-->

معايير التمويل الإسلامي للمشروعات

معايير التمويل الإسلامي للمشروعات

    تعد المصارف الإسلامية واحدة من أهم إسهامات المسلمين المعاصرين وأكثرها نجاحا.  فلقد تمكنت من طرح بديل عادل ومحكم لمعاملات مالية طويلا ما فرضت نفسها على النشاط الاقتصادي. فالصيغ الشرعية التي تتعامل بها المصارف الإسلامية مع أصحاب المشروعات, وبالإضافة إلى ما توفره من إنصاف لكل الأطراف المعنية, تفتح أمام المستثمرين أبواب السعي والأمل في الكسب الحلال دون الخضوع لمطامع المرابيين وتلاعب الخاطئين.

    ولا يعني هذا النجاح أن المصارف الإسلامية قد تمكنت من فرض نفسها نهائيا ولم يبق لها جهد تبذله. بل, وبالعكس, تحتاج هذه المصارف اليوم إلى عمل أكبر من أي وقت مضى وإلى يقظة أكثر من قبل. فالتطورات الحالية للمعطيات الاقتصادية العالمية (العولمة والشمولية خاصة) تفرض على كل المنظمات أن تراجع سياساتها المنتهجة وسلوكها المتبع في شتى الميادين من التصور إلى التسيير مرورا بالآليات المعتمدة والأدوات المستعملة.

    لقد أصبح من الصعب على المنظمات أن تكتفي برد الفعل في محيط لا يترك حتى الوقت لرد الفعل وصار من الضروري أن تحاول المنظمات التي تريد البقاء أن توجه اهتماماتها صوب الاهتمامات المستقبلية للمحيط كي تستطيع أن تساير تطوراته السريعة وتقلباته الكبيرة.

    في هذا الإطار تمثل المشروعات الصغيرة والمتوسطة واحدا من مواطن الاهتمام المتزايد للمحيط ولا شك أنها سوف تفتك في المستقبل القريب مكانة معتبرة في النشاط الاقتصادي المحلي والإقليمي خاصة. ومن هنا يظهر إشكال تمويل هذه المشروعات من قبل المصاريف عموما والمصارف الإسلامية خاصة. وإن كان تمويل المصارف الربوية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة قد نال الحظ الوافر من الأبحاث والدراسات, فإن تمويلها من قبل المصارف الإسلامية لم يعط نفس الاهتمام ولم يعبئ نفس المجهودات.

    إيمانا منا بضرورة المساهمة في هذا المجال وقناعة منا بواجب النصيحة, ارتأينا أن نقدم هذه المحاضرة في مجال الأساليب التمويلية الإسلامية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. وإذا كانت الإشكاليات المطروحة في هذا المجال كثيرة وعديدة, فإننا نعتقد بأن أهمها يدور حول  المعايير التي يمكن للمصارف الإسلامية أن تلجأ إليها لتقويم وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة خاصة والمشروعات عامة.

    نحاول في هذه المحاضرة أن نبرز بإيجاز بعض نقائص المعايير التقليدية (الربوية) لتقويم وتمويل المشروعات, ثم نقوم بوضع إطار عام لما نسميه معايير التمويل الإسلامي, لنصل إلى تصنيف المشروعات وفقا لهذا الإطار. نتيجة لهذا نصل إلى تصنيف المصارف الإسلامية نفسها على أساس سياساتها المنتهجة اتجاه الاستثمارات.

    أما فيما يخص المحاضرة فسوف نتعرض من خلالها إلى النقاط التالية :        

    1-أهمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة
    2-إشكالية تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة

    3-المعايير التقليدية لتقويم المشاريع

    4-التمويل الإسلامي للمشاريع

    5-الإطار العام للتمويل الإسلامي

    المعايير الترتيبية

    المعايير التقويمية:            

    المعايير القرارية:

    6-التمويل الإسلامي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة

     ونسأل الله التوفيق في هذا العمل, مع أملنا أن يكون منطلقا لغيرنا في اقديم ما يجب تقديمه للمجتمع والأمة.

