د. عصام العبد زهد
الطبعة الأولى
1430هـ-2009م
الأمانة في القرآن الكريم
(دراسة موضوعية)
ملخص البحث
إن الأمانة خلق رفيع لا يستطيع حملها إلاّ الرجال العظام الذين تربوا على مائدة القرآن الكريم ، فكانوا أمناء على حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم ودمائهم ، والأمين هو أكثر الناس التزاماً بالشريعة الإسلامية ، ويأمن الآخرون بوائقه ؛ لأنه يملك الضمير الحي وملكة المراقبة التي تمنعه من الفساد والضرر بالعباد ، وإذا وجدت الأمانة على صعيد الأفراد والجماعات والحكومات ينشأ السلام والأمن والرفاه الاجتماعي ، ولتحقيق هذه الغاية جعلت البحث في ثلاثة مباحث ، الأول : تحدث عن تعريف الأمانة ومشتقاتها ومعانيها وفضلها ، أما المبحث الثاني : فهو عن أنواع الأمانة ومجالاتها ، والمبحث الأخير : تحدث عن الأمانة من صفات الملائكة والأنبياء ، وأتبعت البحث بخاتمة تتضمن أهم النتائج والتوصيات .
المقدمة
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد بلغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح لهذه الأمة حتى قيام الساعة وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ... أما بعد :
إن موضوع الأمانة من الموضوعات القرآنية الهامة ، لكونها خلق من أخلاق المسلم التي تنبع من عقيدته ، وتدل على صدقه في الانتماء لهذا الدين وشرف غايته في التعامل مع الآخرين ، والأمانة صفة جامعة للفضائل والقيم والمثل العليا النبيلة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية سواء كانت تتعلق بحقوق الله تعالى على عباده أو من حقوق العباد على بعضهم البعض ، كالودائع وحفظ الأسرار والأعراض وأمانة المجالس وأمانة الأموال والأولاد وغيرها من الأعمال التي يؤتمنون عليها .
لهذا كانت الأمانة من لوازم الإيمان ، قال تعالى : [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا] {النساء:58} ، وهي صفة للمؤمن أينما كان وتدل عليه وتفرقه عن الخائن الغشاش ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {الأنفال:27} .
والأمانة صفة لرسولنا الكريم حتى قبل بعثته ، فكان معروفاً في قومه بالصادق الأمين ، ثم ربّى عليها صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . فيجب التحلي بالأمانة وعدم التخلي عنها ، ومع الأسف الشديد أننا نرى من تخلى في أيامنا هذه عن الأمانة وفرّط فيها فضاعت الحقوق ، وذهب الأمن من المجتمع الذي ضاعت فيه الأمانة .
لذلك كان لموضوع الأمانة نصيب في كتاب الله فذُكر في إحدى وثلاثين آية منها المكي والمدني مما جعل هذا الموضوع موضع الاهتمام لدراسة موضوعية قرآنية تمثل لوناً من ألـوان التفسير الموضوعي الذي يعالج قضايا الأمة في واقعها المعاصر ، وما يستجد من الأمور .
وتحقيقـاً لهذا الهدف فقد جعلت خطة هذا البحث من مقدمة ، وثلاثة مباحث ، وخاتمة ، وهي على النحو التالي :
المبحث الأول : تم التعريف للأمانة في اللغة والاصطلاح ، والحديث عن مشتقات لفظة الأمانة كما وردت في القرآن الكريم ، والمعاني التي تحملها ، ثم الحديث عن فضل الأمانة .
أما المبحث الثاني : فقد تحدثت فيه عن أنواع الأمانة المعنوية والحسية والمجالات المتعددة التي تدخل فيها ، كأمانة العرض والأولاد والأموال والودائع وأمانة المجالس والوظائف وأمانة التعامل مع الآخرين ، وأخيراً أمانة المسجد الحرام .
والمبحث الأخير : جعلته من مطلبين ، الأول منهما تحدث عن أمانة الملائكة وخاصة جبريل ، والثاني أوضح أن الأمانة خلق من أخلاق الأنبياء ، وصفة من صفاتهم .
وأما الخاتمة فقد تضمنت خلاصة البحث ، وما تم التوصل إليه من نتائج مفيدة .
والله أسأل أن يكون هذا البحث خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به الناس أجمعين ، والله ولي التوفيق .
المبحث الأول
تضمن هذا المبحث تعريف الأمانة عند اللغويين وبيان الاستعمال القرآني للأمانة ومشتقاتها والحديث عن معانيها وفضلها .
لفظة الأمانة مأخوذة من الأمن وهو ضد الخوف ؛ لأن الأمانة توضع في الأصل عند أمين ، والأمين ثقة لا يخون ، والأمانة خلاف الخيانة ومعناها سكون القلب والتصديق للمؤتمن عليها ([1]) .
وعرفها الراغب الأصفهاني ([2]) فقال : الأصل الاشتقاقي للأمانة ، الفعل الثلاثي أَمِنَ – الهمزة والميم والنون – وأصل الأمن ، طمأنينة النفس وسكونها بزوال الخوف ، وهي مصدر تعني الأمان ، وهو اسم للحالة التي يكون عليها الإنسان من الأمن ، وأحياناً تكون اسماً لما يؤتمن عليه الإنسان ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {الأنفال:27} .
وعرّفها السمين الحلبي فقال : "الأمن ضد الخوف واعتمد "[... أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ...] {الأنعام:82} ، والأمن والأمان ، والأمانة في الأصل هي مصادر ، وجعل الأمانة اسماً للحالـة التـي يكـون عليها الإنسان من الطمأنينة والهدوء والراحة والسكينة ، وتارة لما يؤتمن عليه الإنسان ([3]) .
أما صاحب لسـان العرب فقال : الأمانة مشتقة من أَمِنَ ، وهي تعني الأمان ، والأمانة بمعنى آمنت فأنا آمن وآمنت غيري من الأمن ، والأمان الذي هو ضد الخوف ، والأمانة ضد الخيانة ([4]) .
ثانياً : الأمانة في الاصطلاح الشرعي :
هي رعاية حقوق الله تعالى بتأدية المرء للفرائض والواجبات ، وكذلك المحافظة على حقوق العباد فلا يطمـع الإنسـان فـي وديعة أؤتمن عليها ولا ينكر مالاً أو متاعاً أمّنه الناس عليه ([5]) .
وجاء معنى الأمانة بأنها خلق في النفس ، يعف به الإنسان عما ليس له به حق ، وإن تهيأت ظروف العدوان عليه ، ويرجع ما لديه من حق لغيره ، وإن استطاع أن يهضمه دون أن يكون عرضة للإدانة عند الناس وهي على هذا الأساس تشتمل على ثلاثة عناصر :
أ- عفة الأمين عما ليس لديه حق في أخذه من الآخرين .
ب- تأدية الأمين ما يجب عليه من حقوق لأصحابها .
ج- اهتمام الأمين بحفظ ما استؤمن عليه من حقوق وعدم التفريط بها ([6]) .
ونستطيع القول بأن الأمانة هي ضد الخيانة ، وبأنها صيانة الإنسان لكل ما ينبغي صيانته من حقوق أو فروض أو واجبات أو حدود أو أشياء مادية أو معنوية سواء كانت لله تعالى أم لأبناء المجتمع .
ولأجل أن نُبيّن السور المكية من المدنية بأرقام الآيات التي وردت فيها هذه الصيغ جعلنا هـذا الجـدول المرتـب حسـب تسلسـل السور والآيات في المصحف الشريف ، وذلك كما يلي :
المبحث الثاني
المبحث الثالث
الطبعة الأولى
1430هـ-2009م
الأمانة في القرآن الكريم
(دراسة موضوعية)
ملخص البحث
إن الأمانة خلق رفيع لا يستطيع حملها إلاّ الرجال العظام الذين تربوا على مائدة القرآن الكريم ، فكانوا أمناء على حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم ودمائهم ، والأمين هو أكثر الناس التزاماً بالشريعة الإسلامية ، ويأمن الآخرون بوائقه ؛ لأنه يملك الضمير الحي وملكة المراقبة التي تمنعه من الفساد والضرر بالعباد ، وإذا وجدت الأمانة على صعيد الأفراد والجماعات والحكومات ينشأ السلام والأمن والرفاه الاجتماعي ، ولتحقيق هذه الغاية جعلت البحث في ثلاثة مباحث ، الأول : تحدث عن تعريف الأمانة ومشتقاتها ومعانيها وفضلها ، أما المبحث الثاني : فهو عن أنواع الأمانة ومجالاتها ، والمبحث الأخير : تحدث عن الأمانة من صفات الملائكة والأنبياء ، وأتبعت البحث بخاتمة تتضمن أهم النتائج والتوصيات .
Honesty in the Holy Koran
Honesty is a valued manner and behavior where as He or She raised and brought up to be disciplined by the holy Koran from the beginning of His or Her life. A true Islamic society is based upon Honesty and Justice, that's because people should have a full spiritual meaning of worship in Islam. In this type of society people are honored to keep others money and secrets that's due to their commitment to follow the Islamic instructions for Honesty within principles and concepts of Islam.
This research has a division of three main types under the topic of "Honesty in the Holy Koran".
The first one identifies the meaning of Honesty and its importance.
The second one indicates ways and types of Honesty.
The third one compares honest people with Angels and Profits in their manners and behaviors.
At the end the research contains important points and results beside important recommendations.
Prepared by: Dr. Isam Zohd
Islamic University at Gaza
المقدمة
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد بلغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح لهذه الأمة حتى قيام الساعة وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ... أما بعد :
إن موضوع الأمانة من الموضوعات القرآنية الهامة ، لكونها خلق من أخلاق المسلم التي تنبع من عقيدته ، وتدل على صدقه في الانتماء لهذا الدين وشرف غايته في التعامل مع الآخرين ، والأمانة صفة جامعة للفضائل والقيم والمثل العليا النبيلة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية سواء كانت تتعلق بحقوق الله تعالى على عباده أو من حقوق العباد على بعضهم البعض ، كالودائع وحفظ الأسرار والأعراض وأمانة المجالس وأمانة الأموال والأولاد وغيرها من الأعمال التي يؤتمنون عليها .
لهذا كانت الأمانة من لوازم الإيمان ، قال تعالى : [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا] {النساء:58} ، وهي صفة للمؤمن أينما كان وتدل عليه وتفرقه عن الخائن الغشاش ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {الأنفال:27} .
