الدَّوْلَةُ العُثمَانِيَّة (بالتركية العثمانية: دَوْلَتِ عَلِيّهٔ عُثمَانِيّه؛[3] بالتركية الحديثة: Yüce Osmanlı Devleti) أو الخِلَافَةُ العُثمَانِيَّة، هي إمبراطورية إسلامية أسسها عثمان الأول بن أرطغرل، واستمرت قائمة لما يقرب من 600 سنة، وبالتحديد من 27 يوليو 1299م حتى 29 أكتوبر 1923م.[4]
بلغت الدولة العثمانية ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، فامتدت أراضيها لتشمل أنحاء واسعة من قارات العالم القديم الثلاثة: أوروبا وآسيا وأفريقيا، حيث خضعت لها كامل آسيا الصغرى وأجزاء كبيرة من جنوب شرق أوروبا، وغربي آسيا، وشمالي أفريقيا.[5] وصل عدد الولايات العثمانية إلى 29 ولاية، وكان للدولة سيادة اسمية على عدد من الدول والإمارات المجاورة في أوروبا، التي أضحى بعضها يُشكل جزءًا فعليًا من الدولة مع مرور الزمن، بينما حصل بعضها الآخر على نوع من الاستقلال الذاتي.
كان للدولة العثمانية سيادة على بضعة دول بعيدة كذلك الأمر، إما بحكم كونها دولاً إسلامية تتبع شرعًا سلطان آل عثمان كونه يحمل لقب "أمير المؤمنين" و"خليفة المسلمين"، كما في حالة سلطنة آتشيه السومطرية التي أعلنت ولاءها للسلطان في سنة 1565م؛ أو عن طريق استحواذها عليها لفترة مؤقتة، كما في حالة جزيرة "أنزاروت" في المحيط الأطلسي، والتي فتحها العثمانيون سنة 1585م.[6]
أضحت الدولة العثمانية في عهد السلطان سليمان الأول "القانوني" (حكم منذ عام 1520م حتى عام 1566م)، قوّة عظمى من الناحيتين السياسية والعسكرية، وأصبحت عاصمتها القسطنطينية تلعب دور صلة الوصل بين العالمين الأوروبي المسيحي والشرقي الإسلامي،[7][8] وبعد انتهاء عهد السلطان سالف الذكر، الذي يُعتبر عصر الدولة العثمانية الذهبي، أصيبت الدولة بالضعف والتفسخ وأخذت تفقد ممتلكاتها شيءًا فشيءًا، على الرغم من أنها عرفت فترات من الانتعاش والإصلاح إلا أنها لم تكن كافية لإعادتها إلى وضعها السابق.
انتهت الدولة العثمانية بصفتها السياسية بتاريخ 1 نوفمبر سنة 1922م، وأزيلت بوصفها دولة قائمة بحكم القانون في 24 يوليو سنة 1923م، بعد توقيعها على معاهدة لوزان، وزالت نهائيًا في 29 أكتوبر من نفس السنة عند قيام الجمهورية التركية، التي تعتبر حاليًا الوريث الشرعي للدولة العثمانية.[9]
عُرفت الدولة العثمانية بأسماء مختلفة في اللغة العربية، لعلّ أبرزها هو "الدولة العليّة" وهو اختصار لاسمها الرسمي "الدولة العليّة العثمانية"، كذلك كان يُطلق عليها محليًا في العديد من الدول العربية، وخصوصًا بلاد الشام ومصر، "الدولة العثمليّة"، اشتقاقًا من كلمة "عثملى - Osmanlı" التركية، التي تعني "عثماني". ومن الأسماء الأخرى التي أضيفت للأسماء العربية نقلاً من تلك الأوروبية: "الإمبراطورية العثمانية" (بالتركية: Osmanlı İmparatorluğu)، كذلك يُطلق البعض عليها تسمية "السلطنة العثمانية"، و"دولة آل عثمان".
التاريخ
أصل العثمانيين وموطنهم الأول
العثمانيون قوم من الأتراك، فهم ينتسبون - من وجهة النظر الأثنيّة - إلى العرق الأصفر أو العرق المغولي، وهو العرق الذي ينتسب إليه المغول والصينيون وغيرهم من شعوب آسيا الشرقية.[10] وكان موطن الأتراك الأوّل في آسيا الوسطى، في البوادي الواقعة بين جبال آلطاي شرقًا وبحر قزوين في الغرب، وقد انقسموا إلى عشائر وقبائل عديدة منها عشيرة "قايي"،[10] التي نزحت في عهد زعيمها "كندز ألب" إلى المراعي الواقعة شماليّ غربي أرمينيا قرب مدينة خلاط، عندما استولى المغول بقيادة جنكيز خان على خراسان.[10] إن الحياة السياسية المبكرة لهذه العشيرة يكتنفها الغموض، وهي أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقائق، وإنما كل ما يُعرف عنها هو استقرارها في تلك المنطقة لفترة من الزمن، ويُستدل على صحة هذا القول عن طريق عدد من الأحجار والقبور تعود لأجداد بني عثمان.[11] ويُستفاد من المعلومات المتوافرة أن هذه العشيرة تركت منطقة خلاط حوالي سنة 1229م تحت ضغط الأحداث العسكرية التي شهدتها المنطقة، بفعل الحروب التي أثارها السلطان جلال الدين الخوارزمي وهبطت إلى حوض نهر دجلة.[12]
توفي "كندز ألب" في العام التالي لنزوح عشيرته إلى حوض دجلة، فترأس العشيرة ابنه سليمان، ثم حفيده "أرطغرل" الذي ارتحل مع عشيرته إلى مدينة إرزينجان، وكانت مسرحًا للقتال بين السلاجقة والخوارزميين، فالتحق بخدمة السلطان علاء الدين سلطان قونية، إحدى الإمارات السلجوقية التي تأسست عقب انحلال دولة السلاجقة العظام،[13][معلومة 1] وسانده في حروبه ضد الخوارزميين، فكافأه السلطان السلجوقي بأن أقطع عشيرته بعض الأراضي الخصبة قرب مدينة أنقرة.[14] وظل أرطغرل حليفًا للسلاجقة حتى أقطعه السلطان السلجوقي منطقة في أقصى الشمال الغربي من الأناضول على الحدود البيزنطية، في المنطقة المعروفة باسم "سوغوت" حول مدينة أسكي شهر، حيث بدأت العشيرة هناك حياة جديدة إلى جانب إمارات تركمانية سبقتها إلى المنطقة.[11] علا شأن أرطغرل لدى السلطان بعد أن أثبت إخلاصه للسلاجقة، وأظهرت عشيرته كفاءة قتالية عالية في كل معركة ووجدت دومًا في مقدمة الجيوش وتمّ النصر على يدي أبنائها،[13] فكافأه السلطان بأن خلع عليه لقب "أوج بكي"، أي محافظ الحدود، اعترافًا بعظم أمره.[14] غير أن أرطغرل كان ذا أطماع سياسية بعيدة، فلم يقنع بهذه المنطقة التي أقطعه إياها السلطان السلجوقي، ولا باللقب الذي ظفر به، ولا بمهمة حراسة الحدود والحفاظ عليها؛ بل شرع يهاجم باسم السلطان ممتلكات البيزنطيين في الأناضول،[15] فاستولى على مدينة أسكي شهر وضمها إلى أملاكه، واستطاع أن يوسع أراضيه خلال مدة نصف قرن قضاها كأمير على مقاطعة حدودية، وتوفي في سنة 1281م عن عمر يُناهز التسعين عامًا،[16] بعد أن خُلع عليه لقب كبير آخر هو "غازي"،[17] تقديرًا لفتوحاته وغزواته.
السلطان الغازي عثمان خان الأول،[معلومة 2] مؤسس الدولة العثمانية.
بعد أرطغرل تولّى زعامة الإمارة ابنه البكر عثمان، فأخلص الولاء للدولة السلجوقية على الرغم مما كانت تتخبط فيه من اضطراب وما كان يتهددها من أخطار.[18] أظهر عثمان في بداية عهده براعة سياسية في علاقاته مع جيرانه، فعقد تحالفات مع الإمارات التركمانية المجاورة، ووجه نشاطه العسكري نحو الأراضي البيزنطية لاستكمال رسالة دولة سلاجقة الروم بفتح الأراضي البيزنطية كافة، وإدخالها ضمن الأراضي الإسلامية، وشجعه على ذلك حالة الضعف التي دبت في جسم الإمبراطورية البيزنطية وأجهزتها، وانهماكها بالحروب في أوروبا،[16] فأتاح له ذلك سهولة التوسع باتجاه غربي الأناضول، وفي عبور الدردنيل إلى أوروبا الشرقية الجنوبية. ومن الناحية الإدارية، فقد أظهر عثمان مقدرة فائقة في وضع النظم الإدارية لإمارته، بحيث قطع العثمانيون في عهده شوطًا كبيرًا على طريق التحول من نظام القبيلة المتنقلة إلى نظام الإدارة المستقرة، ما ساعدها على توطيد مركزها وتطورها سريعًا إلى دولة كبرى.[16] وقد أبدى السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث تقديره العميق لخدمات عثمان، فمنحه لقب "عثمان غازي حارس الحدود العالي الجاه، عثمان باشا".[16]
أقدم عثمان بعد أن ثبّت أقدامه في إمارته على توسيع حدودها على حساب البيزنطيين، ففي عام 1291م فتح مدينة "قره جه حصار" الواقعة إلى الجنوب من سوغوت، وجعلها قاعدة له، وأمر بإقامة الخطبة باسمه،[19] وهو أول مظهر من مظاهر السيادة والسلطة، ومنها قاد عشيرته إلى بحر مرمرة والبحر الأسود.[18] وحين تغلب المغول على دولة قونية السلجوقية، سارع عثمان إلى إعلان استقلاله عن السلاجقة ولقّب نفسه "پاديشاه آل عثمان" أي عاهل آل عثمان،[20] فكان بذلك المؤسس الحقيقي لهذه الدولة التركية الكبرى التي نُسبت إليه لاحقًا.[18] وظلّ عثمان يحكم الدولة الجديدة بصفته سلطانًا مستقلاً حتى تاريخ 6 أبريل سنة 1326م، الموافق فيه 2 جمادى الأولى سنة 726هـ، عندما احتل ابنه "أورخان" مدينة بورصة الواقعة على مقربة من بحر مرمرة،[18] وفي هذه السنة توفي عثمان عن عمر يناهز السبعين عامًا،[21] بعد أن وضع أسس الدولة ومهد لها درب النمو والازدهار، وخُلع عليه لقب آخر هو "قره عثمان"، وهو يعني "عثمان الأسود" باللغة التركية الحديثة، لكن يُقصد به "الشجاع" أو "الكبير" أو "العظيم" في التركية العثمانية.[22]
السلطان الغازي أورخان الأول.
عُني أورخان بتنظيم مملكته تنظيمًا محكمًا، فقسمها إلى سناجق أو ولايات، وجعل من بورصة عاصمةً لها، وضرب النقود باسمه، ونظّم الجيش، فألّف فرقًا من الفرسان النظاميين، وأنشأ من الفتيان المسيحيين الروم والأوروبيين الذين جمعهم من مختلف الأنحاء جيشًا قويًا عُرف بجيش الإنكشارية.[23] وقد درّب أورخان هؤلاء الفتيان تدريبًا صارمًا وخصّهم بامتيارات كبيرة، فتعلقوا بشخصه وأظهروا له الولاء. وعمل أورخان على توسيع الدولة، فكان طبيعيًا أن ينشأ بينه وبين البيزنطيين صراعٌ عنيف كان من نتيجته استيلاؤه على مدينتيّ إزميد ونيقية. وفي عام 1337م شنّ هجومًا على القسطنطينية عاصمة البيزنطيين نفسها، ولكنه أخفق في احتلالها.[24] ومع ذلك فقد أوقعت هذه الغزوة الرعب في قلب إمبراطور الروم "أندرونيقوس الثالث"، فسعى إلى التحالف معه وزوجه ابنته. ولكن هذا الزواج لم يحل بين العثمانيين وبين الاندفاع إلى الأمام، وتثبيت أقدامهم سنة 1357م في شبه جزيرة غاليبولي، وهكذا اشتد الخطر العثماني على القسطنطينية من جديد. شهد المسلمون في عهد أورخان أوّل استقرار للعثمانيين في أوروبا، وأصبحت الدولة العثمانية تمتد من أسوار أنقرة في آسيا الصغرى إلى تراقيا في البلقان،[25] وشرع المبشرون يدعون السكان إلى اعتناق الإسلام. توفي أورخان الأول في سنة 1360م بعد أن أيّد الدولة الفتيّة بفتوحاته الجديدة وتنظيماته العديدة، وتولّى بعده ابنه "مراد الله"، الملقب بمراد الأول.[26]
معركة قوصوة، بريشة آدم ستيفانوڤيتش، (1870).
كانت فاتحة أعمال مراد الأول احتلال مدينة أنقرة مقر إمارة القرمان، وذلك أن أميرها واسمه علاء الدين، أراد انتهاز فرصة انتقال المُلك من السلطان أورخان إلى ابنه مراد لإثارة حمية الأمراء المجاورين وتحريضهم على قتال العثمانيين ليقوضوا أركان ملكهم الآخذ في الامتداد يومًا فيومًا، فكانت عاقبة دسائسه أن فقد أهم مدنه.[26] وتحالف مراد مع بعض أمراء الأناضول مقابل بعض التنازلات لصالح العثمانيين، وأجبر آخرين على التنازل له عن ممتلكاتهم، وبذلك ضمّ جزء من الممتلكات التركمانية إلى الدولة العثمانية.[معلومة 3] ثم وجّه اهتمامه نحو شبه جزيرة البلقان التي كانت في ذلك الحين مسرحًا لتناحر دائم بين مجموعة من الأمراء الثانويين، ففتح مدينة أدرنة سنة 1362م ونقل مركز العاصمة إليها لتكون نقطة التحرك والجهاد في أوروبا،[27] وقد ظلت عاصمة للعثمانيين حتى فتحوا القسطنطينية في وقت لاحق، كما تم فتح عدّة مدن أخرى مثل صوفيا وسالونيك، وبذلك صارت القسطنطينية محاطة بالعثمانيين من كل جهة في أوروبا.[27] وفي 12 يونيو سنة 1385م، الموافق فيه 19 جمادى الآخرة سنة 791هـ، التقت الجيوش العثمانية بالقوى الصربية - تساندها قوىً من المجر والبلغار والألبانيين - في إقليم "قوصوة"، المعروف حاليًا باسم "كوسوڤو"، فدارت بين الطرفين معركة عنيفة انتصر فيها العثمانيون، إلا أن السلطان قتل في نهايتها على يد أحد الجنود الذي تظاهر بالموت.[27]
معركة نيقوبولس بين العثمانيين والأوروبيين. يعتبر العديد من المؤرخين هذه المعركة آخر حملة صليبية كبرى نُظمت في القرون الوسطى.
السلطان بايزيد الأول أسيرًا لدى تيمورلنك، بريشة ستانيسلو تشلبوسكي، 1878.
تولّى عرش آل عثمان بعد مراد الأول ابنه بايزيد، وعند ذلك كانت الدولة قد اتسعت حدودها بشكل كبير، فانصرف إلى تدعيمها بكل ما يملك من وسائل، وانتزع من البيزنطينيين مدينة آلاشهر، وكانت آخر ممتلكاتهم في آسيا الصغرى،[28] وأخضع البلغار عام 1393م إخضاعًا تامًا.[28] فجزع "سيگسموند" ملك المجر من هذا التوسع العثماني، خصوصًا بعد أن تاخمت حدود بلاده مناطق السيطرة العثمانية، فاستنجد بأوروبا الغربية، فدعا البابا "بونيفاس التاسع" إلى حملة صليبية جديدة ضد العثمانيين لمنعهم من التوغل في قلب أوروبا، فلبّى الدعوة ملك المجر سالف الذكر، وعدد من أمراء فرنسا[29] وباڤاريا[29] والنمسا[29] وفرسان القديس يوحنا في رودس[29] وجمهورية البندقية،[29] وقدمت إنگلترا مساعدات عسكرية.[30] تقابل الجيشين العثماني والأوروبي في 25 سبتمبر سنة 1396م، الموافق فيه 21 ذي الحجة سنة 798هـ، ودارت بينهما رحى معركة ضارية هُزم فيها الأوروبيون وردوا على أعقابهم.[28] حاصر بايزيد القسطنطينية مرتين متواليتين، ولكن حصونها المنيعة صمدت في وجه هجماته العنيفة، فارتد عنها خائبًا.[28] ولم ينس بايزيد وهو يوجه ضرباته الجديدة نحو الغرب، أن المغول يستعدون للانقضاض عليه من جهة الشرق، وخاصةً بعد أن ظهر فيهم رجلٌ عسكري جبّار هو تيمورلنك الشهير المتحدّر من سلالة جنكيز خان.[31][32] لذلك عمل بايزيد على تعزيز مركزه في آسيا الصغرى استعدادًا للموقعة الفاصلة بينه وبين تيمورلنك. وهكذا خف الضغط العثماني على البيزنطيين، وتأخر سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين خمسين سنة ونيفًا.[28] وفي ربيع سنة 1402م، تقدّم تيمورلنك نحو سهل أنقرة لقتال بايزيد، فالتقى الجمعان عند "جُبق آباد" ودارت معركة طاحنة انهزم فيها العثمانيون وأُسر السلطان بايزيد وحمله المغول معهم عائدين إلى سمرقند عاصمة الدولة التيمورية،[معلومة 4] حيث عاش بقية أيامه ومات في سنة 1403م.[33]
وبعد موت السلطان بايزيد تجزأت الدولة إلى عدّة إمارت صغيرة كما حصل بعد سقوط الدولة السلجوقية، لأن تيمورلنك أعاد إلى أمراء قسطموني وصاروخان وكرميان وآيدين ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البلاد.[34] واستقل في هذه الفترة كل من البلغار والصرب والفلاخ، ولم يبق تابعًا للراية العثمانية إلا قليل من البلدان. ومما زاد الخطر على الدولة عدم اتفاق أولاد بايزيد على تنصيب أحدهم، بل كان كل منهم يدعي الأحقية لنفسه،[34] فنشبت بينهم حروب ضارية، ولكن النصر كان آخر الأمر من نصيب محمد بن بايزيد، المُلقب بمحمد الأول أو "محمد چلبي"، الذي استطاع أن يعيد للدولة بعض ما فقدته من أملاكها في الأناضول.[35] وبعد محمد الأول تولّى عرش السلطنة العثمانية مراد الثاني، فاستمر بإخضاع المدن والإمارات التي استقلت عن الدولة العثمانية، وحاصر القسطنطينية، ولكنه لم يُوفق إلى احتلالها.[36] ثم حاول أن يعيد إخضاع البلقان لسيطرته، ففتح عدّة مدائن وقلاع وحاول أن يضم إليها مدينة بلغراد لكنه فشل في اقتحامها،[37] فكان هذا الهجوم إنذارًا جديدًا لأوروبا بالخطر العثماني، فقامت قوات مجرية - وعلى رأسها يوحنا هونياد - بالالتحام مع العثمانيين وهزمتهم هزيمة قاسية كان من نتائجها بعث الروح الصليبية في أوروبا، وإعلان النضال الديني ضد العثمانيين.[36]
السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح.
ولمّا توفي السلطان مراد الثاني ارتقى عرش العثمانيين ابنه محمد، فكان عليه بادئ الأمر أن يُخضع ثورة نشبت ضده في إمارة قرمان بآسيا الصغرى، فاستغل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر هذا الأمر، وطلب من السلطان مضاعفة الجزية التي كان والده يدفعها إلى البيزنطيين لقاء أسرهم الأمير أورخان حفيد سليمان بن بايزيد المطالب بالعرش العثماني.[36] فاستاء السلطان محمد من هذا الطلب لما كان ينطوي عليه من تهديد بتحريض أورخان هذا على العصيان، فأمر بإلغاء الراتب المخصص له، وراح يتجهّز لحصار القسطنطينية والقضاء على هذه المدينة في أقرب فرصة ممكنة. وكان أوّل ما قام به في هذا السبيل تشييده عند أضيق نقطة من مضيق البوسفور قلعة "روملي حصار" القائمة على بعد سبعة كيلومترات من أبواب القسطنطينية.[36] وعندئذ أرسل الإمبراطور قسطنطين بعثة من السفراء إلى السلطان محمد لتحتجّ لديه على ذلك، فلم يلقوا منه جوابًا شافيًا،[38] بل أصرّ على البناء لما في القلعة من أهمية استراتيجية. واستنجد الإمبراطور قسطنطين بالدول الأوروبية فلم تنجده إلا بعض المدن الإيطالية، أما البابا فقد أبدى استعداده لمساعدة الإمبراطور شرط أن تتحد الكنيستان الشرقية والغربية، ووافق قسطنطين على المشروع، ولكنّ تعصّب الشعب حال دون تحقيق ذلك.[36][معلومة 5]
محمد الثاني يدخل القسطنطينية، بريشة جوزيف بنيامين.
وكان السلطان قد حشد لقتال البيزنطيين جيشًا عظيمًا مزودًا بالمدافع الكبيرة وأسطولاً ضخمًا، وبذلك حاصرهم من ناحيتيّ البر والبحر معًا. والواقع أن البيزنطيين استماتوا في الدفاع عن عاصمتهم، لكن ما أن مضى 53 يومًا على الحصار حتى كان العثمانيون قد دخلوا المدينة بعد أن هُدمت أجزاء كبيرة من أسوارها بفعل القصف المدفعي المتكرر،[39] واشتبكوا مع البيزنطيين في قتال عنيف جدًا دارت رحاه في الشوارع، وذهب ضحيته الإمبراطور نفسه وكثير من جنوده.[39] حتى إذا انتصف النهار دخل محمد المدينة وأصدر أمره إلى جنوده بالكف عن القتال، بعد أن قضى على المقاومة البيزنطية ونشر راية السلام.[36] اتخذ السلطان محمد لقب "الفاتح" بعد فتح المدينة، وأضاف إليه لقب "قيصر الروم"، على الرغم من عدم اعتراف بطريركية القسطنطينية ولا أوروبا الغربية بهذا الأمر، ونقل مركز العاصمة من أدرنة إلى القسطنطينية التي غيّر اسمها إلى "إسلامبول"، أي مدينة الإسلام أو تخت الإسلام،[40] وأعطى للمسيحين الآمان وحرية إقامة شعائرهم الدينية،[41] ودعا من هاجر منهم خوفًا إلى العودة إلى بيوتهم. سقطت الإمبراطورية البيزنطية عند فتح المدينة بعد أن استمرت أحد عشر قرنًا ونيفًا، وتابع السلطان محمد فتوحاته في أوروبا خلال السنوات اللاحقة التي أعقبت سقوط القسطنطينية، فأخضع بلاد الصرب وقضى على استقلالها، وفتح بلاد المورة في جنوب اليونان، وإقليم الأفلاق وبلاد البشناق وألبانيا، وهزم البندقية ووحد الأناضول عبر قضائه على إمبراطورية طرابزون الرومية وإمارة قرمان.[40] وقد حاول السلطان محمد أيضًا فتح إيطاليا لكن وافته المنية سنة 1481م،[معلومة 6] فانصرف العثمانيون عن هذه الجهة.[40]
دور التوسع والقوة (1453–1683) عدل
يُمكن تقسيم هذه الفترة في التاريخ العثماني إلى حقبتين مميزتين: حقبة النمو والازدهار العسكري والثقافي والحضاري والاقتصادي، وهي تمتد حتى سنة 1566م، وحقبة شهدت بأغلبها ركودًا سياسيًا وعسكريًا، وتخللتها فترات إصلاح وانتعاش، وقد دامت حتى سنة 1683م.
حقبة النمو والازدهار (1453–1566)
السلطان الغازي بايزيد خان الثاني المُلقب "بالصوفي"، لجنوحه إلى السلم وابتعاده عن الحرب.
معركة چالديران بين العثمانيين والصفويين، جدارية من إحدى القصور في أصفهان.
بعد موت السلطان محمد الفاتح تنازع ابناه "جم" و"بايزيد" على العرش. ولكن الغلبة كانت من نصيب بايزيد، ففر جم إلى مصر حيث احتمى بسلطان المماليك "قايتباي"،[42] ثم إلى رودس حيث حاول أن يتعاون مع فرسان القديس يوحنا والدول الغربية على أخيه، لكن بايزيد استطاع إقناع دولة الفرسان بإبقاء الأمير جم على الجزيرة مقابل مبلغ من المال،[43] وتعهد بأن لا يمس جزيرتهم طيلة فترة حكمه،[42] فوافقوا على ذلك، لكنهم عادوا وسلموا الأمير إلى البابا "إنوسنت الثامن" كحل وسط، وعند وفاة الأخير قام خليفته بدس السم للأمير بعد أن أجبره الفرنسيون على تسليمهم إياه، فتوفي في مدينة ناپولي، ونقل جثمانه فيما بعد إلى بورصة ودُفن فيها.[42] اتصف السلطان بايزيد بأنه سلطان مسالم لا يدخل الحروب إلا مدافعًا، فقاتل جمهورية البندقية بسبب الهجمات التي قام بها أسطولها على بلاد المورة، وحارب المماليك حين قرر السلطان قايتباي السيطرة على إمارة ذي القدر ومدينة ألبستان التابعتين للدولة العثمانية، وعدا ذلك فكان يفضل مجالسة العلماء والأدباء.[44] وفي عهده سقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس؛ فبعث بعدّة سفن لتحمل الأندلسيين المسلمين واليهود إلى القسطنطينية وغيرها من مدن الدولة،[45] وفي عهده أيضًا ظهرت سلالة وطنية شيعية في بلاد فارس، هي السلالة الصفوية، التي استطاعت بزعامة الشاه إسماعيل بن حيدر، أن تهدد بالخطر إمبراطورية العثمانيين في الشرق.
السلطان الغازي سليم الأول "القاطع"، أول خليفة للمسلمين من آل عثمان.
وفي أواخر عهد بايزيد دبّ النزاع بين أولاده بسبب من ولاية العهد. ذلك أن بايزيد اختار ابنه أحمد لخلافته، فغضب ابنه الآخر سليم، وأعلن الثورة على والده، وكان لثورة سليم أسباب سياسية ومذهبية وتجارية وعرقية،[46] ذلك أن الصفويين كانوا يعملون على نشر المذهب الشيعي في الأناضول على حساب المذهب السني، وقطعوا طريق التجارة مع الهند والشرق الأقصى، ومنعوا نزوح المزيد من قبائل التركمان من آسيا الوسطى إلى الأناضول وأوروبا الشرقية، وكان الشاه إسماعيل يدعم الأمير أحمد للوصول إلى سدة الحكم ولم يحرك الأخير ساكنًا لمنع التدخل الصفوي في الشؤون العثمانية. نتيجة لكل ما سلف، ثار سليم على والده وشقيقه ثم استولى على أدرنة، فما كان من بايزيد إلا أن انبرى لقتال ابنه سليم، فهزمه وقرر نفيه، لكن الجنود الإنكشارية قاموا بالضغط على السلطان وأرغموه بالتنازل عن العرش لصالح ابنه سليم.[47] وقد مات بايزيد يوم 26 مايو سنة 1512م، الموافق فيه 10 ربيع الأول سنة 918هـ،[48] واختلف المؤرخون على سبب الوفاة. كان على سليم، بعد اعتلائه العرش، تثبيت أقدامه في الحكم والتفاهم مع الدول الأوروبية الفاعلة ليتفرغ لأخطر أزمة واجهتها الدولة منذ أعقاب معركة أنقرة، ألا وهي القضية الصفوية، فأقدم على قتل إخوته وأولادهم حتى لا يبقى له منازع في الحكم، ثم أبرم هدنة طويلة مع الدول الأوروبية المجاورة، وحوّل انتباهه إلى الجبهة الشرقية لمواجهة الصفويين والمماليك.[49] وكان السلطان سليم يهدف إلى السيطرة على طرق التجارة بين الشرق والغرب، والتوسع على حساب القوى في المشرق، والقضاء على المد الشيعي،[50] وتوحيد الأمصار الإسلامية الأخرى حتى تكون يدًا واحدة في مواجهة أوروبا، وخاصة بعد سقوط الأندلس وقيام البرتغاليين بالتحالف مع الصفويين وإنشائهم لمستعمرات في بعض المواقع في جنوب العالم الإسلامي.[47] وكان الشيعة المقيمون في آسيا الصغرى قد ثاروا على الدولة العثمانية اعتمادًا على تأييد الصفويين، فأخضع سليم هذه الثورة وعمد إلى اضطهاد الشيعة، فذهب ضحية هذه السياسة أربعون ألفًا منهم، ثم انبرى لقتال الشاه، فالتقى الفريقان في سهل چالديران والتحما في معركة كبيرة كان النصر فيها لصالح السلطان سليم،[51] وفرّ الشاه ناجيًا بحياته، أما سليم فتقدم إلى تبريز عاصمة خصمه الصفوي، فاستولى عليها ورجع عائدًا إلى بلاده.[52]
الدولة العثمانية عند نهاية عهد السلطان سليم الأوّل سنة 1520.
