تعريف الفونيتيك والفنولوجيا والفرق بينهما
أولا تعريفهما : يطلق على علم الأصوات مصطلح "الفونيتيك " وعلى علم وظائف الأصوات مصطلح "الفنولوجيا". ويبحث كلاهما في أصوات اللغة، وإن اختلفت أساليب البحث، واختلفت جوانبه في كلٍّ منهما بحسب وجهات نظر الدارسين.والمصطلح الأول: "فوناتيك" أكثر شيوعًا واستعمالًا من مصطلح "الفنولوجيا" وأوسع منه في التطبيق؛ إذ غالبا ما يُطلق ويراد به الدراسات الصوتية بعامة، فيشمل حينئذ ما يقع تحت الفنولوجيا، وقد كان هذا الإطلاق الواسع هو العرف السائد في القديم وحتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، ولما تقدم الدرس الصوتي بفضل الجهود المتواصلة ومساعدة الأجهزة والآلات استطاع العلماء أن يقفوا على حقائق صوتية لم تكن معروفة لهم من قبل، واكتشفوا أن للصوت جوانب يقتضي كل جانب منها النظر بأسلوب يختلف عما يُتبع مع الجانب الآخر، ووجدوا أنه من الأوفق والأنسب أن يُخصص فرع من العلم، أو منهج من الدراسة لكل من هذه الجوانب، أو لكل مجموعة منها؛ فكان أن وزّعوا الدراسة الصوتية على هذين الفرعين اللذين يُسمّيان بالفونيتيك، والفنولوجيا، أو علم الأصوات، وعلم وظائف الأصوات.
ثانيا : الفرق بينهما: لقد تعددت آراء الدارسين وتنوعت في التفريق بينهما بسبب اختلاف المبادئ والفلسفات في النظر إلى الحقائق الصوتية، وإلى طبيعة اللغة ذاتها، والفونيتيك عند مقابلته بالفنولوجيا يصبح ذا مدلول ضيّق نسبيًّا؛ إذ يُطلق حينئذ ويُراد به دراسة الأصوات من حيث كونها أحداثًا منطوقة لها تأثير سمعيّ معين، دون نظر في قيم هذه الأصوات، أو معانيها في اللغة المعينة، إنه يُعنَى عندئذ بالمادة الصوتية لا بالقوانين الصوتية، وبخواص هذه المادة، أو خواص الأصوات بوصفها ضوضاء، لا بوظائفها في التركيب الصوتي للغة من اللغات؛ ولهذا يُعرّب المصطلح فوناتيكس بفوناتيك، وترجمته: علم الأصوات، والذين يُعرّبونه تعريبًا صوتيًا لا بالترجمة لا يقصدون إلى الترجمة؛ لأن ترجمته إلى علم الأصوات في سياق المقابلة بينه وبين الفنولوجيا قد تؤدي إلى اللبس؛ فقد يؤخذ على أن المقصود به دراسة الأصوات بعامة، دون تفريق بين جوانب هذه الأصوات، أو منهج البحث فيها، ولم يشأ هؤلاء أن يُترجموه إلى "علم الأصوات العام" كما يفعل بعض الدارسين معتمدين على صفة العموم في ميدانه وطريقة البحث فيه، لم يفعلوا ذلك لأن هذه الصورة العربية إنما تُناسب المصطلح الانجليزي الآخر وهو "جنرال فوناتيكس" وهذا الاصطلاح "جنرال فوناتيكس" أو "علم الأصوات العام" إن كان ليس من النادر إطلاقه على ما يقابل الفنولوجيا، إنما يؤتى به عادة لتأكيد جانبين اثنين، أو ناحيتين اثنتين: الأولى: كون هذا العلم إنما يوجّه اهتمامه نحو القضايا الصوتية في عمومها، بما في ذلك ما قد يجد له، وما قد يتيح له أن يكون له مكان مناسب في الفنولوجيا عند القائلين بالتفريق، أو عند إرادة التفريق، وحقيقة الأمر: أن معظم الأعمال في علم الأصوات العام -إن لم تكن كلها- تنتظم مسائل ومشكلات صوتية من الفرعين كليهما: الفوناتيكس والفنولوجيا.
أما الناحية الثانية، أو الجانب الثاني التي يُقصد إليها عند استعمال هذا المصطلح: فتتمثل في التنبيه على عدم قصر بحوث هذا الفرع ومناقشاته على أصوات لغة بعينها، وفي بيانه أنه معنيّ بالصوت اللغوي في عمومه، والنظر في مشكلات هذا الصوت بوصفه خاصة مشتركة بين اللغات جميعًا.
والمصطلح الثاني: فنولوجي، أو الفنولوجيا فتمكن ترجمته من وجهة نظر الكثيرين إلى: علم وظائف الأصوات، أو علم الأصوات التنظيمي، على أساس أنه يُعنى بتنظيم المادة الصوتية، وإخضاعها للتقعيد والتقنين، أو أنه يبحث في الأصوات من حيث وظائفُها في اللغة، وكلا الجانبين من صميم اختصاصات الفنولوجيا، والتعريب هنا هو تعريب للمصطلح الإنجليزي: فوناتيكس، لا المصطلح الفرنسي، وإن كانت الصورة المعرّبة تشبهه في النطق؛ لأن هذا المصطلح إنما يكثر إطلاقه على الدراسات الصوتية التاريخية بطريق النص بالمصطلح: "فنوتيك استلوتيك" في اللغة الفرنسية، أما التعريب إلى "فنولوجيا" فهو تعريب للمصطلح الانجليزي أيضا: فنولوجي، لا المصطلح الفرنسي: فنولوجييه الذي يغلب إطلاقه عند الفرنسيين -وبخاصة في البحوث التقليدية- على الدراسات الصوتية الوصفية، في مقابل الدراسة الصوتية التاريخية التي تُسمى عادة: فنولوجيك استلوتيك، سواء أكانت فوناتيكية صرفة أم فوناتيكية وفنولوجية معًا.
والترجمة إلى: علم الأصوات التنظيمي هي من صنع الدكتور كمال بشر في كتابه (قضايا لغوية) ، أما الترجمة إلى "علم وظائف الأصوات" فهي من ترجمة الدكتور: محمد أبو الفرج في كتابه (فقه اللغة) وهي ترجمة أوفق وأوضح، ويترجم الدكتور: تمام حسان المصطلح فنولوجي إلى علم التشكيل الصوتي كما ورد في كتابه (مناهج البحث في اللغة)
وقد جاء التفريق أو محاولة التفريق بين الفونيتيك والفنولوجيا نتيجة لتقدم البحث في الأصوات، عندما أدرك العلماء أن الصوت الواحد -أو ما كان يُسمى كذلك- هو في الواقع ذو صور نطقية عدة، تتنوع بتنوع السياق الذي يقع فيه؛ فقد لاحظوا أن هذا التنوع ليس مقصورًا على بعض الأصوات دون بعض، أو على نطق بعض الأفراد دون غيرهم، وإنما وجدوه قاعدة عامة في كل الأصوات، وخاصة مشتركة بين كل الناطقين باللغة المعينة كاللغة العربية مثلًا، ولقد أدركوا أن الصوت المعين، وليكن الكاف -مثلًا -يختلف نطقه من سياق صوتي إلى سياق صوتي آخر، فهو يوصف وصفًا بأنه من أقصى الحنك مهموس، ولكن النقطة الدقيقة لنطقه تختلف في الواقع باختلاف ما يجاوره من حركات؛ فقد تكون إلى الخلف، أو إلى الأمام قليلًا في هذه المنطقة، بحسب نوع الحركة التالية لها، وهذا الصوت المهموس قد يُجهر أحيانًا في بعض المواقع الصوتية، كما في نحو "أكبر" في الكلام غير المتأني، أو في بعض الأساليب اللغوية؛ حيث تقرب الكاف من صوت الجيم المُسمى "جيم القاهرة" في صفة الجهر.