    1. أهمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة

    للمشروعات الصغيرة والمتوسطة دور كبير ومكانة معتبرة في النشاط الاقتصادي وهذا الذي يفسر الاهتمام المتزايد للدول والحكومات, وأصحاب القرار عموما, بهذا النوع من المشروعات. تعود أهمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة إلى عوامل موضوعية, نذكر منها خاصة :

    - عدم ثقل الاستثمار

    - سهولة نسبية في التحكم والتسيير

    إضافة إلى نتائجهما الإيجابية, سواء في المجال التسييري أو في المجال العملي, فإن هذين العاملين يمنحان المشروعات الصغيرة والمتوسطة ميزة بالغة الأهمية وهي الليونة (flexibilité)  التي أصبحت تمثل بالنسبة لظروف المحيط الحالية الشرط الأول والأساسي لضمان استمرارية المؤسسات, كما أن سهولة التحكم والتسيير تفتح أمام هذه المشروعات إمكانيات كبيرة وفرص عديدة للعمل على إنشاء المهارات الضرورية والحفاظ عليها.

    يتضح مما سبق أن للمشروعات الصغيرة والمتوسطة من الخصائص ما يؤهلها للقيام مستقبلا بأدوار حاسمة في الاقتصاديات المحلية والإقليمية على الأقل. ومن هنا يظهر بأن هذه المشروعات, وأكثر من أي وقت مضى, سوف تكون محل اهتمام كبير من طرف مختلف المعنيين من مسيرين, وممولين, وسلطات محلية, الخ .


    2. إشكالية تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة

    إذا كان عدم ثقل الاستثمار يمثل عاملا محفزا على تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة فإنه يمثل, في نفس الوقت, عاملا مشجعا على تزايد عدد هذه المشروعات وهذا ما يؤدي إلى بروز إشكال كبير في مجال تمويلها والمتمثل في كيفية تقويم واختيار المشروعات.

    لقد قدمت المدارس الاقتصادية – وخاصة تلك التي تعرف بالمدرسة الكلاسيكية الجديدة – إطارا نظريا معتبرا وأساليب كمية دقيقة تساعد على اتخاذ القرار في مجال تمويل الاستثمارات بصفة عامة, إلا أن المنطلقات الفكرية التي كانت وراء إنشاء هذا الإطار النظري لم تعد اليوم صالحة كما أن الفرضيات الأساسية التي تحكم هذه الأساليب الكمية لم تبق قائمة في الظروف الحالية المحيطة بالمؤسسات, صغيرة كانت أم كبيرة.

    فالمؤسسة الاقتصادية اليوم ليست ذلك النظام المغلق الذي انحصر فيه الاقتصاديون الأوائل وانطلق منه التفكير التايلوري والمدرسة التالورية في البحث عن أنجع الأساليب لرفع الإنتاجية قصد تحقيق أكبر مستوى من الربح. كما أن المحيط الحالي للمؤسسات الاقتصادية ليس ذلك المحيط البسيط الذي, وبرغم التقلبات التي تميزه, لا يكاد أن يكون أكثر من محيط مباشر ولا يتجاوز في أي حال من الأحول, وبالنسبة لأي مؤسسة, القطاع الذي تمارس فيه نشاطها, وتواجه فيه منافسيها, وتختار فيه موادها الأولية ومورديها, وتبحث فيه عن زبائنها.

    لقد أصبحت المؤسسات منذ السبعينيات تمارس نشاطها وفقا لإستراتيجيات محكمة مرسومة على ضوء معطيات المحيط, وعديدة هي المؤسسات التي اضطرت إلى اتباع إستراتيجية دخول السوق بواسطة التكاليف أي دون أن تبحث عن تحقيق أرباح في الفترات الزمنية الأولى. كما أن الربح الذي كان يعتبر, في زمن مضى, الوسيلة الأساسية لضمان استمرارية مزاولة نشاط للمؤسسات قد تراجعت مكانته في سلم اهتمامات المسيرين الذين أصبحوا يولون الاهتمام الأول لنصيبهم من السوق بدلا من الربح.