السلطان الغازي سليمان خان الأول "القانوني".
تقدم العثمانيون، بعد انتصارهم على الصفويين، لإخضاع السلطنة المملوكية،[معلومة 7] فنشبت بينهم وبين المماليك معركة على الحدود الشاميّة التركية تُعرف بمعركة مرج دابق، انتصر فيها العثمانيون وقُتل سلطان المماليك "قنصوه الغوري"، ثم تابعوا زحفهم نحو مصر والتحموا بالمماليك من جديد في معركة الريدانية التي قررت مصير مصر كلها،[52] وانتصروا عليهم مجددًا ودخلوا القاهرة فاتحين. وفي أثناء ذلك قدّم شريف مكة مفاتيح الحرمين الشريفين إلى السلطان سليم اعترافًا بخضوع الأراضي المقدسة الإسلامية للعثمانيين،[52] وتنازل في الوقت ذاته آخر الخلفاء العباسيين، محمد الثالث المتوكل على الله، عن الخلافة لسلطان آل عثمان، فأصبح كل سلطان منذ ذلك التاريخ خليفة للمسلمين، ويحمل لقب "أمير المؤمنين" و"خليفة رسول رب العالمين". وعند نهاية حملته الشرقية، كان السلطان سليم قد جعل من الدولة العثمانية قوة إقليمية كبرى ومنافسًا كبيرًا للإمبراطورية البرتغالية على زعامة المنافذ المائية العربية.[53] توفي السلطان سليم في 22 سبتمبر سنة 1520م، الموافق فيه 9 شوّال سنة 926هـ، وهو على أهبة الاستعداد لقتال فرسان القديس يوحنا في رودس.[54] فارتقى العرش من بعده ابنه سليمان، الذي يُعرف في الشرق باسم "القانوني"، ويُعرف في الغرب باسم "العظيم". والواقع أن الفتوح في الشرق شغلت السلطان سليم طوال أيام حكمه، فكان طبيعيًا أن ينصرف السلطان سليمان إلى ناحية الغرب ليُتم الفتوح التي كان أسلافه قد بدأوها من قبله.[55] واحتل سليمان مدينة بلغراد في سهولة، عام 1521م، وعقد العزم على ما كان أبوه السلطان سليم قد شرع يستعد له قبل وفاته، أي الاستيلاء على جزيرة رودس، فتمكن من ذلك في سنة 1523م،[55] ثمّ ضمّ إلى الأملاك العثمانية القسم الجنوبي والأوسط من مملكة المجر، بعد أن استغل الأوضاع الداخلية المضطربة للمملكة،[معلومة 8] والأوضاع الخارجية الملائمة.[56][57]
معركة موهاج والغزو العثماني للمجر، بريشة بيرطلان سيزيكيلي.
اشتبكت الجيوش العثمانية مع نظيرتها المجرية في وادي موهاج بالمجر بتاريخ 26 أغسطس سنة 1526م، في معركة دامت حوالي الساعتين، وانتصر فيها العثمانيون نصرًا كبيرًا وثبتوا أقدامهم في البلاد لفترة طويلة من الزمن، وعين السلطان "جان زابوليا" ملك ترانسلڤانيا حاكمًا عليها،[58] عندئذ أرسل فرديناند ملك النمسا، وفدًا إلى السلطان يلتمس منه الاعتراف به ملكًا على المجر، فسخر سليمان من الوفد وزجّ أعضاءه في السجن فترة من الزمن، ولمّا أفرج عنهم حمّلهم رسالة إلى الملك ليستعد لملاقاته. وقاتل سليمان فرديناد بجيش عظيم، فلم يصمد في وجهه، فراح سليمان يتعقبه حتى ڤيينا العاصمة، وهنا ضرب سليمان الحصار على هذه المدينة القائمة في قلب أوروبا، وأحدثت الجنود العثمانية ثغرًا في أسوارها إلا أن الذخيرة والمؤن نفدت منهم، وأقبل فصل الشتاء فقفل السلطان ورجع إلى بلاده.[59] وفي عام 1532م، عاود سليمان الكرّة، فحاصر ڤيينا من جديد، ولكن التوفيق خانه في حملته الثانية هذه أيضًا، فعقد مع فرديناند صلحًا احتفظ بموجبه بجميع ما استولى عليه من الأراضي المجرية. وكان مما رغّب سليمان في عقد الصلح اضطراره إلى الالتفات صوب الشرق بعد أن توترت العلاقات بينه وبين "طهماسب بن إسماعيل الصفوي" شاه فارس، وتفصيل ذلك أن عامل بغداد من قبل طهماسب خان مولاه الصفوي وانحاز إلى العثمانيين بناءً على إلحاح الشعب بسبب سياسة التطرف المذهبي التي انتهجها الصفويون،[60] فسار إليه طهماسب يريد تأديبه، فلم يكن من السلطان سليمان إلا أن اغتنم هذه الفرصة للانقضاض على بلاد فارس، وهكذا احتل تبريز عاصمة الفرس، ثم استولى على بغداد ودخلها في أبّهة بالغة.[61]
خير الدين بربروس باشا يهزم الأساطيل الحليفة في معركة بروزة سنة 1538م.
حقق العثمانيون أيام السلطان سليمان عدّة فتوحات بحرية مهمة، وذلك بفضل البحّار يوناني الأصل، خير الدين بربروس، الذي كان سبق وضمّ الجزائر للدولة العثمانية أيام السلطان سليم. عيّن السلطان سليمان خير الدين هذا أميرًا للبحر عام 1533م، فنهض بالأسطول العثماني نهضة جبارة مكنته من انتزاع تونس من أيدي الإسبان وإخضاعها للسلطة العثمانية ولو لفترة قصيرة من الزمن. وفي سنة 1538م حقق خير الدين للدولة العثمانية نصرًا بحريًا كبيرًا، فقد وفّق إلى إنزال هزيمة قاسية بأندريا دوريا الذي كان يقود أساطيل كارلوس الخامس ملك إسبانيا والبابا بولس الثالث والبندقية مجتمعة،[62][63] وذلك قرب بروزة، الواقعة على خليج آرتا في الشمال الغربي من اليونان. ومن الفتوح الهامة التي حققها الأسطول العثماني في عهد السلطان سليمان، فتح طرابلس الغرب وتحريرها من الإسبان وفرسان القديس يوحنا على يد القبطان "طورغول بك".[58] توفي السلطان سليمان في 5 سبتمبر سنة 1566م، الموافق فيه 20 صفر سنة 974هـ، وكانت الدولة العثمانية آنذاك قد بلغت أعلى درجات الكمال وأصبح وجودها ضروريًا لحفظ التوازن السياسي في الشرق الأوسط وأوروبا، ووصل عدد سكانها إلى 15,000,000 نسمة بحسب بعض المصادر.[64]
حقبة الركود والانتعاشات (1566–1683)
الصدر الأعظم محمد باشا صقللي، ربّان السفينة العثمانية خلال عهد السلطان سليم الثاني.
يُعتبر عصر سليمان القانوني عصر الدولة العثمانية الذهبي، وما أن انقضى هذا العصر حتى أصاب الدولة الضعف والتفسخ. فقد كان سليم الثاني، خليفة سليمان، سلطانًا ضعيفًا لا يتصف بما يؤهله للقيام بحفظ فتوحات أبيه فضلاً عن إضافة شيء إليها، بالإضافة إلى أنه كان حاكمًا منحلاً خاملاً، وكان ماجنًا سكّيرًا.[65] وما يميّز عهد هذا السلطان هو أن وظيفة الصدر الأعظم أصبحت تجعل من يتقلدها الحاكم الفعلي وقائد الجيوش،[66] فلولا وجود الصدر الأعظم محمد باشا صقللي المخضرم في الأعمال السياسية والحربية للحق الدولة الفشل،[67] لكن حسن سياسة هذا الرجل وعظم اسم الدولة ومهابتها في قلوب أعدائها حفظها من السقوط مرة واحدة.[67] ومن أعمال محمد باشا صقللي أن أرسل جيشًا كبيرًا إلى اليمن سنة 1569م بقيادة عثمان باشا يسانده سنان باشا والي مصر، لقمع ثورة الأهالي، وتمكن الجيش من إخماد الثورة، ودخل مدينة صنعاء بعد أن فتح جميع القلاع.[67] ومن أعمال الصدر الأعظم أيضًا فتح جزيرة قبرص وانتزاعها من أيدي البنادقة.[67] شنّت الدولة العثمانية في عام 1569م أيضًا حملة على مدينة أسترخان، الواقعة على مصب نهر الڤولغا في بحر قزوين، بهدف استرداد الإمارة ووضع حد لامتداد روسيا من ناحية الجنوب، خشية أن يؤدي توسعها إلى استيلائها على الطرق التجارية والأسواق الكبرى وإلى هيمنتها على تجارة البلدان الإسلامية،[68] إلا أن هذه الحملة كان مصيرها الفشل، بسبب امتناع خاقان القرم، "دولت گراي الأول"، عن التعاون مع الجيش العثماني وسعيه شخصيًا لأن يقوم بالاستيلاء على أسترخان وقازان، كما تعذر ضرب الحصار على المدينة لأن الروس بنوا قلعة قوية إلى الجنوب منها، على الطريق المؤدية إليها حالت دون تقدم الجيش العثماني.[69]
معركة ليبانتو بين الأسطول العثماني والأوروبي.
وفي عهد السلطان سليم الثاني جرت موقعة ليبانتو البحرية التي هزّت صورة البحرية العثمانية والجيش العثماني الذي اعتبره كثيرون لا يُقهر. وتفصيل ذلك أنه بعد ازدياد الخطر العثماني في البحر المتوسط على أوروبا، وخاصة بعد فتح جزيرة قبرص، وبعض المواقع على البحر الأدرياتيكي،[66] تحالف فيليب الثاني ملك إسبانيا مع البابا بيوس الخامس وجمهورية البندقية لوقف التقدم العثماني باتجاه إيطاليا من جهة، واسترداد جميع المواقع التي فتحوها على حساب أوروبا وبخاصة في شمال أفريقيا، من جهة أخرى. فجمعوا مائتين وثلاثين سفينة وثلاثين ألف جندي،[70] وسلموا لواء القيادة إلى الدون يوحنا النمساوي، الذي أبحر إلى خليج پاتراس، أحد فروع البحر الأيوني، وهناك اشتبك الأسطولان العثماني والأوروبي في معركة بحرية طاحنة هي إحدى أكبر المعارك في التاريخ الحديث، أسفرت عن انتصار الأوروبيين وانهزام العثمانيين هزيمة منكرة.[67] ولم تُقعد هذه الحادثة همّة الصدر الأعظم محمد باشا صقللي، بل انتهز فرصة الشتاء وعدم إمكانية استمرار الحرب لتجهيز أسطول جديد، وبذل النفس والنفيس في تجهيزه وتسليحه حتى إذا أقبل صيف سنة 1572م كان قد تمّ بناء 250 سفينة بما فيها 8 غلايين حديثة،[71] وأعلم الصدر الأعظم البنادقة باستعداده للجولة الثانية،[71] ففضلت البندقية أن تجنح للسلام ووقعت مع الدولة العثمانية معاهدة بذلك سنة 1573م،[72] فتفرغ العثمانيون لمحاربة إسبانيا التي عادت لاحتلال تونس، وكذلك هزموا أمير البغدان الذي تمرّد على الدولة طلبًا للاستقلال.[67]
معركة وادي المخازن عام 1578 بين الدولة المغربية في يمين الصورة، بمشاركة 15 ألف إنكشاري أرسلتهم الدولة العثمانية كمساعدة عسكرية، والإمبراطورية البرتغالية في يسار الصورة، بمشاركة متطوعين من قشتالة وإيطاليا، ومرتزقة من الإقليم الفلامندي وألمانيا وحلفاء مغاربة.[73]
توفي السلطان سليم الثاني يوم 12 ديسمبر سنة 1574م، الموافق فيه 27 شعبان سنة 982هـ،[67] وتولّى بعده ابنه مراد الثالث. وفي عهد هذا السلطان تدخلت الدولة العثمانية في انتخاب حليفها "أتيين باتوري"، أمير ترانسلڤانيا، ملكًا على بولندا بعد شغور العرش، وبذا تحولت الحماية العثمانية على بولندا من حماية اسمية إلى حماية فعلية.[74] وساعد العثمانيون سلطان مراكش لإخماد ثورة اندلعت في بلاده، فاصطدموا مع الثوّار والبرتغاليين الذين ساندوهم في موقعة القصر الكبير وانتصروا عليهم وأعادوا السلطان إلى الحكم.[66] أما أهم ما حصل في عهد السلطان مراد الثالث هو التوسع العثماني في الشرق، على حساب الدولة الصفوية، فبعد وفاة الشاه طهماسب الأول من غير أن يسمي من سيخلفه، تنازع أبناؤه على السلطة، فأرسل الصدر الأعظم محمد باشا صقللي حملة عسكرية إلى بلاد فارس لفتح ما تيسر من مدنها، فضموا إليهم من أملاكها بلاد الكرج، ثم أذربيجان الشمالية، ثم بلاد داغستان.[75]
تعرضت الدولة العثمانية بعد هذه الغزوات لخضّة سياسية عنيفة، عندما تقلّص نفوذ الصدر الأعظم محمد باشا صقللي، ومن ثم قُتل في سنة 1579م، فعمّت الفوضى بعد موته بفعل ضعف حلفائه وتمرّد الإنكشارية، وراح الولاة يتنافسون فيما بينهم على منصب الصدارة العظمى. وفي عام 1590م أبرم العثمانيون صلحًا مع الصفويين، اعترفوا فيه بما تم ضمه إلى الدولة العثمانية، إضافةً إلى جنوب أذربيجان بما فيها العاصمة تبريز.[66] وبعد إبرام الصلح استتب الأمن على حدود الدولة، إن في الشرق أو في الغرب، فثار الإنكشارية في القسطنطينية وفي الولايات نظرًا لهبوط قيمة أجورهم، الأمر الذي دفع الصدر الأعظم الجديد، سنان باشا، أن يشغلهم بالحروب مع النمسا في المجر،[76] ونظرًا لما وصل إليه الإنكشارية من فوضى توالت عليهم الهزائم، وفقدوا بعض القلاع، وعلى الرغم من أن سنان باشا استطاع أن يستردها لاحقًا،[76] إلا أن أمراء الأفلاق والبغدان وترانسلڤانيا استغلوا الموقف وانتصروا على الجيوش العثمانية في بضعة معارك واستردوا منهم بعض المدن.[76] وتوفي السلطان مراد الثالث مساء 19 يناير سنة 1595م، الموافق فيه 8 جمادى الأولى سنة 1003هـ، بعد أن أصيب بداء عياء.[1]
موقعة كرزت بين الدولة العثمانية والحلف النمساوي المجري.
تولّى عرش آل عثمان بعد مراد الثالث ابنه محمد، الذي خرج عن القاعدة التي استفحلت منذ أيام جده سليم الثاني، وهي تولي الصدر الأعظم قيادة الجيش، فقاد الجيوش بنفسه وخرج لقتال المجر والنمسا، وانتصر عليهم في موقعة كرزت سنة 1596م.[77] وفي بداية القرن السابع عشر حصلت في الأناضول ثورة داخلية كادت أن تكون عاقبتها وخيمة على الدولة، خصوصًا وأن نار الحروب كانت مشتعلة على حدود المجر والنمسا، وخلاصتها أن قائد إحدى فرق الإنكشارية التي نفيت إلى الأناضول عقابًا لها لعدم ثباتها في موقعة كرزت، ادعى أنه رأى النبي محمد في منامه يبشره بالنصر على العثمانيين،[78] فأعلن العصيان وثار على الدولة وقام بعدد من الفتن إلى جانب شقيقه، ثم مات بعد أن أصيب بجراح في إحدى المعارك،[78] لكن شقيقه استمر يعصي الدولة إلى أن أعطته ولاية البوسنة ليحارب الأوروبيين حتى هلكت جيوشه عن آخرها في المناوشات المستمرة بينها وبين النمسا والمجر.[79] وأعقبت هذه الثورة الكبيرة ثورة أخرى في القسطنطينية هي ثورة الخيالة، الذين طالبوا بتعويضهم عما لحق بهم من أضرار جرّاء الثورة السابقة، فاستعانت الدولة عليهم بجنود الإنكشارية وأدخلتهم في طاعتها مجددًا.[78]
الجيش العثماني يقاتل الجيش النمساوي المجري في سلوڤينيا خلال عهد آل كوبرولي.
المُصلح الكبير فاضل أحمد كوبرولي باشا.
حصار ڤيينا من قبل الجيش العثماني للمرة الأخيرة سنة 1683.
تميزت المدة الممتدة على مدار القرن السابع عشر بمظهر أقل روعة من مظهر مدة القرن السادس عشر بالنسبة للدولة العثمانية،[80] فبعد وفاة السلطان محمد الثالث ظهر سلاطين أكثر ضعفًا وانغماسًا في الملذات، على الرغم من بروز بعض الشخصيات القوية منهم، مثل السلطان عثمان الثاني ومراد الرابع، وبعض الوزراء الذين عملوا على صون هيبة وسلطان الدولة، ومن هؤلاء مراد باشا القبوجي، الذي كان عونًا وعضدًا للسلطان أحمد الأول الذي تولّى وهو لم يتجاوز الرابعة عشر إلا بقليل.[81] وفي تلك الفترة تنازلت الدولة العثمانية عن عراق العجم للدولة الصفوية، فكانت تلك أول معاهدة تركت فيها الدولة فتوحاتها، وكانت بمثابة فاتحة الانحطاط.[81] وبعد أحمد الأول تولّى أخيه مصطفى العرش لثلاثة أشهر فقط، قبل أن يُعيّن عثمان الثاني بدلاً منه، الذي حدثت في عهده سابقة كانت الأولى من نوعها، وتدل على مدى الانحطاط الذي وصلت إليه الدولة آنذاك، إذ تخاذل الإنكشارية في القتال، فأراد أن يؤدبهم ويستبدل بهم جنودًا جددًا مدربين، فثاروا عليه وقتلوه وأعادوا عمه مصطفى إلى الحكم،[82] وما إن انتشر خبر قتل الخليفة حتى عمت الفوضى والثورات أرجاء الدولة العثمانية، وقام الولاة يعلنون الاستقلال عن الدولة، فأشار الصدر الأعظم المعين بواسطة الإنكشارية بعزل مصطفى الأول وتعيين ابن أخيه مراد الرابع.[83] استطاع مراد الرابع أن يُطهّر الدولة من بعض الثورات مثل ثورة أباظة باشا والي أرضروم، وثورة قام بها الإنكشارية، وحركة أمير لبنان فخر الدين المعني الثاني الاستقلالية، كما استرجع بغداد وهمدان وتبريز ويريڤان وكامل أذربيجان من الصفويين.[84] وفي عهد خليفته إبراهيم الأول، انتعشت الدولة بعض الانتعاش، فدخل الأسطول العثماني جزيرة كريت من غير أن يلقى مقاومة تذكر،[65] وبعد هذا العهد عرف العثمانيون فترةً من الضعف والعجز لم ينتشلهم منها إلا المصلح الكبير "محمد الكوبريللي" الذي تولّى منصب الصدارة العظمى عام 1656م في عهد السلطان محمد الرابع، فنهض بالدولة نهضة جديدة وطهرها من آفاتها الفتاكة، وهكذا اشتد ساعدها من جديد.[65] وبعد محمد كوبرولي تولّى ابنه "فاضل أحمد" ذات المنصب وسار على نهج أبيه،[85] فقامت القوات العثمانية سنة 1663م بهجوم على بلاد المجر وهددت ڤيينا نفسها بالسقوط.[65] وفي سنة 1672م استولى العثمانيون على أوكرانيا وكانت تابعة لملك بولندا.[86] وفي 17 يوليو سنة 1683م، حاصرت جيوش السلطان محمد الرابع ڤيينا للمرة الأخيرة، ولكنها صُدّت عنها.[65]
دور الركود (1683–1827)
توسّع الدولة العثمانية منذ قيامها حتى بداية دور الركود في سنة 1683.
عُزل السلطان محمد الرابع بتاريخ 8 نوفمبر سنة 1687م، الموافق فيه 2 محرم سنة 1099هـ،[87] فعمّت الفوضى بعد عزله، وتوالت الهزائم على الدولة العثمانية، فاحتلت النمسا بلغراد وأجزاء من بلاد الصرب، واحتلت البندقية أجزاء كثيرة من كرواتيا ودلماسيا وأكثر أجزاء المورة.[88] ولم يُنقذ الدولة من تلك المشاكل إلا "مصطفى كوبرولي باشا"، الابن الآخر للمصلح الكبير محمد كوبرولي، فبذل جهده في بث روح النظام في الجنود، وأحسن للنصارى بشكل كبير حتى استمال جميع مسيحيي الدولة، واستطاع استرجاع بلغراد وإقليم ترانسلڤانيا.[88] لكن على الرغم من ذلك، فإن الدولة العثمانية لم تحقق أي فتوحات جديدة وراء الحدود التي رسمها السلطان سليمان القانوني، فكانت حروبها وفتوحاتها خلال هذه الحقبة لاسترداد ما سُلب منها إجمالاً، ففي عهد السلطان مصطفى الثاني، انتصر العثمانيون على بولندا وأجبروا قيصر الروس بطرس الأكبر على فك الحصار عن مدينة آزوف، واستعادوا البوسنة وبعض الجزر في بحر إيجة، لكن الروس ما لبثوا أن عادوا لفتح آزوف، وانتصر النمساويون مرة أخرى على العثمانيين في معركة زانطة،[89] وتحالفوا مع بضعة دول أوروبية ضد الدولة العثمانية وأجبروها على توقيع معاهدة "كارلوڤتش"، التي فقدت فيها مدينة آزوف لصالح روسيا، وما بقي لها من بلاد المجر للنمسا، وأوكرانيا وبودوليا لبولندا، وساحل دلماسيا وبعض جزر بحر إيجة للبندقية.[88]
ملك السويد كارل الثاني عشر، المعروف أيضًا باسم "شارل الثاني عشر". لجأ إلى الدولة العثمانية بعد هزيمته على يد الروس في سنة 1709، في عهد السلطان أحمد الثالث.[معلومة 9]
إزداد وضع الدولة العثمانية سوءًا خلال السنوات القليلة اللاحقة، ففي أوائل القرن الثامن عشر، وفي عهد السلطان أحمد الثالث تحديدًا، طلبت السويد دعم العثمانيين في حربها ضد الروس، لكن الأخيرة رفضت في بداية الأمر، فمالت كفة الميزان لصالح الروس الذين هزموا السويد وأرغموا ملكها على الفرار ملتجئً إلى بلاد الترك،[88] وعندما قررت الدولة العثمانية خوض الحرب أخيرًا، سنحت لها الفرصة أن تقضي على القيصر بطرس الأكبر، لكن الصدر الأعظم رفع الحصار عنه بعد تلقيه رشوة من خليلة القيصر كاترين. كذلك أجبر العثمانيون على توقيع معاهدة جديدة هي معاهدة "بيساروفتش"، وذلك بعد أن استنجدت البندقية بالنمسا لتجبر الأخيرة العثمانيين على إعادة جزيرة كريت إلى البندقية، واضطرت الدولة في هذه المعاهدة أن تستغني عن بلغراد، ومعظم بلاد الصرب وجزءًا من الأفلاق للنمسا، وأن تظل البندقية مسيطرة على سواحل دلماسيا، مقابل عودة بلاد مورة للعثمانيين.[88] استرجعت الدولة العثمانية أيضًا بعض المدن التي فقدتها سابقًا لصالح الصفويين، مثل همدان وتبريز وإقليم لورستان، لكنهم عادوا وهزموا وتنازلوا عن كل ما أخذوه من الصفويين.[88]
سجّلت هذه المرحلة بداية اليقظة العثمانية بالانفتاح على الغرب،[90] وبدأت ترجمة بعض المؤلفات الغربية، وسُمح بإنشاء مكتب للطباعة في العاصمة، وجرت الاستعانة بمجريّ اعتنق الإسلام، لبناء المطبعة وتشغيلها.[91] وأخذت وجهة الإصلاح تتجه نحو الاقتباس من الغرب الأوروبي مع المحافظة على الأصول العثمانية الإسلامية، إذ كانت الحضارة الغربية تتسرب، بشكل أو بآخر، إلى الدولة ولكن ببطء، وظهر عدد من المثقفين العلمانيين، كما وفد إلى البلاد عدد من الخبراء الأجانب الذين وضعوا خبراتهم في خدمة الدولة.[92]
قامت الحرب مجددًا بين روسيا والدولة العثمانية خلال عقد الثلاينيات من القرن الثامن عشر بسبب احتلال الأخيرة لبولندا بدعم من النمسا، فاتحدت الدولة العثمانية مع الفرس واستطاعت دحر الجيش الروسي والنمساوي وثأرت لنفسها من النمسا بعد أن أرغمتها على توقيع معاهدة بلغراد التي نصت على عودة بلغراد وما استحوذت عليه النمسا من أراضي الصرب والأفلاق إلى الدولة العثمانية، وأن تلتزم روسيا بهدم قلاع مدينة آزوف، وألا تبحر أي سفينة حربية أو تجارية تابعة لها في البحر الأسود.[93] لكن نيران الحرب عادت لتستعر مجددًا بين الروس والعثمانيين خلال عقد السبعينيات من القرن الثامن عشر، عندما فقد العثمانيون عدة مدن لصالح الإمبراطورية الروسية، إلى جانب إقليمي الأفلاق والبغدان. وحاول الروس احتلال طرابزون ولكنهم لم يستطيعوا،[88] ولكنهم استطاعوا لاحقًا فصل القرم عن الدولة العثمانية، وقاومت الدولة العثمانية بكل ما أتيح لها من وسائل حتى أجلت الروس عن كثير من المناطق التي احتلوها. وعند هذه النقطة لجأت الإمبراطورية الروسية إلى أسلوب آخر لزعزعة كيان الدولة العثمانية، هو أسلوب الفتنة الداخلية، فقامت بإثارة مسيحيي المورة على العثمانيين،[88] واتجه الأسطول الروسي إلى المورة لدعم الثورة، ولكنه مُني بالهزيمة، ولكن بعض السفن التي أفلتت تمكنت من إحراق جزء كبير من الأسطول العثماني، ثم اتجهت لاحتلال جزيرة "لمنوس"، فأجبرتها البحرية العثمانية على التقهقر، وأخمدت الثورة في المورة. وفي 10 يونيو سنة 1772م، الموافق فيه 9 ربيع الأول سنة 1186هـ، تهادن الفريقان مقابل بعض الامتيازات لصالح روسيا لعلّ أهمها هو حقها في حماية جميع المسيحيين الأرثوذكس في الدولة العثمانية.[94] وفي غضون الحرب العثمانية الروسية، ظهرت حركتان استقلاليتان عن الدولة العثمانية هي: حركة علي بك الكبير في مصر وحركة الشيخ ظاهر العمر في فلسطين، وقد تمكن العثمانيون من القضاء عليها.[95][96][97]
السلطان الغازي سليم خان الثالث، رائد الحركة الإصلاحية في الدولة العثمانية.