وهكذا وجد علماء الأصوات أنفسهم أمام سؤال كبير يحتاج إلى إجابة واضحة حاسمة، وتساءلوا فيما بينهم: هل الكاف في هذه الحالة صوت واحد، أم عدة أصوات؟ وما أسس الأخذ بهذا الاحتمال أو ذاك؟ إذا كانت صوتًا واحدًا -أي: الكاف- فما موقفنا من تلك الصور النطقية المتعددة لهذا الصوت، وهي صور أكدت وجودها الأدوات والأجهزة المعملية الدقيقة؟ وإذا كانت عدة أصوات؛ أهي أصوات مستقلة، أم أنها ذات خواص مشتركة تجمع بينها؛ ومن ثم يمكن ضمها تحت اسم واحد؟
وبالبحث المتواصل والدرس الطويل استطاع علماء الأصوات أن يقرروا أن الفروق بين صوت الكاف وصوره المختلفة في وقت واحد هي فروق نطقية محضة جاءت نتيجة وقوع هذا الصوت في سياقات صوتية مختلفة، وهي فروق ليست ذات وظيفة لغوية، أو ليست عاملًا في تفريق المعاني بين الكلمات التي يَرد بها هذا الصوت في سياقاته المختلفة؛ فالكلمة "أكبر" لم يزل معناها القاموسي واحدًا، سواء أكانت كافها مهموسة صرفة، أم لحقها شيء من الإجهار، وكذلك الحال إذا وقعت الكاف قبل الضمة، أو قبل الكسرة مثلًا؛ فهي في كلتا الحالتين ذات قيمة لغوية واحدة، وهي كونها كافًا وليست جيمًا أو قافًا مثلًا.
ثم توصل علماء الأصوات إلى الجزء الثاني من الإجابة، وهو الجزء الأهم في الموضوع؛ إذ قرروا أن الفروق الصوتية التي يمكن الاعتماد عليها في الحكم على هذا الصوت أو ذاك بأنه مجرد اختلاف نطقي سياقي، أو صوت مستقل ذو كيان خاص -إنما هي الفروق التي تؤدي إلى اختلاف المعاني في الكلمات، فالكاف بهذا الوصف يؤدي استعماله إلى هذا الاختلاف؛ حيث نقول: كال في مقابل "جال" أو "جال" و"قال" فنحصل على كلمة مستقلة ذات معنى مختلف عن الكلمتين الأخريين، وكان ذلك بفضل استخدام الكاف في هذه الكلمة التي تتفق في كل مكوناتها الصوتية مع زميلتيها، باستثناء هذا الصوت وحده، وهو القاف أو الجيم، أما الصور النطقية المختلفة للكاف فلا تؤدي إلى هذه النتيجة، وهي نتيجة ذات قيمة لغوية، أي: وظيفة صوتية تؤدي إلى اختلاف المعنى كما يعبر عن ذلك علماء الأصوات أحيانًا.
تاريخ التفريق بين الفونيتيك والفنولوجيا
وهذا اللون من التفكير كان البذرة الخصبة والأساس الأول لظهور نظرية الفونيم، أو نظرية الوحدة الصوتية، التي تحدثنا عنها في الدرس الأول، ونظرية الفونيم ذاتها تكثر المناقشة حولها، وتختلف الآراء اختلافا واسعا حول تحديد المقصود بالفونيم.والنقطة المهمة هنا أن الفونيم على أحسن الأقوال وأقربها إلى الصحة هي: وحدة صوتية قادرة على التفريق بين معاني الكلمات، وليست حدَثا صوتيًا منطوقًا بالفعل في سياق محدد؛ فالفونيمات أنماط للأصوات، والمنطوق بالفعل هو صورها وأمثلتها الجزئية التي تختلف من سياق صوتي إلى سياق صوتي آخر، فالكاف فونيم، وكذلك الجيم، وكذلك القاف، أما الصور النطقية المختلفة لكل واحدة منها فهي أمثلتها المتغيرة، أو ما يُسمى بفونز، أو ألوفونز، أو الصوَر الصوتية، أو الأحداث الصوتية المتغيرة للفونيم الواحدة، والصور الصوتية أكثر استعمالًا وأحدث. فالفونيمات بهذا محدودة معدودة في كل لغة، ولكن صورها النطقية أو الأحداث النطقية الفعلية كثيرة.
والأمر الثاني: لكي يكون الأمر علميًّا لا بد من الوصول إلى قواعد صوتية عامة، وهذا يقتضي تجريد الوحدات -وهي الفونيمات- من هذا العدد الهائل من الأحداث النطقية الفعلية، وكان لا بد لذلك من منهجين دراسيين: أحدهما على الأقل يهتم أو يُعنى بدراسة هذه الوحدات أو الفونيمات، وهذا المنهج هو ما عُرف فيما بعد بالفنولوجيا.
فالفنولوجيا في بداية أمره فرع من البحث الصوتي خُصص أساسًا لدراسة الفونيمات ومشكلاتها، وذلك بالطبع لا يكون إلا في إطار لغة معينة كالعربية أو الانجليزية؛ لارتباط الفونيمات بالمعاني، وليس من المعقول أن ننظر في المعاني إلا في إطار لغة معينة، ولهذا النوع من التفكير الصوتي تاريخ طويل، لا يهمنا هنا في هذا المجال إلا القول بأنه بدأ يلوح في الأفق اللغوي في أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان من أوائل من أدركوا الفرق بين الأصوات بوصفها وحدات وأنماطًا، وبوصفها أحداثًا نطقية واقعية -عالم اللهجات السويسري "ونتلر" الذي استطاع أن يميز بين نوعين من المقابلات، أو المعارضات الصوتية: أحدهما: يستعمل في اللغة للتفريق بين المعاني والوظائف النحوية للكلمات، والثاني: لا يُفيد هذا الغرض الوظيفي.
وهذا الخلط التفكيري في عمومه -بالنسبة لجوانب الصوت- نلحظه كذلك بصورة ضمنية في الآثار المبكرة لكل من "سويت" الإنجليزي، وتلميذه الدنماركي "يسبرسن".
كما يظهر ذلك مثلا في الأبجدية الصوتية التي ابتكرها "سويت" لكتابة اللغة، والتي عُرفت فيما بعد باسم "برود روميك ألفابت" كما يبدو هذا التفكير واضحا في تلك المناقشات التي أثارها "يسبرسن" في أحد بحوثه عن الأصوات اللغوية، وهناك في هذا البحث ينتهي "يسبرسن" إلى الرأي الذي يكاد يتفق مع ما يتردد الآن في بعض الأوساط اللغوية من أن الفيصل في الحكم على جوانب الأصوات إنما هو استعمالها للتفريق بين المعاني، أو عدم استعمالها لهذا الغرض، ولكن الأمر بالنسبة لهذين العالمين الأخيرين مرّ هكذا دون أن يتوصلا إلى وضع نظرية، أو رسم منهج يُقتفى من بعدهما للنظر في هذه الجوانب، واكتفيا بمعالجة الموضوع كله بأسلوب فوناتيكي صرف، على وفق النمط التقليدي السائد في وقت ذلك.
ولم يذهب "دي سوسير" في هذا الموضوع إلى أبعد من ذلك بكثير؛ إنه استطاع أن يدرك جوانب الصوت، وأن يميّز بين ما سماه الجانب المادي، والجانب غير المادي، والأول: يطابق الحركات العضوية لجهاز النطق، والثاني: يطابق الانطباعات السمعية لهذه الحركات، وبالرغم من هذا الإدراك الجانبي للصوت لم يقترح "دي سوسير" منهجا أو أسلوبا جديدًا لدراسة هذين الجانبين أكثر من ذلك الأسلوب التقليدي الذي يتبعه علماء الأصوات أو علماء الفونيتيك العاديون الذين كانوا يستخدمون النهج العام الذي لم يكن بعدُ قد أخذ بمبدأ التفريق بين الفونيتيك والفنولوجيا، والذي لم تكن قد وضحت لديه فكرة التمييز بين جوانب الأصوات وضوحًا كاملًا.