والأمانة صفة لرسولنا الكريم حتى قبل بعثته ، فكان معروفاً في قومه بالصادق الأمين ، ثم ربّى عليها صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . فيجب التحلي بالأمانة وعدم التخلي عنها ، ومع الأسف الشديد أننا نرى من تخلى في أيامنا هذه عن الأمانة وفرّط فيها فضاعت الحقوق ، وذهب الأمن من المجتمع الذي ضاعت فيه الأمانة .
لذلك كان لموضوع الأمانة نصيب في كتاب الله فذُكر في إحدى وثلاثين آية منها المكي والمدني مما جعل هذا الموضوع موضع الاهتمام لدراسة موضوعية قرآنية تمثل لوناً من ألـوان التفسير الموضوعي الذي يعالج قضايا الأمة في واقعها المعاصر ، وما يستجد من الأمور .
وتحقيقـاً لهذا الهدف فقد جعلت خطة هذا البحث من مقدمة ، وثلاثة مباحث ، وخاتمة ، وهي على النحو التالي :
المبحث الأول : تم التعريف للأمانة في اللغة والاصطلاح ، والحديث عن مشتقات لفظة الأمانة كما وردت في القرآن الكريم ، والمعاني التي تحملها ، ثم الحديث عن فضل الأمانة .
أما المبحث الثاني : فقد تحدثت فيه عن أنواع الأمانة المعنوية والحسية والمجالات المتعددة التي تدخل فيها ، كأمانة العرض والأولاد والأموال والودائع وأمانة المجالس والوظائف وأمانة التعامل مع الآخرين ، وأخيراً أمانة المسجد الحرام .
والمبحث الأخير : جعلته من مطلبين ، الأول منهما تحدث عن أمانة الملائكة وخاصة جبريل ، والثاني أوضح أن الأمانة خلق من أخلاق الأنبياء ، وصفة من صفاتهم .
وأما الخاتمة فقد تضمنت خلاصة البحث ، وما تم التوصل إليه من نتائج مفيدة .
والله أسأل أن يكون هذا البحث خالصاً لوجهه الكريم ، وأن ينفع به الناس أجمعين ، والله ولي التوفيق .
المبحث الأول
الأمانة مشتقاتها ومعانيها وفضلها
تضمن هذا المبحث تعريف الأمانة عند اللغويين وبيان الاستعمال القرآني للأمانة ومشتقاتها والحديث عن معانيها وفضلها .
المطلب الأول : تعريف الأمانة في اللغة والاصطلاح الشرعي :
أولاً : معنى الأمانة لغة :لفظة الأمانة مأخوذة من الأمن وهو ضد الخوف ؛ لأن الأمانة توضع في الأصل عند أمين ، والأمين ثقة لا يخون ، والأمانة خلاف الخيانة ومعناها سكون القلب والتصديق للمؤتمن عليها ([1]) .
وعرفها الراغب الأصفهاني ([2]) فقال : الأصل الاشتقاقي للأمانة ، الفعل الثلاثي أَمِنَ – الهمزة والميم والنون – وأصل الأمن ، طمأنينة النفس وسكونها بزوال الخوف ، وهي مصدر تعني الأمان ، وهو اسم للحالة التي يكون عليها الإنسان من الأمن ، وأحياناً تكون اسماً لما يؤتمن عليه الإنسان ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {الأنفال:27} .
وعرّفها السمين الحلبي فقال : "الأمن ضد الخوف واعتمد "[... أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ...] {الأنعام:82} ، والأمن والأمان ، والأمانة في الأصل هي مصادر ، وجعل الأمانة اسماً للحالـة التـي يكـون عليها الإنسان من الطمأنينة والهدوء والراحة والسكينة ، وتارة لما يؤتمن عليه الإنسان ([3]) .
أما صاحب لسـان العرب فقال : الأمانة مشتقة من أَمِنَ ، وهي تعني الأمان ، والأمانة بمعنى آمنت فأنا آمن وآمنت غيري من الأمن ، والأمان الذي هو ضد الخوف ، والأمانة ضد الخيانة ([4]) .
ثانياً : الأمانة في الاصطلاح الشرعي :
هي رعاية حقوق الله تعالى بتأدية المرء للفرائض والواجبات ، وكذلك المحافظة على حقوق العباد فلا يطمـع الإنسـان فـي وديعة أؤتمن عليها ولا ينكر مالاً أو متاعاً أمّنه الناس عليه ([5]) .
وجاء معنى الأمانة بأنها خلق في النفس ، يعف به الإنسان عما ليس له به حق ، وإن تهيأت ظروف العدوان عليه ، ويرجع ما لديه من حق لغيره ، وإن استطاع أن يهضمه دون أن يكون عرضة للإدانة عند الناس وهي على هذا الأساس تشتمل على ثلاثة عناصر :
أ- عفة الأمين عما ليس لديه حق في أخذه من الآخرين .
ب- تأدية الأمين ما يجب عليه من حقوق لأصحابها .
ج- اهتمام الأمين بحفظ ما استؤمن عليه من حقوق وعدم التفريط بها ([6]) .
ونستطيع القول بأن الأمانة هي ضد الخيانة ، وبأنها صيانة الإنسان لكل ما ينبغي صيانته من حقوق أو فروض أو واجبات أو حدود أو أشياء مادية أو معنوية سواء كانت لله تعالى أم لأبناء المجتمع .
المطلب الثاني : الأمانة ومشتقاتها في القرآن الكريم :
جاء هذا اللفظ القرآني في إحدى وثلاثين موضعاً من آيات القرآن ، منها عشر آيات مدنية ، وإحدى وعشرون آية مكية ، وقد جاءت هذه الآيات في سبع عشرة سورة من كتاب الله تعالى منها : ست سور مدنية ، وإحدى عشرة سورة مكية ، وقد جاء هذا اللفظ بعدة صيغ واشتقاقات منها صيغة المضارع المبني للمعلوم والفعل الماضي المبني للمعلوم والمجهول ، وجاء أيضاً اسماً تارة مفرداً ، وأخرى جمعاً كما وجاء بصيغة المصدر ([7]) .ولأجل أن نُبيّن السور المكية من المدنية بأرقام الآيات التي وردت فيها هذه الصيغ جعلنا هـذا الجـدول المرتـب حسـب تسلسـل السور والآيات في المصحف الشريف ، وذلك كما يلي :
م
|
اسم السورة
|
رقم الآية
|
زمن نزولها
|
طبيعة اللفظ الوارد
|
1-
|
البقرة
|
125
|
مدنية
|
أمناً
|
2-
|
البقرة
|
283
|
مدنية
|
أمانته
|
3-
|
آل عمران
|
154
|
مدنية
|
أمنةً
|
4-
|
آل عمران
|
75
|
مدنية
|
تأمنه
|
5-
|
النساء
|
58
|
مدنية
|
الأمانات
|
6-
|
النساء
|
83
|
مدنية
|
الأمن
|
7-
|
الأنعام
|
81
|
مكية
|
الأمن
|
8-
|
الأنعام
|
82
|
مكية
|
الأمن
|
9-
|
الأعراف
|
68
|
مكية
|
أمين
|
10-
|
الأنفال
|
11
|
مدنية
|
أمنة
|
11-
|
الأنفال
|
27
|
مدنية
|
أماناتكم
|
12-
|
يوسف
|
64
|
مكية
|
آمنكم
|
13-
|
يوسف
|
54
|
مكية
|
أمين
|
14-
|
يوسف
|
11
|
مكية
|
تأمنا
|
15-
|
يوسف
|
64
|
مكية
|
أمنتكم
|
16-
|
المؤمنون
|
8
|
مكية
|
أماناتكم
|
17-
|
النور
|
55
|
مدنية
|
أمناً
|
18-
|
الشعراء
|
17
|
مكية
|
أمين
|
19-
|
الشعراء
|
125
|
مكية
|
أمين
|
20-
|
الشعراء
|
143
|
مكية
|
أمين
|
21-
|
الشعراء
|
162
|
مكية
|
أمين
|
22-
|
الشعراء
|
178
|
مكية
|
أمين
|
23-
|
الشعراء
|
193
|
مكية
|
الأمين
|
24-
|
النمل
|
39
|
مكية
|
أمين
|
25-
|
القصص
|
26
|
مكية
|
الأمين
|
26-
|
الأحزاب
|
72
|
مدنية
|
الأمانة
|
27-
|
الدخان
|
18
|
مكية
|
أمين
|
28-
|
الدخان
|
51
|
مكية
|
أمين
|
29-
|
المعارج
|
32
|
مكية
|
أماناتكم
|
30-
|
التكوير
|
21
|
مكية
|
أمين
|
31-
|
التين
|
3
|
مكية
|
الأمين
|
لقد تم الوقوف من خلال استعراض مشتقات أمن بصيغها وتصاريفها المتعددة على استخلاص التالي :
نلاحظ من الجدول السابق أن أكثر الآيات وردت في العهد المكي ، وهذا دليل على أن الناس في حاجة لقسط وافر من معرفة الأمانة وحملها ، والقيام بها ، وهذا لا يعني أن العهد المدني كان في غنى عن الأمانة ، بل هناك مجموعة من الآيات غطت هذا الجانب لكن بنسبة أقل لكونها استقرت في جذر قلوب الرجال وتمكنت من نفوس المؤمنين .
أيضاً المجتمع المدني طبيعة أهله الاستسلام والطاعة والخضوع لأمر الله ، فهم أكثر الناس حفاظاً على الأمانات والودائع وذلك لأن الإيمان راسخ في قلوبهم ، لذلك جاء التذكير بها في القرآن المدني أقل من القرآن المكي ، فأهل مكة أكثر احتياجاً لأداء الأمانات إلى أهلها ، وخاصة أنها كانت تضيع عند كثير منهم ، لذلك لم ترتح لهم نفس ، ولم يهدأ لهم بال حتى يدعونها عند رسول الله لما وجدوا فيه من الأمانة ، فكان مثالاً منذ صغره لقوله تعالى : [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا] {النساء:58} .
المطلب الثالث : معاني الأمانة وفضلها :
أولاً : إن لفظ الأمانة في القرآن ورد على ثلاثة معانٍ :
1- الفرائض :
إن الفرائض التي فرضها الله على المسلمين هي من ضمن الأمانات التي أمر الله بالمحافظة عليها وأدائها على أكمل وجه حيث قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {الأنفال:27} ، أي لا تضيعوا ما فرضه الله عليكم من فرائض كالصوم والصلاة والزكاة ، وباقي الفرائض حيث قال ابن عباس – رضي الله عنهما : لا تخونوا الله بترك فرائضه ، والرسول بترك سنته المطهرة ، بأن لا تأتمروا بما أمركم به أو لا تنتهوا عما نهاكم عنه ، وتتبعوا قوانين وضعية هابطة نابعة من الأهواء ، وهذه خيانة للأمانة ؛ لأن فيها تعطيل لفرائض الدين والحدود والتحلل من أحكامه التشريعية .