ابتدأت محاولات الإصلاح الجدية في عهد السلطان سليم الثالث، الذي يُعد من أوائل المصلحين والروّاد الحقيقيين في التاريخ العثماني كله، وقد قلّده من جاء بعده، واستهدفت إصلاحاته نواحي الحياة كافة، إدارية وثقافية واقتصادية واجتماعية وعسكرية.[98] كانت ثقافة هذا السلطان أكثر اكتمالاً من ثقافة من سبقه من السلاطين، إذ تلقّى بعض التدريب على الأفكار الغربية، كما تلقى تعليمًا خاصًا بالطرق الأوروبية، واطّلع على كتابات المؤلفين الأوروبيين، ويبدو أنه استوعب الحالة المتدنية للدولة بشكل أفضل من أسلافه. وعندما اعتلى هذا السلطان العرش كانت ثروات البلاد قد وصلت إلى حالة متدنية، وكان العثمانيون قد عادوا للحرب مع روسيا والنمسا، ولم يكن باستطاعة أي سلطان أن يقوم بحملة إصلاحات ورحى الحرب دائرة، لكن جاءت عناية القدر، عندما ظهرت الثورة الفرنسية وانشغل الإمبراطور النمساوي بها، وخاف أن تمتد إلى بلاده، فعقد صلحًا مع العثمانيين أعاد إليهم بموجبه بلاد الصرب وبلغراد.[99] واجهت السلطان سليم الثالث في بداية حياته السياسية، المشكلات التقليدية القديمة: تفوّق الغرب، والاتجاه المحافظ لشعبه، وكان بطبعه ميالاً للإصلاح بحيث لم يتردد في الأخذ ببعض الأنماط الغربية، بعد أن حصل على معلومات عن المؤسسات المدنية والعسكرية لدول أوروبا الغربية وأسباب تفوقها على العثمانيين. فجاء بفكرة الجنود النظامية ليتخلص من الإنكشارية الذين أصبحوا منبعًا للفتن والهزائم، وأصلح الثغور وبنى القلاع الحصينة لحمايتها وجعل إنشاء السفن على الطريقة الفرنسية، واستعان بالسويد في وضع المدافع، وترجم المراجع العلمية في الرياضيات والفن العسكري،[99] كما وضع نظامًا هرميًا للقيادة العسكرية، وأخضع التجنيد لقواعد أكثر صرامة، ووضع نظامًا للجنود المشاة تضمن تعليمات لمساعدة الجنود على التصرف كوحدة، ودُعي هذا النظام "بالنظام الجديد".[98] كان من الطبيعي أن تبرز المعارضة لإصلاحات السلطان سليم الثالث العسكرية من جانب المحافظين عند إدراكهم لنتائجها، فنظر الإنكشارية إلى هذه الإصلاحات نظرة ارتياب خاصة بعد فصل السلطان الأسطول والمدفعية عن فرقتهم، فثاروا ومعهم الجنود غير النظاميين وأجبروا الخليفة على إلغاء النظام العسكري الجديد،[99] ولم يكتفوا بذلك بل عزلوا السلطان وقاموا بقتله لاحقًا بناءً على أمر خليفته،[100] ويُعتبر سليم الثالث السلطان العثماني الوحيد الذي قُتل بسلاح أبيض.[101]
معركة "ميشار" (1806) بين الثوّار الصربيين تساندهم النمسا وروسيا، والدولة العثمانية، بريشة "أفاناسيج شيلوموڤ".
معركة ناڤارين (1827) بين الأسطول العثماني والأوروبي، بريشة لويس أمبرواز گرناري.
وكان من أبرز الأحداث التي حصلت في عهد سليم الثالث قيام الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت الأول، فتحول أعداء الأمس إلى حلفاء والعكس صحيح، حيث انهارت الصداقة العثمانية الفرنسية التي قامت منذ عهد السلطان سليمان القانوني، وتحالفت روسيا وبريطانيا مع الدولة العثمانية لإخراج الفرنسيين من مصر، وفي عهده أيضًا تكونت جمهورية مستقلة في اليونان تحت حماية الدولة العثمانية.[99] وبعد سليم الثالث تولّى مصطفى الرابع عرش آل عثمان، ولم يدم ملكه طويلاً قبل أن تثور الإنكشارية عليه ويقوموا بعزله وتنصيب أخاه محمود بدلاً منه.[102] امتلأ عهد محمود الثاني بأحداث مهمة، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فنتيجة للضعف الشديد الذي دب في أوصال الدولة العثمانية ظهر فيها اتجاهان: الاتجاه الأول الذي أرجع ما وصلت إليه الدولة العثمانية من ضعف إلى الابتعاد عن الإسلام، والذي ما كان للمسلمين أن تقوم لهم قائمة في الأرض إلا بالتمسك به؛ والاتجاه الثاني الذي يقوم على ضرورة تقليد أوروبا تقليدًا أعمى، لكي يصل العثمانيون إلى ما وصلت إليه من تقدم وازدهار.[99] وكان من نتيجة الإيمان بالاتجاه الأول أن قامت الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية،[معلومة 10] واجتذبت إليها الكثير من أهلها، ودعت إلى تطهير الإسلام من كامل الشوائب التي تعلقت به عبر القرون.[103] ولما رأى السلطان محمود أنه من الضروري قمع هذه الفئة التي يخشى من امتدادها على تفريق كلمة الإسلام، كلّف محمد علي باشا، والي مصر ومؤسس أسرتها الخديوية العلوية، بمحاربتها والقضاء عليها، ففعل ما طُلب منه وأباد الحركة الوهابية، ثمّ شرع في إصلاح مصر وتنظيمها وفق النظام الأوروبي.[103] وفي بداية عهد محمود الثاني استقلّت عدّة دول أوروبية عن الدولة العثمانية، وكانت بداية انشقاق أوروبا الشرقية عن الدولة العثمانية عندما ثار الصربيون وطالبوا باستقلالهم، فقمعتهم الدولة العثمانية مرتين، وتعهدت ألا تتدخل في شؤون الصرب الداخلية، وأن تكون السيطرة للعثمانيين في الصرب على القلاع فقط.[104][105] سرعان ما أعقب هذه الثورة عصيان "علي باشا" والي مدينة يانية الألبانية، حيث امتنع عن دفع الخراج واحترام الأوامر التي تُرسل إليه من الآستانة، فأرسل إليه السلطان جيشًا تمكن قائده من القبض عليه وإعدامه.[106] وما فتئت المشاكل تنهال على الدولة العثمانية، فقد ثار اليونانيون طلبًا للاستقلال وهزموا فرقة عسكرية عثمانية أرسلت لقمعهم، فلم يجد السلطان لإخماد الثورة في اليونان غير محمد علي باشا والي مصر، فاستجاب الأخير لطلبه وأرسل سفنًا حربية محملة بالجنود إلى اليونان،[107] استطاعت أن تحقق انتصارات كاسحة على الثوّار. غير أن ثورة اليونانيين نجحت، واستطاع الثائرون أن يستقلوا ببلدهم عن الدولة العثمانية بعد المساعدات التي تلقوها من الدول الأوروبية. كذلك كان الأسطول العثماني قد تحطم في معركة ناڤارين عام 1827م، على يد السفن البريطانية والروسية.[107]
دور الأفول والتنظيمات (1828–1908)
السلطان الغازي محمود خان الثاني "أبو الإصلاح"، بعد إقراره اعتماد اللباس الأوروبي لباسًا رسميًا.
تتميز هذه المرحلة بانحدار الدولة العثمانية سريعًا وفقدانها لمعظم ممتلكاتها الباقية في أوروبا، وقيام السلطان محمود الثاني بعدد من الإصلاحات الكبيرة الهادفة لجعل الدولة تواكب أوروبا الغربية في التطور والازدهار.[108] وأوّل ما قام به السلطان محمود الثاني في هذا المجال كان إلغائه لطائفة الإنكشارية بعد أن أصبحت إحدى عوامل تخلّف وتراجع الدولة يقينًا، فاعترض الإنكشارية على ذلك وحاولوا التمرد وتجمعوا في أحد ميادين الآستانة، فحصدتهم المدفعية العثمانية حصدًا.[99] أعلن السلطان بعد قضائه على الإنكشارية نظامًا جديدًا للجند قلّد فيه الأوروبيين، كذلك قام بعدد من الإصلاحات المدنية مثل إقامة المدارس الحديثة ورفع يد الهيئة الإسلامية عن الإشراف على التعليم،[108] وإرسال بعثات طلابية إلى الخارج،[108] واتجه بالبلاد إلى تقليد أوروبا حتى إنه تزيا بزيهم، واستبدل بالعمامة الطربوش، والعباءة والجلباب بالبذلة الغربية.[108]
أعلنت روسيا الحرب على العثمانيين بعد أن رفضت الدولة العثمانية الاعتراف بقرارات مؤتمر لندن الذي نص على استقلال اليونان، وتمكنت من احتلال البغدان والأفلاق، بل وصلت إلى مدينة أدرنة وهددت الآستانة بالسقوط، فتدخلت بريطانيا وفرنسا لوقف تقدم روسيا خوفًا على مصالحها في الشرق، فعُقدت بين الروس والعثمانيين معاهدة أدرنه التي نصت على عودة المناطق التي احتلها الروس إلى الدولة العثمانية مقابل تمتع روسيا ببعض الامتيازات وتعويضها عن الخسائر التي تكبدتها في الحرب، واستقلال بلاد الصرب وتسليم ما تحتفظ به الدولة من قلاعها.[109] وفي أواسط سنة 1830م، ساءت العلاقات بين الدولة العثمانية وفرنسا مجددًا، بعد أن نفذت الأخيرة ما كانت تنويه من مدّة، ألا وهو الاستيلاء على ولاية الجزائر بدعوى منع تعدي القراصنة المسلمين على مراكبها التجارية،[110] وبذلك فقدت الدولة العثمانية الجزائر إلى الأبد، على الرغم من استبسال المقاومة بقيادة الأمير عبد القادر الجزائري، الذي اضطر للاستسلام بعد أن دافع عن بلاده مدة سبع عشرة سنة.
محمد علي باشا، أبرز ولاة الشرق العربي العثماني في أواسط القرن التاسع عشر، وأشهر من أعلن العصيان على الدولة العثمانية في ذلك الوقت.
استمرت المشاكل تنهال على الدولة العثمانية بعد سقوط الجزائر، وذلك أن والي مصر محمد علي باشا طمع في توسيع رقعة نفوذه بعد أن غدا أقوى ولاة السلطان العثماني في الشرق العربي،[111] وكان السلطان محمود الثاني قد وعد محمد علي بأن يوليه على بلاد الشام لقاء خدماته الجليلة التي قدمها للدولة،[معلومة 11] لكنه عاد وأخلف وعده، إذ شعر أن وجود محمد علي في الشام خطرٌ على كيان السلطنة نفسها.[111] فقرر محمد علي أن يجتاح بلاد الشام بالقوة، فوجه جيشه إلى فلسطين وأخضعها، ثم زحف على مدن الساحل اللبناني وفتحها الواحدة تلو الأخرى، وسرعان ما لحقت بها سوريا الوسطى والشمالية، وامتد زحف الجيش المصري إلى الأناضول حيث هزم الجيش العثماني حديث النشأة في قونية،[112][113] وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الآستانة، حتى خُيل للعالم في ذلك الوقت أن نهاية الدولة العثمانية أصبحت قريبة.[111] عقب هزيمة قونية، استنجد السلطان محمود الثاني بالدول الأوروبية للوقوف في وجه الخطر المداهم، فلم ينجده إلا روسيا، التي أرسلت 15 ألف جندي إلى الآستانة للدفاع عنها، فخشيت بريطانيا وفرنسا من امتداد النفوذ الروسي وتوسطت للصلح مع محمد علي،[99] حيث أقر له السلطان بولاية مصر وجزيرة كريت وفلسطين ولبنان وأضنة، لقاء نفس الأموال التي كان يؤديها عن الشام الولاة العثمانيون من قبل.[111] وفي غضون ذلك توسّع النفوذ الروسي في الدولة خصوصًا بعد أن أبرم السلطان معاهدة مع روسيا تعهدت فيها الأخيرة بالدفاع عن الدولة العثمانية لو هاجمها المصريون أو غيرهم. عمل السلطان محمود الثاني في أواخر أيامه على استعادة الشام ومصر، فجمع جيشًا جديدًا، ونشط عملاؤه في الشام يحرضون الشعب للثورة على المصريين، ثم سار الجيش وقام بهجوم عبر الفرات أسفر عن كارثة نزلت به، إذ بدده الجيش المصري في معركة نصيبين عام 1839م. ولم تصل أنباء هذه الهزيمة إلى السلطان محمود الثاني، إذ توفي قبل ذلك بأيام.[111]
السلطان الغازي عبد المجيد خان الأول.
خلف السلطان عبد المجيد الأول أباه السلطان محمود الثاني، وهو صبيّ لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره،[114] وكانت الدولة العثمانية على شفير الانهيار، إذ أصبحت بلا جيش، بفعل خسارة الجيوش العثمانية أمام المصريين، وتشتيت القوى المسلحة، وبلا أسطول، بفعل انضمام الأسطول العثماني طواعية إلى الأسطول المصري في الإسكندرية،[115] فسارع السلطان الفتى إلى إجراء مفاوضات مع محمد علي، فاشترط الأخير، لعقد الصلح، أن يكون الحكم في الشام ومصر حقًا وراثيًا في أسرته.[111] وكاد السلطان عبد المجيد يقبل شروط محمد علي لو لم تصله مذكرة مشتركة من الدول الأوروبية الكبرى، عدا فرنسا،[معلومة 12] تطلب إليه بألا يتخذ قرارًا يتعلق بمحمد علي إلا بمشورتهم، ووعدوه بالتوسط بينه وبين محمد علي، فوافق على ذلك.[111] ثم اجتمعت كل من بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا وعقدوا اتفاقية صدق عليها العثمانيون، وعرضوها على محمد علي، وهي تنص على بقاء ولاية مصر وراثية في عائلته، وولاية عكا مدى حياته،[115] فرفض محمد علي ذلك وطرد المندوبين الأوروبيين والمندوب العثماني من مصر،[115] وبناءً على ذلك هاجمت البوارج الحربية البريطانية والنمساوية والعثمانية مدن الساحل الشامي واستطاعت أن تحرز انتصارًا كبيرًا على جيوش محمد علي بقيادة ابنه إبراهيم باشا، وأجبرته على العودة إلى مصر والانكماش فيها، وبذلك عادت الشام إلى ربوع الدولة العثمانية، وأصبحت سيادة الدولة على مصر سيادةً اسميّة.[111] توصلت الدول الأوروبية الكبرى، بعد انتهاء الأزمة العثمانية - المصرية، إلى عقد اتفاقية جماعية مع الدولة العثمانية، أُطلق عليها تسمية "معاهدة المضائق" أو "اتفاقية لندن للمضائق"، وقد أرست هذه الاتفاقية نظامًا للمضائق العثمانية ظل مطبقًا بدون إدخال تعديلات جوهرية عليه حتى قيام الحرب العالمية الأولى.[116] حدث في عهد السلطان عبد المجيد عدد من الفتن الداخلية في الولايات العثمانية، وازدادت الدولة ضعفًا على ضعف، مما زاد من أطماع الدول الأوروبية فيها، فدُعيت باسم "الرجل المريض"، وأخذ الأوروبيون يخططون لاقتسام تركتها مستقبلاً.
حصار سيڤاستوبول من قبل الجيوش العثمانية والأوروبية خلال حرب القرم، بريشة فرانز روبو.
واقعة سينوب البحرية أثناء حرب القرم، التي نجم عنها انتصار الروس وانهزام العثمانيين،[117] بريشة إيڤان آيڤازوڤسكي.
اتخذت المسألة الشرقية في أواخر القرن الثامن عشر، شكلها الحديث،[118] وبرزت مع بداية انحسار المد التوسعي العثماني عن أوروبا، ومع اتجاه العثمانيين المتزايد نحو فقدانهم تفوقهم العسكري أمام الدول الأوروبية، وبخاصة روسيا والنمسا، وقد تحكمت بها ثلاثة عوامل هي: ضعف الدولة العثمانية المتزايد وظهور عدد من القوميات المسيحية الصغيرة في شبه جزيرة البلقان والفتن الداخلية المستمرة في بعض الولايات، وقد سمحت جميع هذه العوامل للدول الأوروبية أن تتدخل في الشؤون الداخلية للدولة وتسيرها حسب مصالحها.[118] ومن أبرز الأحداث التي استغلتها أوروبا للتدخل في الشؤون العثمانية كانت الفتن الطائفية التي وقعت في بلاد الشام خلال عقد الأربعينيات من القرن التاسع عشر، وبلغت ذروتها في جبل لبنان، فتدخلت فرنسا بحجة حماية الكاثوليك وبشكل رئيسي الموارنة، وتدخلت بريطانيا لدعم الدروز، وروسيا لدعم الأرثوذكس، فوقعت في البلاد مذابح عظيمة تخللتها سنوات قليلة من السلام.[119] كما اتجهت الدولة نحو سياسة نقل أمور الولايات إلى سلطة داخلية فأنهوا حكم مماليك العراق في بغداد والبصرة وآل جليلي في الموصل في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كما قضوا على الإمارات الكردية شبه المستقلة في حكاري وسوران وبادينان إثر ضغط دولي عقب مجازر بدر خان في الأربعينيات من نفس القرن.[120] تُعدّ حرب القرم التي ابتدأت عام 1854م بين روسيا والدولة العثمانية، من أهم مراحل المسألة الشرقية، فقد دفعت هذه الحرب بالعلاقات الدولية نحو التأزم، وغيّرت التحالفات السياسية، فوقفت بريطانيا وفرنسا إلى جانب الدولة العثمانية للدفاع عن سلامة أراضيها ضد الروس.[121] وتتخلص هذه الحرب في أن القيصر الروسي نيقولا الأول اعتقد أن بإمكانه أن يطرح قضية إنهاء المسألة الشرقية بشكل جذري، وأبدى نيته في اقتسام أملاك الدولة العثمانية، فعرض على بريطانيا تقسيم الدولة العثمانية بينهما، فرفضت، فحاول إغراء فرنسا بنفس الإغراء، فرفضت أيضًا، فهددت روسيا باحتلال الأفلاق والبغدان إن لم تعد الدولة العثمانية للإمبراطورية الروسية حق حماية المسيحيين الأرثوذكس الذي فقدته وفق نص معاهدة المضائق،[122] فلم يعرها السلطان أي اهتمام بعد أن وعدته بريطانيا وفرنسا بالدفاع عن الدولة ضد أي هجوم محتمل، فأقدمت روسيا على تنفيذ تهديدها، فتحالف العثمانيون مع بريطانيا وفرنسا والنمسا ومملكة البيمونت بإيطاليا والسويد، وقصفت أساطيلهم ميناء سيڤاستوبول في شبه جزيرة القرم، وضربت الكثير من قلاعه بالإضافة للإغارة على الكثير من موانئ روسيا على البحر الأسود، وتوغلت القوات المتحالفة في أراضي روسيا حتى طلبت الصلح، فعُقدت معاهدة سلام في باريس أنهت الحرب وأنقذت الدولة العثمانية من الخطر الروسي الذي كان يتهددها، وبات من المنتظر أن تغدوا بلدًا متحدًا يأخذ بركب الحياة الدستورية كما عرفها الغرب، وتنضم إلى سائر أعضاء المنظمة الدولة على قدم المساواة.[123]
وفي أواخر عهد السلطان عبد المجيد الأول، نشبت فتنة طائفية كبرى في الشام، وتحديدًا في دمشق وسهل البقاع وجبل لبنان بين المسلمين والمسيحيين عمومًا، والدروز والموارنة خصوصًا،[124] فوقعت مذابح مؤلمة وبلغ عدد القتلى اثني عشر ألفًا،[124] وكان ممثلو بريطانيا وفرنسا يشجعون الفريقين على الانتقام ويساعدونهم على الثأر، فخشي السلطان أن تؤدي هذه الفتنة إلى تدخل الدول الأجنبية العسكري، فأوعز إلى المسؤولين العثمانيين في بيروت ودمشق بوجوب إخمادها حالاً،[124] وأوفد في الوقت ذاته وزير الخارجية فؤاد باشا الذي عُرف بالدهاء والحزم، وخوله سلطات مطلقة لمعالجة الموقف، فقام بمهمته خير قيام وأعدم معظم الذين تسببوا بالمذابح وسجن الباقين ونفى بعضهم وأعاد بعض المسلوبات إلى أصحابها من المنكوبين المسيحيين، وجمع تبرعات كثيرة أنفقها على ترميم القرى.[124] وكانت الدول الأوروبية قد ضغطت على السلطان وحملته على القبول بتشكيل لجنة دولية يوكل إليها أمر إعادة الهدوء إلى جبل لبنان ودمشق، وتصفية ذيول الفتنة.[124] توفي السلطان عبد المجيد يوم 6 يونيو سنة 1861م، الموافق فيه 17 ذي الحجة سنة 1277هـ، عن أربعين سنة،[125] بعد أن قام ببعض الإصلاحات الكبيرة في الدولة، أبرزها فرمانه الشهير الصادر سنة 1856م، الذي ساوى فيه بين جميع رعايا الدولة مهما اختلفت عقيدتهم الدينية،[124] فتحسن وضع المسيحيين بشكل أكبر، وازدادت نسبة المتعلمين منهم،[126] الأمر الذي ساهم في إنعاش اقتصاد الدولة لاحقًا.[126]
حفل افتتاح قناة السويس في مدينة بور سعيد سنة 1869، خلال عهد السلطان عبد العزيز الأول.
بويع السلطان عبد العزيز الأول بالخلافة وعرش آل عثمان بعد وفاة أخيه عبد المجيد، ومما يذكر في عهده: افتتاح قناة السويس وقيام ثورة في جزيرة كريت تم إخمادها.[115] وكان هذا السلطان كثير التجوال في البلاد الخارجية، فزار مصر وزار فرنسا، وحاول تقريب روسيا إليه حتى تخافه دول أوروبا، لكنه عُزل بناءً على فتوى شرعية بسبب تبذيره أموال الدولة، كما تنص بعض المصادر،[127] وعُثر عليه ميتًا في غرفته فقيل أنه انتحر وقيل أنه قُتل،[115] وتولّى بعده ابن شقيقه عبد المجيد الأول مراد، ولم يستمر عهده أكثر من 3 أشهر، وتم عزله بسبب اختلال عقله.[115]
السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني "الكبير"، آخر سلطان فعليّ للدولة العثمانية.
رسم هزلي من مجلة اللكمة البريطانية يعود لتاريخ 17 يونيو سنة 1876، يصوّر الإمبراطورية الروسية بهيئة رجل، على وشك أن تُطلق "كلاب الحرب" البلقانية على الدولة العثمانية، بينما بريطانيا، ممثلة بهيئة شرطي، تحذرها من مغبة عملها. أعلنت الصرب والجبل الأسود الحرب على الدولة العثمانية في اليوم التالي لنشر هذا العدد من المجلة.
إخلاء المسلمين لمدينة نيكوبول البلغارية بعد سقوطها بيد روسيا، وفق ما نصت عليه معاهدة سان ستيفانو.
وبعد مراد الخامس بويع عبد الحميد الثاني بالخلافة وعرش السلطنة، وفي ذلك الحين كانت البلاد تمر في أزمات حادة ومصاعب مالية كبيرة، وتشهد ثورات عاتية في البلقان تقوم بها عناصر قومية تتوثبّ لتحقيق انفصالها، وتتعرض لمؤامرات سياسية بهدف اقتسام تركة "الرجل المريض". ومنذ اليوم الأول لارتقائه العرش، واجه السلطان عبد الحميد موقفًا دقيقًا وعصيبًا، فقد كانت الأزمات تهدد كيان الدولة، وازدادت سرعة انتشار الأفكار الانفصالية، وأصبح للوطنية معنى جديد أخذت فكرته تنمو وتترعرع في الولايات العثمانية، ووجد السلطان نفسه مشبع بالثورة والاضطراب.[128] فقد تجددت الثورة في إقليميّ البوسنة والهرسك، واستمرت في بلغاريا، وكان الصرب والجبل الأسود في حالة حرب مع الدولة.[128] ولهذه الأسباب تدخلت الدول الأوروبية لاستغلال الموقف بغية تحقيق مصالحها بحجة إحلال السلام. فشجعت روسيا والنمسا الصرب والجبل الأسود على حرب العثمانيين، حيث رغبت النمسا بضم البوسنة والهرسك، بينما رغبت روسيا بضم الأفلاق والبغدان وبلغاريا، ووعدت روسيا النمسا والصرب والجبل الأسود بالوقوف بجانبهم إذا قامت حرب بينهم وبين العثمانيين.[129] وبالفعل قامت الحرب بين الدولة العثمانية وتلك الدول، إلا أن الجيوش العثمانية استطاعت الانتصار ووصلت إلى مشارف بلغراد، غير أن تدخل أوروبا أوقف الحرب.[129] قدّمت الدول الأوروبية الكبرى لائحة للدولة العثمانية تقضي بتحسين الأحوال المعيشية لرعاياها المسيحيين، ومراقبة الدول الأوروبية لتنفيذ إجراءات التحسين، فرفضت الدولة اللائحة؛ لأن هذا يعتبر تدخلاً صريحًا في شؤونها، فاستغلت روسيا الرفض واعتبرته سببًا كافيًا للحرب، وفي هذه المرة أطلقت أوروبا العنان لروسيا لتتصرف كيفما تشاء مع العثمانيين، فاحتلت الأفلاق والبغدان وبلغاريا ووصلت أدرنة وأصبحت على بعد 50 كيلومترًا فقط من الآستانة،[129] كذلك دخلت جيوشها الأناضول،[130] وعادت الصرب والجبل الأسود لتعلن الحرب على الدولة العثمانية، فاضطرت الأخيرة إلى طلب الصلح، وأبرمت معاهدة سان ستيفانو مع روسيا، التي اعترفت فيها باستقلال الصرب والجبل الأسود والأفلاق والبغدان وبلغاريا، ثمّ تمّ تعديل هذه المعاهدة في مؤتمر عُقد في برلين تمّ بموجبه سلخ المزيد من الأراضي عن الدولة العثمانية.[131] كشفت قرارات مؤتمر برلين عن ضعف الدولة العثمانية، فاستغلت الكيانات السياسية والقومية هذا الضعف، وقامت بانتفاضات على الحكم المركزي بهدف الحصول على الاستقلال الكامل، ودعمتها أوروبا في سبيل تحقيق ذلك، وهكذا توالت الأزمات السياسية في وجه السلطان عبد الحميد الثاني بعد الحرب العثمانية الروسية ومؤتمر برلين. إنضمت تونس إلى قائمة الأقاليم التي فقدتها الدولة العثمانية لصالح أوروبا في عهد عبد الحميد الثاني عندما احتلتها فرنسا، ثم لحقتها قبرص التي احتلتها بريطانيا، وأتبعتها بمصر والسودان، بحجة حماية الدولة العثمانية من أي اعتداء.[132]
لعلّ أهم الأحداث التي جرت في عهد عبد الحميد هي الأزمة الأرمنية وقيام الحركة الصهيونية، ويتفق المؤرخون، المسلمون منهم خاصةً، أن هذين الحدثين هما ما ساهم في تشويه صورة الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد الثاني. وتفصيل الأزمة الأرمنية أن الأرمن طالبوا بعد مؤتمر برلين باستقلالهم، خاصة أن السلطان لم يقم بتطوير يُذكر لأوضاعهم، وعملت البعثات التبشيرية الأوروبية والأمريكية على إذكاء الشعور القومي الأرمني، وفي الوقت نفسه اعتقدت الدوائر الحاكمة في الآستانة أن بعض الأرمن يعملون كعملاء لروسيا وبريطانيا، وساورها الشكوك حول ولائهم، ومن ثم نظرت إليهم على أنهم خطر يهدد كيان الدولة ومستقبلها وأمنها.[133] وتصاعد التوتر في بلاد الأرمن، ولم تلبث أن عمّت الاضطرابات، فخرج حوالي 4000 ارمني عن طاعة السلطان في بدليس بعد تأخر الإصلاحات الموعودة،[134] فقام العثمانيون بالرد على ثورة الأرمن بأن أرسلوا جيشًا مؤلفًا بمعظمه من الأكراد[135] إلى مناطق الثورة حيث دمّروا العديد من القرى الأرمنية وقتلوا كثيرًا من الثوّار ومن ساندهم، فيما أصبح يُعرف باسم "المجازر الحميدية"،[136] وتطور العنف ليشمل المسيحيين بشكل عام كالسريان كما في مجازر ديار بكر.[137] أما الحركة الصهيونية، فنشأت بقيادة ثيودور هرتزل، ودعت إلى إنشاء وطن قومي ليهود العالم في فلسطين الخاضعة للدولة العثمانية وتشجيع اليهود على الهجرة إليها، فأصدر السلطان عبد الحميد فرمانًا يمنع هجرة اليهود إلى الأراضي المقدسة، لكنه اضطر في نهاية المطاف إلى التهاون معها تحت ضغط الدول الأوروبية، وخاصةً بريطانيا.[138][معلومة 13]
دور الانحلال وخاتمة الدولة (1908–1922)
مظاهرة لمؤيدي جمعية تركيا الفتاة في ناحية السلطان أحمد من الآستانة في سنة 1908.