غاية الأمر أن "دي سوسير" قد خالف هؤلاء التقليديين في استعمال مصطلحاتهم، فاستعمل المصطلح فنولوجيا باللغة الفرنسية "فنولوجييه" وأطلقه على تلك الدراسة العامة التي كانت تعالج عادة ما يُعرف بالفونيتيك عند غيره من الدارسين، وخصص هذا الأخير للدراسة التاريخية للأصوات، أي: هذا الفرع الفنولوجي خُصص وأصبح يُقصد به عند العلماء: الدراسة التاريخية للأصوات اللغوية.
ومعنى هذا أن "دي سوسير" لم يزل يتفق مع هؤلاء العلماء التقليديين في دراسة الأصوات بأسلوب عام، وفي عدم تنويع الدراسة الصوتية إلى فرعين يختص كل واحد منهما بدراسة جانب من جانبي الأصوات، ولكنه خالفهم فقط في تسمية هذه الدراسة العامة بالفنولوجيا، لا الفوناتيك، وهي مخالفة -كما نرى- لا تجاوز دائرة استعمال هؤلاء لنفس الدراسة، فتفريق "دي سوسير" بين الفنولوجيا والفوناتيك إذًا ليس مطابقا لجانبي الأصوات، وإنما تفريق من نوع آخر، فالأول وهو الفنولوجيا وقَفَه على دراسة أصوات الكلام، أما الثاني فوظيفته عنده دراسة تطور الأصوات في اللغة دراسة تاريخية.
أما أول من نص على وجوب هذا التنويع، وعلى ضرورة وجود فرعين مستقلين من الدراسة لدراسة جانبي الأصوات فهو "بدون دي كورتني" فقد أعلن أن هناك فروقًا جذرية بين أصوات الكلام والصور الذهنية للأصوات التي تتألف منها كلمات اللغة، وانطلاقًا من هذا الإدراك أصر "كورتني" على ضرورة وجود نظامين من البحث الصوتي لتناول الأصوات بطريقة علمية، أَحد هذين النظامين: ينبني على أسس فيزيائية وفسيولوجية، وموضوع البحث فيه الأصوات المادية، والثاني: يعتمد على قواعد علم النفس، ووظيفته: دراسة الصور الذهنية للأصوات، وما لها من وظائف وقيم في اللغة، وقد سمّى "كورتني" العلم الأول الذي خصصه لدراسة الأصوات المادية بعلم الأصوات العضوية، على حين أطلق على الثاني: علم الأصوات النفسية، وقصر عمله على دراسة الصور الذهنية للأصوات، تلك الصور التي أطلق عليها هذا العالم نفسه اسم الفونيم، كما يتضح ذلك من قوله: إن الفونيم هي المعادل النفسي للصوت اللغوي.
وقد كان من نتيجة هذا الوضوح في التفريق بين جانبي الأصوات، أو بين العلمين اللذين يقومان بدراستهما -أنه استطاع لأول مرة (أي: كورتني) أن يضع ما يمكن أن يُسمى بنظرية الفونيم، وبالرغم من أن أول بحث لـ"كورتني" في هذا الموضوع قد تُرجم إلى اللغة الألمانية سنة 1895 ميلادية فقد مرت نظريته دون أن يشعر بها أحد في القارة الأوربية وفي روسيا نفسها، باستثناء "بتر سبيرج" لفترة من الزمن، إلى أن بدأ الناس في أماكن متفرقة من العالم يتجهون هذا الاتجاه نفسه، وهو اتجاه يتمثل في صورتين:
الأولى: التفريق بين الصوت المنطوق، أو ما يُشار إليه أحيانا بالمصطلح: فون، أو ألوفون، أو سوند، وبين الفونيم، أو ما يُسمى بالصور الذهنية للصوت، أو الوحدة الصوتية -على اختلاف وجهات النظر في الموضوع.
الثانية: ضرورة وجود فرعين لعلم الأصوات يختص كل واحد منهما بدراسة أحد هذين الجانبين.
والأمر الأول أو النقطة الأولى واسعة تحتاج إلى دراسات كثيرة، أما فيما يتعلق بفرعي الأصوات فقد جرى العرف على تخصيص الفوناتيك لدراسة الجانب الأول، والفنولوجيا للنظر في الجانب الثاني ومشكلاته، ولكن وجهات النظر قد تعددت بالنسبة للعلاقة بين هذين الفرعين، وحدود كلٍّ منهما، ومدى استقلال أحدهما عن الآخر.
موقف المدارس اللغوية ودي سوسير، والمدرسة الإنجليزية، والمدرسة الأمريكية من التفريق.
وفيما يلي حديث عن أبرز أربع مدارس حول قضية التفريق :أولًا: مدرسة براج:
هي مدرسة تشيكية لها كبير فضل في البحث اللغوي الحديث، وامتازت عن غيرها بكثير من النظرات الخاصة في دراسة اللغة.
ومن هذه النظرات فكرتها عن الفرق بين الفونيتيك والفنولوجيا، ولقد تأثر رواد هذه المدرسة بآراء العالم السويسري "دي سوسير" وخاصة برأيه في الفونيم، كما تأثروا أيضًا برأيه المشهور في التمييز بين ما سماه الكلام، ومعناه: الكلام المنطوق الصادر من المتكلم الفرد في الموقف المعين، وبين ما سمّاه لغة ويقصد به: اللغة المعينة التي لا تُنطق، ولا يتكلمها أحد من الناس، وإنما يتكلم الناس الكلام طبقًا لقواعد اللغة المعينة، وهذه القواعد أمور عقلية مخزونة في ذهن الجماعة اللغوية المعيّنة.
وهذا التفريق بين جانبي الكلام كان المنطق الأساسي للتفريق بين فرعي الأصوات عند هذه المدرسة.
فالفونيتيك: هو علم أصوات الكلام، وهو أقرب إلى علوم الطبيعة منه إلى علم اللغة، إنه عندهم ليس فرعًا من علم اللغة، وإنما وظيفته: دراسة الأصوات المنطوقة في الكلام والنظر في حركات أعضاء النطق وأوضاعها، كما يلاحظ الذبذبات الصوتية الهوائية الناتجة مباشرة عن هذه الحركات والأوضاع.
والفنولوجيا: علم أصوات اللغة، وهو لا يُعنى بالأصوات بهذا الوصف، وإنما عليه أن يدرس الفونيمات، وهي العناصر المكونة للمعنى اللغوي، وهي عناصر غير مادية، إنها عناصر عقلية، ويكون تحقيقها المادي بوساطة الصوت الفعلي أو النطق.
وعالم الفونيتيك يجري وراء أحداث النطق، فيلاحظ مصدرها وهي أعضاء النطق، ويدرس وظيفة هذا المصدر بصورة تفصيلية.
أما عالم الفنولوجيا فإنه يينظر في الشعور أو الوعي اللغوي للبيئة المعينة، فيدرس الصور الذهنية الصوتية ذات القيم المميزة المكونة للكلمات واللغة ذاتها، وبعبارة "تروبتسكوي" أحد رواد هذه المدرسة الأوائل: الفوناتيك يهتم بما ينطق الإنسان في الحقيقة والواقع عندما يتكلم، على حين يُعنى الفنولوجيا بما يُظن أو يُتصور أن الإنسان ينطقه.