وقال قتادة: الأمانة في النص القرآني الدين والفرائض والحدود ، وقال بعضهم الغسل من الجنابة ، وقال مالك عن زيد الأمانة ثلاثة: الصلاة والصوم والاغتسال من الجنابة .
وكل هذه الأقوال لا تتنافى فيما بينها ، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها تعني التكاليف الشرعية ، وقبول الأوامر والنواهي بشروطها ([8]) .
2- الوديعة :
تشمل الوديعة الأشياء العينية من مال ومتاع وكل ما يؤتمن عليه الإنسان يجب أن يؤديه إلى أصحابه كاملة غير منقوص ، ووفق هذا المعنى جاء قوله تعالى : [وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ] {المؤمنون:8} ، فهم يؤدون الأمانات والودائع إلى أهلها ، وإذا اؤتمنوا على شيء لم يخونوا ، وجـاء فـي الحديث الشريف عن أنس قال : (لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له) ([9]) .
وأداء الودائع وسائر الأمانات واجب ولا سيما إذا طلبها صاحبها ، ومن لم يؤدها في الدنيا أُخذت منه في يوم القيامة ([10]) ، قال أبو هريرة ، قال رسول الله : (لتؤدن الحقوق إلى أهلها ، حتى يقتص للشاة الجمَّاء من القَرْناء) ([11]) .
فالأمانة بمعنى الوديعة حقها الأداء حيث ورد الأمر بذلك في القرآن الكريم صراحة ومؤكداً بصيغة لام الأمر ، قال تعالى : [... فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ...] {البقرة:283} .
وورد الأمر بصيغة التصريح بفعل الأمر برد الودائع والأمانات إلى أهلها ، قال تعالى : [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ ...] {النساء:58} .
3- العفة :
لقد جاءت الأمانة في القرآن الكريم بمعنى العفة على لسان ابنتي شعيب ، قال تعالى : [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] {القصص:26} ، أي : القوي في بدنه ، الأمين في عفافه وصفته بأفضل صفات الأجير ، القوة في القيام بالأمر والأمانة في حفظ الشيء ، ومصدر هاتين الصفتين ما شاهدت من حاله ، حيث قال لها أبوها : ما أعلمك بذلك ؟ قالت : إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال ، وإني لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال لي : كوني من ورائي ، وبذلك تكون قد استدلت بفراستها على قوته وأمانته ([12]) .
4- الأمانة بمعنى الأمن من الخوف :
قال تعالى : [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ...] {النساء:83} .
هذه الآية فيها تأديب من الله لعباده عن فعلهم المتسرع في إذاعة الأخبار قبل التحقق من صحتها ، فأوضحت الآية أنه ينبغي على المؤمنين إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة المتعلقة بالمصالح العامة أو بالأمن أو الخوف ، أن يتثبتوا من صحة الخبر ولا يستعجلوا بِإشاعته ، بل يردونه إلى رسول الله وإلى أولي الأمر منهم ، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل الذين يقدرون الأمور ويعرفون المصالح ، فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً وسروراً للمؤمنين وتحرزاً من أعدائهـم فعلوا ذلك ، وإذا رأوا مضرته تفوق على المصلحة لم يذيعوه ([13]) .
5- الأمانة بمعنى النجاة :
قال تعالى : [... فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {الأنعام:81} ، أي من أحق بالنجاة والأمن يوم القيامة ؟ المؤمنون الموحدون أم فريق المشركين ، أجاب الله تعالى عمن هو أحق بالأمن فقال تعالى : [الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] {الأنعام:82} ، فالذين صدقـوا بوجـود الله ووحدانيته وأخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له ولم يشركوا به شيئاً ولم يخلطوا إيمانهم بمعصية هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة ([14]) .
جاء عن ابن مسعود قال : لما نزلت [وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ] قال أصحابه وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت : [... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] ([15]) .
6- الأمانة بمعنى الراحة النفسية والاطمئنان :
إن الراحة النفسية جزء من الأمن ، والنوم لا يأتي لمن كان خائفاً ، وبما أن المسلمين أنعم الله عليهم بالنوم في غزوة بدر ، وهم في حالة تأهب للقتال ، هذا يدل على الأمن والاطمئنان ، قال تعالى : [إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ...] {الأنفال:11} ، وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال في غدها ، وكان النوم للجمع العظيم في الخوف الشديد دفعة واحدة عجيباً وفي حكم المعجز الخارق للعادة مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم ، ولكن الله ربط على قلوبهم ، وفي امتنان الله عليهم بالنوم وجهان :
أ- كانت بمثابة استراحة المقاتل التي يتقوى بها على القتال .
ب- أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم فحدث لهم النوم بعكس الخوف فهو مُسْهِر ([16]) ، وكذلك ورد هـذا المعنـى فـي قولـه تعالى : [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ...] {آل عمران:154} أنزل النعاس بعد هـذا الغـم رحمة بهم وإحسان وتثبيت لقلوبهم وزيادة طمأنينة لأن الخائف لا يأتيه النعـاس لمـا في قلبه من الخوف ، وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون ([17]) .
ثانياً : فضل الأمانة :
إن الأمانة فضيلة ضخمة ، لا يستطيع حملها الرجال المهازيل ، وقد ضرب الله المثل لضخامتها ، فأوضح أنها تثقل كاهل الوجود كله ، فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها أو يفرط في حقها ، قال تعالى : [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا] {الأحزاب:72} ، والظلم والجهل آفتان عرضتا للفطرة الأولى ، وبُلي الإنسان بجهادهما فإذا انتصر على الظلم والجهل كان على حمل الأمانة أقدر ([18]) .
والأمانة التي تدعو إلى رعاية الحقوق وتعصم الإنسان عن الدنايا ، لا تكون بهذه المثابة إلا إذا استقرت في وجـدان المرء ورست في أعماقه وهيمنت على الداني والقاصي من مشاعره .
وهذا معنى حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله : (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) .
والعلم بالشريعة لا يغني عن العمل بها ، والأمانة ضمير حي إلى جانب الفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، فإذا مات ضمير الإنسان انتزعت الأمانة منه ، ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق .
ومن ثم يستطرد حذيفة في وصفه لتسرب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها الإيمان فيروي عن رسول الله : (ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال : ينام الرجل النومة فتُقبض الأمانةُ من قلبه ، فيظل أثرها مثل الوكت – الأثر اليسير – ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظلُّ أثرُها مثل أثر المَجْلِ – أثر العمل في اليد – كجمر دحرجته على رجلك ، فيغط فتراه مُنتبراً وليس فيه شيء ، فيصبح الناس يتبايعون ، فلا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة حتى يقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل : ما أجلده ما أظرفه ما أعقله ! وما في قلبه مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمان) ([19]) .
لقد فرض الإسلام على المسلمين العمل بخلق الأمانة ، فمن كان أميناً كان مطيعاً لربه ملتزماً بتطبيق شريعة الإسلام وتأدية الأمانة دليل على زيادة الإيمان والضمير الحي ، وبذلك يأمن الناس بوائقه ويؤمنونه على دمائهم وأموالهم حيث جاء في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) ([20]) .
المبحث الثاني
أنواع الأمانة ومجالاتها
المطلب الأول : أنواع الأمانة :
تنقسم الأمانة إلى نوعين ، وهي الأمانة المادية وتتعلق بالودائع العينية ، والنوع الثاني المعنوية وهي تتعلق بحق الله على عباده من العبادات ، وأيضاً الأمانة في التعامل مع الناس .
أولاً : الأمانة المادية :
وهي أن يودع أحد الأشخاص عنـد إنسـان يثق به وديعة عينية من مال أو ذهب أو أوراق نقدية أو متاع أو نحوه مما يسمى أمانات ، وحينئذٍ يجب على المسلم الذي يتقي الله في حفظ هذه الوديعة حتى يرجعها إلى صاحبها ، قال تعالى : [وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ...] {البقرة:283} ، فهذه الآية فيها مشروعية الوثيقة بالحقوق ، وهي الرهون والضمانات التي تكفل للعبد الحصول على حقه سواء كان التعامل مع أمين أو خائن ، فالوثائق تحفظ الحقوق وتقطع المنازعات ([21]) .
فقد روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري أن فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا هذه الآية نسخت ما قبلها ، وقال الشعبي : إذا اؤتمن بعضكم بعضاً فلا بأس أن تكتبوا أو لا تشهدوا([22]) .
وقوله تعالى : [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ ...] {النساء:58} ، فهذه الآية الكريمة من أمهات الأحكام التي تضمنت جميع الدين والشرع ، واختلف من المخاطب فيها ، والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس ، فهي تتناول الولاة فيما لهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد المظالم إلى أصحابها ، كما تتضمن العدل من الحكومات ، وتتناول من تخصص من الناس في حفظ الودائع ، والتحرز في أداء الشهادات إلى غير ذلك مما يتعلق بالأمانات المادية ([23]) .
ثانياً : الأمانات المعنوية :
إن الأمانة المعنوية تعني القيام بحق الله من العبادات ، قال تعالى : [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56} ، وأيضاً العمل على تطبيق أحكام الدين التي تتمثل في شرع الله الذي أنزله على رسوله الكريم ، قال تعالى : [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {الجاثية:18} ، وأوصى الحق تبارك وتعالى بالاحتكام لهذا الدين والضرب بعرض الحائط الأحكام الأرضية الهابطة ؛ لأنها لا تحقق إلا التفرقة والضياع لمقدرات الأمة ، قال تعالى : [وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] {المائدة:49} .
ولا يحق لمسلم أعلن ولاءه لله خالقاً ومشرعاً أن يبتعد عن تحكيم شريعة الله في جميع أمور حياته ، أو يتخذ القوانين الوضعية دستوراً يحتكم إليها فيما يعرض له من قضايا ومشكلات سواء في الجانب الأخلاقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي ، والله حذّرنا من الافتتان بذلك فقال تعالى : [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] {المائدة:50} ، وأقسم الله أنه لن يتم الإيمان للناس إلا بعد أن يتحاكموا إلى رسول الله ويرضوا بحكمه في أي أمر من أمور حياتهم صغيرها وكبيرها ، قال تعالى : [فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} ، أي يقبلوا حكم الرسول بحب واستسلام كامل عن طواعية ورضا ([24]) ، قال تعالى : [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36} .