كانت الأفكار القومية قد تغلغلت بشكل كبير في جسم الدولة العثمانية أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وأنشأ الداعون لهذه المفاهيم المؤسسات والجمعيات التي تحمل أفكارهم، وكان من أهم هذه الجمعيات جمعية تركيا الفتاة، التي تأسست في باريس وكان لها فروع أخرى في برلين، وفي أنحاء الدولة العثمانية في سالونيك والآستانة، واستطاعت أن تضع لها قدمًا في الجيش العثماني، وكان لها جناح عسكري عرف بتنظيم الاتحاد العثماني وكان لها جناح مدني هو الانتظام والترقي، واتفق الفريقان أن تكون جمعيتهم باسم "الاتحاد والترقي".[129] وامتد نفوذ الاتحاد والترقي في الدولة، فضم إليه الكثير من ضباط الفيلق الأول المسيطر على الآستانة، وكذلك الفيلقين الثاني والثالث المرابطين في الولايات العثمانية الباقية في أوروبا. وقد حاول السلطان عبد الحميد مقاومة هذه الجمعيات، فنادى وتمسّك بفكرة الجامعة الإسلامية، لكنه فشل أمامهم، خصوصًا بعد أن سيطروا على أكثر الجيش.[129] فرض الاتحاديون على السلطان إعلان دستور جديد للبلاد يخلف الدستور الأول أو "القانون الأساسي" الذي أعلنه سنة 1876م، فذعن لمطلبهم وأعلن الدستور، فسيطر الاتحاديون على معظم مقاعد المجالس النيابية، ووجدوا أن السلطان سيكون عائقًا في تحقيق أهدافهم، فعزلوه وولوا أخاه محمد الخامس مكانه.[129]
مصطفى كمال "أتاتورك"، رئيس الجمهورية التركية مستقبلاً، إلى جانب بعض المقاومين الليبيين، أثناء الحرب العثمانية الإيطالية.
تولّى محمد "رشاد" الخامس العرش والدولة في احتضار، ولكنها كانت ما تزال متماسكة، وأصبح الاتحاديون هم الحكام الفعليين للبلاد، أما السلطان فكان مجرّد ألعوبة في أيديهم، وفي ذلك الوقت كانت الدولة قد أضاعت كثيرًا من بلادها في أوروبا، والأفكار القومية تنتشر يومًا بعد يوم، والبلاد في حالة إفلاس بسبب الحروب المتواصلة، والأوروبيون قد تسلطوا على مالية الدولة لاستيفاء ما لهم عليها من ديون.[139] وفي نفس السنة لاعتلاء محمد رشاد العرش، سيطرت الإمبراطورية النمساوية المجرية على البوسنة والهرسك، وبعد ثلاث سنوات هاجمت إيطاليا ليبيا، آخر الممتلكات العثمانية الفعلية في شمال أفريقيا، فقاومها العثمانيون بكل طاقتهم، لكنهم لم يستطيعوا شيءًا، فسقطت البلاد بعد سنة من المعارك الشديدة.[139] ثم جاءت حرب البلقان الأولى التي تولّى كبرها كل من مملكة صربيا ومملكة الجبل الأسود ومملكة اليونان ومملكة بلغاريا، وفقدت فيها الدولة العثمانية ما تبقى لها من ممتلكات في البلقان عدا تراقيا الشرقية ومدينة أدرنة، وانسحب حوالي 400,000 مسلم من سكّان تلك البلاد إلى تركيا خوفًا من ما قد تُقدم عليه جنود العدو.[140] وفي تلك الفترة ظهرت النزعة التركية الطورانية بقوة وعنف، وسعى حزب الاتحاد والترقي إلى تتريك الشعوب غير التركية المشتركة مع الأتراك في العيش تحت ظل الدولة العثمانية، مثل العرب والشركس والأكراد والأرمن.[139] وفي سنة 1913م عقد الوطنيون العرب مؤتمرًا في باريس، واتخذوا مقررات أكدوا فيها على رغبة العرب في الاحتفاظ بوحدة الدولة العثمانية بشرط أن تعترف الحكومة بحقوقهم، كون العرب أكبر الشركاء في الدولة، وطالب هؤلاء أن تُحكم الأراضي العربية حكمًا ذاتيًا وفق نظام اللامركزية، وقد وعد الاتحاديون الزعماء العرب الأحرار بقبول مطالبهم، لكن ذلك لم يتحقق بفعل نشوب الحرب العالمية الأولى.[141]
الحرب العالمية الأولى (1914–1918)
إحدى البوارج الألمانية تفر هاربة إلى داخل البحر الأسود، وتبدو في الخلفية السفن البريطانية في إثرها.
جنود روس يتفقدون جثث جنود عثمانيين قضوا أثناء حملة القوقاز على الجبهة الشرقية.
ترحيل أرمن من الازيغ بالأناضول الشرقية إلى الشام.
انطلقت شرارة الحرب الأولى في 28 يونيو عام 1914م عندما كان الأرشيدوق فرانز فرديناند، وليّ عهد العرش النمساوي المجري يقود سيارته في مدينة سراييڤو في البوسنة الخاضعة للنمسا، فاغتاله أحد القوميين الصرب، فاعتبرت الإمبراطورية النمساوية المجرية صربيا مسؤولة عن هذا الاغتيال، فتدخلت روسيا لدعم صربيا مدعومة من فرنسا وتحركت ألمانيا ضدهما، وما لبثت أن دخلت بريطانيا الحرب بعد ذلك بفترة قليلة، ومن ثم تشكلت الأحلاف، فدخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب معسكر دول المحور، أي ألمانيا والنمسا وبلغاريا،[142] بعد أن فقد العثمانيون الأمل في محاولات التقارب مع بريطانيا وفرنسا، وفشلوا في الحصول على قروض عاجلة منهما لدعم الخزينة، وعُزلت الدولة سياسيًا بعد حروب البلقان وإيطاليا؛ فلم يكن لهم سوى خيار التقارب مع ألمانيا التي رأت مصلحتها في "الانتشار نحو الشرق".[143] وفي 10 أغسطس سنة 1914م، دخلت الدولة العثمانية الحرب بشكل فعليّ،[144] بعد أن سمحت لبارجتين ألمانيتين كانتا تطوفان البحر المتوسط، بعبور مضيق الدردنيل نحو البحر الأسود هربًا من مطاردة السفن البريطانية.[145] وخطا الباب العالي خطوة هامة باتجاه الاشتراك بالحرب، حيث أعلن الصدر الأعظم إلغاء الامتيارات الأجنبية، ملبيًا بذلك إحدى المطالب الرئيسية للقوميين الأتراك، ثم اتخذ خطوة أخرى في طريق التحدي بإغلاقه المضائق بوجه الملاحة التجارية، كما ألغى مكاتب البريد الأجنبية وجميع السلطات القضائية غير العثمانية.[143] بعثت الانتصارات الألمانية الخاطفة على الجبهة الروسية الأمل في نفوس الاتحاديين، بشأن إمكانية استعادة الأراضي العثمانية المفقودة لصالح روسيا المهزومة، فهاجم الأسطول العثماني الموانئ الروسية في البحر الأسود، وقد شكّل ذلك أمرًا واقعًا زج بالدولة العثمانية في الحرب، فأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، واقتدت بها كل من بريطانيا وفرنسا، وردّ السلطان محمد الخامس بإعلان الحرب، ودعا المسلمين إلى الجهاد، إلا أن ذلك لم يتحقق، فأغلب مسلمي العالم كانوا يزرحون تحت نير الاستعمار البريطاني أو الفرنسي، وكانت السلطات الاستعمارية قد جندت بعضًا منهم أيضًا في جيوشها.[143] خاضت الجيوش العثمانية الحرب على جبهات متعددة من دون استعداد كامل، فعلى الجبهة الروسية مُنيت الحملة العثمانية بهزيمة فادحة، حيث فتك القتال والصقيع والوباء بتسعين ألف جندي عثماني، وفي الجنوب نزل البريطانيون في الفاو على الخليج العربي واستولوا على العراق، أما عملية قناة السويس فجرت قبل الموعد المحدد، وفيها اتفق العثمانيون مع المصريين على قتال البريطانيين، لكنها أسفرت عن هزيمة العثمانيين وأودت بحياة الكثيرين دون طائل. وقام أسطول الحلفاء بمهاجمة مضيق الدردنيل في خطوة للاستيلاء على الآستانة وإخراج الدولة العثمانية من الحرب، وإمداد الجبهة الروسية،[146] لكن هذا الأسطول الضخم عجز عن اجتياز المضيق وهزم العثمانيون طاقمه هزيمة كبيرة في معركة بريّة، كانت النجاح الوحيد لهم في مقابل سلسلة من الإخفاقات، وبرز في هذه المعركة القائد مصطفى كمال.[143]
الجيش العثماني قبل هجومه على قناة السويس بوقت قصير.
وأثيرت أثناء المعارك، التي اندلعت على الجبهة الشرقية وهجوم الحلفاء في الدردنيل وغاليبولي، قضية الأرمن مرة أخرى، إذ قام الاتحاديون بنقل سكان المناطق الأرمنية في ولايات الشرق وكيليكيا والأناضول الغربية إلى بلاد الشام، بهدف تأمين حياة السكان المدنيين وحماية القوات المسلحة من خيانة محتملة من جانب العناصر الموالية لروسيا.[143] وكان بعض الأرمن قد تطوعوا في الجيش الروسي،[147] وقتلوا عددًا من السكان المسلمين في الأناضول الشرقية، ونتيجة لذلك تعرّض المرحلون لعمليات تعذيب وقتل فيما أصبح يُعرف باسم "مذابح الأرمن".[148][149][150] بعد فشل الحملة العثمانية على مصر، جرت اتصالات سريّة بين البريطانيين في مصر وشريف مكة حسين بن علي الهاشمي، وبعض الزعماء العرب، وتمّ الاتفاق بين الفريقين على أن يثور العرب على الأتراك وينضموا إلى الحلفاء مقابل وعد من هؤلاء بمنح العرب الاستقلال وإعادة الخلافة إليهم. وتنفيذًا لهذا الاتفاق أعلن شريف مكة حسين في يونيو سنة 1916م الثورة العربية على الأتراك، فأخرجهم من الحجاز وأرسل قوّاته شمالاً بقيادة ولديه فيصل وعبد الله لتشارك القوات البريطانية في السيطرة على بلاد الشام.[151] وفي غضون ذلك سُحقت المقاومة البلغارية في البلقان، مما أرغم حكومة صوفيا على طلب الهدنة، فأدرك الباب العالي خطورة الموقف، لأن الحرب أضحت قريبة من الأراضي التركية، ويمكن للعدو أن يتغلغل بحريّة في تراقيا الشرقية ويزحف حتى أبواب الآستانة، فأبرم العثمانيون معاهدة مودروس مع الحلفاء، خرجوا بموجبها من الحرب.[143]
حرب الاستقلال التركية (1919–1922)
مظاهرة في الآستانة منددة بالاحتلال بتاريخ 23 مايو سنة 1919.
توفي السلطان محمد الخامس قبل أشهر من انتهاء الحرب، وخلفه أخاه محمد "وحيد الدين" السادس. وبعد مرور شهر على توقيع هدنة مودروس، دخلت البحرية البريطانية والفرنسية والإيطالية ثم الأمريكية إلى القرن الذهبي، وأنزلت قواتها في الآستانة التي حوّلتها إلى قاعدة لنشاط الحلفاء في المنطقة كلها. سيطر الحلفاء على موانئ البحر الأسود كلها، واقتسموا الأراضي التركية، فاحتل الفرنسيون مرسين وأضنة، والإيطاليون أنطاكية وكوشا داسي وقونية، واحتل اليونانيون القسم الغربي من الأناضول، بالإضافة إلى تراقيا.[152] كان ردّ الفعل الداخلي لاتفاق الهدنة سلبيًا، فقد رفض الأتراك الخضوع للاحتلال والقبول بمشاريعه، فقامت ثورة وطنية في جميع أنحاء البلاد احتضنتها الحركة الوطنية بزعامة القائد مصطفى كمال،[153] والتي عُرفت باسمه "الحركة الكماليّة"، لتواجه خضوع الحكومة لرغبات الحلفاء وتعاون السلطان محمد السادس مع المحتلين، ومحاولات اليونان توسيع المناطق التي احتلتها، وازدياد الثورات الأرمنية. وعقدت الحركة الكمالية مؤتمرات عديدة في طول البلاد وعرضها لاستنهاض الوعي القومي وإنقاذ البلاد من التقسيم، وتشكّلت حكومة وطنية برئاسة مصطفى كمال بهدف إقامة دولة تركية مستقلة، ألغت جميع القوانين والتعليمات التي أصدرتها الحكومة السابقة، ووضعت السلطان وحكومته خارج إطار القانون.[152] وقد حاول السلطان القضاء على هذه الحركة فلم يُفلح.
السلطان محمد "وحيد الدين" السادس، آخر سلاطين بني عثمان، يغادر البلاد إلى المنفى في سنة 1922.
وفي تلك الفترة فُرضت معاهدة سيڤر على السلطان، التي مزّقت أوصال الدولة، وقد وقّع عليها مرغمًا، في حين رفضتها الحكومة الكمالية، ووضعت مخططًا لإنقاذ تركيا بمعزل عن السلطان. تمكّن مصطفى كمال بعد جهود مضنية واصطدامات شديدة مع اليونانيين، من الانتصار، فاستعاد كمال الأراضي التي احتلوها، وفرض على الحلفاء توقيع هدنة جديدة اعترفت فيها اليونان بانتصارات تركيا،[152] فأضحى مصطفى كمال بطلاً قوميًا، وبرز في الواجهة السياسية في حين ظل السلطان في الظل، فما كان منه إلا أن تنازل عن العرش واعتزل الحياة السياسية، وغادر البلاد على ظهر بارجة بريطانية نقلته إلى جزيرة مالطة، في 17 أكتوبر سنة 1922م، الموافق فيه 27 ربيع الأول سنة 1341هـ.[152]
اعتلى عرش السلطنة العثمانية، بعد تنازل السلطان محمد السادس، وليّ العهد عبد المجيد الثاني، وبعد أن أصبح مصطفى كمال سيد الموقف، وقّع معاهدة لوزان مع الحلفاء التي تنازل بمقتضاها عن باقي الأراضي العثمانية غير التركية،[154] ثم جرّد السلطان من السلطة الزمنية وجعله مجرّد خليفة، أي أشبه بشيخ الإسلام، ولكن من غير سلطة روحيّة أيضًا. ثم ألغى الخلافة سنة 1924 وطرد عبد المجيد من البلاد، وبهذا سقطت الدولة العثمانية فعليًا بعد أن استمرت لما يقرب من 600 سنة، وانهارت معها الخلافة الإسلامية بعد أن استمرت ما يزيد عن ألف سنة.[155] وقد رثا أمير الشعراء أحمد شوقي الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية بأبيات من الشعر قال فيها:[156]
عندما طرد مصطفى كمال عبد المجيد الثاني من البلاد، طرد معه كامل أفراد الأسرة العثمانية وصادر أملاكهم،[157] فذهب هؤلاء ليعيشوا في المنفى ومنعوا من العودة إلى تركيا. وفي سنة 1974م، أصدر البرلمان التركي قرارًا نص على جواز منح الجنسية التركية للمنفيين المتحدرين من نسل عثمان الأول، وتمّ إعلامهم بذلك عن طريق السفارة التركية في كل بلد يعيشون فيه. يندرج ضمن قائمة المدعين بالحق في العرش العثماني: "محمد أورخان" ابن الأمير محمد عبد القادر، الذي توفي في سنة 1994، و"أرطغرل عثمان" أصغر أحفاد السلطان عبد الحميد الثاني.
يشتهر أرطغرل عثمان برفضه حمل الجنسية التركية رغم عرضها عليه عدّة مرّات، قائلاً أنه "مواطن عثماني"، لكنه على الرغم من ذلك قال أنه لا يتمنى نهوض الدولة العثمانية من جديد، وأفاد أن "الديمقراطية تسري سريانًا جيدًا في تركيا".[158] عاد أرطغرل عثمان إلى تركيا في سنة 1992م، وكانت تلك المرة الأولى التي يدوس فيها أرض وطنه الأم منذ نفيه وأفراد الأسرة الحاكمة في عشرينيات القرن العشرين، وحصل على الجنسية والهوية التركية في سنة 2002م.[159] توفي أرطغرل عثمان في 23 سبتمبر سنة 2009م في إسطنبول عن عمر يناهز 97 عامًا ولم يخلف أولادًا، وبموته لم يتبق أحد من المدعين بالحق في العرش العثماني من الذين وُلدوا في الفترة التي كانت الدولة فيها لا تزال قائمة. كان الأتراك يُلقبون أرطغرل عثمان باسم "العثماني الأخير"،[160] ولو قُدّر له أن يحكم بصفته سلطانًا، لكان أكبر سلاطين الدولة سنًا منذ نشأتها، ولعُرف باسم السلطان أرطغرل الثاني.
يُعتبر "إبراهيم توفيق"، وهو حفيد حفيد السلطان عبد المجيد الأول الوريث الأول لعرش آل عثمان، كذلك تقول الحكومة التركية أن أحد المواطنين الأمريكيين من أصل تركي، واسمه "عدنان گلكور"، هو الوريث الأصغر لعرش الدولة العثمانية.[161]
الاقتصاد
رسم للسوق الكبير المغطى في الآستانة خلال العهد العثماني. بنى السلطان محمد الفاتح هذا السوق لإنعاش اقتصاد المدينة بعد أن فتحها لا سيما وأنها كانت تعاني من التدهور الاقتصادي.
اعتنى العثمانيون بالعواصم المختلفة لدولتهم عناية خاصة، فجعلوا من مدن بورصة وأدرنة والقسطنطينية مراكز صناعية وتجارية مهمة في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، بل في العالم عندما بلغت الدولة ذروة مجدها وقوتها، واستقطبوا إليها الصنّاع والحرفيين والتجّار المهرة من مختلف أنحاء الأراضي الخاضعة لهم.[162] ومن أبرز السلاطين الذين عملوا على تنمية الدولة العثمانية من الناحية الاقتصادية: محمد الفاتح وخليفته بايزيد الثاني وحفيده سليم الأول، فخلال عهد هؤلاء السلاطين فُتحت مناطق كثيرة في أوروبا الشرقية والعالم العربي، وكان العثمانيون ينقلون معهم غالبًا أمهر الصنّاع والحرفيين إلى عاصمتهم، كما فعل السلطان سليم الأول عندما فتح تبريز ومن ثم القاهرة،[163] وفي ذلك العهد أيضًا كان عدد من المسلمين واليهود الأندلسيين قد غادر شبه الجزيرة الأيبيرية بفعل اضطهاد الإسبان لهم بعد سقوط الأندلس، فاستقبلهم العثمانيون وقدموا لهم الكثير من التسهيلات ليستقروا في البلاد ويساهموا في نهضتها الاقتصادية.[164]
نظّم العثمانيون ماليّة دولتهم وخزينتها بشكل أفضل وأكثر فعاليّة من أي دولة إسلامية سابقة، واستمر نظامهم المالي أفضل نظم عصره وفاق جميع النظم المالية لكل الدول من إمبراطوريات وجمهوريات وممالك وإمارات معاصرة حتى القرن السابع عشر، عندما أخذت الدول الأوروبية الغربية تتفوق عليها في هذا المجال.[165] يُعزى ازدهار الخزينة العثمانية خلال العصر الذهبي للدولة إلى إنشائهم لوزارة خاصة تختص بالأمور المالية للدولة من إنفاق واستدانة وإدانة، عُرفت لاحقًا باسم "وزارة المالية"، وكان يرأسها شخص مختص هو "الدفتردار" الذي أصبح يُعرف لاحقًا باسم "وزير المالية"،[165] وكان لحسن تدبير بعض وزراء المالية أثر كبير في نجاح فتوحات السلاطين وحملاتهم العسكرية، إذ استطاعوا بفضل هؤلاء وسلامة سياستهم المالية التي رسموها للدولة، أن يصرفوا على الجيش ويزودوه بكامل المعدات اللازمة وأحدث أسلحة العصر.[166]
العملة
عملة ورقية عثمانية من فئة 100 ليرة.
كانت العملة العثمانية في بداية عهد الدولة تُعرف باسم "الغروش" أو "القروش"، وكانت تُسك من معدن البرونز النحاس، وفي أواخر عهد الدولة أصبحت "الليرة" مرادفًا لاسم العملة العثمانية، وكان يُضاف إليها اسم السلطان الذي صدرت في عهده، فكان يُقال "ليرة مجيدية" و"ليرة رشادية" على سبيل المثال. وكانت الليرة العثمانية تساوي مئة واثنين وستين قرشًا،[167] وأطلق عليها العرب اسم "العثمليّة". كانت الليرات العثمانية عبارة عن نقود ذهبية في بادئ الأمر، ثم أصدرت الدولة في عهد الحرب العالمية الأولى أوراقًا نقدية لأول مرة في تاريخ البلاد، بسبب المبالغ الطائلة التي أنفقتها على الحرب،[167] وأكثرت من الكميات التي أنزلتها إلى السوق، فهبطت قيمة هذه العملة بالنسبة للنقد الذهبي والفضي، هبوطًا كبيرًا، ولكن الحكومة كانت تصرّ على اعتبار الليرة الورقية مساوية لليرة الذهبية، وكانت تجبر الناس على قبضها والتعامل بها.[167] تعامل الشوام في أواخر العهد العثماني أيضًا بالعملة المصرية، ومنها اكتسبت النقود تسمية "مصاري" و"مصريات" اللتان لا تزالان تستعملان في بلاد الشام للإشارة إلى النقود.
التجارة
رسم لسوق أقمشة في الآستانة سنة 1878م.
بنى العثمانيون الكثير من المراكز التجارية والأسواق الكبيرة والخانات على الطرق الرئيسية للتجارة لينزل فيها التجّار المسافرون والقوافل. وكان هناك مراكز تُجمع فيها البضائع التجارية وتقوّم قيمها وتُثبت أسعارها، أي كانت تعمل عمل البورصة حاليًا، وكان يُطلق على هذه المراكز التجارية اسم "بَدَسْتان".[168] تأسست هذه المراكز أولاً في مدينة بورصه وفي أدرنه ثم انتشرت منهما إلى سائر أرجاء الدولة العثمانية. كانت جميع أنواع السلع والبضائع تباع وتشترى في هذه المراكز التجارية، وكان بعضها يتخصص في بيع أنواع معينة من البضائع، مثل المجوهرات أو البُسط أو الأقمشة أو البهارات أو الكتب أو العطورات، وكان يوجد حول تلك المراكز بياعو الحاجيات اليومية من أغذية أو وقود أو مواد خام.[168]
كانت التجارة الدولية في القرن الرابع عشر بيد البرتغاليين والبنادقة، وكانت البضائع الثمينة تتجمع في الموانئ، حيث تتم التجارة فيها عن طريق النقل البحري بواسطة السفن. كانت الدولة العثمانية على وعي بأن ازدهار التجارة في أي بلد يساعد على ازدهاره، وتخلفها يعني تخلفه. لذا قامت بإحياء طريق الحرير التاريخي، وأمّنت بذلك تحول التجارة إلى الطريق البري مرة أخرى.[168] لذا بنت الخانات ومراكز التجارة على الطرق التجارية المهمة، وأنشأت هذه المراكز في داخل المدن أيضاً. واستطاعت الدولة - بتحقيقها الأمن والأمان للتجارة والتجار في أراضيها الواسعة وتيسير سبل التجارة أمامهم - السيطرة على التجارة الدولية بدءً من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر.[168]
كان التجّار في العهد العثماني على نوعين: التجار المتجولون، والتجار المقيمون في المدن. فكانت مباني البدستان محل عمل التجار المقيمين في المدن ومركزًا لتعيين أسعار البضائع، كما كانت دائرة لاستيفاء الضرائب. وكان الموظفون الرسميون الذين يعيّنون الأسعار ويستوفون الضرائب يقيمون هناك، لذا لم يكن يُسمح بزيادة الأسعار خارج الحد المعقول، أي لم يكن يُسمح بالتعامل بالسوق السوداء.[168] كان أصحاب الحرف المختلفة يعملون في البدستان كعائلة واحدة، وكانت لهم منظمات ذات تقاليد عريقة ومستقرة مثل "نقابة الأخوة". ولم يكن يؤخذ إلى هذه النقابة من أصحاب المهن من لم يمر بمرحلة التدريب والتعليم التي تتدرج من مرحلة المتعلم الناشئ أو العامل المبتدئ إلى المتدرب إلى المعلم أو "الأسطة".[168]
الزراعة والصناعة
تاجر حرير يبتاع شرانق ديدان قز في أنطاكية قرابة سنة 1895م.
كانت الدولة العثمانية تسيطر على أراض زراعية خصبة جدًا موزعة في جميع أنحائها، ومنها السهول الخصبة في بلاد الشام، وحوض نهر الدانوب، وحوضيّ دجلة والفرات، ووادي النيل، وسهول آسيا الصغرى وشمال أفريقيا. وقد اشتهرت جميع هذه المناطق في سائر العصور بخصب تربتها ووفرة مياهها وغنى إنتاجها. وكان الإنتاج الزراعي متنوعًا، فالقمح الحبوب الأخرى كان يُعتمد في إنتاجها على سهول الشام ومصر والأناضول، وزيت الزيتون كان يُنتج في الشام والأناضول والبلقان. واشتهرت اليونان وسوريا ولبنان وفلسطين وبعض أنحاء شمالي أفريقيا بالفاكهة والأثمار، كالعنب والتين والكرز والخوخ والإجاص والتفاح والدراق والسفرجل واللوز وغير ذلك.[169]
ولم تكن الثروة الحيوانية أقل أهمية من الإنتاج الزراعي، فقد كانت قطعان الغنم الماعز البقر والإبل وجواميس الماء سارحة في هضاب البلقان وآسيا الصغرى وبوادي الشام ووادي النيل.[169] وانتشرت في الكثير من أنحاء الدولة الصناعات الغذائية والمستخرجة من مصادر حيوانية ونباتية، وأبرزها صناعة الحرير والصوف والصابون.[169]
وفي عصر الدولة الذهبي نشطت الصناعة العسكرية لتلبي حاجة الجيوش الفاتحة، وفي مقدمتها صناعة الأسلحة النارية من بنادق ومسدسات ومدافع، وفي الكثير من الأحيان تولّى هذه الصناعة مهندسون مجريون ونمساويون وفرنسيون وسويديون، وتليها صناعة الأسلحة البيضاء من سيوف ورماح ونبال، وصناعة الدروع. وقد تضائلت أهمية هذه الصناعة مع ازدياد ضعف الدولة وتراجعها مقابل تقدم أوروبا الغربية.
نظام الحكم
اتبع العثمانيون تنظيمًا بسيطًا لدولتهم، حيث ابتكروا جهازين إداريين للحكم: جهاز إداري مركزي وجهاز إداري محلي، وكان يتم اتباع هرميّة معينة في كل جهاز منها، وكان السلطان بوصفه حاكم البلاد، وخليفة المسلمين، يقبع على قمّة هذا الهرم. أخذ العثمانيون بالكثير من العادات العربية والفارسية والبيزنطية في تنظيمهم للأجهزة الإدارية، ودمجوا معها بعض العادات التركية القديمة، وصهروها كلها في بوتقة واحدة مميزة، مما جعل الدولة العثمانية تظهر بمظهر الوريث الشرعي لجميع تلك الحضارات التي سبقتها.[170]
الجهاز الإداري المركزي
السلطان مصطفى الثاني يستقبل السفير الفرنسي "شارل آل فريول" في الديوان السلطاني سنة 1699، بريشة "جان بابتيست ڤامور".
كان الجهاز الإداري المركزي يتكوّن من السلطان وحاشيته، وهؤلاء جميعًا يُعرفون باسم "آل عثمان"، ويُعاونهم في الحكم ما يُعرف باسم "الديوان"، وهو جهاز إداري مضمّن يتكوّن من الصدر الأعظم وأفراد الطبقة الحاكمة. ومنصب الصدر الأعظم هو أعلى مناصب الدولة بعد منصب السلطان، وكان من يتبوأ هذا المنصب يلعب دور رئيس الوزراء ورئيس الديوان، ومن صلاحياته تعيين قادة الجيش وجميع أصحاب المناصب الإدارية المركزية أو الإقليمية. أما الطبقة الحاكمة فكان يُشار إلى أفرادها باسم "العساكرة" أو "العسكر"، ومفردها "عسكري"، وهي تشمل: الدفتردار، أي الشخص المُكلف بالشؤون المالية وحساب موارد الدولة ومصاريفها؛ الكاهية باشا، وهو الموظف العسكري الذي يتكلف بتسير الشؤون العسكرية للدولة؛ الشاويش باشا (بالتركية العثمانية: چاويش پاشا؛ نقحرة: تشاويش پاشا) وهو موظف ينفذ الأحكام القضائية التي يصدرها القضاة؛ رئيس الكتّأب، وشيخ الإسلام وطبقة العلماء. كان السلطان العثماني هو صاحب القرار النهائي الفاصل في أغلب الأحيان، وقد استمر الأمر على هذا المنوال حتى عهد السلطان مراد الرابع، عندما ازداد نفوذ الديوان وأخذ السلاطين لا يشاركون في جلساته أكثر فأكثر. جرت العادة منذ العهد العثماني على إطلاق تسمية "الباب العالي" على الحكومة العثمانية، وهي تسمية تعني في الأصل قصر السلطان، ومع مرور الوقت أصبح المقصود بالباب العالي: أعلى سلطة تتجسد في قوة السلطان المستمدة من قوة جيشه.