    هذا من جهة, أما من جهة ثانية فإن التعقيد (complexité) المتزايد لمحيط المؤسسات جعل من هذه الأخيرة موضوعا للتأثير, ليس من طرف القطاع الذي تمارس فيه نشاطها فحسب وإنما من طرف قطاعات أخرى بعيدة كل البعد عن نشاطها. لقد أصبحت المؤسسات اليوم تتأثر بتطور التكنولوجيا في مجالات غير مجالها كما أن الإبداعات (innovations) التي تتم في قطاع معين لا يتوقف تأثيرها حتما عند ذلك القطاع. فعلاقات المؤسسات بمحيطها لم تبق على الحال الذي كانت تعرف عليه, بل تجاوزت الأبعاد والحدود التقليدية لتطهر في شكل علاقات مكثفة ومعقدة مع محيط لا يقل تعقيدا.

    لا يخفى على أحد أن مفهوم المؤسسات قد تطور من نظام مغلق, مثلما أشرنا آنفا, إلى نظام مفتوح يبحث عن التأقلم مع المحيط, إلا أن في السنين الأخيرة لم تبق المقاربة النظمية (approche systémique) كافية لفهم وتفسير سلوك المؤسسات, ذلك لأن المؤسسات لم تعد اليوم ترضى بالتأقلم وإنما تحاول معرفة تطورات المحيط قبل حدوثها قصد اتخاذ التدابير والقرارات المناسبة مسبقا. فلقد تحولت المؤسسات من نظام متأقلم بواسطة رد الفعل (réaction) إلى كيان يسبق الأحداث بواسطة الفعل المسبق (pro-action), ثم إن النظام المفتوح ليعمل على تحقيق هدف معين بينما أصبحت المؤسسات اليوم تغير هدفها باستمرار وفقا لما تترقبه من تقلبات المحيط, فالمؤسسات أصبحت إذن عبارة عن كيان متعلم (entité apprenante) وهذا ما يجعل المقاربة النظمية غير كافية لطرح وفهم وتفسير مشاكل المؤسسات اليوم بما في ذلك مشاكل تمويلها.  

    وعلى ضوء هذه التغيرات التي مست المؤسسات ومحيطها, يصبح من الضروري أن نتساءل فيما إذا بقت المعايير التقليدية لتقويم واختيار المشاريع صالحة حتى اليوم أو إذا صارت غير صالحة, وإن كانت صالحة  فإلى أي درجة يمكن الاعتماد عليها ؟ وإن لم تعد صالحة فما البديل ؟



    3. المعايير التقليدية لتقويم المشاريع

    تكمن أهم معايير تقويم المشاريع في تلك التي كثيرا ما يتناولها طالب العلوم الاقتصادية والتسييرية, وهي القيمة الصافية الحالية (VAN), والمعدل الداخلي للربحية (TIR) وفترت الاسترداد (période de remboursement).

    أما بالنسبة للمعيار الأول – وهو أهم هذه المعايير – فإنه يتمثل في تقويم المشاريع على أساس قدرتها على تحقيق مستوى من الأرباح يسمح بتسديد قرض الاستثمار مع دفع الفوائد على رأس المال, وكلما كان قدرة المشروع في ذلك كبيرة كلما كان المشروع مؤهلا للتمويل.

    أما بالنسبة للمعيار الثاني فلقد بين بعض الباحثين بأنه عبارة عن معيار لرفض تمويل المشاريع لا لقبولها.

    أما بالنسبة للمعيار الثالث فإنه يستعمل لتقويم المشاريع على أساس سرعتها في تسديد قروضها مع دفع الفوائد. وكلما كانت هذه الفترة قصيرة كلما زادت حظوظ المشروع في الحصول على التمويل.

    مما سبق يتبين وأن المعايير التقليدية تقوم كلها على عنصر واحد وهو رأس المال كما أنها تهمل العناصر الأخرى التي, على أرض الواقع, تأثر على نشاط المؤسسات كالعمل, والتسيير والمحيط, وهذا الذي جعل Igor Ansoff يقول بأن " النظرية الاقتصادية الجزئية التقليدية لا تأخذ بعين الاعتبار إلا المتغيرات القابلة للرقابة وتهمل المتغيرات الهيكلية والمتغيرات الإستراتيجية "

    إضافة إلى ما سبق فإن تقويم المشاريع بواسطة المعايير التقليدية لا يأخذ في الحسبان ما يعرف بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات ذلك لأنه, وباعتماده الجانب الاقتصادي البحت, يهمل الرابط المعنوي الذي يجمع المؤسسة بمحيطها والذي تمثله خاصة الالتزامات الأخلاقية لهذه المؤسسات اتجاه محيطها.