وهذا التفريق الواضح بين هذين الفرعين يُصر عليه أغلب علماء مدرسة براج، على الأقل في الفترة الأولى من تكوينها، في حين أن متأخري هذه المدرسة، وبعض المتقدمين منهم كذلك لم يَرُق هذا الفصل التام لهم، وبالرغم من محاولتهم تقريب الشقة بينهما فإن هذه الفكرة لم تزل تسيطر على أذهان الكثيرين من الباحثين المحدثين، ومن هؤلاء مثلًا: "أولمان" صاحب البحوث المشهورة في علم الدلالة، وله كتاب (سيمانتكس) لقد صرح هذا الدارس أكثر من مرة بأن الفوناتيك هو علم أصوات الكلام، وأن الفنولوجيا هو علم أصوات اللغة أي: الفونيمات، والأول هو المختص بدراسة الأصوات من جانبها العضوي والفيزيائي، وليس جزءًا من علم اللغة، على حين تنتمي الفنولوجيا إلى علم اللغة.
ويبدو أن هذا الفصل بين فرعي الأصوات يُعد نوعًا من الإغراء والجاذبية، حتى نلحظه في أعمال بعض أولئك الذين لا يقولون صراحة بالتفريق بين الكلام واللغة، ومن هؤلاء "جليسون" الذي يُقسم علم اللغة إلى فرعين اثنين هما: الفنولوجيا، والجرامتيكا، أي: علم القواعد، والفنولوجيا علم الأصوات، على حين يجعل الفونيتيك نظامًا من الدراسة مستقلًّا عن علم اللغة
ومهما يكن من أمر فإن "جليسون" هو الآخر ينظر إلى اللغة نظرة تشبه تلك التي رآها من قبل العالم السويسري "دي سوسير" فبالرغم من أنه لم يُفرق بين نوعين من النشاط اللغوي عند الإنسان فإنه ينظر إلى التركيب اللغوي على أنه مكون من عنصرين: الأصوات، والفكرة، أو ما سماهما: التعبير اللفظي والمحتوى، والأول منهما ليس من اختصاص اللغويين، وإنما هو من عمل الفيزيائيين، وإنما يدرسه اللغوي لارتباطه ارتباطا وثيقا بعنصر المحتوى، ومنهما معًا يتكون التركيب اللغوي.
وخلاصة هذا : أن الفصل بين علمي الأصوات -الفونيتيك، والفنولوجيا- يطابق التفريق بين جانبي الكلام الإنساني -الكلام المنطوق، واللغة المعينة- أو بعبارة أخرى: إن القائلين بثنائية الكلام الإنساني هم أنفسهم ومن سار على دربهم الذين رأوا الثنائية في دراسة الأصوات وقسموها إلى علمين منفصلين.
وهذا الفصل التام بين علمي الأصوات معترض عليه من كثير من الدارسين، لأن الأساس الذي بُني عليه التفريق بين اللغة والكلام- غير مقبول، فاللغة والكلام في نظر هؤلاء جانبان لشيء واحد، فكلام الفرد ليس شيئًا منفصلا عن لغة الجماعة، إنه مثل أو صورة لها، واللغة هي مجموع هذه الأمثلة، أو مجموع هذه الصور، وكلاهما فردي وجماعي معًا، وكلاهما مادي وعقلي، وإذا جاز لنا التفريق بينهما نظريًّا فإننا نستطيع تسميتهما بلغة الفرد، ولغة الجماعة، أما في الواقع والحقيقة فلا يمكن الفصل بينهما بحال من الأحوال، وكذلك الأمر بين علمي الأصوات؛ إنهما نظامان من الدرس الصوتي، يوجهان معًا نحو موضوع واحد هو الأصوات اللغوية، فعالم الفونيتيك لا يقنع بمجرد جمع المادة الصوتية ووصفها على أساس عضوي وفيزيائي، وإنما ينظر إلى مرحلة أخرى أهم تُخضع مادته للتنظيم والتقعيد.
وعالم الفنولوجيا لا يستطيع أن يقوم بعمله الممثل أساسًا في عملية التقنين والبحث عن قيم لأصوات اللغة دون اعتماده على مادة الفونيتيك، إن هذين العلمين يُكمّل أحدهما الآخر، ولا يعدو أن يكون الفرق بينهما فصلا منهجيا. متعلق بأسلوب الدرس، أو خطواته.
ولقد حاول بعض الدارسين التقريب بينهما فسمى الفونيتيك: علم الأصوات النطقي، وسمى الفنولوجيا: علم الأصوات الوظيفي. إشارة إلى وحدة موضوعهما.
وفي مدرسة براج نفسها واحدا من كبار رجال هذه المدرسة، ذلك هو "ترانكه" يرفض هذا التفريق ويقول: عندما تبدأ الدراسة من الصورة الصوتية، وتتدرج في طريقها حتى تصل إلى القوانين المجردة فإنها تجد نفسها في مجال الفنولوجيا، أما إذا أخذت طريقها هذه المرة من القوانين المجردة وسارت في عملها حتى وصلت إلى الصورة الواقعية للأصوات فإنها تجد نفسها في مجال الفونيتيك.
إننا إذا علمنا أن الفونيتيك إنما يختلف فقط عن الفنولوجيا في انتهاج طريق مخالف في سير الدراسة أدركنا أن مشكلة الحدود الفاصلة بين الظواهر الفوناتيكية والفنولوجية أصبحت غير ذات موضوع؛ لأن هذين النوعين من الظواهر متكاملان ومتعاونان في سبيل تحقيق أهدافهما الفردية والجماعية.
والحق أن مسألة الفصل هذه لم تعد ذات قيمة عملية في الوقت الحاضر، وليس لها الآن من يُناصرها؛ لعجزها عن الوفاء بأغراض الدارسين، فالاقتصار على أحد الفرعين دون الآخر لا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة صحيحة فيما يختص بأصوات اللغة، وهذا الكلام نفسه ينطبق على أولئك الذين يبدو أنهم من أنصارها، ذلك بأن كلامهم عن الفصل بين الفوناتيك والفنولوجيا لا يجاوز الناحية النظرية الصرفة، أما أعمالهم التطبيقية فتدل على ارتباط العلمين بعضهما ببعض أشد الارتباط. والاتجاه السائد الآن هو العمل على تقريب المسافة بين هذين الفرعين بصورة نظرية وتطبيقية معًا، حتى لقد أصبح المصطلح فونيتكس: علم الأصوات وحده كافيًا للإشارة إلى العلمين معًا.
ومهما يكن من أمر فليس يطعن هذا في قيمة الجهد الذي قدمته مدرسة براج للدرس الصوتي، إن الاعتراض هنا موجه إلى فكرة الفصل التام بين علمي الأصوات، لا إلى مجرد المقابلة بينهما.
وفي كل الحالات يجب أن نقرر أن الفنولوجيا الحديثة بكل اتجاهاتها إنما ترجع إلى أصولها الأولى التي أرست قواعدها مدرسة براج اللغوية، والله أعلم
ثانيا : موقف "دي سوسير".
من الطريف أن "دي سوسير" صاحب الأساس الذي بُني عليه الفصل بين علمي الأصوات، وأنه لم ينحُ هذا المنحى اتخذته مدرسة براج، إنه حقيقة يُفرّق بين الفونيتيك بالفرنسية، وبين الفنولوجيا بالفرنسية أيضا، ويخصص كل واحد منهما لنوع معيّن من الدراسة، ولكن على وجه يختلف عما رأيناه عند أصحاب المدرسة البراجية.
فالفونيتيك عنده: علم تاريخي يبحث في تطور الأصوات اللغوية؛ لأنه خُصص في بداية الأمر لهذا النوع من الدراسة، ويجب أن يبقى كذلك، وهو فرع أساسي من علم اللغة، فعلم اللغة عنده إما علم وصفي، أو علم تاريخي.