طغراء السلطان سليمان القانوني (1520).
تعتبر السلالة العثمانية أطول سلالات الأسر الإسلامية الحاكمة عمرًا،[171] وكان رأس الأسرة هو السلطان، وهو في نفس الوقت رأس الدولة، وخليفة المسلمين، وكان يُشار إليه باسم "پاديشاه" بمعنى "ملك الملوك" أو "سيّد الملوك"، وكان يحكم الدولة حكمًا مطلقًا، ولا يقيده إلا حدود الشريعة الإسلامية، حيث كان شيخ الإسلام يتمتع بسلطة عزل السلطان لو ثبت أنه تخطى حدود الشريعة أو أصيب بعاهة عقلية أو جسدية تمنعه من ممارسة عمله والاهتمام بشؤون العباد على أكمل وجه.[معلومة 14] وقد كان السلاطين الأوائل الذين بلغت الدولة في عهدهم ذروة مجدها وقوتها ملتزمين بحدود الشريعة عادةً، أما بعد عهد السلطان سليمان القانوني، أصيب البلاط العثماني بفساد شديد استمرّ حتى تولّي السلطان مصطفى الرابع العرش،[143] فقد حكم خلال هذه المدة ثمانية عشر سلطانًا، لم يكن أحد منهم على مستوى يؤهله لأن يمارس الحكم إلاّ بواسطة وزراء كانوا أحيانًا مثالاً للفساد، وأحيانًا أخرى مشفقين على الدولة من الانهيار، كما كانوا يقومون بإصلاحات تعطي الدولة حيوية تمكنها من إدارة أمورها لسنوات عدّة.[172] كانت الأسرة العثمانية أسرة تركية من الناحية العرقية والإرثية فقط، وفي واقع الأمر أصبح البيت العثماني في ذروة اتساع الدولة عبارة عن مزيج ثقافي واسع للحضارات والثقافات المجاورة، الأمر الذي جعل العنصر التركي للدولة يفقد هيمنته مع مرور الزمن، وأصبحت الدولة ككل يُشار إليها في أوروبا باسم "المشرق".[173] كان لكل سلطان ختم خاص به يُصنع في بداية عهده ويستخدمه لختم الفرمانات والرسائل التي يبعثها للملوك والأباطرة وغيرهم من الحكّام، ويُعرف هذا الختم باسم "الطغراء"، وقد تطوّر شكل الطغراء منذ أن ابتدعها السلطان أورخان الأول حتى عهد السلطان سليمان القانوني، عندما اتخذت شكلاً ثابتًا استخدمه باقي السلاطين الذين تلوه.[174]
دار الحريم في قصر الباب العالي.
يُلاحظ خلال مدة القرنين السابع عشر والثامن عشر، ضعف اهتمام السلاطين بمزاولة شؤون الدولة. وكان عدد من هؤلاء السلاطين، قبل أن يتولوا العرش، سجناء في دار الحريم أو في أقبية، ما انعكس سلبًا على سلوكهم خلال توليهم الحكم، ومنهم من كان شديد الإسراف في الأبهة والقتل، فيما البعض الآخر شُغل بالقنص ومعاقرة الخمر والفساد والسطو على مالية الدولة وأخذ الرشوة وبيع المناصب، وكان لنساء القصر تأثيرهنّ القويّ على السلاطين، وخصوصًا في القرن السابع عشر، حيث كانت الدولة في بعض الأوقات تحت حكمهنّ.[175]
استمر السلاطين هم الحكّام الفعليين للدولة منذ عهد مصطفى الرابع حتى عبد الحميد الثاني، عندما أصبح تسيير أمور البلاد بيد جمعية الاتحاد والترقي وأصبح السلطان مجرّد أداة في أيديهم يسيرونها كما يشاؤون، وتحوّل لقبه إلى "سلطان العثمانيين وخليفة المسلمين"،[176] بعد أن كان لقب السلطان من أطول ألقاب الحكّام في العالم سابقًا، فالسلطان سليمان القانوني مثلاً كان يُلقب "سلطان السلاطين وبرهان الخواقين وأمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين، متوّج الملوك ظلّ الله في الأرضين وسلطان البحرين وخادم الحرمين الشريفين، ملك الأناضول والروملي وقرمان الروم وولاية ذي القدريّة وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم والشام وحلب ومصر وجميع ديار العرب واليمن وممالك كثيرة أخرى، السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد خان".[177]
الصدر الأعظم "إبراهيم باشا" يستقبل أعضاء الوفد الفرنسي إلى الباب العالي بتاريخ 10 أكتوبر سنة 1724م.
كان لقب "الوزير" هو المستخدم خلال المراحل الأولى للدولة العثمانية. وأوّل من لُقب بالصدر الأعظم كان الوزير "خليل خير الدين باشا" وزير السلطان مراد الأول. والغرض من اللقب الجديد هو تمييز حامل الختم السلطاني من الوزراء الآخرين. ثم بدأ اللقب الجديد "صدر أعظم" يحل محل اللقب القديم "وزير أعظم" تدريجيًا وإن كانا لهما نفس المعنى والرتبة. وخلال التاريخ العثماني ظهرت ألقاب جديدة للصدر الأعظم مثل الصدر العالي والوكيل المطلق وصاحب الدولة والسردار الأكرم والسردار الأعظم والذات العالي. وقد برزت أهمية الصدور العظام بعد عهد السلطان سليمان القانوني، عندما أصبحوا يتولون شؤون الدولة، ومن أشهرهم آل "كوبرولي".[178] وبعد فترة التنظيمات في القرن التاسع عشر، أصبح من يتولّى منصب الصدر الأعظم يقوم بدور أكبر مما هو في منصب رئيس الوزراء في الملكيات الغربية. وبعد إقرار دستور سنة 1908 أصبح الصدر الأعظم مسؤولاً عن أعماله أمام البرلمان.[179]
الجهاز الإداري المحلي
الولايات العثمانية سنة 1900.
نظرًا لاتساع رقعة الدولة فقد قسمها العثمانيون إلى ولايات أو "إيالات"، ثم قسموا كل ولاية إلى سناجق أو مقاطعات، وكلّ سنجق إلى نواح، وكل ناحية إلى أحياء وحارات. وكان حاكم الولاية، أو الوالي ولقبه "الباشا"، تبعًا للحكومة المركزية في الآستانة، في حين كان حاكم السنجق، أو "الحكمدار" ولقبه "البك"، تابعًا للباشا، ويساعده ديوان و"صوباشي"، أي ضابط أمن؛ وكان حاكم الناحية، ولقبه "الآغا" تابعًا للبك، وكان على رئس كل حي أو حارة "مختار" تابع للآغا.[180] وكان الوالي يُعيد شراء منصبه من الصدر الأعظم كل سنة، فكان طبيعيًا أن يعمد إلى ابتزاز ما دُفع من الضرائب الباهظة التي كان يفرضها على الرعيّة ومن الموظفين الخاضعين لسلطته، كما كان طبيعيًا أن يعمد هؤلاء الموظفون بدورهم إلى ابتزاز المال بمختلف الوسائل من أفراد الشعب، وعُرف هذا النظام، أي جباية الضرائب السنوية عن مساحة من الأرض من أهلها من الفلاحين، باسم "نظام الالتزام".[143] كان والي الشام متميزًا عن غيره من الولاة بإضافة منصب إمارة الحج عليه، وكانت مهمة "أمير الحج" الإشراف على قافلة الحج الشامي التي تضم حجاجًا من أنحاء بلاد الشام والأناضول والبلقان، وتأمين ما يلزم لسلامة الحجاج، من ماء وجنود ودليل خبير بالطريق أو أكثر من دليل، وغير ذلك من الأمور. كان عدد ولايات الدولة يتفاوت بين الحين والآخر، وفق ما تكسبه أو تفقده من البلدان، أو بسبب دمج بعض الولايات ببعض.[180]
أنشأ العثمانيون خلال بعض الفترات من تاريخهم تقسيمات إدارية محلية جديدة، ففي عهد التوسع والفتوحات أصبحت الدولة تضم ألوية جديدة كان من الصعب ربطها بالعاصمة، فاضطرت إلى ضم عدد منها في ولاية واحدة، وعُين على رأس كل ولاية أمير أمراء الألوية، ولقبه "بكلر بك". كذلك أنشأ العثمانيون نظام "المتصرفية" خلال فترة أفول نجم الدولة، بضغط من الأوروبيين، وهذا النظام يهدف من الأساس لحماية الأقليات الدينية المسيحية في الدولة وإعطائها نوعًا من الاستقلال الذاتي، كما في حالة متصرفية جبل لبنان، أو لحماية بعض المناطق المقدسة عند أهل الكتاب عمومًا، مثل متصرفية القدس. وكان يُعين على رأس المتصرفية موظف عثماني يُعرف باسم "المتصرّف"، وفي حالة متصرفية جبل لبنان، فقد كان يجب أن يكون مسيحيًا عثمانيًا غير لبناني أو تركي.[181]
البرلمان والدستور العثماني
السلطان عبد العزيز خان الأول، أوّل سلطان عثماني أسس مجلس ذو طابع شبه دستوري.
ترجع بداية الحياة الدستورية في الدولة العثمانية إلى عام 1808م، وهو العام الذي تبوأ فيه السلطان محمود الثاني عرش السلطنة، ففي بداية عهده دعا الصدر الأعظم مصطفى باشا البيرقدار إلى عقد مجلس استشاري في الآستانة وعرض فيه برنامجًا إصلاحيًا أبرز ما جاء فيه إلزام حكّام الولايات بالولاء للسلطان، وتعهّد الدولة المركزية بالطاعة التامة لقراراته، وحدد الاتفاق العلاقات بين حكّام الولايات بعضهم ببعض، وبالتالي بين موظفي الدولة على أساس ضمانات متبادلة قائمة على العدالة.[182] وكان يمكن لهذا الاتفاق أن يكون أساس دستور حقيقي للدولة العثمانية، إلا أنه لم يعش طويلاً، فالسلطان لم يوقع عليه إلا مرغمًا، حين رأى نفسه مضطرًا لتصديقه وإصداره، بفعل أنه عدّه انتقاصًا من سلطته، لذا قرر إلغاءه عند سنوح أوّل فرصة، واستطاع ذلك عندما قُتل البيرقدار، وخلال السنوات التالية أخضع السلطان الولايات العثمانية لحكومة مركزية قوية.[182]
صدرت في عهد السلطان عبد المجيد الأول قوانين إصلاحية عدّة ذات طابع شبه دستوري، مثل منشور الكلخانة ومنشور التنظيمات الخيرية، وينظر بعض المؤرخين إلى هذين المنشورين على أنهما وثيقتان دستوريتان لاشتمالهما على مبادئ عامّة في الحكم والإدارة، لكنهما في واقع الأمر لا يُعدان قانونين دستوريين بفعل أنهما لم يقيدا حرية السلطان أو يحدا من صلاحياته، كما أنهما لم يُنشئا المجالس النيابية أو القضائية.[183] وفي عام 1856م أنشأ السلطان عبد المجيد مجلسًا عُرف باسم "مجلس أعيان الولايات" يتكون من عضوين عن كل ولاية، يختارات من بين أصحاب المعرفة والاحترام، هدفه إبداء الرأي بالإصلاحات الواجب إدخالها على أجهزة الدولة، على أن يُبدي كل منهم وجهة نظهره في ذلك. كانت هذه التجربة الأولى من نوعها في تاريخ الحياة النيابية في الدولة العثمانية، إلا أنها باءت بالفشل لعدم قدرة المندوبين على استيعاب المشكلة برمتها، كما داخلهم الشك في نوايا الحكومة المركزية.[182] وأنشأ السلطان عبد العزيز الأول في عام 1876م "مجلس الدولة" أو "شوري دولت"، الذي تميز بطابع شبه دستوري، وشملت اختصاصاته إعداد مشاريع القوانين للدولة وإبداء الرأي للوزارات بالمسائل الخاصة بتطبيق القوانين، كما كان بمثابة محكمة ينظر بالقضايا الإدارية ويُحاكم الموظفين المتهمين بالانحراف.[184] وقد وُصف هذا المجلس بأنه بداية انطلاق لمجلس النواب.[182]
الصفحة الأولى من الدستور العثماني.
اشتهر السلطان عبد الحميد الثاني أنه أوّل سلطان دستوري في تاريخ الدولة العثمانية، فقد أعلن دستورًا للبلاد بعد أن أقنعه زعيم تكتل "اتفاق الحمية" مدحت باشا أن الإقدام على هذا العمل يجعل الدول الأوروبية تتوقف عن تدخلها في الشؤون الداخلية للدولة لا سيما وإنه سيُصلح وضع الرعايا المسيحيين في البلقان والشام. تشكلت لجنة عامة برئاسة مدحت باشا، ولجان فرعية لدرس مشروع الدستور قبل إصداره، وانتهت بعد مداولات طويلة إلى وضع هيكل للنظام البرلماني يقوم على مجلسين: مجلس شيوخ، يُطلق عليه "مجلس الأعيان"، ومجلس نواب يُطلق عليه "مجلس المبعوثان".[185]
حفل إعلان الدستور العثماني وافتتاح البرلمان.
كان الدستور العثماني ينص على تقييد السلطة المطلقة للسلطان وإنه حامي الدين الإسلامي، يتمتع شخصه بحرمة قدسية، وهو غير مسؤول عن تصرفاته أمام أحد، وحدد الدولة وعاصمتها والحقوق العامّة للرعايا.[185] وانتقص الدستور كثيرًا من سلطات الصدر الأعظم التنفيذية وأعطاها للسلطان. جعل الدستور للسلطان الحق في تعيين أعضاء مجلس الأعيان مدى الحياة، على أن لا تقل سن العضو عن أربعين عامًا، أما مجلس المبعوثان فكان أعضاؤه يعينوا عن طريق إجراء انتخابات عامّة، وكان المجلسان يجتمعان كل سنة في دورة عاديّة، تبدأ في الأول من شهر نوفمبر وتنتهي في آخر شهر فبراير، ويحق للسلطان تقديم موعد الدورة أو اختصار مدتها. كانت الحكومة هي التي تقترح التشريعات الجديدة على البرلمان، أما اقتراحات أعضاء المجلسين فيجب أن تُعرض على السلطان، فإذا وافق عليها يُحيلها إلى البرلمان عن طريق مجلس الدولة الذي يوافق عليها، وينتهي الأمر بصدور موافقة السلطان، أما إذا رفض أحد المجلسين مشروع قانون فلا يعيد النظر فيه في دورة انعقاده نفسها.[186]
الواقع أن الحياة الدستورية، بمعناها الحديث، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، كانت تجربة فاشلة قُدّر لها الإخفاق، ومرّت بمرحلتين: بدأت المرحلة الأولى بصدور الدستور في 23 ديسمبر سنة 1876م، الموافق فيه 6 ذي الحجة سنة 1293هـ، وانتهت بحل البرلمان وإيقاف العمل بالدستور في 14 فبراير سنة 1878م، الموافق فيه 11 صفر سنة 1295هـ.[182] وبدأت المرحلة الثانية حين قرر السلطان عبد الحميد إعادة العمل بالدستور في شهر يوليو من عام 1908م، واستمرت إلى ما بعد عهده، حيث انتهت في 18 مارس سنة 1920م، الموافق فيه 26 جمادى الآخرة سنة 1338هـ، حين قرر البرلمان إيقاف جلساته إلى أجل غير مسمّى، ثم أصدر السلطان محمد السادس في 11 أبريل من نفس العام قرارًا بحله.[182]
المجتمع والثقافة
مقالة مفصلة: ثقافة الدولة العثمانية
يكاد المؤرخون يُجمعون على أنه لم تكن ثمّة حضارة عثمانية بالمعنى الدقيق للكلمة.[187] فقد كانت الحضارة العثمانية مجرّد مزيج من حضارات الأمم التي سبقتها وحضارات الأمم التي عاصرتهم. فبرز فيها أثر العرب وأثر الفرس من ناحية، وأثر البيزنطيين وأثر الأوروبيين من ناحية ثانية.[187] والواقع أن خير ما يُمكن أن يُقال في هذا الموضوع هو أن الحضارة العثمانية امتدادٌ للحضارة والخلافة العربية الإسلامية التي بلغت أوجها في العصر العبّاسي، ولكنه امتداد طبعه العثمانيون بطابعهم التركي وطعّموه بكثير من المؤثرات البيزنطية أولاً، ثم بكثير من المؤثرات الأوروبية بعد ذلك.[187]
البنية الاجتماعية
راوي في إحدى المقاهي يروي قصة لتسلية الناس. كانت هذه الظاهرة الثقافية ظاهرة مشتركة بين العديد من المدن في أرجاء الدولة العثمانية.
اتسم العثمانيون بعدم اتباعهم لسياسة هضم القوميات، الأمر الذي ساعد على نمو العصبات الحاكمة وحفظ للقوميات طابعها القومي، فقد وضع السلاطين نظامًا خاصًا عُرف بنظام "الملل"، قسموا بمقتضاه الشعوب الخاضعة لهم، ووضعوا كل ملّة أو عصبية تحت حكم زعيم لها هو المسؤول عنها أمام السلطان.[188] يقول بعض المؤرخين أن هذه السياسة هي أحد الأسباب الرئيسية التي أدّت لضعف الدولة وانفصال بعض القوميات عنها في وقت لاحق، بينما يقول آخرون أن التعددية هي ما كان وراء دوام استمرار الدولة لسنين طويلة.[188] منح السلاطين بعض الأقليات العرقية والدينية حق الإقامة في ربوع الدولة العثمانية وأعطوهم الأمان وسمحوا لهم بممارسة شعائرهم الدينية بحريّة لقاء الجزية، كما فعل السلطان محمد الفاتح مع اليهود والروم الفنارية عندما دعاهم ليسكنوا القسطنطينية. طُبعت بعض المدن الكبرى في الدولة العثمانية بطابع ثقافي واجتماعي مختلط كما القسطنطينية، كونها كانت إما مرافئ تجارية مهمة أو عواصم ولايات، أو ذات أهمية دينية، ومن هذه المدن التي ما زالت تحتفظ بطابع عثماني: سراييڤو، سكوبيه، سالونيك، دمشق، بغداد، بيروت، مكة، القدس، والجزائر، فلا يزال المرء يُشاهد في هذه المدن عدد من المعالم المعمارية العثمانية الأثرية والحديثة المبنية على هذا الطراز، كما أن العديد من سكان هذه المدن نزح إليها من مناطق أخرى خلال العهد العثماني.[189] كان للانتماء المجالي تأثير كبير على وضعية ومكانة صاحب منصب ما في الدولة العثمانية، ويتمثل ذلك في ترابية أجهزة الدولة وفيما يخص بروتوكول الإستقبال. فقاضي الروملي كان أقرب وأعلى مكانة للسلطان من قاضي الأناضول، وهذان القاضيان هما أول من يدخل على السلطان، يليهما الصدر الأعظم ثم رئيس الكتّأب ورئيس بيت المال ولا يرى غيرهم. وقد اتبع أسلوب التشريفات هذا بعض الحكّام المحليين وطبقوه كما كان يُطبق في القسطنطينية.[190]
التعليم
مدرسة العشائر السلطانية، أنشئت في سنة 1892 على يد السلطان عبد الحميد الثاني وأغلقت في سنة 1907.[191]
أهملت الدولة العثمانية، خلال مراحل تاريخها، تنشيط التعليم المدني، إلا في نطاق المدارس التابعة للهيئة الدينية الإسلامية، وقامت إلى جانب هذه المدارس، مدارس الملل بإشراف الطوائف الدينية غير الإسلامية أو البعثات التبشيرية.[192] ولم يتطور التعليم في الدولة العثمانية إلاّ في بداية عهد السلطان عبد المجيد الأول وباقي السلاطين الذين تلوه، وأبرزهم عبد الحميد الثاني، الذي أنشأ المدارس المتوسطة والعليا والمعاهد الفنية لتخريج الشباب العثماني، وإعداده لتولّي المناصب الحكومية والنهوض بالدولة. واهتم السلطان اهتمامًا بالغًا بالمدرسة التي أنشأت عام 1859م على عهد السلطان عبد المجيد الأول، فأعاد تنظيمها وفق خطة علمية، وتحديثها بمناهج دراسية جديدة، وفتح أبوابها للطلاب القائمين في العاصمة، والوافدين من مختلف الأقاليم العثمانية، حتى غدت مركزًا ثقافيًا هامًا. وأنشأ السلطان بدءًا من عام 1878م، المدرسة السلطانية للشؤون المالية، ومدرسة الحقوق، ومدرسة الفنون الجميلة، ومدرسة التجارة، ومدرسة الهندسة المدنية، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الشرطة، ومدرسة الجمارك، كما أنشأ مدرسة طب جديدة في عام 1898م.[193]
مدخل جامعة إسطنبول سنة 1900.
وتوّج السلطان عبد الحميد الثاني جهوده في الحقل التعليمي بتطوير "مدرسة إستانبول الكبرى"، التي أنشئت في عهد السلطان محمد الفاتح، وأضحت جامعة إسطنبول، وضمّت، في أول أمرها، أربع كليّات هي:[194] العلوم الدينية، والعلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، والعلوم الأدبية، وعُدّت مدرستا الحقوق والطب كليتين ملحقتين بالجامعة.[195] وتطلبت المدارس الملكية، أو المدنية، بدورها إنشاء عدد من دور المعلمين لتخريج معلمين أكفاء يتولون التدريس فيها، وكانت أول دار للمعلمين في الدولة أنشئت، في عام 1848م، على عهد السلطان عبد المجيد الأول، وأضحى عددها في عام 1908م، ثمان وثلاثين دارًا منتشرة في العاصمة وحواضر الولايات والسنجقيات،[196] وأنشأ السلطان عددًا كبيرًا من المدارس الرشدية التي كانت بمثابة مدارس متوسطة. ومن الجامعات الكبرى التي تأسست خارج الحدود التركية في أواخر العهد العثماني: الكليّة السورية الإنجيلية التي أصبحت الجامعة الأمريكية في بيروت، سنة 1866م، وجامعة القديس يوسف، سنة 1874م، وجامعة القاهرة، سنة 1908م، وغيرها. يفيد بعض الأدباء والمؤرخين الذين عاصروا أواخر العهد العثماني أن اليوم الدراسي كان يبدأ بتلاوة سورة الفاتحة، عند المسلمين، والمزمور 23، عند المسيحيين، ثم يتلوها عبارة "عاش مولانا السلطان" (بالتركية العثمانية: پاديشاه متشوق يا شاه) ثم تتلوها ترتيلة تركية.[197]
أحد الخصيان السود على باب دار الحريم في قصر السلطان.
كانت طبقة العبيد تُشكل جزءًا مهمًا لا غنى عنه في المجتمع العثماني،[198] وكانت هذه الطبقة تتألف من الصبية والبنات الأوروبيين الذين يخطفهم القراصنة أو يتم سبيهم خلال المعارك والحروب، ومن الأفارقة الذين كان يخطفهم تجّار الرقيق من قراهم جنوب الصحراء الكبرى. ألغى السلطان محمود الثاني تجارة الرقيق الأبيض في أوائل القرن التاسع عشر،[199] فتحرر جميع العبيد من يونانيين وجورجيين وأرمن وشركس، وأصبحوا مواطنين عثمانيين يتمتعون بسائر الحقوق التي يتمتع بها الأحرار. إلا أن تجارة الرقيق الأسود استمرت قائمة حتى أواخر عهد الدولة العثمانية، كذلك يفيد بعض المؤرخين أن تجارة الإماء استمرت قائمة حتى سنة 1908م.[200] كان حريم السلطان يتألف بمعظمه من الإماء، وقد تزوّج بعض السلاطين بآمة أو أكثر مما ملكوا، مثل السلطان سليمان القانوني، الذي عشق آمته الأوكرانية المدعوة "روكسلانا" عشقًا شديدًا وتزوج بها، فولدت له السلطان سليم الثاني.[201] وقد حقق بعض العبيد العثمانيين شهرة كبيرة ووصلوا إلى مراكز مهمة، ومنهم علي بك الكبير يوناني الأصل، الذي كان والي مصر، ثم تمرّد على الدولة العثمانية وسمى نفسه سلطان مصر وخاقان البحرين (الأحمر والمتوسط)،[95] وأحمد باشا الجزار بشناقي الأصل، الذي أصبح والي عكا واستطاع صد هجوم نابليون بونابرت على المدينة.[202]
أخذت الدولة العثمانية بنظام الخصاء في قصور السلاطين، على الرغم من أن الشريعة الإسلامية تحرّم مبدأ الخصاء،[203] وكان أخذ الدولة بهذا النظام غير الشرعي من الحالات النادرة التي خرجت فيها على الشريعة الإسلامية. بينما يقول مؤرخون آخرون أن العثمانيين كانوا يشترون العبيد الخصيان من خارج حدود الدولة حيث تكون عملية الاخصاء قد أجريت للعبد في صغره ليتم بيعه في سوق النخاسة إلى الملوك والأمراء حيث كان اخصاء العبيد وبيعهم للخدمة في قصور ملوك الدول المختلفة تجارة رائجة في العصور القديمة والوسطى وشطر من العصور الحديثة قبل منع الرق دوليًا.[204] كانت هناك طائفتان من الخصيان: الخصيان السود وهم المخصيون خصاءً كاملاً، والخصيان البيض وهم المخصيون خصاءً جزئيًا، وكان يُطلق على رئيسهم "قبو آغاسي"،[205] في حين كان يُطلق على رئيس الخصيان السود، الذي هو في الوقت نفسه الرئيس الأعلى في القصور السلطانية، "قيزلر آغاسي"، أي "آغا البنات" و"آغا دار السعادة"،[206] ووضعت الدولة أنظمة خاصة تُطبق على خدمتهم في القصور السلطانية. وقام تنافس شديد بين هذين النوعين كان مرده رغبة كل فريق الاستئثار بالنفوذ الأعلى في دوائر القصور السلطانية وفي شؤون الدولة، وقد ارتفع مقام رئيس الخصيان السود نتيجة اتصاله المباشر بالسلطان ووصل إلى المركز الثالث من حيث الأهمية بعد الصدر الأعظم وشيخ الإسلام،[205] وأضحى الوزراء يتملقونه والمستوزرون يتقربون منه. يتحدر اليوم جميع الأتراك من أصل أفريقي من هؤلاء الأشخاص الذين عملوا كرؤساء للخصيان في قصر السلطان.
عُني العثمانيون بالناحية العمرانية عناية واضحة، فأقاموا شبكة واسعة من الطرق والجسور في طول الدولة وعرضها مستعينين على ذلك بمهرة الصنّاع البيزنطيين البلغار.[207] ومع أن هذه الشبكة أنشئت، في المقام الأول، لأغراض عسكرية، إلا أنها سهّلت حركة المواصلات العامّة وأسدت إليها خدمة جليلة أيضًا. كذلك عُني العثمانيون بتشييد المدارس ومعاهد التعليم التي كانت تتسع لسكنى الأساتذة والطلاّب، وبإقامة المستشفيات والبيمارستانات ودور العجزة، وبإنشاء المطاعم الشعبية والتكايا للفقراء، والخانات التي كان التجّار الغرباء ينزلون فيها؛ وكذلك عنوا ببناء الحمامات الشعبية، والمكتبات العامّة، والمتاحف والقصور، والمساجد، وبخاصة في الآستانة وعواصم الولايات.[207] تأثّر النمط العمراني العثماني بالأنماط الفارسية والبيزنطية والإسلامية في بداية عهده، فجاء خليطًا بينها ومطورًا لبعضها، فعلى سبيل المثال، اقتبس العثمانيون القبّة الفارسية من الفرس الساسانيون، وأدخلوا عليها بعض التعديلات حتى أصبحت سمة بارزة في معظم آثارهم المعمارية.[208][209] ازدهرت العمارة العثمانية في عهد التوسع والفتوحات، ثم أصبح النشاط المعماري راكدًا كما الدولة في فترة الركود، وفي فترة لاحقة أدخل المعماريون أنماطًا معمارية من أوروبا الغربية ودمجوها مع النمط العثماني، ومن هذه الأنماط: الباروكيه، الروكوكو، والنمط الإمبراطوري.