    كما أن هذه المعايير تفرض على مستعملها أن يضع توقعات بالتدفقات المالية للمؤسسة ولا يمكن وضع هذه التوقعات إلا على أساس فرضيات معينة كاستقرار المحيط بمختلف جوانبه, وعدم اضطرار المؤسسة إلى تغيير هدفها الإنتاجي والتسويقي وغيرهما...في الوقت الذي, كما سبق وأن رأينا, لا تستطيع المؤسسة أن تستقر على هدف ولا يمكن افتراض أي استقرار لمحيط يميزه التعقيد وسرعة التقلبات.

    بهذه الكيفية أصبح من الصعب الاعتماد على المعايير التقليدية لتقويم وتمويل المشاريع عموما, أما بالنسبة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة, ولأن درجة تأثر هذه الأخيرة بالمحيط أكبر من درجة تأثر المشروعات الكبيرة, فإن تقويمها بالمعايير التقليدية قد يؤثر سلبا على نشاطها بسبب المضايقة القوية التي تمارسها هذه المعايير على ذلك النشاط. ولذا فإنه أصبح من الضروري أن يعاد النظر في معايير تقويم وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة.

    هذا إذا نظرنا من الزاوية الاقتصادية البحتة لهذه المعايير, أما إذا نظرنا لها من الجانب العقائدي, فنجد أنها تقوم كلها على معدل الفائدة الذي ليس في الواقع إلا تسمية أخرى لظاهرة الربا التي لا شك ولا نقاش في حرمتها عندنا.

    مما سبق, يتضح أن المسلمين إذا ما أقبلوا على مسألة اختيار وتمويل استثمارات يجدون أنفسهم أمام مشكلة مزدوجة تتعلق, من جهة, بنقص واضح في المعايير التقليدية  ومن جهة أخرى بربوية هذه المعايير. فما هي المعايير التي يستطيع المسلمون أن يعتمدوا عليها في تقويم المشاريع وما هي الصيغ التي يمكن تبنيها في عملية تمويل هذه المشاريع ؟ أو بتعبير آخر, على أي أسس يمكن للهيئات الممولة عند المسلمين أن تقبل أو ترفض تمويل المشروعات ؟

    4. التمويل الإسلامي للمشاريع

    اجتنابا للخوض في الحرام وحرصا على جعل نشاطها يتماشى مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف, قامت بعض الهيئات المصرفية العربية والإسلامية بتبني صيغ التمويل القائمة على المشاركة في الربح والخسارة. ولا شك أن هذه الصيغ, وبما أنها لا تعتمد الفوائد المحددة مسبقا على رأس المال, تخرج مبدئيا تعامل الهيئات المصرفية المعنية من دائرة الربا, إلا أن التمويل نفسه, وحتى في هذه الحالة, لا يمكن أن يكون تلقائيا أي أنه ليس من المعقول أن يقبل المصرف تمويل أي مشروع. فالسؤال الذي يبقى مطروحا يتمثل فيما يلي : على أي أساس يقوم المصرف الإسلامي بقبول أو برفض تمويل المشروعات ؟ أو, بتعبير آخر, ما هي المعايير التي يعتمدها المصرف الإسلامي لتقويم المشروعات صغيرة كانت أو كبيرة ؟

    لا شك أن الإقبال على تمويل مشروعات يمثل تحمل مخاطر معينة, ومن واجب المصارف الإسلامية أن تبحث عن تقليص هذه المخاطر إلى أبعد حد, مثلها في هذا الشأن مثل المصارف الأخرى. وإذا كانت المصارف التقليدية (غير الإسلامية) "تحصن نفسها" بدراسة جدوى المشروعات فلا مانع من أن تقوم المصارف الإسلامية بنفس العمل إلا أنها لا تستطيع أن تلجأ إلى نفس المعايير ومن هنا يأتي السؤال : ما هي المعايير البديلة التي على أساسها تستطيع المصارف الإسلامية أن تقوم بتقويم المشاريع لقبول أو رفض تمويلها ؟