أما الفنولوجيا: فيدرس الأصوات من الناحية العضوية، أو هيئة النطق، وهو نظام من الدرس مساعد لعلم اللغة، ومقصور قصرًا تامًّا على الكلام.
ومعنى هذا أن "دي سوسير" يختلف عن مدرسة براج وغيرها في هذا الموضوع في الملامح الآتية:
الملمح الأول: الفونيتيك دراسة تاريخية فقط عند "دي سوسير" على حين يجوز أن تكون تاريخية ووصفية عند هذه المدرسة وغيرها.
الملمح الثاني: الفنولوجيا عند "دي سوسير" بهذا المعنى تطابق الفونيتيك عند أغلب الدارسين، حيث قصره "دي سوسير" على دراسة أصوات الكلام التي تكوّن الموضوع الأصلي للفونيتيك عند مدرسة براج.
الملمح الثالث: وضع الفونيتيك والفنولولجيا من حيث انتمائهما أو عدم انتمائهما إلى علم اللغة، ويختلف عند الفريقين، فالفونيتيك عند "دي سوسير" يُعد جزءًا لا يتجزأ من علم اللغة، على حين لا يعدو الفنولوجيا أن يكون نظامًا ثانويًّا من البحث، يُقدم المساعدة والمعونة لهذا العلم، وذلك على العكس تمامًا مما تراه المدارس الأخرى في الحالتين كلتيهما، على أن هذا المعنى الضيّق للفنولوجيا قد توسع فيه "دي سوسير" فيما بعد، بحيث أصبحت الدراسات الفنولوجية عنده تخرج من علم الأصوات العام عند غيره من الدارسين، من حيث اتساع حقل الدراسة، وطبيعة موضوعاتها.
إن وظيفة الفنولوجيا عند "دي سوسير" هي النظر في الفونيمات، أو الوحدات الصوتية، والفونيمات عند "دي سوسير" لها جانبان: جانب عضوي يطابق حركات أعضاء النطق، والثاني: نفسي، أو ما سماه بالانطباع السمعي، ومن الخطأ أن يُقصر عالم الفنولوجيا عمله على الجانب العضوي دون الجانب النفسي، وعمل الفنولوجيا موجّه نحو تحديد هذه الوحدات، ووصفها، وتصنيفها إلى مجموعات، غير أن تحديدها والتعرف عليها في الكلام إنما يتم بوساطة الانطباع النفسي؛ فإنه ليس من السهل أن نحدد أين يبدأ الصوت وأين ينتهي في سلسلة الكلام؟ بطريق الإشارة إلى الناحية العضوية، ولو تم في ذلك الاستعانة بتصوير حركات أعضاء النطق تصويرًا فوتوغرافيًا، ولكن الانطباع السمعيّ للأصوات يُشير ويدل عليه في يسر وسهولة.
وهكذا نرى أن "دي سوسير" يُدخل في نطاق الفنولوجيا دراسات عضوية فسيولوجية، وأخرى نفسية، غير أنه عند وصف الأصوات يقصر عمله على الناحية العضوية، وهو في هذه الحالة ينظر إلى الأصوات منعزلة، وبوصفها أنماطًا، أو وحدات نطقية ذات سمات مميزة، وهذا يقرب الفنولوجيا عنده من علم الأصوات العام، حتى يكاد يلتقي مع غيره من الدارسين، ويبقى الفرق بينه وبين غيره مقصورًا على جهتين اثنتين هما: ربطه الفنولوجيا بالكلام المنطوق دون اللغة، وإخراجه من علم اللغة، على أن دراسة فاحصة للجزء المخصص للفنولوجيا بكتابه الشهير (محاضرات في علم اللغة العام) تشير إلى أن "دي سوسير" يجد صعوبة بالغة في محاولة ربط الفنولوجيا بالكلام دون اللغة .
وكثيرًا ما نراه يعرّج على مسائل صوتية لا يمكن نسبتها إلى الكلام المنطوق، وإنما هي من خواص اللغة، أو من صميم الدراسة الصوتية فيها، من ذلك مثلًا: إشارته المتكررة إلى الأصوات بوصفها أنماطًا أو أنواعًا من الوحدات، وليس يغيب عن ذهن أحد أن الأنماط الصوتية لا تقع في النطق الفعلي، وإنما هي وحدات تُستخلص من هذا الكلام المنطوق، وتنتقل بعد هذا التجريب إلى النظام الصوتي للغة، لا إلى الكلام، وهذه العملية ذاتها عملية التجريد والتصنيف للأصوات قد نسبها "دي سوسير" نفسه إلى الفنولوجيا، وعدّها واحدة من وظائف علم الأصوات، حيث يُصرّح بقوله: إذا ما انتهى رجل الفنولوجيا من تحليل عدد كافٍ من سلاسل كلامية منطوقة في اللغات المختلفة، عليه بعد ذلك أن يتعرف على العناصر التي تتكون منها كل لغة، وأن يُصنّف هذه العناصر.
وهذا التصريح نفسه يؤكد ما سبق من أن "دي سوسير" قد توسع في مدلول الفنولوجيا من الناحية التطبيقية على الأقل، ولم يلتزم التحديد النظري الضيّق الذي وصفه أول الأمر، والذي يُفيد قصر الفنولوجيا على دراسة أصوات الكلام المنطوق من ناحيتها العضوية والفسوليوجية، ويفيد هذا التصريح كذلك أن الفنولوجيا عنده من الناحية العملية تُطابق علم الأصوات العام بالمعنى التقليدي.
إن علم الفنولوجيا يسميه هذا العالم فنولوجيا الوحدات أو الأنماط الصوتية، عندما تؤخذ منعزلة، وحين يتم التعرف عليها بطريق الانطباع النفسي، ويجري وصفها بالإشارة إلى ميكانيكية النطق، ولكن هذه الوحدات أو الأنماط لها حالات أخرى تظهر في سلسلة الكلام المتصل، وهي حالات تستدعي النظر، وتستحق اهتمام الدارسين؛ ومن ثم يجب -في رأيه- أن يكون هناك فرع آخر للفنولوجيا يقوم بهذا العمل الجديد، هذا الفرع يسميه "دي سوسير" فنولوجيا الكلام المتصل، الذي يُحدد العلاقات بين الفونيمات في الكلام المنطوق، مادام أن الوحدات الصوتية، أو الفونيمات تأخذ في الكلام المتصل صورا مختلفة بحسب السياق الصوتي الذي تقع فيه.
وهذه الدراسة الفنولوجية الأخيرة تطابق ما يُسمى فوناتيك الكلام المتصل عند أولئك الذين لا يُفرقون تفريقًا حاسمًا بين الفوناتيك والفنولوجيا، أو تدخل في مجال ما يسميه "فيرث" بأنماط التطريز الصوتي، أو الظواهر التطريزية الصوتية، كما أن بعض نقاط هذه الدراسة تنتظمها البحوث الخاصة بما يسميه بعض الأمريكان حديثا : علم الفونيمات.
إن هذا التحديد الضيق الذي يجعل الفنولوجيا مطابقة للفوناتيك في الوظيفة وخطة البحث قد أخذ به لغويون تقليديون، من هؤلاء ومن أشهرهم "جراي" الذي يرى أن اللغة لها جانبان: أحدهما: عضوي يتعلق باللفظ، وثانيهما: نفسي، فخصص الفنولوجيا، والصرف لدراسة الجانب الأول، وعلم النحو، وعلم الدلالة لدراسة الجانب الثاني، وبهذا يتضح أن هذا الباحث قد قصر وظيفة الفنولوجيا على دراسة الأحداث الصوتية المنطوقة. وهذا الاستعمال لا يزال مطبقًا في بعض البيئات اللغوية التقليدية، وبخاصة في فرنسا، وغيرها من البلاد التي لا تزال تتبع هذا النهج التقليدي.
