلف عناء ولا مشقة".
    ومن أمثلة ابن جني على هذا المفهوم للدور "كأن تبني من (قويت) مثل (رسالة) فتقول على التذكير: قواءة، وعلى التأنيث قواوة، وأما في جمعها "فيلزمك أن تقول حينئذ:" قواو، فتجمع بين واوين مكتنفتي ألف التكسير، ولا حاجز بين الأخيرة وبين الطرف"، وأما وزن (قواوة) فهو (فعالة) من القوة، فإن الأصل فيها بالهمز: قواء، "ثم يلزمك ثانياً أن تبدل من هذه الهمزة الواو"(110).

    باب في تخصيص العلل:
    وهذا باب آخر استعاره ابن جني "في العربية من أصول الفقه"، ويذهب فيه إلى أن محصول ما يذهب إليه اللغويون "ومتصرف أقوالهم مبني على جواز تخصيص العلل".
    ومعنى تخصيص العلل في الفقه "أن يختلف الحكم مع وجود العلة. ومن أمثلة هذا في الفقه أن يعلل الرّبا بالطعم" نحو: بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب، ففيها الطعم. ويرى الفقهاء أن "التعارض فيها مع جهل التماثل ليس بحرام في مقدار معين مبين في الفروع. فقد وجدت العلة وتخلف الحكم. ويختلف الفقهاء في هذا، فمنهم من يراه قدحاً في العلة، ويسميه نقضاً، ومنهم من لا يراه نقضاً، ويعود به على العلة بالتخصيص"(111).
    ويربط ابن جني بين علل اللغه- نحوها وصرفها – وعلل الفقه فيرى "أنها أو أكثرها إنما يجري مجرى التخفيف"، ويرى أنه "لو تكلف متكلف نقضها لكان ذلك ممكناً – وإن كان على غير قياس – ومستثقلاً". ثم يخاطب قارئه وهو يضرب له الأمثلة – "ألا تراك لو تكلفت تصحيح فاء ميزان وميعاد لقدرت على ذلك فقلت: موزان، وموعاد"، وهذا ينطبق على جل الأمثلة التي ذكرها، وهي أمثلة تحوي ألفاظاً تتبادل فيها من حروف العلة الواو والياء. ويعترف ابن جني أن بعض أمثلته تخالف القياس، وعلى الرغم من ذلك فإن القارئ يكون "مقتدراً على النطق بذلك، وإن نفى القياس تلك الحال" ولكن هذا الذي يجري في اللغة لا يجري في غيره خاصة علل المتكلمين "لأنها لا قدرة لها على غيرها، ألا ترى أن اجتماع السواد والبياض في محل واحد ممتنع لا مستكره، وكون الجسم متحركاً ساكناً في حال واحد فاسد، لا طريق إلى ظهوره، ولا إلى تصوره" ويخلص ابن جني إلى إقرار حقيقة مؤداها كما يقول: "فقد ثبت تأخر علل النحويين عن علل المتكلمين وإن تقدمت علل المتفقهين"(112).

    العلة الموجبة والعلة المجوزة:
    ويعقد ابن جني باباً للفرق بين العلة الموجبة والعلة المجوزة، وقدم لهذا الباب بأن أكثر العلل مبناها على الإيجاب نحو: نصب الفضلة وما شابهها، ورفع كل من المبتدأ والخبر والفاعل، وجر المضاف إليه.
    وأما العلة المجوزة وهو "في الحقيقة سبب يجوز ولا يوجب" نحو "قلب واو وقتت همزة أَقتت"، ويرى ابن جني أن علة ذلك أن الواو انضمت ضماً لازماً، وأنت مع ذلك تجيز ظهورها واواً غير مبدلة، فتقول: وقتت" ويضيف ابن جني "أن الجواز معنى تعقله النفس، كما أن الوجوب كذلك، فكما أن هنا علة للوجوب فكذلك هنا علة للجواز"(113).
    ويلاحظ أن ابن جني يفرق بين العلة والسبب، ويسمي الأولى "العلة الموجبة" والثاني "العلة المجوزة".
    مصطلح إدراج العلة واختصارها:
    وهو باب قصير مختصر (في صفحتين من الخصائص)، ومعنى إدراج العلة:" طيها وترك بسطها والإسراع في إيرادها بحذف بعض مقوماتها(114).