    5. الإطار العام للتمويل الإسلامي

    يقوم كل معيار, مهما كان المجال الذي يتم وضعه فيه, على فرضيات معينة. وبالنسبة لمعايير التمويل الإسلامي فإننا نرى فرضيتين أساسيتين على الأقل وهما:

    الفرضية الأولى : أن تكون المشروعات موضوع التمويل صحيحة شرعا

    الفرضية الثانية : أن يكون التمويل ذاته صحيحا شرعا

    أما الفرضية الأولى فهدفها تجنب صب أموال زبائن المصرف خارج دائرة الحلال, أما الفرضية الثانية فهدفها تجنب المعاملات التي لا تتماشى وتعاليم الشريعة في هذا المجال. وإذا كانت المشروعات الصحيحة شرعا تعرف بمجالها (مجال النشاط لا يمكن أن يكون في غير دائرة الحلال), وبطبيعتها (مباحة, أو مستحبة, أو مكروهة...) وبأهدافها, فإن شرعية التمويل تكمن في احترام ثلاثة عناصر أساسية وهي:

    شرعية موضوعه

    شرعية مبادئه

    شرعية آلياته (صيغه)

    تمثل الفرضيتان الإطار العام الذي يمكن أن نتكلم فيه عن تمويل إسلامي وعن كل ما يتعلق بهذا التمويل بما في ذلك معايير تقويم المشروعات, ويعني هذا الكلام أن عملية التمويل إذا فقدت شرطا واحدا من هذه الشروط فإنها  تصبح غير شرعية ولا يمكن عندئذ أن نتكلم عن تمويل إسلامي.

    للمال مكانة مهمة في الإسلام, ولذا فلقد جعل منه الشرع مقصدا من مقاصد الشريعة (حفظ النفس, والعقل, والدين, والعرض والمال) كما نهانا من إهماله وإضاعته وسوء استعماله بالتبذير وغيره. فلقد جاء في القرآن الكريم النهي القاطع عن إيتاء السفهاء الأموال, كما ورد في أكثر من آية النهي عن التبذير. ومن هنا فإن المال عند المسلمين لا يفترض أن يشغل إلا في أوجه معروفة وبسبل سليمة قصد الانتفاع.

    وإذا كان الانتفاع هو الغاية الوحيدة, فإن التوصل إليه يكون حسب الحالات والأوضاع إما عن الطريق جلب النفع إما عن طريق دفع الضرر. ولذا فإن المال عند المسلمين لا يوظف إلا لجلب نفع أو لدفع ضرر.

    وبما أن النفع أنواع ودرجات, فلا شك أن صرف المال لجلب نفع كبير يكون أحب وأحق وأولى من صرفه لجلب نفع ضعيف,  كما أن استعماله لدفع ضرر كبير يكون أولى وأحسن من استعماله لدفع ضرر حفيف.

    انطلاقا من هذه الاعتبارات العامة يمكننا أن نضع الشكل التالي :

    لا يخرج تمويل المصارف الإسلامية للمشروعات عن هذا الإطار ذلك لأن سلوكه وتعامله مع المال لا يختلف عن تعامل الفرد المسلم مع المال. لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو التالي: كيف يمكن للمصرف الإسلامي أن يقرر تمويل أو عدم تمويل المشروعات ؟

    يتطلب هذا القرار المرور بثلاثة مراحل:

    - ترتيب المشروعات

    - تقويمها

    - اتخاذ القرار في شأن تمويلها

    وتجدر الإشارة هنا بأن كل مرحلة من هذه المراحل يجب أن تعتمد معايير معينة. فترتيب المشروعات لا يمكن أن يكون صحيحا إلا إذا تم على أساس معايير مضبوطة ومحكمة (نسميها معايير ترتيبيةcritères de hiérarchisation ), كما أنه لا معنى لتقويم لهذه المشروعات إن لم يتم وفقا لمعايير دقيقة (وهي المعايير التقويميةcritères d'évaluation ), واضحة ومحكمة, وبنفس الكيفية فإنه لا أساس لقرار يتخذ بغير معايير(وهي المعايير القرارية critères de décision).  