كما أن الأمانة تكون في السهر على تحقيق مصالح الأمة ، والعمل على إعادة مجدها ورفع شـأنها ، ولكن الناظـر اليـوم في واقع المسلمين يراهم وقد استبدلوا منهج الله بمناهج وقوانيـن وضعيـة مستوردة من الشـرق أو الغرب يحتكمون إليها في حياتهم فعـادت عليهـم بالشقاء والبلاء والتفرقة والضعف وذهاب ريحهم وواقع المسلمين اليوم يشهد بذلك .
ولذلك فنحن اليوم في أمس الحاجة إلى الرجوع إلى كتاب الله لننهل منه ونتربى على مائدته ونحتكم إلى شريعته أنظمة وحكومات وجماعات وأفراد حتى نكون صورة صادقة لقوله : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، ثم شبك بين أصابعه) ([25]) دليل الوحدة والترابط والتآلف بين أبناء المجتمع الإسلامي .
والأمانة تقتضي نبذ الخلافات والقضاء على بذور الفرقة ، وأن نكون أمة متماسكة كالبنيان المرصوص القوي الشامخ ، قال تعالى : [إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ] {الصَّف:4} .
والأحرى بنا ونحن تتجاذبنا قوى الشر والبغي والفساد للشرق أو الغرب أن نرجع إلى كتاب ربنا وسنة رسوله وأن نوحد صفوفنا لكي تستعيد الأمة الإسلامية مكانتها ودورها القيادي المنوط بها في هذه الحياة ، والعودة بالبشرية المعذبة إلى منهج الله الذي يحقق الأمن والعدالة والمساواة والسلام .
المطلب الثاني : مجالات الأمانة :
المجالات التي تدخل فيها الأمانة كثيرة ومتعددة ؛ لأن الأمانة تدخل في جميع أعمال الإنسان التي يقوم بها على سطح هذه المعمورة ، لهذا سأتناول أهم المجالات التي تدخل فيها الأمانة ، وهي كالتالي :
1- الأمانة في الودائع التي تدفع إلينا لنحفظها فترة من الزمن ، ثم نردها إلى أصحابها عندما يطلبونها هي من الأمانات التي نُسأل عنها يوم القيامة ، ولنا الأسوة الحسنة في رسولنا الأمين حينما استخلف عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب ليسلم المشركين الأمانات والودائع التي استحفظها ، مع أن هؤلاء المشركين كانوا قد خططوا لقتله أو سجنه أو طرده من الديـار ، وأرغمـوه على الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ([26]) ، وذلك لأنه أدرك معنى [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ...] {النساء:58} وأن الشهيد يُسأل عنها يوم القيامة ، عن عبد الله بن مسعود قال : (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة ، قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة – وإن قتل في سبيل الله – فيقال : أدِّ أمانتك ، فيقول : أي رب ، كيف وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال : انطلقوا به إلى الهاوية ، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت له ، فيراها فيعرفها ، فيهوي في أثرها حتى يدركها ، فيحملها على منكبيه ، حتى إذا ظن أنه خارج نزلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين ، ثم قال : الصلاة أمانة ، والوضوء أمانة ، والوزن أمانة ، والكيل أمانة ، وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع) ([27]) .
2- أمانة الأعراض : إن العلاقة بين الزوجين ينبغي أن تقوم على أساس الأمانة المتبادلة في حفظ الأعراض والأسرار البيتية لكي يتولد الإخلاص والثقة بينهما في كل عمل فيه مصلحة الأسرة ، وإذا توفرت الأمانة والإيمان تنشأ الثقة بين الطرفين ويزول الشك والريبة ، ويصبح كل منهما عين ساهرة على الأسرة ومصالحها .
ولنعلم جيداً أنه إذا فقدت الأمانة داخل الأسرة ودخل مرض الشك والريبة بين الزوجين فهي بداية دمار الأسرة والتفريق بين الأبناء ، لذلك حرص الإسلام على تعزيز عنصر الأمانة بين أفرادها ، فالزوجة التي تحفظ زوجها في عرضها في غيابه ، وترعى الأمانة في ماله من الضياع والتبذير ، وتحفظ ولده وسائر شئون البيت ، فالإٍسلام جعلها شريكة للزوج في المسئولية عن رعاية البيت ([28]) .
جـاء في الحديث الشريف عن الأحوص أنه سمع النبي في حجة الوداع يقول : (ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فُرشكم من تكرهونه إلا بإذن في بيوتكم لمن تكرهونه) ([29]) .
يتضح من ذلك أن العرض أمانة فيجب على كل مسلم أن يعمل على حفظ الأعراض وصونها من الفاحشة ، وكذلك كل من تحت يدك أن تحفظهم عن الوقوع في آفة الزنا ، لذلك حرم الإسلام المقدمات التي تدعو إلى الزنا ، فقال تعالى : [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] {النور:30} ، وأمر النساء بما أمر به الرجال وزادهن تكليفاً عن الرجال وهو عدم إبداء الزينة وضرب الخمار وارتداء اللباس الشرعي حتى لا تكون المرأة عنصر غواية في المجتمع ، قال تعالى : [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ...] {النور:31} .
3- الأمانة في المعاشرة الزوجية :
إن كلا الزوجين أمين على أسرار صاحبه ، فالرجل أمين على زوجته ومطالب برعايتها والذود عنها ، والمحافظة على أسرارها فلا يجوز أن يذكر عيباً فيها لأحد لأنه لباس لها ، وهي لباس له في حفظ الأسرار وستر العورات ، وهما من نفس واحدة فكيف يتكلم أحدهما عن الآخر ؟! فإنه حينئذ يتكلم عن نفسه ، قال تعالى : [وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا] {النساء:21} ، وقال تعالى : [... هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ...] {البقرة:187} ، وجاء في معنى اللباس أقوال منها ، أن كلا الزوجين بمنزلة اللباس للآخر حيث إنهما يفضيان بأجسامهما لبعضهما البعض فكنّى عن اجتماعهما في البيت باللباس ؛ لأن كلاً منهما يستر صاحبه من العيوب ويصون عرضه ويحفظ شرفه ، وجاء اللباس بمعنى الهدوء والسكن وراحة النفوس حيث عبر عن الليل باللباس وهو يمتاز بالهدوء والسكن بالنسبة للنفس التي تعاني التعب والشقاء في النهار أثناء العمل وكسب القوت له ، ولمن يعولهم داخل الأسرة ([30]) .
والأمانة تقتضي أن المعاشرة بيـن الرجل وزوجه يجب أن تطوى في أستار مسبلة فلا يطلع عليه أحد مهما قرب منهما ، ولكن بعض السفهاء من العامة يثرثرون بما يقع بينهم وبين أهلهم من أمور ، فهذه وقاحة حرمها الله وهتك لأسرار الزوجية .
عن أسماء بنت زيد أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود عنده ، قال : (لعـل رجـلاً يقـول ما فعـل بأهله ، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها ! فأزم القوم - سكتوا وجلين - فقلت : أي والله يا رسـول الله إنهم ليفعلون ، وإنهنّ ليفعلن !! قال : فلا تفعلوا ، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون) ([31]) .
4- أمانة الأولاد :
إن الأبناء ثمرة الحياة الزوجية وأملها المرتجى وذكرها الممتد عبر الأيام والسنين فهم أمانة في أعناق الآباء ينبغي الاعتناء بهم منذ نعومة أظفارهم وإلى أن يصبحوا رجالاً ، فإذا رُزق الآباء بطفل فينبغي عليهم أن يسمعوه الآذان ويسموه بأحب الأسماء ويصنعوا له عقيقة ويحلقوا شعر رأسه ويتصدقوا بمقدار وزن شعره ذهباً أو فضة على الفقراء والمحتاجيـن ، حيـث جاء عن سمرة أنه قال : قال رسول الله : (الغلام مرتهن بعقيقته
يذبح عنه يوم السابع ويُسمى ويُحلق رأسه) ([32]) .
والأمانة تقتضي تربية الأولاد وتعليمهم ولا يجوز أن يترك الطفل بدون اعتناء من والديه فيتعلم من الشارع وأقران السوء الخصال القبيحة .
فالأب راع في بيته ومسئول عن رعيته ، فمن واجب الرعاية والمسئولية أن يكفل لأولاده الغذاء والكساء والنفقة عليهم في مراحل التعليم حتى يصبحوا أملاً للأمة وعدة للمستقبل ، قال تعالى : [لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللهُ ...] {الطَّلاق:7} .
كما ويجب المساواة بين الأولاد فلا تمييز بين ابن وآخر داخل الأسرة سواء في العطاء أو المأكل أو الملبس لكي يتم التآلف والتحابب بينهم وعدم المساواة بينهم تؤدي إلى الأمراض النفسية وضعف الشخصية .
وإن الرحمة بهم تزيدهم حباً بالآباء وتمسكاً وطاعة ([33]) ، عن عائشة قالت : قدم ناس من الأعراب على النبي فقالوا : أتقبلوا صبيانكم ؟ قالوا : نعم ، فقالوا : لكنّا لا نقبّل ، فقال النبي : (وأملك أن كان الله قد نزع منكم الرحمة) ([34]) .
فالقبلة التي يصنعها الآباء على وجنتي أطفالهم لهي لون من ألوان الرحمة والأمانة التي كلفنا الله سبحانه بتأديتها والمحافظة عليها .
5- أمانة الأموال :
إن الأمانة فضيلة لا تسمح للمسلم بأن يجمع المال حسبما شاء وبأي طريقة أراد ، بل فرّق القرآن الكريم بين الطرق المشروعة لاكتساب الرزق والطرق الغير مشروعة ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ...] {النساء:29} .
لقد نهت الآية عن أكل الأموال بالباطل ، وأوضحت الطريق المشروع لجمع المال وهي التجارة ، أي البيع والشراء عن تراضٍ بين الناس .
ومن الأمانة الابتعاد عن الغش في جمع المال ، قال تعالى : [وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:188} ليس من صفة المؤمنين أكل أموال الناس بالباطل ، وإنما هي من صفة الأحبار والرهبان الذين يصدون عن سبيل الله ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...] {التوبة:34} .