ثالثًا: المدرسة الإنجليزية:
ويُقصد بالمدرسة الإنجليزية هنا تلك المدرسة التي أسسها "فيرث" والتي لا تزال مبادئها واتجاهاتها الرئيسية تمثل الخط التفكيري العام عند تلامذته.
كانت الفنولوجيا عند الإنجليز بعامة تُطلق على الدراسات التاريخية للأصوات، على العكس تمامًا مما فعل "دي سوسير" ومن تابعه، على حين كان الفونيتيك ذا مدلول واسع يشمل البحث الصوتي في عمومه من الناحية الوصفية، بدون تفريق بين جانبي الأصوات المادي وغير المادي، وبدون تمييز أيضًا بين نوعين أو فرعين من الدراسة، ولم يكن هناك نظام مخصص لدراسة الأصوات من ناحيتها العضوية والفسيولوجية، ونظام آخر مستقل يبحث في هذه الأصوات من حيث وظائفها وقيامها في التركيب الصوتي للغة.
وكان الفونيتيك يشمل ما يدخل الآن في إطار الفونيتيك بالمعنى الضيق والفنولوجيا بالمفهوم الضيق كليهما، وقد كان هذا ملحوظًا في أعمال رائدهم الأول "سويد" و"دانيال جونز" ومدرسة "فيرث" نفسها في بداية نشأتها، واستمر كذلك مدة من الزمن، إلا أنه عندما شاع منهج التفريق بين العِلمين، وانتشرت فكرة الفصل بينهما اضطر الإنجليز إلى تعديل نظرتهم نحو الموضوع، وإلى الأخذ بهذه الفكرة ولو من الناحية النظرية، وفي حدود رسموها لأنفسهم بوضوح.
ويعبر "فيرث" عن هذا الموقف الإنجليزي تجاه هذا القضية بكلام صريح جاء فيه: بالرغم من أننا في انجلترا قد بدأنا في استعمال المصطلح: فنولوجيا للدلالة على فرع معين من فروع علم اللغة، تابعين في ذلك العرف الأوربي فإن عملنا هذا ينطوي على خسارة لنا من نوع ما؛ لأن الفنولوجيا الإنجليزية علم تاريخي، وليس منهجًا متزامنًا من مناهج البحث، ولكنا -كما هي العادة- تمشينا مع الاستعمال العالمي؛ حيث إننا لا نستطيع أن نفرض المعنى المقصود بالمصطلح "فونيتيك" عندنا على أولئك الذين يستخدمون المصطلحات، فإذا كان الفنولوجيا يمكن وصفه في إيجاز: بأنه علم قواعد الأصوات ورموز الكتابة، فإن مصطلحنا: فونيتيكس يغطى هذا المعنى، ولقد سرنا على هذا المنوال بصورة أو بأخرى منذ قرون طويلة؛ لأن المصطلح الأول فرنسي، والآخران ألمانيان، ومعنى الثلاثة بصفة عامة: علم الأصوات بالمعنى الضيق المقصور على دراسة الأصوات من الناحية العضوية الفسيولوجية، مع احتمال تطبيقه على البحث التاريخي في الأصوات كذلك فيما يختص بالمصطلح الفرنسي بالذات، وهذا معنى يخالف المفهوم الإنجليزي للمصطلح: فوناتيكس الذي يتضمن دراسة أوسع وأشمل، بحيث يدخل فيها ما يُسمى بالفنولوجيا.
وبالرغم من أن الإنجليز قد أخذوا بمبدأ التفريق بين الفونيتيك والفنولوجيا فإنهم لم ينساقوا إلى تلك المبالغة التي وقع فيها غيرهم من الأوربيين الذين فصلوا بين العلمين فصلا تامًّا، والذين حاولوا تخصيص كل واحد منهما بضرب من البحث مستقل عما عينوه للآخر، والحق أن محاولة التفريق بين العلمين عند الإنجليز لم تجاوز الناحية النظرية، أي: عندما يعمدون إلى تقديم خطة للبحث اللغوي للدارسين والكشف عن مراحل هذه الخطة وتدرجها من مستوى إلى آخر، وفقا لطبيعة المادة، وحاجة البحث الذي يقوم بها الدارس اللغوي، وهنا يأخذون في ترتيب هذه المراحل أو المستويات، فيبدءون بالفونيتيك، فالفنولوجيا، فالصرف، وهكذا إلى الآخر، وليس في هذا الترتيب ما يعني الفصل بين هذين العلمين، أو بينهما وبين غيرهما، وإنما هو ترتيب لخطوات العمل التي ينبغي اتباعها، وهي خطوات متكاملة يأخذ بعضها بالبعض، وترمي كلها إلى هدف رئيسي واحد، وبيان الحقائق اللغوية، وإنه لمن النادر أن نجد عملا تطبيقيًّا واحدًا في غير مجال التخصص الدقيق يقصر بحوثه على مسائل أحد الفرعين دون الآخر، أي: على الفونيتيك أو الفنولوجيا، وقد حرص "فيرث" وأصحابه على تأكيد قوة الاتصال بين الفرعين، واعتماد أحدهما على الآخر، حتى تسير أعمالهما في مواءمة واتساق تامّين.
ويشير إلى هذا المعنى نفسه تلميذه "روبنس" بقوله: إن الفوناتيك والفنولوجيا كليهما يهتمان بموضوع واحد من الدراسة هو الأصوات اللغوية، وإن كان هذا الاهتمام مُوجهًا إلى الأصوات من زوايا مختلفة، فالفونيتيك يتسم بالعموم، وينظر في الأصوات دون تركيز على وظائفها وقيامها في اللغة المعينة، على حين يتصف الفنولوجيا بالخصوصية، فيعنى بالكشف عن وظائف هذه الأصوات في اللغة أو اللغات الواقعة تحت النظر والدراسة. إن الفنولوجيا لا تعدو أن تكون الفوناتيك موجهة نحو وظائف الأصوات وإخضاعها للتنظيم؛ ومن ثم تكثر تسمية الفنولوجيا بعلم الفوناتيك الوظيفي أو التنظيمي.
ويعود فيرث فينص على أن الفونيتيك فرع متخصص من فروع علم اللغة، وليس يشمل في دائرته ما يسمى بالفنولوجيا فقط، بل إنه قد تفرع هو نفسه إلى عدة فروع متخصصة كذلك، فهنالك الفونيتيك التجريبي الذي ينتقل بالأصوات إلى مجال الفيزياء؛ ليعرف خواصها ومكوناتها الطبيعية، وهناك كذلك الفونيتيك بالمعنى الضيق، الذي يجمع المادة الصوتية، ويعنى بتسجيلها وتحليلها من الناحية الفسيولوجية والفيزيائية.
ومن فروع هذا العلم كذلك ما يمكن أن يُسمى الفونيتيك بالمعنى الواسع، وهو قريب الاتصال والارتباط الشديد بالفنولوجيا، فهما وإن اختلفا في طريقة البحث فإنهما يتفقان على الأقل على مبدأ رئيسي واحد؛ ذلك أن الفوناتيك بهذا المعنى لا يكتفي -شأنه في ذلك شأن الفنولوجيا ذاتها- بجمع الأصوات ووصفها وصفًا عامًّا، وإنما يقوم بالإضافة إلى ذلك بعملية تصنيف هذه الأصوات، ووضعها في نظام فنولوجي بوصفها عناصر مكونة لهذا النظام باللغة المعينة.
وينتهي العالم الإنجليزي "فيرث" من هذا كله بنتيجتين واضحتين:
الأولى: لا يمكن الفصل بين الفونيتيك والفنولوجيا بحال من الأحوال، وكلاهما جزء لا يتجزأ من علم اللغة، وليس من الخطأ تسميتها أو تسميتهما معًا باسم عام واحد هو علم الأصوات بدون نعت مميز لأيّ من الاتجاهين.