    لا نستطيع في هذا البحث أن نقف عند كل هذه الأنواع للمعايير, ولذا فسوف نكتفي بالتركيز على النوع الأول منها فقط, وهي المعايير الترتيبية, مع الإشارة الخفيفة إلى النوعين الآخرين, أملين أن تكون لنا فرصة أخرى لعرض تصورنا حول أنواع المعايير المتبقية.

    المعايير الترتيبية

    لترتيب الأمور أهمية كبيرة في التعامل معها ودور مؤكد في فهمها. وعندما يتعلق الأمر بتمويل مشروعات فإن الترتيب يتسم - بدون شك - بأهمية أكبر إذ على أساسه تنصف مجهودات الناس أو تظلم, وتراعى حقوقهم أو تهضم. هذا من جهة, أما من جهة أخرى فإن التسيير (الإدارة) الحديث يعطي مكانة بالغة الأهمية للعملية التنظيمية, وما الترتيب إلا عملا تنظيميا يستهدف به تسهيل العمل وتحسينه من أجل رفع مستوى أداء المنظمة.  

    ولهذا فإن ترتيب المشروعات يمثل مرحلة هامة بالنسبة للمصارف الإسلامية. ونعني بترتيب المشروعات مقارنتها فيما بينها بغرض كشف ودرك أولوية كل منها.

    إذا أدخلنا على الشكل رقم 1 تقويم العنصرين (جلب النفع ودرأ الضرر), فإننا نحصل على أربعة أصناف للمشروعات وذلك ما يبينه الشكل الموالي:

    شكل رقم 2 : ترتيب المشروعات

    عن مقارنة المشروعات فيما بينها ينتج توزيعها على أربعة أصناف:

    الصنف الأول : مشروعات تستهدف دفع ضرر قوي وقد تجلب نفعا ضعيفا

    الصنف الثاني : مشروعات تقام لدفع ضرر قوي مع جلبها لنفع قوي

    الصنف الثلث : مشروعات تبحث عن جلب نفع ضعيف مع دفع ضرر خفيف

    الصنف الرابع : مشروعات تستهدف النفع الكبير مع دفع ضرر حفيف



    إلا لأن هذه المشروعات يجب أن ترتب.
    تقول القاعدة الفقهية أن درأ الضرر أولى من جلب المنفعة. ومن هنا يمكن ترتيب المشروعات الواردة في أعلى الجدول قبل تلك التي ترد في أسفله. ثم, وعلى أساس جلبها للمنفعة, فإن المشروعات التي تظهر في يمين الجدول تكون لها أولوية أكبر من تلك التي تظهر في شماله.

    وهكذا نصل إلى الترتيب التالي للمشروعات بالنسبة للمصارف الإسلامية:
    ويعني هذا أن المصارف الإسلامية عند دراستها للمشروعات قصد تمويلها, مطالبة بإعطاء الأولوية لكل المشروعات التي تصب في اتجاه رفع الضرر قبل المشروعات الأخرى. كما أن الترتيب للمشروعات يكون حسب الترقيم الوارد في الجدول أعلاه.



    -          الأولية من الدرجة 1 : المشروعات التي تستهدف رفع الضرر الكبير وجلب النفع الكبير, وهي في الواقع تلك المشروعات التي تأتي في صميم الاهتمامات الكبرى والمستعجلة للمجتمع والأمة.