والأمانة تقتضي تحريم الربا ؛ لأنه أكل لأموال الناس بالإثم ، وبدون بذل أي جهد أو مشاركة في الربح والخسارة ، قال تعالى : [... وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ...] {البقرة:275} .
كما أن الأمانة تدفع صاحبها إلى الإنفاق من المال الحلال الطيب على الفقراء واليتامى والمساكين وذوي الحاجة والمعوزين من أبناء المجتمع لسد حاجتهم والنهوض بهم إلى مستوى الأغنياء ويتحقق التكافل والتضامن الاجتماعي بين أبناء المجتمع ، ويتم القضاء على البطالة والفقر ([35]) .
ونخلص إلى القول : بأنه إذا التزم الناس بمنهج الله وجمعوا المال وأنفقوه بالطرق المشروعة لأكلوا من بين أيديهم ومن تحت أرجلهم ، وتحفظ الثروات الاقتصادية ، ويصبح المجتمع قوياً متماسكاً يسوده التراحم والترابط والوحدة .
6- أمانة التعامل مع الناس :
لقد أمر الله بالحفاظ على الأمانة في التعامل مع الآخرين سواء في كتابة الدين أو الحقوق ، بأن تكون الكتابة وفق الأصل المتفق عليه بعيداً عن التغيير والتبديل ، وبدون زيادة أو نقصان ، قال تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ ...] {البقرة:282} ، وإذا كانت الكتابة من إنشاء كاتبها ، فالأمانة أن تكون مضامينها خالية من التلاعب بالحقائق .
قال تعالى : [وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ] {المؤمنون:8} ، تُبيّن هذه الآية الأمانة بين الناس وخالقهم من صلاة وغيرها ، وكذلك أنهم حافظون لأمانات الله وأمانات العباد وحافظـون لعهودهـم مع الله ومع العبـاد ، أي إذا اؤتمنـوا لم يخونوا وإذا عاهدوا لم يغدروا ، وهذه صفات المؤمنين وضدها صفات المنافقين ([36]) .
إن النفس البشرية بالفطرة تميل إلى التعامل مع الأمين الصادق حتى غير المسلمين يؤثرون الأمين ، فقد ورد قصة عن أهل نجران لما وافقوا على دفع الجزية فقالوا : إنا نعطيك ما سألتنا ابعث معنا رجلاً أميناً ، ولا تبعث معنا إلا أمينا ، فقال : لأبعثن معكم أميناً بحق وأرسل معهم أبا عبيدة وكان أميناً لهذه الأمة ([37]) .
وللأمانة في البيع والشراء دورٌ كبيرٌ في طمأنينة النفس واستتباب الأمن ؛ لأن صدق التعامل مع الناس وسيلة لزيادة الحب والتآلف بينهم ، لذلك أوصى التجار بالتزام الصدق والتقـوى والأمانـة لينالوا درجة الصديقين والشهداء ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي
قال : (التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء) ([38]) .
ودعا الإسلام إلى التزام الأمانة والسماحة في القضاء والتعامل ، وهذا أدبٌ رفيع وخلق اجتماعـي يُقرّب الناس من بعضهم ؛ لأنه يوجد الراحة في النفوس ، عن جابر بن عبـد الله أن رسول الله قال : (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) ([39]) .
7- الأمانة الوظيفية :
الرجل الأمين في عمله هو الذي لا يستغل منصبه في العمل لجر منفعة إلى شخصه أو قرابته ؛ لأن التشبع من المال العام جريمة .
والمعروف أن الحكومات والشركات والمؤسسات تمنح مستخدميها أموراً معينة ، فمحاولة التزيد عليها بالطرق الملتوية هي كسب حرام ، قال رسول الله : (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول) ([40]) ، فعلاً إنه حرام ؛ لأنه اختلاس من مال الجماعة الذي ينفق على الضعفاء والفقراء والمعوزين ، أو يرصد للمصالح الكبرى العامة كالجامعات والمستشفيات والمرافق العامة ، قال تعالى : [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {آل عمران:161} ، والغلول هو أخذ الشيء من الغنائم خفية واختلاساً فآخذه يأتي يوم القيامة حاملاً إياه على عنقه ، أي متحملاً مسئولية فعله ووزر ما ارتكبته ، وبذلك يستوجب العقاب ، يوم توفى كل نفس في الآخرة ما كسبت من خير أو شر فينال الغال جزاء فعله دون ظلم ([41]) ، قال تعالى : [وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا] {الكهف:49} .
وأيضاً من الأمانة وضع الرجل المناسب في المكان الجدير به فلا يجوز إسناد منصب إلا لصاحبه الجدير به ، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها ؛ لأن الأعمال العامة والوظائف أمانات ومسئوليات ثابتة من وجوه كثيرة : حيث جاء عن أبي ذر قال : (قلت : يا رسـول الله ألا تستعملنـي ؟ قـال : فضـرب بيده على منكبي ، ثم قال : يا أبا ذر إنك رجل ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها) ([42]) .
فلننظر إلى يوسف الصديق إنه لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب ، بل بحفظه وعلمه أيضاً ، قال تعالى : [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] {يوسف:55} .
وأبو ذر لما طلب الولاية لم يره الرسول جلداً لها ، فحذره من المسئولية ، والأمانة تقتضي بأن نصطفي للوظائف أحسـن الناس قياماً بها ، فإذا حدنا عن ذلك لرشوة أو هوى أو قرابة ، فقد ارتكبنا بتنحية القادر وتولية العاجز الضعيف خيانة جسيمة قال رسول الله : (من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) ([43]) .
8- أمانة المجالس :
إن للمجالس التي يشارك فيها الإنسان حقوقاً ، فلا يجوز كشف أسرار الناس في المجالس ، فكم من علاقات تقطعت ومصالح تعطلت ؛ لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس ، قال تعالى : [وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا] {الإسراء:36} .
فيحرم تتبع عورات الآخرين والمشي في قفاهم وهم لا يشعرون لمعرفة أسرارهم وإذاعتهـا بين الناس من خلال الحديث عنها أثناء الجلوس مع الآخرين ، قال : (إذا حدث
الرجل رجلاً بحديث ثم التفت فهو أمانة) ([44]) .
وحرمات المجالس تصان وتحفظ ما دام الذي يجري فيها مضبوطاً بقوانين الأدب وشرائع الدين ، وإذا خرجت عن هذا النطاق فتصبح من المجالس التي ليس لها حرمة ، وهي تتمثل في ثلاثة مجالس كالتالي :
أ- مجلس سفك فيه دم حرام ، فهذا يجب الشهادة به ، ولا يجوز كتمه ، بل كتمه خيانة عامة وخيانة لأولياء القتيل ، وخيانة لحق الله ، فمثل هذا المجلس لا حرمة له ولا أمانة له ؛ لأن أصحابه قـد خانـوا الله فيما استأمنهم عليه وخانوا أخاهم فاعتدوا على حياته ، ولم يكونوا أمناء مع أخيهم فخططوا لقتله مع سبق الإصرار والترصد .
ب- مجلس فيه اعتداء على عرض آمن ، فمجلس من هذا النوع لا حرمة له ولا أمانة له ، بشرط أن يتوفر به نصـاب الشـهود الأربعة حتى لا يدان بالقذف ، فحق الله سبحانه هو الأحق بالأمانة .
ج- مجلس تم الاعتداء فيه على مال بغيـر حـق ، فمثـل هذا المجلس لا حرمة له أيضاً ولا أمانة له لوجود المنكر فيه ، قال رسول الله : (المجلس بالأمانة ، إلا ثلاثة مجالس : مجلس سفك فيه دم حرام ، أو فرج حرام ، أو اقتطاع مال بغير حق) ([45]) .
لذلك ينبغي مصاحبة الأتقياء والجلوس في مجالسهم ، فهي مجالس خير ينتفع منها الجليس ، والابتعاد عن مجالس السوء التي تسبب النكد والفساد ، قال : (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كبائع المسك ونافخ الكير ، فبائع المسك إما أن تبتاع منه أو يحذيك أو تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحـرق ثيـابك ، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة) ([46]) .
9- أمانة البلد الحرام :
إن مكة المكرمة هي البلد الآمن ، وقد وردت آيات كثيرة تُبين حرمة هذه البقعة ، منها قوله تعالى : [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] {آل عمران:96} ، فهو أول بيت وضع للنـاس في الأرض ، وأخبر الحق تبارك وتعالى أنه يوجد فيه آيات بينات وهـو الحجـر الأسـود ، ومقام إبراهيم والملتزم وماء زمزم ، وهي أفضل بئر على الأرض ، وماؤهـا أفضـل ميـاه ، قـال تعالـى : [فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ
كَانَ آَمِنًا ...] {آل عمران:97} .
ويطلق على مكة أم القرى ، وهذا باتفاق المفسرين ، وسميت بذلك لأنها أشرف وأفضل من سائر البلاد وأحبها إلى الله ورسوله ([47]) .
ومن أسمائها البلد الأمين ، قال تعالى : [وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ] {التِّين: 1-3} ، والبلد الأمين هو مكة بلا خـلاف عند أحد المفسرين ، قال تعالى : [وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ...] {البقرة:125} ، فمكـة هي البلد الآمن لقوله تعالى : [... وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا ...] {آل عمران:97} ، حيث ذكر أ[و العالية الرياحي : "آمناً من العدو وأن يحمل فيه السلاح وقد كانوا في الجاهليـة يتخطـف الناس من حولهـم وهـم آمنون ولا يسبون" ([48]) ، قال تعالى : [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ...] {العنكبوت:67} .
وقال القرطبي في تفسيره عن مكـة المكرمة بأنها لم تزل حرماً من الجبابرة المسلطين ، ومن الخسوف والزلازل وسائر المثلات التي تحل بالبلاد ، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن عن غيرهم من البلدان ([49]) وهو استجابة لدعاء إبراهيم ، قال تعالى : [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] {إبراهيم:35} ، فهو في بلاد الأمن والسلام والسكينة والراحة ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يعرض له ، وقيل آمناً يعني الأمان لكل أحد حتى الوحوش ، وحتى الجمادات والأشجار ، لهذا كانوا في الجاهليـة يحترمونـه أشد الاحترام مع شركهم ، ولما جاء الإسلام زاد حرمته تعظيماً وشرفاً وتكريماً ([50]) .
وجعل مكة بلداً آمناً ورزق أهله من الثمرات وأصبحت القلوب تحن إليها والأرواح تشتاق لزيارتها ولو في كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم ، قال تعالى : [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] {إبراهيم:37} .