الثانية: الفنولوجيا في حالة التفريق بينه وبين الفونيتيك لا يعدو أن يكون منهجًا لتنظيم مادة هذا الأخير، أو تقعيدها، أو هو الفونيتيك نفسه وقد أصبح وظيفيًّا وعمليًّا.
ولقد طورت المدرسة الإنجليزية الدراسات الفنولوجية، بحيث أصبحت ذات شقين أو فرعين متصلين غير منفصلين:
أحد هذين الفرعين: هو فنولوجيا الوحدات أو الفونيمات، ووظيفته: البحث في الأصوات بوصفها أنماطًا للأصوات اللغوية، وهي مادة التركيب الصوتي للغة المعينة، وهذه الأنماط أو الوحدات هي مجموع الأصوات الصامتة والحركات، أو ما يُطلق عليه: الفونيمات الأساسية في مناهج الدرس اللغوي عند المدرسة الأمريكية.
أما الفرع الثاني: فهو فنولوجيا الظواهر التطريزية، أو فنولوجيا التطريز الصوتي، ولا ينظر هذا الفرع في تلك الظواهر الصوتية التي تنسب إلى النوع السابق من الوحدات حين تؤخذ مفردة أو منعزلة، وإنما في هذه الظواهر التي تُنسب إلى سلسلة المنطوق كله، والتي تمتد خلاله، سواء أكان هذا المنطوق جملة، أو عبارة، أو كلمة، أو مجموعة من المقاطع، ومن أمثلة هذه الظواهر: ظاهرة الطول والقصر في الأصوات، والنبر، وبداية المقاطع، ونهاياتها، والتنغيم... إلى غير ذلك من الظواهر الصوتية التي لا تدخل في التركيب الصوتي نفسه، وهي بذلك ذات العناصر التي يُطلِق عليها الأمريكان: الفونيمات الثانونية، أو الفونيمات فوق التركيبية، وقد سار الإنجليز على هذا النهج طبقًا لمبدئهم الرئيسي في الدرس اللغوي بعامة وهو: وجوب اتباع أكثر من نظام أو خطة في التقعيد اللغوي إذا ما كانت الأمثلة الجزئية لا يمكن إخضاعها بنظام مفرد أو خطة واحدة، كما في هذه الحالة، فالوحدات الصوتية، والظواهر التطريزية بالرغم من اتفاقها بأنها جميعًا ذات وظائف وقيم صوتية لا تزال تختلف فيما بينها في مكوناتها، وطبيعتها الصوتية، وهذا النهج الذي يطلقون عليه: مبدأ تعدد الأنظمة جاء بمثابة النقد لاتجاه الأمريكان في معالجة هذين النوعين من المادة الصوتية، حيث يدرسونهما معًا تحت عنوان واحد هو: علم الفونيمات (فونيمكس) متبعين في ذلك مبدأ مخالفًا هو مبدأ توحد الأنظمة.
وهناك في بريطانيا اتجاهان آخران فرعيّان:
الأول: يتمثل فيما أخذ به "أولمن" من التفريق التام بين الفونيتيك والفنولوجيا على نحو ما فعلت مدرسة براج.
الثاني: يظهر في أعمال جماعة من اللغويين من جامعات انجلترا واسكتلندا، ويسير في أساسه على الخط التفكيري الذي رسمه "فيرث" لهذا الموضوع؛ فهم يتفقون معه في أن الفوناتيك والفنولوجيا لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر من الناحية التطبيقية على الأقل؛ إذ الأول يجمع المادة الصوتية، ويقدمها إلى الثاني الذي يُخضعها للتنظيم والتقعيد، وبهاتين الخطوتين معًا تتحدد قيم هذه الأصوات ووظائفها في اللغة المعينة، غير أن لهؤلاء اللغويين وجهة نظر خاصة فيما يتعلق بوضع هذين المستويين ومكانهما في إطار الدراسات اللغوية، إن الفونيتيك عندهم ليس فرعا من علم اللغة بصيغة المفرد، وإنما هو نظيره وقسيمه، وهما معًا يكونان ما أطلقوا عليه هم: علوم اللغة.
أما الفنولوجيا في نظرهم: فهو مستوى من البحث ذو وضع خاص، إنه يُمثل حلقة الاتصال بين الفوناتيك وعلم اللغة، وهو في الوقت نفسه تابع لهما، وهذه النظرة الأخيرة التي اختلفوا فيها مع "فيرث" ومدرسته ترتبط برأيهم في تحديد مجالات البحث في اللغة، وفي طبيعة المادة اللغوية ذاتها.
رابعًا: المدرسة الأمريكية: لقد مر النظر الأمريكي فيما يختص بموضوع العلاقة بين الفوناتيك والفنولوجيا بثلاث مراحل متداخلة مترابطة:
المرحلة الأولى: تشبه ما كان يجري عليه الإنجليز في بداية اهتمامهم بدراسة الأصوات حيث كان الأمريكيون في هذه المرحلة يطلقون المصطلح "فنولوجيا" على الدراسة التاريخية للأصوات، مستخدمين الفونيتيك في ذلك النوع من الدراسة الصوتية العامة التي لم تكن تعنى بالتفريق الواضح بين جانبي الأصوات، وقد استمر هذا الاستعمال العام للمصطلح "فونيتيك" ملحوظًا في أعمالهم حتى وقت قريب.
المرحلة الثانية: حين تقدمت الدراسات الصوتية نسبيًّا أحس الأمريكان كغيرهم بضرورة تخصيص منهجين متميزين لدراسة الأصوات؛ فأطلقوا الفونيتيك على ذلك الفرع الذي يعنى بالنظر في الجانب المادي للأصوات، المتعلق بالآثار السمعية الناتجة عن عمليات النطق، ولكنهم بعكس التقليد السائد لم يستعملوا المصطلح "فنولوجيا" لإطلاقه على دراسة الأصوات من جانبها الوظيفي اللغوي، نظرا لشعورهم بأن استعمال الفنولوجيا بهذا المعنى فيه صعوبة ظاهرة؛ لارتباطه بمعنى قديم ثابت في أذهان الناس، وهو إطلاقه على الدراسة التاريخية للأصوات؛ ولهذا اختاروا اسمًا آخر هو الفونيم (الوحدة الصوتية)، ووظيفته: النظر في أنماط الأصوات ووحداتها من حيث دورها وقيمتها في اللغة.
وبالرغم من هذا التفريق بين فرعين أو منهجين لدراسة الأصوات فإننا نلحظ ثلاثة أمور مهمة في هذه المرحلة:
الأول: لم يفرق هؤلاء بين منهج الفونيتيك ومنهج الفونيم، فبين مادتهما اختلاط وتداخل واضحان في هذه المرحلة، بل إن منهج الفونيم والمفروض فيه أن يُعنى بالأصوات من ناحيتها التجريدية والوظيفية، يعرض في كثير من خطواته للجانب النطقي والسمعي للأصوات، حتى أنهم في كثير من الحالات يطلقون الفونيتيك على الفرعين معًا.
الثاني: المنهجان كلاهما يتبعان علم اللغة، ويدخلان في إطاره العام، وهما بهذا الوصف يمثلان مرحلتين، أو خطوتين من مراحل دراسة اللغة.
الثالث: ما يدرسه الأمريكان تحت العنوان: فونيم في هذه المرحلة يكاد يتفق مع ما يبحثه غيرهم في الفنولوجيا في تلك الفترة الزمنية المعاصرة لهذه المرحلة.