    -          الأولية من الدرجة 2 : المشروعات التي تسعى إلى رفع ضرر كبير مع جلب نفع ضعيف, وتتمثل في المشروعات التي

    -          الأولية من الدرجة 3 : المشروعات التي تجلب نفعا كبيرا وتدفع ضررا فيفا

    -          الأولية من الدرجة 4 : المشروعات التي تجلب نفعا ضعيفا وتدفع ضررا خفيفا

    وإذا تأملنا ترتيب المشروعات بهذه الكيفية, فنجد أنه لا يخرج فقط المسؤولية الاجتماعية لهذه المشروعات إلى الوضوح وإنما تجعلها أساس التقويم, تلك المسؤولية التي تهملها المعايير الوضعية لتقويم المشروعات بالرغم من أهميتها المعترف بها من قبل كل المنظرين والباحثين في مجال التسيير. وإعطاء المسؤولية الاجتماعية هذه الأهمية ليس في الواقع إلا تكريس حق المجتمع في أموال أفراده وجماعاته, وحقه عليهم في توظيفها أحسن توظيف وفي الأوجه الأنسب.

    المعايير التقويمية:            

    قد يسأل سائل "وكيف يحدد الضرر وكيف تعرف المنفعة ؟ وكيف تدرك درجته كل منهما ؟" وفي الحقيقة فإن الضرر والمنفعة يختلفان من منطقة إلى أخرى, وحتى في نفس المنطقة فإنهما يختلفان من وقت إلى آخر, ذلك لأنهما من الأمور المتغيرة التي يحكمها التطور العلمي والتكنولوجي والنمو الاقتصادي وظروف المعيشة للمجتمعات. فالجوع ضرر لا يكاد ينزل في بعض المجتمعات الغربية إلا أنه نازل بقوة ببعض المجتمعات العربية والإسلامية, كما أن الاستشفاء نفع كبير يتفاوت توفيره بين الدول العربية والإسلامية, فتحديد درجة الضرر والنفع أمر ظرفي ونسبي بغير جدال.

    إلا أن هذا الطابع الظرفي لا يمنع التحديد كما أن الطابع النسبي لا يمنع التقويم.

    ويتمثل دور المعايير التقويمية في تحديد حجم النفع الذي سيجلبه الاستثمار وحجم الضرر الذي سيرفعه في نفس الوقت, كما أن هذه المعايير تمكن أيضا من ترتيب المشروعات فيما بيتها داخل الصنف الواحد.

    وإذا كانت المعايير الترتيبية ذات طابع نوعي, فالمعايير التقويمية تكون كمية بحتة.



    المعايير القرارية:

    بعد ترتيب وتقويم المشاريع, لا بد من اتخاذ القرار بشأن تمويل أو عدم تمويل المشروعات. وإذا كان هذا القرار في البنوك الربوية تحكمه قدرة المشروعات على تسديد رأس المال المقترض والفائدة المحددة مسبقا, فإن الأمر يختلف تماما بالنسبة للمصارف التي ترفض التعامل بالربا, ذلك لأن ما بني على باطل فهو باطل.

    وفي الواقع فإن القرار بشأن تمويل – أو عدم تمويل – مشروع على أساس الخصائص الذاتية للمشروع نفسه (الربح, الربح بالقيمة الحالية, معدل المردودية...), يجعل من مصلحة البنك وحدها المحور الأساسي الذي تدور حوله كل عملية التمويل, فينزع من هذا المشروع دوره الاجتماعي ويضيق على صاحبه بإخضاعه لشروط تمويل صعبة للغاية, كما لا يأخذ في عين الاعتبار أولويات المجتمع, أما بالنسبة للتمويل الإسلامي فإن مثل هذا القرار لا بد أن يحرص على التوفيق بين صالح صاحب المشروع والمصرف من جهة وصالح المجتمع من جهة أخرى, وذلك وفقا لحديث رسول الله   "لا ضرر ولا ضرار". فمن واجب المصارف الإسلامية أن تضع معايير تقويمية بديلة خالية من الربا وآخذة لكل المصالح بعين الاعتبار.  

    هذا من جهة, أما من جهة أخرى, فإن مجموع القرارات المصرفية بشأن التمويل تحدد, لا محال, سلوك وموقف المصرف نفسه من صالح المجتمع والأمة. فقد يكون المصرف يفضل تمويل نوعا معينا من المشروعات, وهذا ما يضعنا أما أربعة حالات:

    الحالة الأولى, وهي تلك التي يفضل فيها المصرف تمويل المشروعات من النوع الأول (الخانة رقم 1 من الجدول السابق). في هذه الحالة يكون المصرف منتهجا سياسة مسؤولة (responsable) أو ملتزمة (engagée) لأنه يعطي لدفع الضرر الكبير الأولوية المطلقة, وهذا ما يدل على اهتمامه بهم المجتمع والأمة. وإذا سلمنا بأن الضرر الكبير هو ذلك الذي يكون قد حل فعلا بالمجتمع أو الأمة, فإن طبيعة المشروعات التي يميل هذا المصرف إلى تمويلها استعجالية.