وأصبحت مكة بلداً آمناً ، وفيها من الأرزاق الشيء الكثير ببركة دعاء أبي الأنبياء ، وتوفر فيها الأمن وهو ضد الخوف ، وهو يطلق على عدم الخوف من عدو أو من قتال ([51]) .
المبحث الثالث
الأمانة من صفات الملائكة والأنبياء
لقد تحدثت في هذا المبحث عن أهل الأمانة فذكرت منهم الملائكة وعلى وجه الخصوص جبريل أمانته في توصيل الوحي إلى المرسلين ، كما تحدثت سابقاً عن أمانة المؤمنين ، وفصّلت القول في الحديث عن أمانة الأنبياء والمرسلين ، وأنها صفة من صفاتهم إلى يوم الدين .
المطلب الأول : الأمانة من صفات الملائكة :
لقد وعد الله – سبحانه – القائمين بالأمانة على وجهها الأجر الجزيل والثناء العظيم ، أما الملائكة فكلهم قائم بأدائها على وجهها الكامل لأنهم لا يعصـون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وهم مسيرون لفعل الخير على الوجه الذي يحبه الله ويرضى عنه .
قال تعالى : [... لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] {التَّحريم:6} ، فهم يتميزون بالطاعة الكاملة إلى الله ربهـم ، فهـم لا يخالفـون أوامـر الله تعالى ، ويؤدون ما يؤمرون به في وقته المحدد من غير تراخ ، فلا يؤخرونه ولا يقدمونه ، وهم قادرون على تنفيذ الفعل ، وليس بهم عجز عن تأدية الأمر الإلهي لهم ([52]) ، قال تعالى : [عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ] {الأنبياء:27} ، فهـم مطيعـون لله تعالـى ، لا يعصون بحال من الأحوال ، قال تعالى : [يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] {النحل:50} .
وأخبر الله سبحانه عنهم أنهم منزهون عن الأعراض البشرية كالجوع والمرض والأكل والشرب والنوم والتعب ([53]) ، قال تعالى : [يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ] {الأنبياء:20} .
فهم الكرام الكاتبون لأعمال البشر المؤتمنون في إحصائها عليهم ، فعلى يمين كل مكلف ملك يكتب صالح أعمالـه ، وعن يساره ملك يكتب سيئات أعماله ، قال تعالى : [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ] {الانفطار: 10-12} .
إن الأمانة من صفـات الملائكة الأبرار ، ومنهم جبريل الذي نزل بالقرآن الكريم على قلب النبي الأمين محمد ، قال تعالى : [وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ] {الشعراء: 192-195} .
نزل به جبريل الأمين على الوحي والرسالة ، ذو المكانة عند الله المطاع في الملأ الأعلى ، على قلبك ، أي على روحك المدركة الواعية ، وفهمك إياه ، بدون زيادة أو نقصان بما فيه من أخبار عن القصص للأنبياء مع أقوامهم والأمم الغابرة ، لتنذر به قومك والعالم كله بأس الله ونقمته على من خالف وكذب هذه الدعوة ، وتبشر به المؤمنين المصدقين له بالجنة والنعيم المقيم في الآخرة ([54]) .
وجاء وصف جبريل بالأمانة في قوله تعالى : [مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ] {التَّكوير:21} ، أي مطاع ومسموع القول في الملأ الأعلى في السماوات ، فهو من السادة الأشراف في الملائكة الأطهار ، أناط الله به توصيل هذه الرسالة العظيمة وتبليغ الوحي الرسول .
فقوله تعالى : [أَمِينٍ] صفـة لجبريل بالأمانـة ، ووصف عظيم من الله رب العالمين بأن زكى عبده ورسوله الملائكي جبريل ، كما زكى عبده محمد بهذا الخلق الرفيع ([55]) .
المطلب الثاني : الأمانة من صفات الأنبياء :
إن الأمانة شرط أساسي لاصطفاء الرسل ، وهي من أبرز أخلاقهم ، فلولا أنهم أمناء على ما يعود بالنفع على أمتهم ، وحريصون على هداية وإرشاد أقوامهم لما استأمنهم الله على رسالاته لخلقه ، فقد نادى جميع الأنبياء الأقوام الذين أرسلوا إليهم بقولـه تعالـى : [... وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ] {الدُخان:17-18} ، وقوله تعالى : [أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ] {الأعراف:68} .
"أي إني رسول من الله إليكم أمين فيما بعثني به ، أبلغكم رسالات ربي ولا أزيد عليها ولا أنقص ومأمون على تبليغ هذه الرسالة" ([56]) .
وكل رسول كان لسان دعوته لقومه ولسان حاله الذي يخاطب به الناس إني لكم رسول ناصح أمين ، معبراً عن ثقل التبعة ، وخطر ما يعلمه من عاقبة ما هم فيه من الجاهلية في الدنيا ، ورغبته في هداية قومه وهو منهم وهم منه ، وفي كل مرة يقف الملأ الذين استكبروا موقف الرفض ، وعدم الاستسلام والخضوع لهذا الدين ، وهذه القضية التي قامت عليها الرسالات ، وقام عليها دين الله كله في الأرض ([57]) .
ولقد تجلى هذا الخلق العظيم في دعوة الأنبياء والمرسلين جميعاً لأقوامهم ، وسنذكر منهم التالي :
1- نوح :
لقد لبث نوح في قومه زمناً طويلاً يدعوهم إلى عبادة الله رب العالمين ، ومع ذلك لم يؤمن معه إلا القليل ، قال تعالى : [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ...] {العنكبوت:14} .
ويوضح لهم نوح أنه ليس عجيباً أن يأتيهم وعظ وإرشاد على لسان رجل منهم ينذرهم عذاب الله ويدعوهم إلى رحمته ورضوانه ، قال تعالى : [قَالَ المَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] {الأعراف: 60-62} .
يصور القرآن استعلاء قوم نوح ورفضهم الاستجابة لدعوته واتهامهم له بالضلال ، كما يصوّر نوحاً الرسول الصابر الملاطف الذي يحاول إصلاحهم ، فيخاطبهم بأدب : يا قوم ليس بي ضلالة كما تزعمون ، ولكني رسول من رب العالميـن ، أبلغكم رسـالة ربي ، وإني لكـم ناصح أمين ، بما يحقق لكم الصلاح ويبعدكـم عـن الشقاء ، وقد علمني الله ما لا تعلمون ([58]) .
2- هود :
لقد دعا هود قومه عاد إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة الأصنام ، قال تعالى : [وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ] {الأعراف:65} .
ولكن ماذا كان تأثير هذه الدعوة على قومه ؟ لقد احتقروا هوداً واستصغروا شأنه ووصفوه بالسفاهة والطيش والكذب ، ولكنه ردّ هذه التهم الباطلة مؤكداً لهم أنه رسول من رب العالمين يبلغهم رسالة ربه وهو ناصح لهم أمين ([59]) ، قال تعالى : [قَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ] {الأعراف: 66-68} .
قال لقومه ليس بي سفاهة وهو ردٌ في قمة الأدب ولم يقابلهم بالمثل مع علمه أن أعداءه هم أضل الناس وأسفههم ، إنها النبوة التي تمثل الخلق العظيم والقدوة الحسنة للناس جميعاً .
3- أمانة صالح :
أرسل الله نبيه صالحاً إلى قومه ثمود ، فدعاهم إلى ترك عبادة الأصنام ، وأن يعبدوا الله وحده ، وذكّرهم بنعم الله عليهم حيث كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً ومساكن فرحين بها ، وينعمون بجنـات وعيون ، وزرع ونخيل ومقام كريم ، قال تعالى : [إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ] {الشعراء: 143-150} .
أخبر صالح قبيلة ثمود التي جحدت رسالة نبيها بدعوته إلى عبادة الله وترك الكفر والشرك وحضهم على التقوى وأمرهم بها ؛ لأن في الإيمان نجاتهم والمراد من التقوى اتقاء عذاب الله بالإيمان به وتوحيـده وطاعتـه وطاعة رسوله وقال لهم : إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينْ يخبرهم بأنه مرسل من الله تعالى إليهم وأمين على رسالة الله وما تحمله هذه الرسالة من العلم والبينات والهدى ، وأخبرهم بكل صراحة أنه لا يطلب مهم أجراً على التبليغ وإنما الأجر من الله رب العالمين ([60]) .
4- أمانة لوط :
لقد وصف الله سبحانه نبي الله لوط بالأمانة في تبليغ رسالته حينما دعا قومه بأن يمتثلوا أمر الله الذي يحقق لهم الهدى والرشاد ، ونهاهم عن الفساد حيث إنهم خالفوا نظام الحياة الطبيعي والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ففعلوا الفاحشة في الذكور وتركوا ما خلق الله لهم من الزوجات ، والفطرة تقتضي أن يتصل الذكر بالأنثى ، قال تعالى : [كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُــــونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْــهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ *
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ] {الشعراء: 160-166} .
وكان أميناً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حينما أنكر عليهم تجاوزهم لحد الحكمة في ترك محل الحرث ، الحافظ للنسل الذي به حفظ للنوع البشري وإيثارهم لإتيان الذكور شرهاً في الشهوة الحيوانية ([61]) .
ولما لم ينتهوا عما نهوا عنه وأصروا على ارتكاب الفاحشة ، حلّ بهم عذاب الله ، فجعل عالي القرية التي كان يعيش بهـا نوح سافلها ، وأمطر عليهم مطراً فساء مطر المنذرين ، قال تعالى : [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] {هود: 82-83} .
5- أمانة شعيب :
بعد أن أهلك الله أهل مدين ونجّا شعيباً والذين آمنوا معه أرسله الله إلى أصحاب الأيكة وهي بقاع خصبة بأشجارها وكثرة مائها فخاطبهم شعيب : إني مرسل من رب العالمين لهدايتكم وإرشادكم ، وإني أمين في توصيل رسالته إليكم فاحذروا عقوبة الله وأطيعوا أمره وأوفوا الكيل والميزان بالحق ولا تبخسوا الناس أشياءهم .
واستمروا في تكذيب شعيب فأرسل الله عليهم الصاعقة أخذ عزيز مقتدر ، قال تعالى : [كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ * أَوْفُوا الكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] {الشعراء: 176-183} .
وانظر الأمانة في دعوة شعيب عندما دعاهم إلى الأمانة في البيع والشراء وترك الغش والتلاعب في الوزن والمكيال وترك الفساد في الأرض ؛ لأن ذلك يؤدي إلى سخط الله وإنزال العقاب الرباني فيهم .