المصادر
بلغت الدولة العثمانية ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، فامتدت أراضيها لتشمل أنحاء واسعة من قارات العالم القديم الثلاثة: أوروبا وآسيا وأفريقيا، حيث خضعت لها كامل آسيا الصغرى وأجزاء كبيرة من جنوب شرق أوروبا، وغربي آسيا، وشمالي أفريقيا.[5] وصل عدد الولايات العثمانية إلى 29 ولاية، وكان للدولة سيادة اسمية على عدد من الدول والإمارات المجاورة في أوروبا، التي أضحى بعضها يُشكل جزءًا فعليًا من الدولة مع مرور الزمن، بينما حصل بعضها الآخر على نوع من الاستقلال الذاتي.
كان للدولة العثمانية سيادة على بضعة دول بعيدة كذلك الأمر، إما بحكم كونها دولاً إسلامية تتبع شرعًا سلطان آل عثمان كونه يحمل لقب "أمير المؤمنين" و"خليفة المسلمين"، كما في حالة سلطنة آتشيه السومطرية التي أعلنت ولاءها للسلطان في سنة 1565م؛ أو عن طريق استحواذها عليها لفترة مؤقتة، كما في حالة جزيرة "أنزاروت" في المحيط الأطلسي، والتي فتحها العثمانيون سنة 1585م.[6]
أضحت الدولة العثمانية في عهد السلطان سليمان الأول "القانوني" (حكم منذ عام 1520م حتى عام 1566م)، قوّة عظمى من الناحيتين السياسية والعسكرية، وأصبحت عاصمتها القسطنطينية تلعب دور صلة الوصل بين العالمين الأوروبي المسيحي والشرقي الإسلامي،[7][8] وبعد انتهاء عهد السلطان سالف الذكر، الذي يُعتبر عصر الدولة العثمانية الذهبي، أصيبت الدولة بالضعف والتفسخ وأخذت تفقد ممتلكاتها شيءًا فشيءًا، على الرغم من أنها عرفت فترات من الانتعاش والإصلاح إلا أنها لم تكن كافية لإعادتها إلى وضعها السابق.
انتهت الدولة العثمانية بصفتها السياسية بتاريخ 1 نوفمبر سنة 1922م، وأزيلت بوصفها دولة قائمة بحكم القانون في 24 يوليو سنة 1923م، بعد توقيعها على معاهدة لوزان، وزالت نهائيًا في 29 أكتوبر من نفس السنة عند قيام الجمهورية التركية، التي تعتبر حاليًا الوريث الشرعي للدولة العثمانية.[9]
عُرفت الدولة العثمانية بأسماء مختلفة في اللغة العربية، لعلّ أبرزها هو "الدولة العليّة" وهو اختصار لاسمها الرسمي "الدولة العليّة العثمانية"، كذلك كان يُطلق عليها محليًا في العديد من الدول العربية، وخصوصًا بلاد الشام ومصر، "الدولة العثمليّة"، اشتقاقًا من كلمة "عثملى - Osmanlı" التركية، التي تعني "عثماني". ومن الأسماء الأخرى التي أضيفت للأسماء العربية نقلاً من تلك الأوروبية: "الإمبراطورية العثمانية" (بالتركية: Osmanlı İmparatorluğu)، كذلك يُطلق البعض عليها تسمية "السلطنة العثمانية"، و"دولة آل عثمان".
التاريخ
أصل العثمانيين وموطنهم الأول
العثمانيون قوم من الأتراك، فهم ينتسبون - من وجهة النظر الأثنيّة - إلى العرق الأصفر أو العرق المغولي، وهو العرق الذي ينتسب إليه المغول والصينيون وغيرهم من شعوب آسيا الشرقية.[10] وكان موطن الأتراك الأوّل في آسيا الوسطى، في البوادي الواقعة بين جبال آلطاي شرقًا وبحر قزوين في الغرب، وقد انقسموا إلى عشائر وقبائل عديدة منها عشيرة "قايي"،[10] التي نزحت في عهد زعيمها "كندز ألب" إلى المراعي الواقعة شماليّ غربي أرمينيا قرب مدينة خلاط، عندما استولى المغول بقيادة جنكيز خان على خراسان.[10] إن الحياة السياسية المبكرة لهذه العشيرة يكتنفها الغموض، وهي أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقائق، وإنما كل ما يُعرف عنها هو استقرارها في تلك المنطقة لفترة من الزمن، ويُستدل على صحة هذا القول عن طريق عدد من الأحجار والقبور تعود لأجداد بني عثمان.[11] ويُستفاد من المعلومات المتوافرة أن هذه العشيرة تركت منطقة خلاط حوالي سنة 1229م تحت ضغط الأحداث العسكرية التي شهدتها المنطقة، بفعل الحروب التي أثارها السلطان جلال الدين الخوارزمي وهبطت إلى حوض نهر دجلة.[12]
توفي "كندز ألب" في العام التالي لنزوح عشيرته إلى حوض دجلة، فترأس العشيرة ابنه سليمان، ثم حفيده "أرطغرل" الذي ارتحل مع عشيرته إلى مدينة إرزينجان، وكانت مسرحًا للقتال بين السلاجقة والخوارزميين، فالتحق بخدمة السلطان علاء الدين سلطان قونية، إحدى الإمارات السلجوقية التي تأسست عقب انحلال دولة السلاجقة العظام،[13][معلومة 1] وسانده في حروبه ضد الخوارزميين، فكافأه السلطان السلجوقي بأن أقطع عشيرته بعض الأراضي الخصبة قرب مدينة أنقرة.[14] وظل أرطغرل حليفًا للسلاجقة حتى أقطعه السلطان السلجوقي منطقة في أقصى الشمال الغربي من الأناضول على الحدود البيزنطية، في المنطقة المعروفة باسم "سوغوت" حول مدينة أسكي شهر، حيث بدأت العشيرة هناك حياة جديدة إلى جانب إمارات تركمانية سبقتها إلى المنطقة.[11] علا شأن أرطغرل لدى السلطان بعد أن أثبت إخلاصه للسلاجقة، وأظهرت عشيرته كفاءة قتالية عالية في كل معركة ووجدت دومًا في مقدمة الجيوش وتمّ النصر على يدي أبنائها،[13] فكافأه السلطان بأن خلع عليه لقب "أوج بكي"، أي محافظ الحدود، اعترافًا بعظم أمره.[14] غير أن أرطغرل كان ذا أطماع سياسية بعيدة، فلم يقنع بهذه المنطقة التي أقطعه إياها السلطان السلجوقي، ولا باللقب الذي ظفر به، ولا بمهمة حراسة الحدود والحفاظ عليها؛ بل شرع يهاجم باسم السلطان ممتلكات البيزنطيين في الأناضول،[15] فاستولى على مدينة أسكي شهر وضمها إلى أملاكه، واستطاع أن يوسع أراضيه خلال مدة نصف قرن قضاها كأمير على مقاطعة حدودية، وتوفي في سنة 1281م عن عمر يُناهز التسعين عامًا،[16] بعد أن خُلع عليه لقب كبير آخر هو "غازي"،[17] تقديرًا لفتوحاته وغزواته.
السلطان الغازي عثمان خان الأول،[معلومة 2] مؤسس الدولة العثمانية.
بعد أرطغرل تولّى زعامة الإمارة ابنه البكر عثمان، فأخلص الولاء للدولة السلجوقية على الرغم مما كانت تتخبط فيه من اضطراب وما كان يتهددها من أخطار.[18] أظهر عثمان في بداية عهده براعة سياسية في علاقاته مع جيرانه، فعقد تحالفات مع الإمارات التركمانية المجاورة، ووجه نشاطه العسكري نحو الأراضي البيزنطية لاستكمال رسالة دولة سلاجقة الروم بفتح الأراضي البيزنطية كافة، وإدخالها ضمن الأراضي الإسلامية، وشجعه على ذلك حالة الضعف التي دبت في جسم الإمبراطورية البيزنطية وأجهزتها، وانهماكها بالحروب في أوروبا،[16] فأتاح له ذلك سهولة التوسع باتجاه غربي الأناضول، وفي عبور الدردنيل إلى أوروبا الشرقية الجنوبية. ومن الناحية الإدارية، فقد أظهر عثمان مقدرة فائقة في وضع النظم الإدارية لإمارته، بحيث قطع العثمانيون في عهده شوطًا كبيرًا على طريق التحول من نظام القبيلة المتنقلة إلى نظام الإدارة المستقرة، ما ساعدها على توطيد مركزها وتطورها سريعًا إلى دولة كبرى.[16] وقد أبدى السلطان السلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث تقديره العميق لخدمات عثمان، فمنحه لقب "عثمان غازي حارس الحدود العالي الجاه، عثمان باشا".[16]
أقدم عثمان بعد أن ثبّت أقدامه في إمارته على توسيع حدودها على حساب البيزنطيين، ففي عام 1291م فتح مدينة "قره جه حصار" الواقعة إلى الجنوب من سوغوت، وجعلها قاعدة له، وأمر بإقامة الخطبة باسمه،[19] وهو أول مظهر من مظاهر السيادة والسلطة، ومنها قاد عشيرته إلى بحر مرمرة والبحر الأسود.[18] وحين تغلب المغول على دولة قونية السلجوقية، سارع عثمان إلى إعلان استقلاله عن السلاجقة ولقّب نفسه "پاديشاه آل عثمان" أي عاهل آل عثمان،[20] فكان بذلك المؤسس الحقيقي لهذه الدولة التركية الكبرى التي نُسبت إليه لاحقًا.[18] وظلّ عثمان يحكم الدولة الجديدة بصفته سلطانًا مستقلاً حتى تاريخ 6 أبريل سنة 1326م، الموافق فيه 2 جمادى الأولى سنة 726هـ، عندما احتل ابنه "أورخان" مدينة بورصة الواقعة على مقربة من بحر مرمرة،[18] وفي هذه السنة توفي عثمان عن عمر يناهز السبعين عامًا،[21] بعد أن وضع أسس الدولة ومهد لها درب النمو والازدهار، وخُلع عليه لقب آخر هو "قره عثمان"، وهو يعني "عثمان الأسود" باللغة التركية الحديثة، لكن يُقصد به "الشجاع" أو "الكبير" أو "العظيم" في التركية العثمانية.[22]
السلطان الغازي أورخان الأول.
عُني أورخان بتنظيم مملكته تنظيمًا محكمًا، فقسمها إلى سناجق أو ولايات، وجعل من بورصة عاصمةً لها، وضرب النقود باسمه، ونظّم الجيش، فألّف فرقًا من الفرسان النظاميين، وأنشأ من الفتيان المسيحيين الروم والأوروبيين الذين جمعهم من مختلف الأنحاء جيشًا قويًا عُرف بجيش الإنكشارية.[23] وقد درّب أورخان هؤلاء الفتيان تدريبًا صارمًا وخصّهم بامتيارات كبيرة، فتعلقوا بشخصه وأظهروا له الولاء. وعمل أورخان على توسيع الدولة، فكان طبيعيًا أن ينشأ بينه وبين البيزنطيين صراعٌ عنيف كان من نتيجته استيلاؤه على مدينتيّ إزميد ونيقية. وفي عام 1337م شنّ هجومًا على القسطنطينية عاصمة البيزنطيين نفسها، ولكنه أخفق في احتلالها.[24] ومع ذلك فقد أوقعت هذه الغزوة الرعب في قلب إمبراطور الروم "أندرونيقوس الثالث"، فسعى إلى التحالف معه وزوجه ابنته. ولكن هذا الزواج لم يحل بين العثمانيين وبين الاندفاع إلى الأمام، وتثبيت أقدامهم سنة 1357م في شبه جزيرة غاليبولي، وهكذا اشتد الخطر العثماني على القسطنطينية من جديد. شهد المسلمون في عهد أورخان أوّل استقرار للعثمانيين في أوروبا، وأصبحت الدولة العثمانية تمتد من أسوار أنقرة في آسيا الصغرى إلى تراقيا في البلقان،[25] وشرع المبشرون يدعون السكان إلى اعتناق الإسلام. توفي أورخان الأول في سنة 1360م بعد أن أيّد الدولة الفتيّة بفتوحاته الجديدة وتنظيماته العديدة، وتولّى بعده ابنه "مراد الله"، الملقب بمراد الأول.[26]
معركة قوصوة، بريشة آدم ستيفانوڤيتش، (1870).
كانت فاتحة أعمال مراد الأول احتلال مدينة أنقرة مقر إمارة القرمان، وذلك أن أميرها واسمه علاء الدين، أراد انتهاز فرصة انتقال المُلك من السلطان أورخان إلى ابنه مراد لإثارة حمية الأمراء المجاورين وتحريضهم على قتال العثمانيين ليقوضوا أركان ملكهم الآخذ في الامتداد يومًا فيومًا، فكانت عاقبة دسائسه أن فقد أهم مدنه.[26] وتحالف مراد مع بعض أمراء الأناضول مقابل بعض التنازلات لصالح العثمانيين، وأجبر آخرين على التنازل له عن ممتلكاتهم، وبذلك ضمّ جزء من الممتلكات التركمانية إلى الدولة العثمانية.[معلومة 3] ثم وجّه اهتمامه نحو شبه جزيرة البلقان التي كانت في ذلك الحين مسرحًا لتناحر دائم بين مجموعة من الأمراء الثانويين، ففتح مدينة أدرنة سنة 1362م ونقل مركز العاصمة إليها لتكون نقطة التحرك والجهاد في أوروبا،[27] وقد ظلت عاصمة للعثمانيين حتى فتحوا القسطنطينية في وقت لاحق، كما تم فتح عدّة مدن أخرى مثل صوفيا وسالونيك، وبذلك صارت القسطنطينية محاطة بالعثمانيين من كل جهة في أوروبا.[27] وفي 12 يونيو سنة 1385م، الموافق فيه 19 جمادى الآخرة سنة 791هـ، التقت الجيوش العثمانية بالقوى الصربية - تساندها قوىً من المجر والبلغار والألبانيين - في إقليم "قوصوة"، المعروف حاليًا باسم "كوسوڤو"، فدارت بين الطرفين معركة عنيفة انتصر فيها العثمانيون، إلا أن السلطان قتل في نهايتها على يد أحد الجنود الذي تظاهر بالموت.[27]
معركة نيقوبولس بين العثمانيين والأوروبيين. يعتبر العديد من المؤرخين هذه المعركة آخر حملة صليبية كبرى نُظمت في القرون الوسطى.
السلطان بايزيد الأول أسيرًا لدى تيمورلنك، بريشة ستانيسلو تشلبوسكي، 1878.
تولّى عرش آل عثمان بعد مراد الأول ابنه بايزيد، وعند ذلك كانت الدولة قد اتسعت حدودها بشكل كبير، فانصرف إلى تدعيمها بكل ما يملك من وسائل، وانتزع من البيزنطينيين مدينة آلاشهر، وكانت آخر ممتلكاتهم في آسيا الصغرى،[28] وأخضع البلغار عام 1393م إخضاعًا تامًا.[28] فجزع "سيگسموند" ملك المجر من هذا التوسع العثماني، خصوصًا بعد أن تاخمت حدود بلاده مناطق السيطرة العثمانية، فاستنجد بأوروبا الغربية، فدعا البابا "بونيفاس التاسع" إلى حملة صليبية جديدة ضد العثمانيين لمنعهم من التوغل في قلب أوروبا، فلبّى الدعوة ملك المجر سالف الذكر، وعدد من أمراء فرنسا[29] وباڤاريا[29] والنمسا[29] وفرسان القديس يوحنا في رودس[29] وجمهورية البندقية،[29] وقدمت إنگلترا مساعدات عسكرية.[30] تقابل الجيشين العثماني والأوروبي في 25 سبتمبر سنة 1396م، الموافق فيه 21 ذي الحجة سنة 798هـ، ودارت بينهما رحى معركة ضارية هُزم فيها الأوروبيون وردوا على أعقابهم.[28] حاصر بايزيد القسطنطينية مرتين متواليتين، ولكن حصونها المنيعة صمدت في وجه هجماته العنيفة، فارتد عنها خائبًا.[28] ولم ينس بايزيد وهو يوجه ضرباته الجديدة نحو الغرب، أن المغول يستعدون للانقضاض عليه من جهة الشرق، وخاصةً بعد أن ظهر فيهم رجلٌ عسكري جبّار هو تيمورلنك الشهير المتحدّر من سلالة جنكيز خان.[31][32] لذلك عمل بايزيد على تعزيز مركزه في آسيا الصغرى استعدادًا للموقعة الفاصلة بينه وبين تيمورلنك. وهكذا خف الضغط العثماني على البيزنطيين، وتأخر سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين خمسين سنة ونيفًا.[28] وفي ربيع سنة 1402م، تقدّم تيمورلنك نحو سهل أنقرة لقتال بايزيد، فالتقى الجمعان عند "جُبق آباد" ودارت معركة طاحنة انهزم فيها العثمانيون وأُسر السلطان بايزيد وحمله المغول معهم عائدين إلى سمرقند عاصمة الدولة التيمورية،[معلومة 4] حيث عاش بقية أيامه ومات في سنة 1403م.[33]
وبعد موت السلطان بايزيد تجزأت الدولة إلى عدّة إمارت صغيرة كما حصل بعد سقوط الدولة السلجوقية، لأن تيمورلنك أعاد إلى أمراء قسطموني وصاروخان وكرميان وآيدين ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البلاد.[34] واستقل في هذه الفترة كل من البلغار والصرب والفلاخ، ولم يبق تابعًا للراية العثمانية إلا قليل من البلدان. ومما زاد الخطر على الدولة عدم اتفاق أولاد بايزيد على تنصيب أحدهم، بل كان كل منهم يدعي الأحقية لنفسه،[34] فنشبت بينهم حروب ضارية، ولكن النصر كان آخر الأمر من نصيب محمد بن بايزيد، المُلقب بمحمد الأول أو "محمد چلبي"، الذي استطاع أن يعيد للدولة بعض ما فقدته من أملاكها في الأناضول.[35] وبعد محمد الأول تولّى عرش السلطنة العثمانية مراد الثاني، فاستمر بإخضاع المدن والإمارات التي استقلت عن الدولة العثمانية، وحاصر القسطنطينية، ولكنه لم يُوفق إلى احتلالها.[36] ثم حاول أن يعيد إخضاع البلقان لسيطرته، ففتح عدّة مدائن وقلاع وحاول أن يضم إليها مدينة بلغراد لكنه فشل في اقتحامها،[37] فكان هذا الهجوم إنذارًا جديدًا لأوروبا بالخطر العثماني، فقامت قوات مجرية - وعلى رأسها يوحنا هونياد - بالالتحام مع العثمانيين وهزمتهم هزيمة قاسية كان من نتائجها بعث الروح الصليبية في أوروبا، وإعلان النضال الديني ضد العثمانيين.[36]
السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح.
ولمّا توفي السلطان مراد الثاني ارتقى عرش العثمانيين ابنه محمد، فكان عليه بادئ الأمر أن يُخضع ثورة نشبت ضده في إمارة قرمان بآسيا الصغرى، فاستغل الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر هذا الأمر، وطلب من السلطان مضاعفة الجزية التي كان والده يدفعها إلى البيزنطيين لقاء أسرهم الأمير أورخان حفيد سليمان بن بايزيد المطالب بالعرش العثماني.[36] فاستاء السلطان محمد من هذا الطلب لما كان ينطوي عليه من تهديد بتحريض أورخان هذا على العصيان، فأمر بإلغاء الراتب المخصص له، وراح يتجهّز لحصار القسطنطينية والقضاء على هذه المدينة في أقرب فرصة ممكنة. وكان أوّل ما قام به في هذا السبيل تشييده عند أضيق نقطة من مضيق البوسفور قلعة "روملي حصار" القائمة على بعد سبعة كيلومترات من أبواب القسطنطينية.[36] وعندئذ أرسل الإمبراطور قسطنطين بعثة من السفراء إلى السلطان محمد لتحتجّ لديه على ذلك، فلم يلقوا منه جوابًا شافيًا،[38] بل أصرّ على البناء لما في القلعة من أهمية استراتيجية. واستنجد الإمبراطور قسطنطين بالدول الأوروبية فلم تنجده إلا بعض المدن الإيطالية، أما البابا فقد أبدى استعداده لمساعدة الإمبراطور شرط أن تتحد الكنيستان الشرقية والغربية، ووافق قسطنطين على المشروع، ولكنّ تعصّب الشعب حال دون تحقيق ذلك.[36][معلومة 5]
محمد الثاني يدخل القسطنطينية، بريشة جوزيف بنيامين.
وكان السلطان قد حشد لقتال البيزنطيين جيشًا عظيمًا مزودًا بالمدافع الكبيرة وأسطولاً ضخمًا، وبذلك حاصرهم من ناحيتيّ البر والبحر معًا. والواقع أن البيزنطيين استماتوا في الدفاع عن عاصمتهم، لكن ما أن مضى 53 يومًا على الحصار حتى كان العثمانيون قد دخلوا المدينة بعد أن هُدمت أجزاء كبيرة من أسوارها بفعل القصف المدفعي المتكرر،[39] واشتبكوا مع البيزنطيين في قتال عنيف جدًا دارت رحاه في الشوارع، وذهب ضحيته الإمبراطور نفسه وكثير من جنوده.[39] حتى إذا انتصف النهار دخل محمد المدينة وأصدر أمره إلى جنوده بالكف عن القتال، بعد أن قضى على المقاومة البيزنطية ونشر راية السلام.[36] اتخذ السلطان محمد لقب "الفاتح" بعد فتح المدينة، وأضاف إليه لقب "قيصر الروم"، على الرغم من عدم اعتراف بطريركية القسطنطينية ولا أوروبا الغربية بهذا الأمر، ونقل مركز العاصمة من أدرنة إلى القسطنطينية التي غيّر اسمها إلى "إسلامبول"، أي مدينة الإسلام أو تخت الإسلام،[40] وأعطى للمسيحين الآمان وحرية إقامة شعائرهم الدينية،[41] ودعا من هاجر منهم خوفًا إلى العودة إلى بيوتهم. سقطت الإمبراطورية البيزنطية عند فتح المدينة بعد أن استمرت أحد عشر قرنًا ونيفًا، وتابع السلطان محمد فتوحاته في أوروبا خلال السنوات اللاحقة التي أعقبت سقوط القسطنطينية، فأخضع بلاد الصرب وقضى على استقلالها، وفتح بلاد المورة في جنوب اليونان، وإقليم الأفلاق وبلاد البشناق وألبانيا، وهزم البندقية ووحد الأناضول عبر قضائه على إمبراطورية طرابزون الرومية وإمارة قرمان.[40] وقد حاول السلطان محمد أيضًا فتح إيطاليا لكن وافته المنية سنة 1481م،[معلومة 6] فانصرف العثمانيون عن هذه الجهة.[40]
دور التوسع والقوة (1453–1683) عدل
يُمكن تقسيم هذه الفترة في التاريخ العثماني إلى حقبتين مميزتين: حقبة النمو والازدهار العسكري والثقافي والحضاري والاقتصادي، وهي تمتد حتى سنة 1566م، وحقبة شهدت بأغلبها ركودًا سياسيًا وعسكريًا، وتخللتها فترات إصلاح وانتعاش، وقد دامت حتى سنة 1683م.
حقبة النمو والازدهار (1453–1566)
السلطان الغازي بايزيد خان الثاني المُلقب "بالصوفي"، لجنوحه إلى السلم وابتعاده عن الحرب.
معركة چالديران بين العثمانيين والصفويين، جدارية من إحدى القصور في أصفهان.
بعد موت السلطان محمد الفاتح تنازع ابناه "جم" و"بايزيد" على العرش. ولكن الغلبة كانت من نصيب بايزيد، ففر جم إلى مصر حيث احتمى بسلطان المماليك "قايتباي"،[42] ثم إلى رودس حيث حاول أن يتعاون مع فرسان القديس يوحنا والدول الغربية على أخيه، لكن بايزيد استطاع إقناع دولة الفرسان بإبقاء الأمير جم على الجزيرة مقابل مبلغ من المال،[43] وتعهد بأن لا يمس جزيرتهم طيلة فترة حكمه،[42] فوافقوا على ذلك، لكنهم عادوا وسلموا الأمير إلى البابا "إنوسنت الثامن" كحل وسط، وعند وفاة الأخير قام خليفته بدس السم للأمير بعد أن أجبره الفرنسيون على تسليمهم إياه، فتوفي في مدينة ناپولي، ونقل جثمانه فيما بعد إلى بورصة ودُفن فيها.[42] اتصف السلطان بايزيد بأنه سلطان مسالم لا يدخل الحروب إلا مدافعًا، فقاتل جمهورية البندقية بسبب الهجمات التي قام بها أسطولها على بلاد المورة، وحارب المماليك حين قرر السلطان قايتباي السيطرة على إمارة ذي القدر ومدينة ألبستان التابعتين للدولة العثمانية، وعدا ذلك فكان يفضل مجالسة العلماء والأدباء.[44] وفي عهده سقطت غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس؛ فبعث بعدّة سفن لتحمل الأندلسيين المسلمين واليهود إلى القسطنطينية وغيرها من مدن الدولة،[45] وفي عهده أيضًا ظهرت سلالة وطنية شيعية في بلاد فارس، هي السلالة الصفوية، التي استطاعت بزعامة الشاه إسماعيل بن حيدر، أن تهدد بالخطر إمبراطورية العثمانيين في الشرق.
السلطان الغازي سليم الأول "القاطع"، أول خليفة للمسلمين من آل عثمان.
وفي أواخر عهد بايزيد دبّ النزاع بين أولاده بسبب من ولاية العهد. ذلك أن بايزيد اختار ابنه أحمد لخلافته، فغضب ابنه الآخر سليم، وأعلن الثورة على والده، وكان لثورة سليم أسباب سياسية ومذهبية وتجارية وعرقية،[46] ذلك أن الصفويين كانوا يعملون على نشر المذهب الشيعي في الأناضول على حساب المذهب السني، وقطعوا طريق التجارة مع الهند والشرق الأقصى، ومنعوا نزوح المزيد من قبائل التركمان من آسيا الوسطى إلى الأناضول وأوروبا الشرقية، وكان الشاه إسماعيل يدعم الأمير أحمد للوصول إلى سدة الحكم ولم يحرك الأخير ساكنًا لمنع التدخل الصفوي في الشؤون العثمانية. نتيجة لكل ما سلف، ثار سليم على والده وشقيقه ثم استولى على أدرنة، فما كان من بايزيد إلا أن انبرى لقتال ابنه سليم، فهزمه وقرر نفيه، لكن الجنود الإنكشارية قاموا بالضغط على السلطان وأرغموه بالتنازل عن العرش لصالح ابنه سليم.[47] وقد مات بايزيد يوم 26 مايو سنة 1512م، الموافق فيه 10 ربيع الأول سنة 918هـ،[48] واختلف المؤرخون على سبب الوفاة. كان على سليم، بعد اعتلائه العرش، تثبيت أقدامه في الحكم والتفاهم مع الدول الأوروبية الفاعلة ليتفرغ لأخطر أزمة واجهتها الدولة منذ أعقاب معركة أنقرة، ألا وهي القضية الصفوية، فأقدم على قتل إخوته وأولادهم حتى لا يبقى له منازع في الحكم، ثم أبرم هدنة طويلة مع الدول الأوروبية المجاورة، وحوّل انتباهه إلى الجبهة الشرقية لمواجهة الصفويين والمماليك.[49] وكان السلطان سليم يهدف إلى السيطرة على طرق التجارة بين الشرق والغرب، والتوسع على حساب القوى في المشرق، والقضاء على المد الشيعي،[50] وتوحيد الأمصار الإسلامية الأخرى حتى تكون يدًا واحدة في مواجهة أوروبا، وخاصة بعد سقوط الأندلس وقيام البرتغاليين بالتحالف مع الصفويين وإنشائهم لمستعمرات في بعض المواقع في جنوب العالم الإسلامي.[47] وكان الشيعة المقيمون في آسيا الصغرى قد ثاروا على الدولة العثمانية اعتمادًا على تأييد الصفويين، فأخضع سليم هذه الثورة وعمد إلى اضطهاد الشيعة، فذهب ضحية هذه السياسة أربعون ألفًا منهم، ثم انبرى لقتال الشاه، فالتقى الفريقان في سهل چالديران والتحما في معركة كبيرة كان النصر فيها لصالح السلطان سليم،[51] وفرّ الشاه ناجيًا بحياته، أما سليم فتقدم إلى تبريز عاصمة خصمه الصفوي، فاستولى عليها ورجع عائدًا إلى بلاده.[52]
الدولة العثمانية عند نهاية عهد السلطان سليم الأوّل سنة 1520.