    الحالة الثانية, وتظهر عندما يفضل المصرف تمويل المشروعات من النوع الثاني (الخانة رقم 2 من الجدول السابق). برفع الضرر وهو خفيف, تساهم المصرف الممول من دفع الأضرار القوية,  ولذا نقول بأن في هذه الحالة يصبح المصرف منتهجا لسياسة الحراسة واليقظة (vigilance).

    الحالة الثالثة, وتظهر عندما يفضل المصرف تمويل المشروعات ذات النفع الكبير مع رفع الضرر الحفيف (الخانة رقم 3 من الجدول السابق), وعند هذه الحالة يكون المصرف يشجع على الاستثمار في مجالات التحسين أكثر من غيرها, ولذا فإننا نقول بأنه مصرف ينتهج سياسة التحسين  (amélioration).

    الحالة الرابعة, وتواجهنا عندما يكون المصرف يفضل تمويل المشروعات من النوع الثالث (الخانة رقم 4 من الجدول السابق), وفي هذه الحالة لا يساهم المصرف في دفع ضرر يذكر ولا في جلب نفع معتبر, وإنما – ووفقا لفرضية الصحة الشرعية للمشروعات- يساهم هذا المصرف في الحفاظ على مستوى موجود من النفع. ولذا فإننا نقول بأنه ينتهج سياسة الحفظ (maintien).

    إذا انطلقنا من هذه الاعتبارات, يمكننا أن نحصر علاقة المصارف الإسلامية بمختلف أنواع المشروعات, بما في ذلك الصغيرة منها والمتوسطة التي خصصنا لها هذه المداخلة.

    6. التمويل الإسلامي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة

    لا شك أن للسياسة المتبعة من طرف المصرف الإسلامي أثر حاسم في اختيار المشروعات القابلة للتمويل, ذلك لأنه من البديهي أن المصرف لا يمول إلا تلك المشروعات التي, إضافة إلا صحتها الشرعية, تساعده على تعزيز تموقعه الاستراتيجي ضمن المصارف الأخرى الإسلامية منها والربوية.

    وبما أن المشروعات الصغيرة والمتوسطة, ونظرا لمميزاتها الخاصة, تدخل عموما في الخانة الرابعة (نفع ضعيف ورد ضرر خفيف), فإن المصارف المعنية أكثر بتمويلها هي المصارف المحافظة, ولا نريد القول هنا بأن المشروعات الصغيرة والمتوسطة قضية تخص هذا الصنف من المصارف, لكن ما نريد قوله هو أن تمويلها يكون أولا على عاتق هذه المصارف وفي حالة التعذر يحول إلى غيرها.

    كما لا يصح أن نتصور بأن المصارف قد تتخصص في نوع معين من المشروعات غير أنها, ومع تنويع مجالات تمويلها, تكون تفضل نسبيا مجالا على غيره من المجالات. فالمصارف الملتزمة مثلا لا يقتصر تمويلها على نوع واحد من المشروعات (رد ضرر كبير وجلب نفع كبير) لكن هذه النوع يمثل أكبر حصة في حافظة نشاطاتها الاستثمارية.  

    يتضح لنا في نهاية المطاف بأن المصارف الإسلامية قد تحتاج إلى وضع وضبط معايير دقيقة لتمويل المشروعات, الصغيرة منها والكبيرة, كما قد تحتاج إلى صياغة استراتيجيات محكمة بالنسبة لهذا التمويل, ولا شك في أن المهتمين بالأمر سوف يبذلون ما في وسعهم من مجهود ليمكنوا هذه المصارف من تحسين مكانتها وفرض طرقها التمويلية أكثر فأكثر.