وما أحوجنا اليوم إلى الأمانـة فـي كـل شيء وخاصة إلى ضبط الموازين والمكاييل وإنزال العقوبة الشديدة في المتلاعبين في أكل أموال الناس بالباطل ، قال تعالى : [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ] {المطَّففين: 1-3} .
6- أمانة يوسف :
إن حياة يوسف كانت مليئة بالمحن منذ أن كان طفلاً إلى أن توفاه الله ، وكان يخرج من هذه المحن بزيادة الإيمان أصلب عوداً وأقوى عزيمة ؛ لأنه كان يلمس عناية ورعاية الله له في كل موقف كان يواجهه في هذه الحياة .
ولقد واجهت يوسف ثلاث محن في حياته ، لكنه تغلّب عليها بأمانته وصبره وتوكله على الله رب العالمين ، وبرعاية الله وعنايته بيوسف الأمين ، استطاع في نهاية المطاف أن يكون هو المنتصر على تدبير ومكائد الشيطان ، وهذه المحن تتمثل في التالي :
أ- يوسف وتآمر إخوته :
لقد تآمر إخوة يوسف على قتله وهو غلام صغير لا يملك من الحول والقوة شيئاً ، ثم اكتفوا بإلقائه في البئر ، وفعلاً نفذوا جريمتهم ، وأصبح الغلام يستسلم للموت بين جدران البئر ، فاستنجد بالله رب العالمين ولجأ إلى حماه ، فكان حسبه وكافية وحامية ، فتنزل عليه الغيث الإلهي فجاءت قافلة لتخرجه من البئر وتصحبه إلى مصر ، قال تعالى : [فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] {يوسف:15} .
ب- يوسف ومكيدة امرأة العزيز :
لقد ظهرت فضيلة الأمانة واضحة في تعامل يوسف مع غواية امرأة العزيز له ، التي عملت كل حيلة من أجل إغرائه وإغوائه حيث استعملت دواعي الغواية الثلاث التي تمثلت في : 1- المراودة عن النفس 2- تغليق الأبواب 3- التهيؤ ... وقابل يوسف هذه الفتنة بدواعي ثلاث من العفة والفضيلة هي : 1- معـاذ الله إنه ربي – يعني اللجوء إلى الله – 2- أحسن مثواي 3- إنه لا يفلح الظالمون ([62]) .
لقد أعمل العقل أمام المغريات فتغلب على العاطفة فاستمسك بإيمانه واعتصم بربه ، وهذه أخلاق المؤمنين الأمناء على أنفسهم وخالقهم والناس ، وبعون الله لم يقدر عليه الشيطان ؛ لأنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون .
ولقد صور القرآن الكريم هذا المشهد أبدع تصوير في قوله تعالى : [وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] {يوسف:23} .
ج- يوسف ومحنة السجن :
دخل يوسف السجن زوراً وبهتانـاً ومكث فيـه بضـع سنين بسبب التهمة الملفقة الكاذبة والتي ظهرت براءته منها ، قال تعالى : [فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئِينَ] {يوسف: 28-29} ، ثم اعترفت أمام النسوة بصريح العبارة ببراءة يوسف الصديق ، قال تعالى : [قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الآَنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ] {يوسف: 51-52} .
وأُعجب السجناء به لصدقه وأمانته ولأنه كان ينبؤهم من تأويل الرؤى وأخذ يدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهار ، قال تعالى : [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ] {يوسف:39} .
ولما ظهرت براءة يوسف وعفته أمام عزيز مصر ازداد ثقة به وميلاً إليه خصوصاً أنه قد علم فيه الذكاء والفهم وتأويله للرؤيا ، فوافق الملك على تولية يوسف أمور مصر الاقتصادية وجعل له سلطة على أرض مصر يتصرف كما يريد ، وهذا شأن الله في عباده المخلصين ([63]) ، قال تعالى : [وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ] {يوسف: 54-56} ، وطلب يوسف للإمارة على خزائن الأرض لم يناقض الأخلاق الرفيعة التي تحلى بها من الأمانة والإخلاص والصدق والتوكل ؛ لأن سؤاله للمسئولية لم يكن من قبيل سؤال الإمارة المنهي عنه في السنة النبوية ، بل إنه سأل الولاية للمصلحة الدينية ؛ لأنه الأمين ولا يستطيع أحـد أن يقـوم مقامه فـي ذلك المنصب الحساس في الدولة آنذاك الذي يحتاج لأمثال يوسف ([64]) .
7- أمانة موسى :
عندما توجه موسى تلقاء مدين ، ولما ورد ماءها وجد عليه أمة من الناس يسقون أنعامهم ومواشيهم ، ووجد في مكان آخر امرأتين تمنعان غنمهما من ورود الماء مع الرعاة ، لئلا تختلط أغنامهما مع غيرها ، ولما رآهما موسى رقّ لهما ورحمهما فسألهما لماذا لم تردن الماء ؟ قالتا : لا نسقي غنمنا حتى يفرغ القوم من السقي ، وأبونا لا يستطيع الرعي والسقي بنفسه ؛ لأنه شيخ كبير ، وفي هذا استعطاف لموسى في مساعدتهما ، فسقى لهما ، ثم تولى إلى الظل متضرعاً ، ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ، وفيه دليل على أنه سقى لهما في حر الشمس وعلى كمال قوة موسى .
ولما رجعت المرأتان إلى أبيهما استغرب وسألهما عن خبرهما ، فقصتا عليه ما فعل موسى فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها فجاءته تمشي على استحياء , وهي مختمرة بخمارها , ساترة وجهها بثوبها وقالت في أدب وحياء , إن أبي يدعوك ليكافئك على إحسانك لنا ويعطيك أجر سقيك لغنمنا , وتبع موسى المرأة إلى بيت أبيها , وطلب منها أن تسير خلفه كيلا ينظر إليها وهذا أدب الرجال الذين تربوا على الأمانة وأعدهم الله إلى النبوة .
وطلبت إحدى ابنتي شعيب استئجار القوي الأمين موسى لرعي أغنامهم , فإن خير مستأجر هو , لأنه القـوي علـى حفظ الماشـية والقيـام برعايتها والمؤتمن الذي لا تخاف من خيانتـه , وصفتـه بأفضل الصفات , القوة في القيام بالتكيف , والأمانة في حفظ الشيء .
قال لها أبوها : وما أخبرك بذلك ؟ قالت له : إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال , ولما جئت معه تقدمت أمامه , فقال لي كوني من ورائي , فإذا اختلفت عليّ الطريق فاقذفي بحصاة لأهتدي بها على الطريق ([65]) .
قال تعالى : [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] {القصص:26} , ومما تقدم يتضح الذكاء والفراسة التي كانت تتصف بها ابنة شعيب عندما علمت الأمانة والقوة من صفات موسى , قال عبد الله بن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : أبو بكر حين تفرس في عمر , وصاحب يوسف حين قال : (أكرمي مثواه) وصاحبة موسى حين قالت : (يا أبت استأجره , إن خير من استأجرت القوي الأمين) ([66]) .
8- أمانة النبي محمد :
لقد عرف الناس النبي بالأمانة والصدق حتى لقبته قريش بالصادق الأمين ويدل على ذلك قصة رفع الحجر الأسود عند بناء الكعبة المشرفة وبعدما تنازعوا في استحقاق شرف رفعه ووضعه في مكانه من البيت حتى كادوا يقتتلون لولا أنهم احتكموا لأول من يدخل من باب الصفا وكان هو أول من دخل فقالوا قبلنا به حكماً هذا هو الصادق الأمين ,
فرفعوه في ثوب ثم أخذه بيديه ووضعه في الركن المعد له في الكعبة المشرفة .
وكانت ثقة أهل قريش بالنبي كبيرة فكانوا يرتاحون عندما يضعون الأمانات والودائع عند رسول الله وحتى بعد أن أظهر الدعوة فعادوه , واتضح ذلك عندما ترك علياً بن أبي طالب في مكة بعد هجرته ليرد ودائع الناس التي كانت عنده فأقام علي بن أبي طالب بمكـة ثـلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس ([67]) .
وكان ترجمة للقرآن في أعماله وخلقه وأمانته ، ومثالاً يحتذى ويقتدى به في رد الأمانات إلى أصحابها , لأنه يعمل بقول الله تبارك وتعالى : [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا] {النساء:58} .
وقال : ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة , قال : كيف إضاعتها يا رسول الله , قال : إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) ([68]) .
الخاتمة
الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين القويم وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الذي تتم بفضله الصالحات والصلاة والسلام على رسولنا الحبيب محمد وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد :
قبل الختام لخلاصة الكلام في بحث عنوان : (الأمانة في القرآن الكريم - دراسة موضوعية) تَمَّ التوصل إلى أهم النتائج وهي كالتالي :
1- ظهرت أهمية هذا البحث من خلال دراسته كموضوع قرآني يضع الأيدي على مكامن القوة في المجتمع عندما يلتزم الجميع بخلق الأمانة , ومكامن الضعف والتفرقة وضياع طاقات ومقدرات الأمة إذا ضاعت الأمانة ووسد الأمر إلى غير أهله في المجتمع , لذلك فنحن في أمس الحاجة إلى التذكير بها في مجتمعاتنا المعاصرة .
2- تم التعرف على عدد مرات الاستعمال القرآني للفظة الأمن حيث وردت في إحدى وثلاثين آية من آيات القرآن وتم معرفة المكي والمدني منها والوقوف على الصيغ والاشتقاقات الواردة حول موضوع الأمانة .
3- ظهر لنا أن أكثر ورود لفظة الأمانة والتذكير بها في القرآن المكي وهذا دليل على أن الناس إذا ابتعدوا عن هذا الدين كانوا أكثر ضياعاً للأمانة وبالتالي فهم أكثر احتياجاً للتذكير بها وحملها والعمل بمقتضاها , وهذا لا يعني أن السور المدنية خلت من ذكرها , بل ظهر التذكير بها في السور المدنية ؛ لأنه ربما لا يحافظ عليها بعض ضعاف الإيمان في المجتمع .
4- كشف البحث عن المعنى اللغوي لمادة أمن من خلال المعاجم اللغوية وأوضح المعنى الشرعي للأمانة وبيان أنواع الأمانة ومعانيها المتعددة والمجالات الكثيرة التي تدخل فيها الأمانة وذلك لإفادة القارئ الكريم والناس عامة .