السلطان الغازي سليمان خان الأول "القانوني".
تقدم العثمانيون، بعد انتصارهم على الصفويين، لإخضاع السلطنة المملوكية،[معلومة 7] فنشبت بينهم وبين المماليك معركة على الحدود الشاميّة التركية تُعرف بمعركة مرج دابق، انتصر فيها العثمانيون وقُتل سلطان المماليك "قنصوه الغوري"، ثم تابعوا زحفهم نحو مصر والتحموا بالمماليك من جديد في معركة الريدانية التي قررت مصير مصر كلها،[52] وانتصروا عليهم مجددًا ودخلوا القاهرة فاتحين. وفي أثناء ذلك قدّم شريف مكة مفاتيح الحرمين الشريفين إلى السلطان سليم اعترافًا بخضوع الأراضي المقدسة الإسلامية للعثمانيين،[52] وتنازل في الوقت ذاته آخر الخلفاء العباسيين، محمد الثالث المتوكل على الله، عن الخلافة لسلطان آل عثمان، فأصبح كل سلطان منذ ذلك التاريخ خليفة للمسلمين، ويحمل لقب "أمير المؤمنين" و"خليفة رسول رب العالمين". وعند نهاية حملته الشرقية، كان السلطان سليم قد جعل من الدولة العثمانية قوة إقليمية كبرى ومنافسًا كبيرًا للإمبراطورية البرتغالية على زعامة المنافذ المائية العربية.[53] توفي السلطان سليم في 22 سبتمبر سنة 1520م، الموافق فيه 9 شوّال سنة 926هـ، وهو على أهبة الاستعداد لقتال فرسان القديس يوحنا في رودس.[54] فارتقى العرش من بعده ابنه سليمان، الذي يُعرف في الشرق باسم "القانوني"، ويُعرف في الغرب باسم "العظيم". والواقع أن الفتوح في الشرق شغلت السلطان سليم طوال أيام حكمه، فكان طبيعيًا أن ينصرف السلطان سليمان إلى ناحية الغرب ليُتم الفتوح التي كان أسلافه قد بدأوها من قبله.[55] واحتل سليمان مدينة بلغراد في سهولة، عام 1521م، وعقد العزم على ما كان أبوه السلطان سليم قد شرع يستعد له قبل وفاته، أي الاستيلاء على جزيرة رودس، فتمكن من ذلك في سنة 1523م،[55] ثمّ ضمّ إلى الأملاك العثمانية القسم الجنوبي والأوسط من مملكة المجر، بعد أن استغل الأوضاع الداخلية المضطربة للمملكة،[معلومة 8] والأوضاع الخارجية الملائمة.[56][57]
معركة موهاج والغزو العثماني للمجر، بريشة بيرطلان سيزيكيلي.
اشتبكت الجيوش العثمانية مع نظيرتها المجرية في وادي موهاج بالمجر بتاريخ 26 أغسطس سنة 1526م، في معركة دامت حوالي الساعتين، وانتصر فيها العثمانيون نصرًا كبيرًا وثبتوا أقدامهم في البلاد لفترة طويلة من الزمن، وعين السلطان "جان زابوليا" ملك ترانسلڤانيا حاكمًا عليها،[58] عندئذ أرسل فرديناند ملك النمسا، وفدًا إلى السلطان يلتمس منه الاعتراف به ملكًا على المجر، فسخر سليمان من الوفد وزجّ أعضاءه في السجن فترة من الزمن، ولمّا أفرج عنهم حمّلهم رسالة إلى الملك ليستعد لملاقاته. وقاتل سليمان فرديناد بجيش عظيم، فلم يصمد في وجهه، فراح سليمان يتعقبه حتى ڤيينا العاصمة، وهنا ضرب سليمان الحصار على هذه المدينة القائمة في قلب أوروبا، وأحدثت الجنود العثمانية ثغرًا في أسوارها إلا أن الذخيرة والمؤن نفدت منهم، وأقبل فصل الشتاء فقفل السلطان ورجع إلى بلاده.[59] وفي عام 1532م، عاود سليمان الكرّة، فحاصر ڤيينا من جديد، ولكن التوفيق خانه في حملته الثانية هذه أيضًا، فعقد مع فرديناند صلحًا احتفظ بموجبه بجميع ما استولى عليه من الأراضي المجرية. وكان مما رغّب سليمان في عقد الصلح اضطراره إلى الالتفات صوب الشرق بعد أن توترت العلاقات بينه وبين "طهماسب بن إسماعيل الصفوي" شاه فارس، وتفصيل ذلك أن عامل بغداد من قبل طهماسب خان مولاه الصفوي وانحاز إلى العثمانيين بناءً على إلحاح الشعب بسبب سياسة التطرف المذهبي التي انتهجها الصفويون،[60] فسار إليه طهماسب يريد تأديبه، فلم يكن من السلطان سليمان إلا أن اغتنم هذه الفرصة للانقضاض على بلاد فارس، وهكذا احتل تبريز عاصمة الفرس، ثم استولى على بغداد ودخلها في أبّهة بالغة.[61]
خير الدين بربروس باشا يهزم الأساطيل الحليفة في معركة بروزة سنة 1538م.
حقق العثمانيون أيام السلطان سليمان عدّة فتوحات بحرية مهمة، وذلك بفضل البحّار يوناني الأصل، خير الدين بربروس، الذي كان سبق وضمّ الجزائر للدولة العثمانية أيام السلطان سليم. عيّن السلطان سليمان خير الدين هذا أميرًا للبحر عام 1533م، فنهض بالأسطول العثماني نهضة جبارة مكنته من انتزاع تونس من أيدي الإسبان وإخضاعها للسلطة العثمانية ولو لفترة قصيرة من الزمن. وفي سنة 1538م حقق خير الدين للدولة العثمانية نصرًا بحريًا كبيرًا، فقد وفّق إلى إنزال هزيمة قاسية بأندريا دوريا الذي كان يقود أساطيل كارلوس الخامس ملك إسبانيا والبابا بولس الثالث والبندقية مجتمعة،[62][63] وذلك قرب بروزة، الواقعة على خليج آرتا في الشمال الغربي من اليونان. ومن الفتوح الهامة التي حققها الأسطول العثماني في عهد السلطان سليمان، فتح طرابلس الغرب وتحريرها من الإسبان وفرسان القديس يوحنا على يد القبطان "طورغول بك".[58] توفي السلطان سليمان في 5 سبتمبر سنة 1566م، الموافق فيه 20 صفر سنة 974هـ، وكانت الدولة العثمانية آنذاك قد بلغت أعلى درجات الكمال وأصبح وجودها ضروريًا لحفظ التوازن السياسي في الشرق الأوسط وأوروبا، ووصل عدد سكانها إلى 15,000,000 نسمة بحسب بعض المصادر.[64]
حقبة الركود والانتعاشات (1566–1683)
الصدر الأعظم محمد باشا صقللي، ربّان السفينة العثمانية خلال عهد السلطان سليم الثاني.
يُعتبر عصر سليمان القانوني عصر الدولة العثمانية الذهبي، وما أن انقضى هذا العصر حتى أصاب الدولة الضعف والتفسخ. فقد كان سليم الثاني، خليفة سليمان، سلطانًا ضعيفًا لا يتصف بما يؤهله للقيام بحفظ فتوحات أبيه فضلاً عن إضافة شيء إليها، بالإضافة إلى أنه كان حاكمًا منحلاً خاملاً، وكان ماجنًا سكّيرًا.[65] وما يميّز عهد هذا السلطان هو أن وظيفة الصدر الأعظم أصبحت تجعل من يتقلدها الحاكم الفعلي وقائد الجيوش،[66] فلولا وجود الصدر الأعظم محمد باشا صقللي المخضرم في الأعمال السياسية والحربية للحق الدولة الفشل،[67] لكن حسن سياسة هذا الرجل وعظم اسم الدولة ومهابتها في قلوب أعدائها حفظها من السقوط مرة واحدة.[67] ومن أعمال محمد باشا صقللي أن أرسل جيشًا كبيرًا إلى اليمن سنة 1569م بقيادة عثمان باشا يسانده سنان باشا والي مصر، لقمع ثورة الأهالي، وتمكن الجيش من إخماد الثورة، ودخل مدينة صنعاء بعد أن فتح جميع القلاع.[67] ومن أعمال الصدر الأعظم أيضًا فتح جزيرة قبرص وانتزاعها من أيدي البنادقة.[67] شنّت الدولة العثمانية في عام 1569م أيضًا حملة على مدينة أسترخان، الواقعة على مصب نهر الڤولغا في بحر قزوين، بهدف استرداد الإمارة ووضع حد لامتداد روسيا من ناحية الجنوب، خشية أن يؤدي توسعها إلى استيلائها على الطرق التجارية والأسواق الكبرى وإلى هيمنتها على تجارة البلدان الإسلامية،[68] إلا أن هذه الحملة كان مصيرها الفشل، بسبب امتناع خاقان القرم، "دولت گراي الأول"، عن التعاون مع الجيش العثماني وسعيه شخصيًا لأن يقوم بالاستيلاء على أسترخان وقازان، كما تعذر ضرب الحصار على المدينة لأن الروس بنوا قلعة قوية إلى الجنوب منها، على الطريق المؤدية إليها حالت دون تقدم الجيش العثماني.[69]
معركة ليبانتو بين الأسطول العثماني والأوروبي.
وفي عهد السلطان سليم الثاني جرت موقعة ليبانتو البحرية التي هزّت صورة البحرية العثمانية والجيش العثماني الذي اعتبره كثيرون لا يُقهر. وتفصيل ذلك أنه بعد ازدياد الخطر العثماني في البحر المتوسط على أوروبا، وخاصة بعد فتح جزيرة قبرص، وبعض المواقع على البحر الأدرياتيكي،[66] تحالف فيليب الثاني ملك إسبانيا مع البابا بيوس الخامس وجمهورية البندقية لوقف التقدم العثماني باتجاه إيطاليا من جهة، واسترداد جميع المواقع التي فتحوها على حساب أوروبا وبخاصة في شمال أفريقيا، من جهة أخرى. فجمعوا مائتين وثلاثين سفينة وثلاثين ألف جندي،[70] وسلموا لواء القيادة إلى الدون يوحنا النمساوي، الذي أبحر إلى خليج پاتراس، أحد فروع البحر الأيوني، وهناك اشتبك الأسطولان العثماني والأوروبي في معركة بحرية طاحنة هي إحدى أكبر المعارك في التاريخ الحديث، أسفرت عن انتصار الأوروبيين وانهزام العثمانيين هزيمة منكرة.[67] ولم تُقعد هذه الحادثة همّة الصدر الأعظم محمد باشا صقللي، بل انتهز فرصة الشتاء وعدم إمكانية استمرار الحرب لتجهيز أسطول جديد، وبذل النفس والنفيس في تجهيزه وتسليحه حتى إذا أقبل صيف سنة 1572م كان قد تمّ بناء 250 سفينة بما فيها 8 غلايين حديثة،[71] وأعلم الصدر الأعظم البنادقة باستعداده للجولة الثانية،[71] ففضلت البندقية أن تجنح للسلام ووقعت مع الدولة العثمانية معاهدة بذلك سنة 1573م،[72] فتفرغ العثمانيون لمحاربة إسبانيا التي عادت لاحتلال تونس، وكذلك هزموا أمير البغدان الذي تمرّد على الدولة طلبًا للاستقلال.[67]
معركة وادي المخازن عام 1578 بين الدولة المغربية في يمين الصورة، بمشاركة 15 ألف إنكشاري أرسلتهم الدولة العثمانية كمساعدة عسكرية، والإمبراطورية البرتغالية في يسار الصورة، بمشاركة متطوعين من قشتالة وإيطاليا، ومرتزقة من الإقليم الفلامندي وألمانيا وحلفاء مغاربة.[73]
توفي السلطان سليم الثاني يوم 12 ديسمبر سنة 1574م، الموافق فيه 27 شعبان سنة 982هـ،[67] وتولّى بعده ابنه مراد الثالث. وفي عهد هذا السلطان تدخلت الدولة العثمانية في انتخاب حليفها "أتيين باتوري"، أمير ترانسلڤانيا، ملكًا على بولندا بعد شغور العرش، وبذا تحولت الحماية العثمانية على بولندا من حماية اسمية إلى حماية فعلية.[74] وساعد العثمانيون سلطان مراكش لإخماد ثورة اندلعت في بلاده، فاصطدموا مع الثوّار والبرتغاليين الذين ساندوهم في موقعة القصر الكبير وانتصروا عليهم وأعادوا السلطان إلى الحكم.[66] أما أهم ما حصل في عهد السلطان مراد الثالث هو التوسع العثماني في الشرق، على حساب الدولة الصفوية، فبعد وفاة الشاه طهماسب الأول من غير أن يسمي من سيخلفه، تنازع أبناؤه على السلطة، فأرسل الصدر الأعظم محمد باشا صقللي حملة عسكرية إلى بلاد فارس لفتح ما تيسر من مدنها، فضموا إليهم من أملاكها بلاد الكرج، ثم أذربيجان الشمالية، ثم بلاد داغستان.[75]
تعرضت الدولة العثمانية بعد هذه الغزوات لخضّة سياسية عنيفة، عندما تقلّص نفوذ الصدر الأعظم محمد باشا صقللي، ومن ثم قُتل في سنة 1579م، فعمّت الفوضى بعد موته بفعل ضعف حلفائه وتمرّد الإنكشارية، وراح الولاة يتنافسون فيما بينهم على منصب الصدارة العظمى. وفي عام 1590م أبرم العثمانيون صلحًا مع الصفويين، اعترفوا فيه بما تم ضمه إلى الدولة العثمانية، إضافةً إلى جنوب أذربيجان بما فيها العاصمة تبريز.[66] وبعد إبرام الصلح استتب الأمن على حدود الدولة، إن في الشرق أو في الغرب، فثار الإنكشارية في القسطنطينية وفي الولايات نظرًا لهبوط قيمة أجورهم، الأمر الذي دفع الصدر الأعظم الجديد، سنان باشا، أن يشغلهم بالحروب مع النمسا في المجر،[76] ونظرًا لما وصل إليه الإنكشارية من فوضى توالت عليهم الهزائم، وفقدوا بعض القلاع، وعلى الرغم من أن سنان باشا استطاع أن يستردها لاحقًا،[76] إلا أن أمراء الأفلاق والبغدان وترانسلڤانيا استغلوا الموقف وانتصروا على الجيوش العثمانية في بضعة معارك واستردوا منهم بعض المدن.[76] وتوفي السلطان مراد الثالث مساء 19 يناير سنة 1595م، الموافق فيه 8 جمادى الأولى سنة 1003هـ، بعد أن أصيب بداء عياء.[1]
موقعة كرزت بين الدولة العثمانية والحلف النمساوي المجري.
تولّى عرش آل عثمان بعد مراد الثالث ابنه محمد، الذي خرج عن القاعدة التي استفحلت منذ أيام جده سليم الثاني، وهي تولي الصدر الأعظم قيادة الجيش، فقاد الجيوش بنفسه وخرج لقتال المجر والنمسا، وانتصر عليهم في موقعة كرزت سنة 1596م.[77] وفي بداية القرن السابع عشر حصلت في الأناضول ثورة داخلية كادت أن تكون عاقبتها وخيمة على الدولة، خصوصًا وأن نار الحروب كانت مشتعلة على حدود المجر والنمسا، وخلاصتها أن قائد إحدى فرق الإنكشارية التي نفيت إلى الأناضول عقابًا لها لعدم ثباتها في موقعة كرزت، ادعى أنه رأى النبي محمد في منامه يبشره بالنصر على العثمانيين،[78] فأعلن العصيان وثار على الدولة وقام بعدد من الفتن إلى جانب شقيقه، ثم مات بعد أن أصيب بجراح في إحدى المعارك،[78] لكن شقيقه استمر يعصي الدولة إلى أن أعطته ولاية البوسنة ليحارب الأوروبيين حتى هلكت جيوشه عن آخرها في المناوشات المستمرة بينها وبين النمسا والمجر.[79] وأعقبت هذه الثورة الكبيرة ثورة أخرى في القسطنطينية هي ثورة الخيالة، الذين طالبوا بتعويضهم عما لحق بهم من أضرار جرّاء الثورة السابقة، فاستعانت الدولة عليهم بجنود الإنكشارية وأدخلتهم في طاعتها مجددًا.[78]
الجيش العثماني يقاتل الجيش النمساوي المجري في سلوڤينيا خلال عهد آل كوبرولي.
المُصلح الكبير فاضل أحمد كوبرولي باشا.
حصار ڤيينا من قبل الجيش العثماني للمرة الأخيرة سنة 1683.
تميزت المدة الممتدة على مدار القرن السابع عشر بمظهر أقل روعة من مظهر مدة القرن السادس عشر بالنسبة للدولة العثمانية،[80] فبعد وفاة السلطان محمد الثالث ظهر سلاطين أكثر ضعفًا وانغماسًا في الملذات، على الرغم من بروز بعض الشخصيات القوية منهم، مثل السلطان عثمان الثاني ومراد الرابع، وبعض الوزراء الذين عملوا على صون هيبة وسلطان الدولة، ومن هؤلاء مراد باشا القبوجي، الذي كان عونًا وعضدًا للسلطان أحمد الأول الذي تولّى وهو لم يتجاوز الرابعة عشر إلا بقليل.[81] وفي تلك الفترة تنازلت الدولة العثمانية عن عراق العجم للدولة الصفوية، فكانت تلك أول معاهدة تركت فيها الدولة فتوحاتها، وكانت بمثابة فاتحة الانحطاط.[81] وبعد أحمد الأول تولّى أخيه مصطفى العرش لثلاثة أشهر فقط، قبل أن يُعيّن عثمان الثاني بدلاً منه، الذي حدثت في عهده سابقة كانت الأولى من نوعها، وتدل على مدى الانحطاط الذي وصلت إليه الدولة آنذاك، إذ تخاذل الإنكشارية في القتال، فأراد أن يؤدبهم ويستبدل بهم جنودًا جددًا مدربين، فثاروا عليه وقتلوه وأعادوا عمه مصطفى إلى الحكم،[82] وما إن انتشر خبر قتل الخليفة حتى عمت الفوضى والثورات أرجاء الدولة العثمانية، وقام الولاة يعلنون الاستقلال عن الدولة، فأشار الصدر الأعظم المعين بواسطة الإنكشارية بعزل مصطفى الأول وتعيين ابن أخيه مراد الرابع.[83] استطاع مراد الرابع أن يُطهّر الدولة من بعض الثورات مثل ثورة أباظة باشا والي أرضروم، وثورة قام بها الإنكشارية، وحركة أمير لبنان فخر الدين المعني الثاني الاستقلالية، كما استرجع بغداد وهمدان وتبريز ويريڤان وكامل أذربيجان من الصفويين.[84] وفي عهد خليفته إبراهيم الأول، انتعشت الدولة بعض الانتعاش، فدخل الأسطول العثماني جزيرة كريت من غير أن يلقى مقاومة تذكر،[65] وبعد هذا العهد عرف العثمانيون فترةً من الضعف والعجز لم ينتشلهم منها إلا المصلح الكبير "محمد الكوبريللي" الذي تولّى منصب الصدارة العظمى عام 1656م في عهد السلطان محمد الرابع، فنهض بالدولة نهضة جديدة وطهرها من آفاتها الفتاكة، وهكذا اشتد ساعدها من جديد.[65] وبعد محمد كوبرولي تولّى ابنه "فاضل أحمد" ذات المنصب وسار على نهج أبيه،[85] فقامت القوات العثمانية سنة 1663م بهجوم على بلاد المجر وهددت ڤيينا نفسها بالسقوط.[65] وفي سنة 1672م استولى العثمانيون على أوكرانيا وكانت تابعة لملك بولندا.[86] وفي 17 يوليو سنة 1683م، حاصرت جيوش السلطان محمد الرابع ڤيينا للمرة الأخيرة، ولكنها صُدّت عنها.[65]
دور الركود (1683–1827)
توسّع الدولة العثمانية منذ قيامها حتى بداية دور الركود في سنة 1683.
عُزل السلطان محمد الرابع بتاريخ 8 نوفمبر سنة 1687م، الموافق فيه 2 محرم سنة 1099هـ،[87] فعمّت الفوضى بعد عزله، وتوالت الهزائم على الدولة العثمانية، فاحتلت النمسا بلغراد وأجزاء من بلاد الصرب، واحتلت البندقية أجزاء كثيرة من كرواتيا ودلماسيا وأكثر أجزاء المورة.[88] ولم يُنقذ الدولة من تلك المشاكل إلا "مصطفى كوبرولي باشا"، الابن الآخر للمصلح الكبير محمد كوبرولي، فبذل جهده في بث روح النظام في الجنود، وأحسن للنصارى بشكل كبير حتى استمال جميع مسيحيي الدولة، واستطاع استرجاع بلغراد وإقليم ترانسلڤانيا.[88] لكن على الرغم من ذلك، فإن الدولة العثمانية لم تحقق أي فتوحات جديدة وراء الحدود التي رسمها السلطان سليمان القانوني، فكانت حروبها وفتوحاتها خلال هذه الحقبة لاسترداد ما سُلب منها إجمالاً، ففي عهد السلطان مصطفى الثاني، انتصر العثمانيون على بولندا وأجبروا قيصر الروس بطرس الأكبر على فك الحصار عن مدينة آزوف، واستعادوا البوسنة وبعض الجزر في بحر إيجة، لكن الروس ما لبثوا أن عادوا لفتح آزوف، وانتصر النمساويون مرة أخرى على العثمانيين في معركة زانطة،[89] وتحالفوا مع بضعة دول أوروبية ضد الدولة العثمانية وأجبروها على توقيع معاهدة "كارلوڤتش"، التي فقدت فيها مدينة آزوف لصالح روسيا، وما بقي لها من بلاد المجر للنمسا، وأوكرانيا وبودوليا لبولندا، وساحل دلماسيا وبعض جزر بحر إيجة للبندقية.[88]
ملك السويد كارل الثاني عشر، المعروف أيضًا باسم "شارل الثاني عشر". لجأ إلى الدولة العثمانية بعد هزيمته على يد الروس في سنة 1709، في عهد السلطان أحمد الثالث.[معلومة 9]
إزداد وضع الدولة العثمانية سوءًا خلال السنوات القليلة اللاحقة، ففي أوائل القرن الثامن عشر، وفي عهد السلطان أحمد الثالث تحديدًا، طلبت السويد دعم العثمانيين في حربها ضد الروس، لكن الأخيرة رفضت في بداية الأمر، فمالت كفة الميزان لصالح الروس الذين هزموا السويد وأرغموا ملكها على الفرار ملتجئً إلى بلاد الترك،[88] وعندما قررت الدولة العثمانية خوض الحرب أخيرًا، سنحت لها الفرصة أن تقضي على القيصر بطرس الأكبر، لكن الصدر الأعظم رفع الحصار عنه بعد تلقيه رشوة من خليلة القيصر كاترين. كذلك أجبر العثمانيون على توقيع معاهدة جديدة هي معاهدة "بيساروفتش"، وذلك بعد أن استنجدت البندقية بالنمسا لتجبر الأخيرة العثمانيين على إعادة جزيرة كريت إلى البندقية، واضطرت الدولة في هذه المعاهدة أن تستغني عن بلغراد، ومعظم بلاد الصرب وجزءًا من الأفلاق للنمسا، وأن تظل البندقية مسيطرة على سواحل دلماسيا، مقابل عودة بلاد مورة للعثمانيين.[88] استرجعت الدولة العثمانية أيضًا بعض المدن التي فقدتها سابقًا لصالح الصفويين، مثل همدان وتبريز وإقليم لورستان، لكنهم عادوا وهزموا وتنازلوا عن كل ما أخذوه من الصفويين.[88]
سجّلت هذه المرحلة بداية اليقظة العثمانية بالانفتاح على الغرب،[90] وبدأت ترجمة بعض المؤلفات الغربية، وسُمح بإنشاء مكتب للطباعة في العاصمة، وجرت الاستعانة بمجريّ اعتنق الإسلام، لبناء المطبعة وتشغيلها.[91] وأخذت وجهة الإصلاح تتجه نحو الاقتباس من الغرب الأوروبي مع المحافظة على الأصول العثمانية الإسلامية، إذ كانت الحضارة الغربية تتسرب، بشكل أو بآخر، إلى الدولة ولكن ببطء، وظهر عدد من المثقفين العلمانيين، كما وفد إلى البلاد عدد من الخبراء الأجانب الذين وضعوا خبراتهم في خدمة الدولة.[92]
قامت الحرب مجددًا بين روسيا والدولة العثمانية خلال عقد الثلاينيات من القرن الثامن عشر بسبب احتلال الأخيرة لبولندا بدعم من النمسا، فاتحدت الدولة العثمانية مع الفرس واستطاعت دحر الجيش الروسي والنمساوي وثأرت لنفسها من النمسا بعد أن أرغمتها على توقيع معاهدة بلغراد التي نصت على عودة بلغراد وما استحوذت عليه النمسا من أراضي الصرب والأفلاق إلى الدولة العثمانية، وأن تلتزم روسيا بهدم قلاع مدينة آزوف، وألا تبحر أي سفينة حربية أو تجارية تابعة لها في البحر الأسود.[93] لكن نيران الحرب عادت لتستعر مجددًا بين الروس والعثمانيين خلال عقد السبعينيات من القرن الثامن عشر، عندما فقد العثمانيون عدة مدن لصالح الإمبراطورية الروسية، إلى جانب إقليمي الأفلاق والبغدان. وحاول الروس احتلال طرابزون ولكنهم لم يستطيعوا،[88] ولكنهم استطاعوا لاحقًا فصل القرم عن الدولة العثمانية، وقاومت الدولة العثمانية بكل ما أتيح لها من وسائل حتى أجلت الروس عن كثير من المناطق التي احتلوها. وعند هذه النقطة لجأت الإمبراطورية الروسية إلى أسلوب آخر لزعزعة كيان الدولة العثمانية، هو أسلوب الفتنة الداخلية، فقامت بإثارة مسيحيي المورة على العثمانيين،[88] واتجه الأسطول الروسي إلى المورة لدعم الثورة، ولكنه مُني بالهزيمة، ولكن بعض السفن التي أفلتت تمكنت من إحراق جزء كبير من الأسطول العثماني، ثم اتجهت لاحتلال جزيرة "لمنوس"، فأجبرتها البحرية العثمانية على التقهقر، وأخمدت الثورة في المورة. وفي 10 يونيو سنة 1772م، الموافق فيه 9 ربيع الأول سنة 1186هـ، تهادن الفريقان مقابل بعض الامتيازات لصالح روسيا لعلّ أهمها هو حقها في حماية جميع المسيحيين الأرثوذكس في الدولة العثمانية.[94] وفي غضون الحرب العثمانية الروسية، ظهرت حركتان استقلاليتان عن الدولة العثمانية هي: حركة علي بك الكبير في مصر وحركة الشيخ ظاهر العمر في فلسطين، وقد تمكن العثمانيون من القضاء عليها.[95][96][97]
السلطان الغازي سليم خان الثالث، رائد الحركة الإصلاحية في الدولة العثمانية.