وهذه الأمور الثلاثة تبدو بوضوح في أعمال الكثيرين من مشاهيرهم، كما في ذلك السفر الكبير (اللغة والمنعوت في البيئات العلمية بإنجيل الدراسات اللغوية) لكبيرهم "بلومفيلد" الذي يقرر أن الفونيتيك: يدرس الأحداث النطقية من ناحيتيها العضوية والفيزيائية، ولكن بدون نظر إلى المعنى، لأن المعنى يختص به علم الفونيم وهذا يدل على شدة الارتباط بينهما، واعتماد كلّ منهما على الآخر.
ثم يعود فيلخص رأيه، وينص على أن الأصوات يمكن تناولها بثلاثة طرق:
الأولى: تصنف الأصوات من جانبها المادي، فتسجل خواصها النطقية والفيزيائية، ويتم ذلك بوساطة ما سماه الفونيتيك بفروعه الثلاثة: النطقي، والفيزيائي، والتجريبي.
الثانية: وتتمثل في التعرف على الأنماط والوحدات الصوتية المكونة للنظام الصوتي للغة المعينة بطريق الخبرة والملاحظة الذاتية، وهذه الخطوة هي وظيفة ما سماه هو: علم الأصوات العملي، وهو مهارة وفن، أكثر منه منهجا علميا.
الثالثة: وتتلخص في النظر إلى الأصوات بوصفها وحدات مميزة للمعنى في اللغة، وهي ماسماه: الفونيم، ولكنه من وقت إلى آخر ينعتها بالمصطلح: فنولوجيا، وهذه الطريقة تقابل الطريقتين الأولى والثانية معًا، وهي التي تقنن العمل الصوتي وتضع له قواعد عامة.
ومع هذا التمييز بين مراحل ثلاث لم يحاول "بلومفيلد" الفصل بينها فصلًا يمنحها استقلالًا ذاتيًّا، وغالبا مايطلق عليها جميعًا: فونيتيكس، بل قد يستخدم هذا المصطلح كما لو كان مرادفًا للمصطلح: فنولوجيا، وهي كلها عنده جزء لا يتجزأ من علم اللغة.
المرحلة الثالثة: وهذه المرحلة -وهي المرحلة المعاصرة- امتداد للمرحلة السابقة، ويتلخص ما بينهما من خلاف في تعميق الدراسة وتشعبها، وفي استخدام بعض المصطلحات الجديدة التي اقتضتها ضرورة البحث، وفي ظهور اتجاهات جزئية أو فردية في مجال الدراسات الصوتية الحديثة عند الأمريكان، ففي هذه المرحلة استعمل المصطلح: فونيمكس، أي: علم الوحدات الصوتية، بدلًا من فونيم: الوحدة الصوتية، وفي هذا الاستعمال ما يشير إلى أن الدراسة قد خطت خطوات واسعة، وتعمقت مباحثها، حتى صارت علمًا بكل خواصه ومميزاته.
ومن مظاهر تقدم هذه الدراسة وعمقها، أنها تشعبت إلى شعبتين: الأولى اختصت بالنظر فيما سموه بالوحدات أو الفونيمات التركيبية، والثانية عُنيت بدراسة تلك الوحدات أو الفونيمات الأخرى التي أطلقوا عليها: الفونيمات غير التركيبية، أو الفونيمات فوق التركيبية، ومثال النوع الأول الأصوات الصامتة، والحركات بوصفها عناصر مكونة للتركيب الصوتي للغة، أما النوع الثاني: فمثاله تلك الظواهر الصوتية التي تنتمي إلى التركيب وتمتد خلاله، كالنبر والتنغيم وما إلى ذلك من تلك الظواهر التي ليست جزءًا من التركيب نفسه، وفي هذه المرحلة تطورت البحوث وتنوعت في الفوناتيك بفروعه المختلفة، حتى صار كل فرع تقريبا علما مستقلًّا بذاته، وربما يظهر ذاك بصفة خاصة في الفونيتيك الفيزيائي، الذي شغل علماء الأصوات؛ لما فيه من إغراء وإثارة، ولما في بحوثه من نتائج رائعة تفيد الدارسين في المجال اللغوي ومجالات إنسانية أخرى، كالاستعانة بها في علاج عيوب السمع، وهندسة الصوت وغيره.
وهناك في أمريكا تنوعت البحوث وتفرعت، حتى ظهر منهج للبحث اللغوي يتوسط بين الفنولوجيا أو علم الفونيمات والصرف، وقد أطلقوا عليه: علم الفونيمات الصرفية، ويسمى عند غيرهم: الفنولوجيا الصرفية، أو بصورة أخرى: مورفوفنولوجي، ولهذا النوع من البحث جذور قديمة تعرفها مدرسة براج، ولكن الدراسة الأمريكية تفوق أية دراسة أخرى في التنوع والعمق، ووظيفة هذا العلم: النظر في التركيب الصوتي الفونيمي أو الفنولوجي للوحدات الصرفية؛ ومثال ذلك في اللغة العربية: مورفيم الرفع في الأسماء، هي ضمة قصيرة في نحو: محمدُ، ولكنها تكون طويلة في نحو: يبدُو، وبالرغم من هذا التنوع والتشعب في فرعي الأصوات: الفوناتيك وعلم الفونيمات فما زال أغلب الأمريكيين يربطون هذين الفرعين بعضهما ببعض أشد الارتباط وأوثقه.
ومن مظاهر هذا الربط نسبتهما معًا إلى علم اللغة، وعدهما فرعين أو منهجين من مناهجه، على أن هناك من يميل إلى إخراج الفونيتيك من علم اللغة ونسبته إلى علوم أخرى كالفيزياء أو الفسيولوجيا، لأنه في نظره إنما يستمد مبادئه وقواعد البحث فيه من هذين العلمين وأضرابهما.
وليس من النادر أن نجد في الوقت الحاضر كذلك دارسين أمريكيين يتبعون العرف الأوربي باستعمال المصطلح "فنولوجيا" في مكان الاصطلاح الأمريكي: علم الفونيمات، من هؤلاء الدارسين "هوكيت" في بحث معروف له عن الفنولوجيا، ومما يذكر أيضًا أن مرتيني قد تقبل المصطلح فنولوجيا، معترضا على الاسم "فونيمكس" لأن طريقة اشتقاقه وصوغه لم تراع قواعد صوغ الكلمات ذات الأصل اليوناني اللاتيني، وكان الواجب أن يكون المصطلح هو "فونيمكس" ويبدو أنهم إنما فعلوا ذلك قصدًا إلى الوضوح، ومنعًا للبس والخلط، وخوفا من أن يظن البعض بأن علم الفونيمات يقصر عمله في البحث على الفونيمات الأساسية أو التركيبية، مهملًا النوع الآخر منها الممثل في الفونيمات الثانوية؛ ومن ثم كان المصطلح فنولوجيا أوفق في نظرهم.
والحق أن مستعملي المصطلح "علم الفونيمات" لم يهملوا أيًّا من النوعين، وإن كان التركيز -كما يبدو في أعمال بعضهم- موجّهًا نحو النوع الأول، كما أن تسمية النوع الثاني بالفونيمات الثانوية أو الهامشية قد يوحي بأن هناك نوعًا منهما مفضلا وآخر غير مفضل عليه، على حين أن ليس هناك فرق بينهما.
وهكذا يتبين لنا أن المرحلة الثالثة، وتتلخص في تعميق الدراسة وتشعبها وفي استخدام بعض المصطلحات الجديدة تمثل أقصى ما وصلت إليه هذه المدرسة وما وصل إليه التفريق بين علم الفونيمات، وما أدى إليه البحث من نتائج معاصرة، والله أعلم.
الخاتمة:
انتهى الدرس الثاني بفضل الله ويليه الدرس الثالث الذي يركز على أهمية علم الأصوات في المجالين التطبيقي والنظري، حيث سنتعرف على المجالات التطبيقية والنظرية لعلم الأصوات .