5- ظهر من خلال الدراسة الاستقرائية التحليلية المتعلقة بالآيات القرآنية لموضوع الأمانة بيان فضلها وأهميتها في بناء المجتمع الفاضل على خلق الأمانة .
تم بحمد الله
ثبت المصادر والمراجع
1- الأخـلاق فـي الإسـلام , د. كايد فرعوش وخالد القضاة وآخرون , ط:1 (1420هـ - 1999م) الناشر : دار المناهج , عمان .
2- إرشاد العقل إلى مزايا القرآن الكريم , للإمام أبي السعود , طبعة دار إحياء التراث العربي , بيروت .
3- أنوار التنزيل وأسرار التأويل ( المسمى تفسير البيضاوي ) للإمام نصر الدين البيضاوي , ط: (1402هـ - 1982م) دار الفكر .
4- أساليب البيان في القرآن والسنة , د.عصام العبد زهد وزكريا إبراهيم الزميلي , ط:1 (1428هـ - 2007م) , دار المقداد للطباعة .
5- أيسـر التفاسير لكـلام العلـي الكبيـر , لأبي بكر جابر الجزائري , ط:3 (1418هـ - 1997م) , الناشر مكتبة العلوم والحكم , المدينة المنورة .
6- تفسـير القرآن العظيم , للإمام ابن كثيـر الدمشـقي , ط:1 (1214هـ - 1992م) دار الفيحاء للطباعة والنشر .
7- تفسير القرآن الحكيم , المشهور باسم "تفسير المنار" للشيخ محمد رشيد رضا , الطبعة الرابعة , دار النشر مكتبة القاهرة .
8- التفسـير المنيـر فـي العقيدة والشرعة والمنهج , للأستاذ الدكتور وهبي الزميلي , ط: (1418هـ - 1998م) , دار الفكر , دمشق , سورية .
9- تفسير الجامع لأحكام القرآن الكريم , للقرطبي , تحقيق أحمد عبد العليم البردوني , ط:2 (1372هـ ) دار الشعب , القاهرة .
10- تفسير في ظلال القرآن , سيد قطب , ط:15 (1386هـ - 1967م) ط : دار إحياء التراث العربي , بيروت , لبنان .
11- تيسير الكريم الرحمـن فـي تفسير كلام المنان , عبد الرحمن بن ناصر السعدي , طبعة جديدة (1423هـ - 2002م) المكتبة العصرية , صيدا , بيروت .
12- خلق المسلم , محمد الغزالي , ط1 (1400هـ - 1980م) طبعة دار القلم , دمشق , بيروت .
13- السلوك الاجتماعي في الإسـلام , حسـن أيـوب , ط:5 , (1407هـ - 1987م) دار التراث العربي للطباعة والنشر .
14- لسان العرب , لابن منظور , طبعة جديدة , الناشر : دار المعارف , القاهرة .
15- عقيدة المؤمن , أبو بكر الجزائري , دار إحياء الكتب العربية , ط1 , فيصل عيسى البابي الحلبي .
16- عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ , شهاب الدين أحمد بن يوسف الحلبي الشافعي المعروف بالسمين , تحقيق محمود محمد السيد , ط : 1 (1407هـ - 1987م) .
17- فقه السيرة , محمد رمضان سعيد البوطي , ط (1399هـ - 1979م) دمشق .
18- محاسن التأويل , المسمى تفسير القاسمي , محمد جمال الدين القاسمي , ط : 2 (1398هـ - 1978م) , دار الفكر .
19- مجمـوع فتـاوى ابن تيميـة , طبـع بأمر خادم الحرمين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود , إشراف الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين , يوزع مجاناً .
20- مع الأنبياء في القرآن الكريم , عفيف عبد الفتاح طبارة , ط : 15 (1985م) دار العلم للملايين , بيروت , لبنان .
21- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم , محمد فؤاد عبد الباقي , ط ( دار الحديث ) القاهرة .
22- معجـم مقاييس اللغة , أحمد بن فارس , تحقيق عبد السلام هارون , ط : 1 (1411هـ - 1991م) دار الجيل , بيروت .
23- المفردات في غريب القرآن , للعلامة الراغب الأصفهاني , تحقيق صفوان موسى الحسين الكوفي , ط : 3 (1423هـ - 2002م) دار العلم , دمشق .
24- منهـاج المسلم , أبو بكر جابر الجزائري , ط : 8 (1396هـ - 1976م) القاهرة , دار فينوس .
-1-
[1]() انظر : معجم مقاييس اللغة لابن فارس ، ج1 ، ص 133 .
[2]() انظر : مفردات في غريب القرآن الكريم ، ص 90 .
[3]() انظر : عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ ، ص 26 .
[4]() لسان العرب ، ج1 ، ص 140 .
[5]() انظر : موسوعة أخلاق القرآن للشرباصي ، ج2 ، ص 15 .
[6]() الأخلاق في الإسلام د. كايد فرعوش وخالد القضاة وآخرون ، ص 122 .
[7]() انظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، محمد فؤاد عبد الباقي ، ص 81-89 .
[8]() انظر : تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير 3/689 ، وانظر : التفسير المنير ، للزحيلي ، 9/297 .
[9]() السنن الكبرى ، ج6 ، ص 288 ، باب الترغيب في أداء الأمانات ، حديث رقم (13065) .
[10]() انظر : التفسير المنير 5/122 .
[11]() مسند الإمام أحمد ، ج12 ، ص 137 ، حديث رقم (7204) .
[12]() انظر : تفسير البيضاوي ، ص 514 .
[13]() تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، للسعدي 2/154 .
[14]() انظر : أيسر التفاسير 2/83 ، 84 .
[15]() صحيح البخاري ، ج40 ، ص 141 ، باب (الإدلاج من المحصب) ، حديث رقم (3360) .
[16]() الجامع لأحكام القرآن 7/326 ، وانظر : التفسير المنير 9/266 .
[17]() انظر : في ظلال القرآن 2/109 .
[18]() انظر : خلق المسلم ، محمد الغزالي ، ص 46-53 .
[19]() صحيح مسلم ، ج1 ، ص 88 ، باب رفع الأمانة والإيمان ، حديث رقم (384) .
[20]() مسند الإمام أحمد ، ج2 ، ص 206 ، حديث رقم (6925) .
[21]() انظر : تفسير السعدي 1/244 .
[22]() تفسير القرآن العظيم 1/450 .
[23]() انظر : الجامع لأحكام القرآن 5/245 .
[24]() انظر : تفسير أبي السعود 1/544 .
[25]() فتح الباري ، ك الأدب ، باب 36 ، رقم (6026) ، ج10/445 ، 450 .
[26]() فقه السيرة ، للبوطي ، ص 178 .
[27]() شعب الإيمان ، للبيهقي ، ج4 ، ص 323 ، حديث رقم (5266) .
[28]() انظر : منهاج المسلم ، ص 92 ، 93 ، وأيضاً في رحاب الإسلام ، ص 347 .
[29]() سنن الترمذي ، مجلـد 3 ، ك الرضـاع ، باب (حق المـرأة علـى زوجها) ، ص 467 ، حديث رقم (1163) .
[30]() انظر : تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن 1/504 .
[31]() المعجم الكبير للطبراني ، ج24 ، ص 162 ، حديث رقم (414) .
[32]() أخرجه الترمذي ، ج .. ، ص 101 ، حديث رقم (1522) ، وأخرجه ابن ماجة 2/1056 ، 1057 ، حديث رقم (3165) .
[33]() انظر : السلوك الاجتماعي في الإسلام ، ص 236 .
[34]() مسلم ، مجلد 4 ، ك الفضائل ، باب 15 ، ص 808 ، رقم 64 ، وأخرجه ابن ماجة 4/1209 ، حديث رقم (3665) .
[35]() انظر : تفسير المنار 2/201 .
[36]() انظر : تفسير القرآن العظيم 4/319 .
[37]() انظر : في ظلال القرآن ج29 ، ص 285 .
[38]() الترمذي ، مجلد 3 ، ك البيوع ، باب4 ، ص 515 ، رقم 1203 .
[39]() ابن ماجة ، ج2 ، ص 742 ، باب 28 السماحة في البيع ، رقم 2203 .
[40]() أخرجه أبو داود في سننه ، ج41 ، باب3 في أرزاق ، ص 435 ، حديث رقم (45697) .
[41]() التفسير المنير 4/148 .
[42]() صحيح مسلم ، ج6 ، باب4 كراهية الأمارة ، ص 6 ، حديث رقم (4823) .
[43]() أخرجه الحاكم في مستدركه ، ج41 ، ص 435 ، حديث رقم (45694) .
[44]() أخرجه أبو داود ، ك كتمان السر ، ج6 ، ص 545 ، وحسنه الترمذي .
[45]() أخرجه أبو داود في سننه ، ج4 ، ص 268 ، حديث رقم (4869) .
[46]() صحيح البخاري ، باب الإدلاج من المحصب ، ج7 ، ص 96 ، حديث رقم (5534) .
[47]() انظر : تفسير ابن كثير 4/107 .
[48]() انظر : الجامع لأحكام القرآن 2/110 .
[49]() تفسير القرطبي 2/177 .
[50]() تفسير السعدي 1/111 .
[51]() انظر : تفسير القرآن العظيم 1/231 .
[52]() التفسير المنير 28/317 ، 318 .
[53]() انظر : عقيدة المؤمن ، ص 159 .
[54]() التفسير المنير 19/221 ، وأيضاً : محاسن التأويل 8/45 .
[55]() انظر : تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير 3/615 .
[56]() تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير 3/356 .
[57]() في ظلال القرآن 8/539 .
[58]() انظر : مع الأنبياء في القرآن الكريم ، ص 63 .
[59]() انظر : تفسير البيضاوي ، ص 210 .
[60]() انظر : أيسر التفاسير 3/670 .
[61]() انظر : محاسن التأويل 8/37 .
[62]() انظر : أساليب البيان في القرآن والسنة ، ص 47 .
[63]() انظر : مع الأنبياء ، ص 172 ، 173 .
[64]() انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (15/113-115) .
[65]() انظر التفسير المنير (20/86,85) .
[66]() أخرجه الحاكم في مستدركه , ج2 , ص376 , حديث رقم 3320 .
[67]() انظر فقه السير , ص178 .
[68]() صحيح البخاري , ج8 , ص104 , باب الإدلاج من المحصب , حديث رقم 6496 .