    ومثل ابن جني على الإدراج ببيان أنه لو سأل سائل عن قولهم: "آسيت الرجل، فأنا أواسيه، وآخيته فأنا أواخيه" ما أصله، وما علته في التغيير، فإن الجواب أن الأصل أؤاسيه وأؤاخيه، وأما علته في التغيير: "اجتمعت الهمزتان فقلبت الثانية واواً لانضمام ما قبلها".
    ويرى ابن جني أن في هذا إدراجاً وذلك من وجهين: أحدهما أنك لم تستوف ذكر الأصل، والآخر أنك لم تتقص شرح العلة". ثم يبدأ ابن جني باستيفاء أصل الكلمتين، واستقصاء علة تغيير الهمزة واواً، فيقول. "أصله أؤاسوُك لأنه أفاعلك من الأسوة، فقلبت الواو ياءً لوقوعها طرفاً بعد الكسرة، وكذلك أواخيك أصله: أؤاخوُك لأنه من الأخوة، فانقلبت اللام لما ذكرنا، كما تنقلب في أعطى واستقصى.
    وأما تقصي علة تغيير الهمزة بقلبها واواً فالقول فيه أنه اجتمع في كلمة واحدة همزتان غير عينين، الأولى مضمومة والثانية مفتوحة، وهي حشو غير طرف، فاستثقل ذلك، فقلبت الثانية على حركة ما قبلها – وهي الضمة – واواً"(115).

    مصطلح الاستحسان:
    الاستحسان مصطلح فقهي يستخدم في أصول الفقه، وهو أحد الأدلة الفقهية عند الحنفية. والاستحسان في اللغة "هو عد الشيء واعتقاده حسناً(116). وفي الاصطلاح: "العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر لوجه أقوى يقتضي هذا العدول"، ويرى الخوارزمي أنه "قياس لكنه خفي غير جلي"(117).
    وفي تعريفات الجرجاني أن الاستحسان "اسم لدليل من الأدلة الأربعة يعارض القياس الجلي، ويعمل به إذا كان أقوى منه"، ويخلص الجرجاني إلى أن الاستحسان هو "ترك القياس والأخذ بما هو أرفق للناس"(118).
    لم يعرف ابن جني الاستحسان في اللغة تعريفاً صريحاً ومباشراً، بل بدأ باب الاستحسان بأن ذكر "أن علته ضعيفة غير مستحكمة"، غير أنه بين الفائدة العملية منه وهو "أن فيه ضرباً من الاتساع والتصرف"(119).
    واستثمر ابن جني مصطلح الاستحسان لتعليل ظواهر لغوية يتعلق أكثرها بقضيتي الإعلال والإبدال، وذلك عن طريق تطبيق فكرتين تتعلقان بأصول اللغة – مثلما تتعلقان بأصول الفقه – أولاهما: ذكر العلة، وإثبات أنها أمر لم يغفل عنه النحويون، وإن لم يكن أكثرهم قد أحاط بكل أبعادها ومراميها.
    والثانية هي القياس الذي برع فيه ابن جني وشيخه الفارسي اللذان تأثرا بمناهج المدرسة البصرية في اللغة.

    والاستحسان أنواع منها:
    ترك الأخف إلى الأثقل، نحو: ألفاظ منها الفتوى والتقوى والشروى، ذلك أن هذه الألفاظ بوزن "فعلى" ويأتي هذا الوزن في العربية في الأسماء والصفات. وأصل صيغة هذا الوزن أن يكون بالياء لا بالواو، ولكن العرب قلبوا الياء واواً "من غير استحكام علة أكثر من أنهم أرادوا الفرق بين الاسم والصفة".
    ومن الاستحسان إلحاق نون التوكيد اسم الفاعل تشبيهاً له بالفعل المضارع كقول الراجز.
    أريت إن جئت به أملودا مرجلاً ويلبس البرودا
    أقائلن أحضروا الشهودا
    والشاهد فيه (أقائلن)، إذ ألحقت نون التوكيد اسم الفاعل" لا عن قوة علة ولا استمرار عادة"، فهو إذن من الاستحسان.
    قلب الواو ياءً إذا وقع ساكن بين الكسرة والواو، نحو صبية وقنية، والأصل فيهما: صبوت، وقنوت(120).

    مصطلح ترافع الأحكام:
    وهو عنوان باب وصف به اختلاف تصريف بعض الألفاظ، ونقل ابن جني أمثلة من كتاب سيبويه، ومنها قوله: "مذهب العرب في تكسير ما كان من (فعل) على أفعال، نحو: علم وأعلام، وقدم وأقدام". ثم نقل عنه أن ما "كان على (فعلة) كسروه على (أفعل)، نحو: أكمة وآكم..." ويعقب ابن جني على كلام سيبويه بقوله: "إلى هنا انتهى كلامه إلا أنه أرسله ولم يعلله"(121).
    ويظهر أن ابن جني رأى أن يقدم تعليلاً لما نقله عن سيبويه، فقال: "والقول فيه عندي أن حركة العين قد عاقبت في بعض المواضع تاء التأنيث، وذلك في الأدواء، نحو قولهم: رمث رمثاً، وحبط حبطاً، وحبج حبجاً، فإذا ألحقوا التاء أسكنوا العين فقالوا: حقل حقلة، ومغل مغلة، فقد ترى إلى معاقبة حركة العين تاء التأنيث".
    وهذا التعاقب الذي أشار إليه ابن جني بين التاء وحركة العين جعلهما تجريان" لذلك مجرى الضدين المتعاقبين، فلما اجتمعا في (فعلة) ترافعا في أحكامهما".
    ويقصد بذلك ابن جني ما قاله في تعليقه على الأمثلة السابقة: "فأسقطت التاء حكم الحركة، وأسقطت الحركة حكم التاء، فآل الأمر بالمثال إلى أن صار كأنه (فعل)، و(فعل) باب تكسيره (أفعل)".
    والغريب فيما قدمه ابن جني لهذا الباب في زعمه أن "هذا موضع من العربية لطيف، لم أر لأحد من أصحابنا فيه رسماً، ولا نقلوا إلينا فيه ذكراً"، ثم ختم الباب بقوله: "وهذا حديث من هذه الصناعة غريب المأخذ، لطيف المضطرب، فتأمله فإنَّه مجد عليك، مقو لنظرك"(122).
    وعلى الرغم من هذا الزعم فإنه مثل للباب بما ذكره سيبويه الذي سمى الباب بـ :"باب ما كان على حرفين وليس فيه علامة التأنيث"(123)، ولكنه لم يقم بتعليل الأمثلة كالذي فعله ابن جني. ومن هنا نرى أن ابن جني قد وضع مصطلحاً لمثل هذه الظواهر اللغوية، وهو "ترافع الأحكام". ويرى محقق الخصائص أنه أراد "أنه قد يجتمع في الكلمة أمران، يقضي كل منهما إذا انفرد بحكم في اللغة، تكون عليه الكلمة، فيكون ذلك داعياً إلى إلغاء تأثيرهما، فكأن هذا رفع حكم هذا، وهذا رفع حكم هذا وأبطله".
    ثم أردف محقق الخصائص مبيناً أن ما ذهب إليه ابن جني يقرب منه "قول الأصوليين وأرباب الاستدلال: إن الأمرين إذا تعارضا تساقطا"(124).

    مصطلح المنزلة بين المنزلتين:
    وهو من مصطلحات المعتزلة، وقد لحظ الدارسون أن ابن جني "كان معتزلياً تتردد آراؤه في الاعتزال في كتبه، وتطبع ببحثه أحياناً"(125).
    والمنزلة بين المنزلتين "أصل من الأصول الخمسة عند المعتزلة"، ويقصد به "‘عدم وصف الداعي أو مرتكب الكبيرة بالإيمان ولا بالكفر، بل هو في منزلة بينهما، ولكنه يخلد في النار"(126).
    واستخدم ابن جني المصطلح ومفهومه في باب سماه (باب في الحكم يقف بين الحكمين)، وحاول فيه تطبيق هذا المبدأ الاعتزالي على بعض المسائل النحوية، نحو ما ذكره في تفسير "كسرة ما قبل ياء المتكلم في نحو غلامي، وأنها ليست حركة إعراب ولا بناء، أما كونها غير إعراب فلأن الاسم يكون مرفوعاً ومنصوباً وهي فيه، نحو: هذا غلامي، ورأيت صاحبي، وأما كونها غير بناء، فلأن الكلمة معربة متمكنة، فليست الحركة إذن في آخرها بناء"(127).

    مصطلح النقض:
    ويرى بعض الدارسين المحدثين أن "مصطلح النقض، من مصطلحات المتكلمين والمناطقة" ومعناه "تخلف الحكم مع وجود العلة المدعاة"(128).
    واستخدم ابن جني النقض في بابين منفصلين في الخصائص أولهما": باب في نقض العادة: وأراد به أن يبين أن بعض الأفعال تعرف في حال معينة، فإذا غيرت صيغها انتقض حاله إلى ضده، ومن ذلك نقل الفعل من اللزوم إلى التعدي إذ "المعتاد المألوف في اللغة أنه إذا كان (فعل) غير متعد، كان (أفعل) متعدياً، لأن هذه الهمزة كثيراً ما تجيء للتعدية، نحو: قام زيد، وأقمت زيداً. فإن كان (فعل) متعدياً إلى مفعول واحد، فإنه يصير بالهمزة متعدياً إلى اثنين، نحو: طعم زيدٌ خبزاً، وأطعمته خبزاً.
    ومن أحوال (نقض العادة) في الفعل أن ينقل إلى التعدي بالمثال لا بالهمز كما في (فعل)، نحو: كسي زيد ثوباً، فإنه يصير بالمثال: كسوته ثوباً(129).
    وقد تأثر السيوطي بابن جني، فذكر الباب في الأشباه والنظائر في النحو، بعنوان: ورود الشيء على خلاف العادة(130).
    والباب الثاني الذي استخدم فيه ابن جني مصطلح النقض هو (باب في الامتناع عن نقض الغرض).
    وشبه ابن جني امتناع العرب "من نقض أغراضها بالبداء الذي تروم واليهود إلزامنا إياه في نسخ الشرائع وامتناعهم منه"(131).
    ونقل ابن منظور عن ابن الأثير أن البداء بمعنى القضاء، وهو "استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم، وذلك على الله غير جائز"(132).
    وأكد ابن جني في معالجته لمصطلح البداء "أن نسخ الشرائع ليس ببداء عندنا..." ثم اتبع ذلك بقوله: "لأن فيه انتكاثاً، وتراجعاً، واستدراكاً، وتتبعاً. فكذلك امتناع العرب من نقض أغراضها"(133).
    ويمكن حصر الحالات التي ذكرها ابن جني تمثيلاً لامتناع العرب من نقض أغراضها في اللغة بما يأتي:
    "امتناع العرب من "إدغام الملحق، نحو: جلبب، وشملل، وشربب... وذلك أنك إنما أردت بالزيادة والتكثير إلى البلوغ إلى مثال معلوم، فلو أدغمت في نحو شربب فقلت: شرب لانتقض غرضك الذي اعتزمته: من مقابلة الساكن بالساكن، والمتحرك بالمتحرك، فأدى ذلك إلى ضد ما اعتزمته، ونقض ما رمته، فاحتمل التقاء المثلين متحركين..".
    "امتناعهم من تعريف الفعل، إذ لا بد للفعل من أن يكون منكوراً لا يسوغ تعريفه، لأنه لو كان معرفة لما كان مستفاداً، لأن المعروف قد غني بتعريفه عن اجتلابه ليفاد من جملة الكلام".
    "امتناعهم من إلحاق (من) بأفعل إذا عرفته باللام، نحو الأحسن منه، والأطول منه..." (134).
    "امتناعهم من إلحاق علم التأنيث لما فيه علمه"، ومثل ابن جني على ذلك بالجمع من (مسلمة): مسلمات، " لم يقولوا: مسلمتات" لئلا يلحقوا علامة تأنيث مثلها.." (135).
    "امتناعهم من تنوين الفعل. وذلك أنه قد استمر فيه الحذف والجزم بالسكون لثقله. فلما كان موضعاً للنقض منه لم تلق به الزيادة فيه..."(136).

    التهميش : 
    1 ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق:محمد النجار(القاهرة، دار الكتب المصرية،1952 )1 /57.
    2 السامرائي، فاضل صالح، ابن جني النحوي( بغداد، دار النذير،1969)11وما بعدها.
    3 نفسه،13ـ16.
    4 بن خلكان، أحمد بن محمد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس(بيروت، دار الثقافة،1977) 3/246و الدمشقي، أبو الفداء إسماعيل، البداية والنهاية،اعتنى بها: عبد الرحمن اللادقي، ومحمد غازي بيضون(الرياض، ط4، 1998) 11/402.
    5 ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق:محمد النجار،1/8.
    6 الحموي، ياقوت، معجم الأدباء، اعتنى بنسخه:د.س.مرجليوث(مصر، مطبعة هندية، ط2، 1928)5/18.
    7 ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق:محمد النجار، 1/14.
    8 التنوخي، أبو المحاسن ، تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم ،تحقيق: عبد الفتاح الحلو( الرياض،جامعة الإمام محمد بن سعود، 1981)441.
    9 القفطي،أبو الحسن علي،إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم(دمشق، دار الفكر،ط1، 1986)2/ 336.
    10 اليماني، عبد الباقي، إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين، تحقيق: عبد المجيد دياب( الرياض، مركز ا لملك فيصل، ط1، 1986)200.
    11 بن خلكان، أحمد بن محمد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس،3/247.
    12 ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق:محمد النجار، 1/29ـ32.
    13 ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق:محمد النجار، 1/37.
    14 السامرائي، فاضل صالح، ابن جني النحوي،245ـ290.
    15 ضيف، شوقي، مدارس نحوية(القاهرة،دار المعارف،د.ت)268ـ270.
    16 القفطي،أبو الحسن علي،إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم 2/338.
    17 الحموي، ياقوت،معجم الأدباء، 5/19.
    18 النعيمي، حسام سعيد، الدراسات اللهجية والصوتية عند ابن جني(العراق،دار الرشيد، 1980) 20.
    19 كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين (بيروت ، دار إحياء التراث، د.ت)6/251.
    20 من بحث بعنوان " بداية ظهور فقه اللغة كعلم مستقل" للشيخ محمد الحمد في موقعه على الشبكة الإلكترونية .