ابتدأت محاولات الإصلاح الجدية في عهد السلطان سليم الثالث، الذي يُعد من أوائل المصلحين والروّاد الحقيقيين في التاريخ العثماني كله، وقد قلّده من جاء بعده، واستهدفت إصلاحاته نواحي الحياة كافة، إدارية وثقافية واقتصادية واجتماعية وعسكرية.[98] كانت ثقافة هذا السلطان أكثر اكتمالاً من ثقافة من سبقه من السلاطين، إذ تلقّى بعض التدريب على الأفكار الغربية، كما تلقى تعليمًا خاصًا بالطرق الأوروبية، واطّلع على كتابات المؤلفين الأوروبيين، ويبدو أنه استوعب الحالة المتدنية للدولة بشكل أفضل من أسلافه. وعندما اعتلى هذا السلطان العرش كانت ثروات البلاد قد وصلت إلى حالة متدنية، وكان العثمانيون قد عادوا للحرب مع روسيا والنمسا، ولم يكن باستطاعة أي سلطان أن يقوم بحملة إصلاحات ورحى الحرب دائرة، لكن جاءت عناية القدر، عندما ظهرت الثورة الفرنسية وانشغل الإمبراطور النمساوي بها، وخاف أن تمتد إلى بلاده، فعقد صلحًا مع العثمانيين أعاد إليهم بموجبه بلاد الصرب وبلغراد.[99] واجهت السلطان سليم الثالث في بداية حياته السياسية، المشكلات التقليدية القديمة: تفوّق الغرب، والاتجاه المحافظ لشعبه، وكان بطبعه ميالاً للإصلاح بحيث لم يتردد في الأخذ ببعض الأنماط الغربية، بعد أن حصل على معلومات عن المؤسسات المدنية والعسكرية لدول أوروبا الغربية وأسباب تفوقها على العثمانيين. فجاء بفكرة الجنود النظامية ليتخلص من الإنكشارية الذين أصبحوا منبعًا للفتن والهزائم، وأصلح الثغور وبنى القلاع الحصينة لحمايتها وجعل إنشاء السفن على الطريقة الفرنسية، واستعان بالسويد في وضع المدافع، وترجم المراجع العلمية في الرياضيات والفن العسكري،[99] كما وضع نظامًا هرميًا للقيادة العسكرية، وأخضع التجنيد لقواعد أكثر صرامة، ووضع نظامًا للجنود المشاة تضمن تعليمات لمساعدة الجنود على التصرف كوحدة، ودُعي هذا النظام "بالنظام الجديد".[98] كان من الطبيعي أن تبرز المعارضة لإصلاحات السلطان سليم الثالث العسكرية من جانب المحافظين عند إدراكهم لنتائجها، فنظر الإنكشارية إلى هذه الإصلاحات نظرة ارتياب خاصة بعد فصل السلطان الأسطول والمدفعية عن فرقتهم، فثاروا ومعهم الجنود غير النظاميين وأجبروا الخليفة على إلغاء النظام العسكري الجديد،[99] ولم يكتفوا بذلك بل عزلوا السلطان وقاموا بقتله لاحقًا بناءً على أمر خليفته،[100] ويُعتبر سليم الثالث السلطان العثماني الوحيد الذي قُتل بسلاح أبيض.[101]
معركة "ميشار" (1806) بين الثوّار الصربيين تساندهم النمسا وروسيا، والدولة العثمانية، بريشة "أفاناسيج شيلوموڤ".
معركة ناڤارين (1827) بين الأسطول العثماني والأوروبي، بريشة لويس أمبرواز گرناري.
وكان من أبرز الأحداث التي حصلت في عهد سليم الثالث قيام الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت الأول، فتحول أعداء الأمس إلى حلفاء والعكس صحيح، حيث انهارت الصداقة العثمانية الفرنسية التي قامت منذ عهد السلطان سليمان القانوني، وتحالفت روسيا وبريطانيا مع الدولة العثمانية لإخراج الفرنسيين من مصر، وفي عهده أيضًا تكونت جمهورية مستقلة في اليونان تحت حماية الدولة العثمانية.[99] وبعد سليم الثالث تولّى مصطفى الرابع عرش آل عثمان، ولم يدم ملكه طويلاً قبل أن تثور الإنكشارية عليه ويقوموا بعزله وتنصيب أخاه محمود بدلاً منه.[102] امتلأ عهد محمود الثاني بأحداث مهمة، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فنتيجة للضعف الشديد الذي دب في أوصال الدولة العثمانية ظهر فيها اتجاهان: الاتجاه الأول الذي أرجع ما وصلت إليه الدولة العثمانية من ضعف إلى الابتعاد عن الإسلام، والذي ما كان للمسلمين أن تقوم لهم قائمة في الأرض إلا بالتمسك به؛ والاتجاه الثاني الذي يقوم على ضرورة تقليد أوروبا تقليدًا أعمى، لكي يصل العثمانيون إلى ما وصلت إليه من تقدم وازدهار.[99] وكان من نتيجة الإيمان بالاتجاه الأول أن قامت الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية،[معلومة 10] واجتذبت إليها الكثير من أهلها، ودعت إلى تطهير الإسلام من كامل الشوائب التي تعلقت به عبر القرون.[103] ولما رأى السلطان محمود أنه من الضروري قمع هذه الفئة التي يخشى من امتدادها على تفريق كلمة الإسلام، كلّف محمد علي باشا، والي مصر ومؤسس أسرتها الخديوية العلوية، بمحاربتها والقضاء عليها، ففعل ما طُلب منه وأباد الحركة الوهابية، ثمّ شرع في إصلاح مصر وتنظيمها وفق النظام الأوروبي.[103] وفي بداية عهد محمود الثاني استقلّت عدّة دول أوروبية عن الدولة العثمانية، وكانت بداية انشقاق أوروبا الشرقية عن الدولة العثمانية عندما ثار الصربيون وطالبوا باستقلالهم، فقمعتهم الدولة العثمانية مرتين، وتعهدت ألا تتدخل في شؤون الصرب الداخلية، وأن تكون السيطرة للعثمانيين في الصرب على القلاع فقط.[104][105] سرعان ما أعقب هذه الثورة عصيان "علي باشا" والي مدينة يانية الألبانية، حيث امتنع عن دفع الخراج واحترام الأوامر التي تُرسل إليه من الآستانة، فأرسل إليه السلطان جيشًا تمكن قائده من القبض عليه وإعدامه.[106] وما فتئت المشاكل تنهال على الدولة العثمانية، فقد ثار اليونانيون طلبًا للاستقلال وهزموا فرقة عسكرية عثمانية أرسلت لقمعهم، فلم يجد السلطان لإخماد الثورة في اليونان غير محمد علي باشا والي مصر، فاستجاب الأخير لطلبه وأرسل سفنًا حربية محملة بالجنود إلى اليونان،[107] استطاعت أن تحقق انتصارات كاسحة على الثوّار. غير أن ثورة اليونانيين نجحت، واستطاع الثائرون أن يستقلوا ببلدهم عن الدولة العثمانية بعد المساعدات التي تلقوها من الدول الأوروبية. كذلك كان الأسطول العثماني قد تحطم في معركة ناڤارين عام 1827م، على يد السفن البريطانية والروسية.[107]
دور الأفول والتنظيمات (1828–1908)
السلطان الغازي محمود خان الثاني "أبو الإصلاح"، بعد إقراره اعتماد اللباس الأوروبي لباسًا رسميًا.
تتميز هذه المرحلة بانحدار الدولة العثمانية سريعًا وفقدانها لمعظم ممتلكاتها الباقية في أوروبا، وقيام السلطان محمود الثاني بعدد من الإصلاحات الكبيرة الهادفة لجعل الدولة تواكب أوروبا الغربية في التطور والازدهار.[108] وأوّل ما قام به السلطان محمود الثاني في هذا المجال كان إلغائه لطائفة الإنكشارية بعد أن أصبحت إحدى عوامل تخلّف وتراجع الدولة يقينًا، فاعترض الإنكشارية على ذلك وحاولوا التمرد وتجمعوا في أحد ميادين الآستانة، فحصدتهم المدفعية العثمانية حصدًا.[99] أعلن السلطان بعد قضائه على الإنكشارية نظامًا جديدًا للجند قلّد فيه الأوروبيين، كذلك قام بعدد من الإصلاحات المدنية مثل إقامة المدارس الحديثة ورفع يد الهيئة الإسلامية عن الإشراف على التعليم،[108] وإرسال بعثات طلابية إلى الخارج،[108] واتجه بالبلاد إلى تقليد أوروبا حتى إنه تزيا بزيهم، واستبدل بالعمامة الطربوش، والعباءة والجلباب بالبذلة الغربية.[108]
أعلنت روسيا الحرب على العثمانيين بعد أن رفضت الدولة العثمانية الاعتراف بقرارات مؤتمر لندن الذي نص على استقلال اليونان، وتمكنت من احتلال البغدان والأفلاق، بل وصلت إلى مدينة أدرنة وهددت الآستانة بالسقوط، فتدخلت بريطانيا وفرنسا لوقف تقدم روسيا خوفًا على مصالحها في الشرق، فعُقدت بين الروس والعثمانيين معاهدة أدرنه التي نصت على عودة المناطق التي احتلها الروس إلى الدولة العثمانية مقابل تمتع روسيا ببعض الامتيازات وتعويضها عن الخسائر التي تكبدتها في الحرب، واستقلال بلاد الصرب وتسليم ما تحتفظ به الدولة من قلاعها.[109] وفي أواسط سنة 1830م، ساءت العلاقات بين الدولة العثمانية وفرنسا مجددًا، بعد أن نفذت الأخيرة ما كانت تنويه من مدّة، ألا وهو الاستيلاء على ولاية الجزائر بدعوى منع تعدي القراصنة المسلمين على مراكبها التجارية،[110] وبذلك فقدت الدولة العثمانية الجزائر إلى الأبد، على الرغم من استبسال المقاومة بقيادة الأمير عبد القادر الجزائري، الذي اضطر للاستسلام بعد أن دافع عن بلاده مدة سبع عشرة سنة.
محمد علي باشا، أبرز ولاة الشرق العربي العثماني في أواسط القرن التاسع عشر، وأشهر من أعلن العصيان على الدولة العثمانية في ذلك الوقت.
استمرت المشاكل تنهال على الدولة العثمانية بعد سقوط الجزائر، وذلك أن والي مصر محمد علي باشا طمع في توسيع رقعة نفوذه بعد أن غدا أقوى ولاة السلطان العثماني في الشرق العربي،[111] وكان السلطان محمود الثاني قد وعد محمد علي بأن يوليه على بلاد الشام لقاء خدماته الجليلة التي قدمها للدولة،[معلومة 11] لكنه عاد وأخلف وعده، إذ شعر أن وجود محمد علي في الشام خطرٌ على كيان السلطنة نفسها.[111] فقرر محمد علي أن يجتاح بلاد الشام بالقوة، فوجه جيشه إلى فلسطين وأخضعها، ثم زحف على مدن الساحل اللبناني وفتحها الواحدة تلو الأخرى، وسرعان ما لحقت بها سوريا الوسطى والشمالية، وامتد زحف الجيش المصري إلى الأناضول حيث هزم الجيش العثماني حديث النشأة في قونية،[112][113] وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الآستانة، حتى خُيل للعالم في ذلك الوقت أن نهاية الدولة العثمانية أصبحت قريبة.[111] عقب هزيمة قونية، استنجد السلطان محمود الثاني بالدول الأوروبية للوقوف في وجه الخطر المداهم، فلم ينجده إلا روسيا، التي أرسلت 15 ألف جندي إلى الآستانة للدفاع عنها، فخشيت بريطانيا وفرنسا من امتداد النفوذ الروسي وتوسطت للصلح مع محمد علي،[99] حيث أقر له السلطان بولاية مصر وجزيرة كريت وفلسطين ولبنان وأضنة، لقاء نفس الأموال التي كان يؤديها عن الشام الولاة العثمانيون من قبل.[111] وفي غضون ذلك توسّع النفوذ الروسي في الدولة خصوصًا بعد أن أبرم السلطان معاهدة مع روسيا تعهدت فيها الأخيرة بالدفاع عن الدولة العثمانية لو هاجمها المصريون أو غيرهم. عمل السلطان محمود الثاني في أواخر أيامه على استعادة الشام ومصر، فجمع جيشًا جديدًا، ونشط عملاؤه في الشام يحرضون الشعب للثورة على المصريين، ثم سار الجيش وقام بهجوم عبر الفرات أسفر عن كارثة نزلت به، إذ بدده الجيش المصري في معركة نصيبين عام 1839م. ولم تصل أنباء هذه الهزيمة إلى السلطان محمود الثاني، إذ توفي قبل ذلك بأيام.[111]
السلطان الغازي عبد المجيد خان الأول.
خلف السلطان عبد المجيد الأول أباه السلطان محمود الثاني، وهو صبيّ لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره،[114] وكانت الدولة العثمانية على شفير الانهيار، إذ أصبحت بلا جيش، بفعل خسارة الجيوش العثمانية أمام المصريين، وتشتيت القوى المسلحة، وبلا أسطول، بفعل انضمام الأسطول العثماني طواعية إلى الأسطول المصري في الإسكندرية،[115] فسارع السلطان الفتى إلى إجراء مفاوضات مع محمد علي، فاشترط الأخير، لعقد الصلح، أن يكون الحكم في الشام ومصر حقًا وراثيًا في أسرته.[111] وكاد السلطان عبد المجيد يقبل شروط محمد علي لو لم تصله مذكرة مشتركة من الدول الأوروبية الكبرى، عدا فرنسا،[معلومة 12] تطلب إليه بألا يتخذ قرارًا يتعلق بمحمد علي إلا بمشورتهم، ووعدوه بالتوسط بينه وبين محمد علي، فوافق على ذلك.[111] ثم اجتمعت كل من بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا وعقدوا اتفاقية صدق عليها العثمانيون، وعرضوها على محمد علي، وهي تنص على بقاء ولاية مصر وراثية في عائلته، وولاية عكا مدى حياته،[115] فرفض محمد علي ذلك وطرد المندوبين الأوروبيين والمندوب العثماني من مصر،[115] وبناءً على ذلك هاجمت البوارج الحربية البريطانية والنمساوية والعثمانية مدن الساحل الشامي واستطاعت أن تحرز انتصارًا كبيرًا على جيوش محمد علي بقيادة ابنه إبراهيم باشا، وأجبرته على العودة إلى مصر والانكماش فيها، وبذلك عادت الشام إلى ربوع الدولة العثمانية، وأصبحت سيادة الدولة على مصر سيادةً اسميّة.[111] توصلت الدول الأوروبية الكبرى، بعد انتهاء الأزمة العثمانية - المصرية، إلى عقد اتفاقية جماعية مع الدولة العثمانية، أُطلق عليها تسمية "معاهدة المضائق" أو "اتفاقية لندن للمضائق"، وقد أرست هذه الاتفاقية نظامًا للمضائق العثمانية ظل مطبقًا بدون إدخال تعديلات جوهرية عليه حتى قيام الحرب العالمية الأولى.[116] حدث في عهد السلطان عبد المجيد عدد من الفتن الداخلية في الولايات العثمانية، وازدادت الدولة ضعفًا على ضعف، مما زاد من أطماع الدول الأوروبية فيها، فدُعيت باسم "الرجل المريض"، وأخذ الأوروبيون يخططون لاقتسام تركتها مستقبلاً.
حصار سيڤاستوبول من قبل الجيوش العثمانية والأوروبية خلال حرب القرم، بريشة فرانز روبو.
واقعة سينوب البحرية أثناء حرب القرم، التي نجم عنها انتصار الروس وانهزام العثمانيين،[117] بريشة إيڤان آيڤازوڤسكي.
اتخذت المسألة الشرقية في أواخر القرن الثامن عشر، شكلها الحديث،[118] وبرزت مع بداية انحسار المد التوسعي العثماني عن أوروبا، ومع اتجاه العثمانيين المتزايد نحو فقدانهم تفوقهم العسكري أمام الدول الأوروبية، وبخاصة روسيا والنمسا، وقد تحكمت بها ثلاثة عوامل هي: ضعف الدولة العثمانية المتزايد وظهور عدد من القوميات المسيحية الصغيرة في شبه جزيرة البلقان والفتن الداخلية المستمرة في بعض الولايات، وقد سمحت جميع هذه العوامل للدول الأوروبية أن تتدخل في الشؤون الداخلية للدولة وتسيرها حسب مصالحها.[118] ومن أبرز الأحداث التي استغلتها أوروبا للتدخل في الشؤون العثمانية كانت الفتن الطائفية التي وقعت في بلاد الشام خلال عقد الأربعينيات من القرن التاسع عشر، وبلغت ذروتها في جبل لبنان، فتدخلت فرنسا بحجة حماية الكاثوليك وبشكل رئيسي الموارنة، وتدخلت بريطانيا لدعم الدروز، وروسيا لدعم الأرثوذكس، فوقعت في البلاد مذابح عظيمة تخللتها سنوات قليلة من السلام.[119] كما اتجهت الدولة نحو سياسة نقل أمور الولايات إلى سلطة داخلية فأنهوا حكم مماليك العراق في بغداد والبصرة وآل جليلي في الموصل في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، كما قضوا على الإمارات الكردية شبه المستقلة في حكاري وسوران وبادينان إثر ضغط دولي عقب مجازر بدر خان في الأربعينيات من نفس القرن.[120] تُعدّ حرب القرم التي ابتدأت عام 1854م بين روسيا والدولة العثمانية، من أهم مراحل المسألة الشرقية، فقد دفعت هذه الحرب بالعلاقات الدولية نحو التأزم، وغيّرت التحالفات السياسية، فوقفت بريطانيا وفرنسا إلى جانب الدولة العثمانية للدفاع عن سلامة أراضيها ضد الروس.[121] وتتخلص هذه الحرب في أن القيصر الروسي نيقولا الأول اعتقد أن بإمكانه أن يطرح قضية إنهاء المسألة الشرقية بشكل جذري، وأبدى نيته في اقتسام أملاك الدولة العثمانية، فعرض على بريطانيا تقسيم الدولة العثمانية بينهما، فرفضت، فحاول إغراء فرنسا بنفس الإغراء، فرفضت أيضًا، فهددت روسيا باحتلال الأفلاق والبغدان إن لم تعد الدولة العثمانية للإمبراطورية الروسية حق حماية المسيحيين الأرثوذكس الذي فقدته وفق نص معاهدة المضائق،[122] فلم يعرها السلطان أي اهتمام بعد أن وعدته بريطانيا وفرنسا بالدفاع عن الدولة ضد أي هجوم محتمل، فأقدمت روسيا على تنفيذ تهديدها، فتحالف العثمانيون مع بريطانيا وفرنسا والنمسا ومملكة البيمونت بإيطاليا والسويد، وقصفت أساطيلهم ميناء سيڤاستوبول في شبه جزيرة القرم، وضربت الكثير من قلاعه بالإضافة للإغارة على الكثير من موانئ روسيا على البحر الأسود، وتوغلت القوات المتحالفة في أراضي روسيا حتى طلبت الصلح، فعُقدت معاهدة سلام في باريس أنهت الحرب وأنقذت الدولة العثمانية من الخطر الروسي الذي كان يتهددها، وبات من المنتظر أن تغدوا بلدًا متحدًا يأخذ بركب الحياة الدستورية كما عرفها الغرب، وتنضم إلى سائر أعضاء المنظمة الدولة على قدم المساواة.[123]
وفي أواخر عهد السلطان عبد المجيد الأول، نشبت فتنة طائفية كبرى في الشام، وتحديدًا في دمشق وسهل البقاع وجبل لبنان بين المسلمين والمسيحيين عمومًا، والدروز والموارنة خصوصًا،[124] فوقعت مذابح مؤلمة وبلغ عدد القتلى اثني عشر ألفًا،[124] وكان ممثلو بريطانيا وفرنسا يشجعون الفريقين على الانتقام ويساعدونهم على الثأر، فخشي السلطان أن تؤدي هذه الفتنة إلى تدخل الدول الأجنبية العسكري، فأوعز إلى المسؤولين العثمانيين في بيروت ودمشق بوجوب إخمادها حالاً،[124] وأوفد في الوقت ذاته وزير الخارجية فؤاد باشا الذي عُرف بالدهاء والحزم، وخوله سلطات مطلقة لمعالجة الموقف، فقام بمهمته خير قيام وأعدم معظم الذين تسببوا بالمذابح وسجن الباقين ونفى بعضهم وأعاد بعض المسلوبات إلى أصحابها من المنكوبين المسيحيين، وجمع تبرعات كثيرة أنفقها على ترميم القرى.[124] وكانت الدول الأوروبية قد ضغطت على السلطان وحملته على القبول بتشكيل لجنة دولية يوكل إليها أمر إعادة الهدوء إلى جبل لبنان ودمشق، وتصفية ذيول الفتنة.[124] توفي السلطان عبد المجيد يوم 6 يونيو سنة 1861م، الموافق فيه 17 ذي الحجة سنة 1277هـ، عن أربعين سنة،[125] بعد أن قام ببعض الإصلاحات الكبيرة في الدولة، أبرزها فرمانه الشهير الصادر سنة 1856م، الذي ساوى فيه بين جميع رعايا الدولة مهما اختلفت عقيدتهم الدينية،[124] فتحسن وضع المسيحيين بشكل أكبر، وازدادت نسبة المتعلمين منهم،[126] الأمر الذي ساهم في إنعاش اقتصاد الدولة لاحقًا.[126]
حفل افتتاح قناة السويس في مدينة بور سعيد سنة 1869، خلال عهد السلطان عبد العزيز الأول.
بويع السلطان عبد العزيز الأول بالخلافة وعرش آل عثمان بعد وفاة أخيه عبد المجيد، ومما يذكر في عهده: افتتاح قناة السويس وقيام ثورة في جزيرة كريت تم إخمادها.[115] وكان هذا السلطان كثير التجوال في البلاد الخارجية، فزار مصر وزار فرنسا، وحاول تقريب روسيا إليه حتى تخافه دول أوروبا، لكنه عُزل بناءً على فتوى شرعية بسبب تبذيره أموال الدولة، كما تنص بعض المصادر،[127] وعُثر عليه ميتًا في غرفته فقيل أنه انتحر وقيل أنه قُتل،[115] وتولّى بعده ابن شقيقه عبد المجيد الأول مراد، ولم يستمر عهده أكثر من 3 أشهر، وتم عزله بسبب اختلال عقله.[115]
السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني "الكبير"، آخر سلطان فعليّ للدولة العثمانية.
رسم هزلي من مجلة اللكمة البريطانية يعود لتاريخ 17 يونيو سنة 1876، يصوّر الإمبراطورية الروسية بهيئة رجل، على وشك أن تُطلق "كلاب الحرب" البلقانية على الدولة العثمانية، بينما بريطانيا، ممثلة بهيئة شرطي، تحذرها من مغبة عملها. أعلنت الصرب والجبل الأسود الحرب على الدولة العثمانية في اليوم التالي لنشر هذا العدد من المجلة.
إخلاء المسلمين لمدينة نيكوبول البلغارية بعد سقوطها بيد روسيا، وفق ما نصت عليه معاهدة سان ستيفانو.
وبعد مراد الخامس بويع عبد الحميد الثاني بالخلافة وعرش السلطنة، وفي ذلك الحين كانت البلاد تمر في أزمات حادة ومصاعب مالية كبيرة، وتشهد ثورات عاتية في البلقان تقوم بها عناصر قومية تتوثبّ لتحقيق انفصالها، وتتعرض لمؤامرات سياسية بهدف اقتسام تركة "الرجل المريض". ومنذ اليوم الأول لارتقائه العرش، واجه السلطان عبد الحميد موقفًا دقيقًا وعصيبًا، فقد كانت الأزمات تهدد كيان الدولة، وازدادت سرعة انتشار الأفكار الانفصالية، وأصبح للوطنية معنى جديد أخذت فكرته تنمو وتترعرع في الولايات العثمانية، ووجد السلطان نفسه مشبع بالثورة والاضطراب.[128] فقد تجددت الثورة في إقليميّ البوسنة والهرسك، واستمرت في بلغاريا، وكان الصرب والجبل الأسود في حالة حرب مع الدولة.[128] ولهذه الأسباب تدخلت الدول الأوروبية لاستغلال الموقف بغية تحقيق مصالحها بحجة إحلال السلام. فشجعت روسيا والنمسا الصرب والجبل الأسود على حرب العثمانيين، حيث رغبت النمسا بضم البوسنة والهرسك، بينما رغبت روسيا بضم الأفلاق والبغدان وبلغاريا، ووعدت روسيا النمسا والصرب والجبل الأسود بالوقوف بجانبهم إذا قامت حرب بينهم وبين العثمانيين.[129] وبالفعل قامت الحرب بين الدولة العثمانية وتلك الدول، إلا أن الجيوش العثمانية استطاعت الانتصار ووصلت إلى مشارف بلغراد، غير أن تدخل أوروبا أوقف الحرب.[129] قدّمت الدول الأوروبية الكبرى لائحة للدولة العثمانية تقضي بتحسين الأحوال المعيشية لرعاياها المسيحيين، ومراقبة الدول الأوروبية لتنفيذ إجراءات التحسين، فرفضت الدولة اللائحة؛ لأن هذا يعتبر تدخلاً صريحًا في شؤونها، فاستغلت روسيا الرفض واعتبرته سببًا كافيًا للحرب، وفي هذه المرة أطلقت أوروبا العنان لروسيا لتتصرف كيفما تشاء مع العثمانيين، فاحتلت الأفلاق والبغدان وبلغاريا ووصلت أدرنة وأصبحت على بعد 50 كيلومترًا فقط من الآستانة،[129] كذلك دخلت جيوشها الأناضول،[130] وعادت الصرب والجبل الأسود لتعلن الحرب على الدولة العثمانية، فاضطرت الأخيرة إلى طلب الصلح، وأبرمت معاهدة سان ستيفانو مع روسيا، التي اعترفت فيها باستقلال الصرب والجبل الأسود والأفلاق والبغدان وبلغاريا، ثمّ تمّ تعديل هذه المعاهدة في مؤتمر عُقد في برلين تمّ بموجبه سلخ المزيد من الأراضي عن الدولة العثمانية.[131] كشفت قرارات مؤتمر برلين عن ضعف الدولة العثمانية، فاستغلت الكيانات السياسية والقومية هذا الضعف، وقامت بانتفاضات على الحكم المركزي بهدف الحصول على الاستقلال الكامل، ودعمتها أوروبا في سبيل تحقيق ذلك، وهكذا توالت الأزمات السياسية في وجه السلطان عبد الحميد الثاني بعد الحرب العثمانية الروسية ومؤتمر برلين. إنضمت تونس إلى قائمة الأقاليم التي فقدتها الدولة العثمانية لصالح أوروبا في عهد عبد الحميد الثاني عندما احتلتها فرنسا، ثم لحقتها قبرص التي احتلتها بريطانيا، وأتبعتها بمصر والسودان، بحجة حماية الدولة العثمانية من أي اعتداء.[132]
لعلّ أهم الأحداث التي جرت في عهد عبد الحميد هي الأزمة الأرمنية وقيام الحركة الصهيونية، ويتفق المؤرخون، المسلمون منهم خاصةً، أن هذين الحدثين هما ما ساهم في تشويه صورة الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد الثاني. وتفصيل الأزمة الأرمنية أن الأرمن طالبوا بعد مؤتمر برلين باستقلالهم، خاصة أن السلطان لم يقم بتطوير يُذكر لأوضاعهم، وعملت البعثات التبشيرية الأوروبية والأمريكية على إذكاء الشعور القومي الأرمني، وفي الوقت نفسه اعتقدت الدوائر الحاكمة في الآستانة أن بعض الأرمن يعملون كعملاء لروسيا وبريطانيا، وساورها الشكوك حول ولائهم، ومن ثم نظرت إليهم على أنهم خطر يهدد كيان الدولة ومستقبلها وأمنها.[133] وتصاعد التوتر في بلاد الأرمن، ولم تلبث أن عمّت الاضطرابات، فخرج حوالي 4000 ارمني عن طاعة السلطان في بدليس بعد تأخر الإصلاحات الموعودة،[134] فقام العثمانيون بالرد على ثورة الأرمن بأن أرسلوا جيشًا مؤلفًا بمعظمه من الأكراد[135] إلى مناطق الثورة حيث دمّروا العديد من القرى الأرمنية وقتلوا كثيرًا من الثوّار ومن ساندهم، فيما أصبح يُعرف باسم "المجازر الحميدية"،[136] وتطور العنف ليشمل المسيحيين بشكل عام كالسريان كما في مجازر ديار بكر.[137] أما الحركة الصهيونية، فنشأت بقيادة ثيودور هرتزل، ودعت إلى إنشاء وطن قومي ليهود العالم في فلسطين الخاضعة للدولة العثمانية وتشجيع اليهود على الهجرة إليها، فأصدر السلطان عبد الحميد فرمانًا يمنع هجرة اليهود إلى الأراضي المقدسة، لكنه اضطر في نهاية المطاف إلى التهاون معها تحت ضغط الدول الأوروبية، وخاصةً بريطانيا.[138][معلومة 13]
دور الانحلال وخاتمة الدولة (1908–1922)
مظاهرة لمؤيدي جمعية تركيا الفتاة في ناحية السلطان أحمد من الآستانة في سنة 1908.
كانت الأفكار القومية قد تغلغلت بشكل كبير في جسم الدولة العثمانية أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وأنشأ الداعون لهذه المفاهيم المؤسسات والجمعيات التي تحمل أفكارهم، وكان من أهم هذه الجمعيات جمعية تركيا الفتاة، التي تأسست في باريس وكان لها فروع أخرى في برلين، وفي أنحاء الدولة العثمانية في سالونيك والآستانة، واستطاعت أن تضع لها قدمًا في الجيش العثماني، وكان لها جناح عسكري عرف بتنظيم الاتحاد العثماني وكان لها جناح مدني هو الانتظام والترقي، واتفق الفريقان أن تكون جمعيتهم باسم "الاتحاد والترقي".[129] وامتد نفوذ الاتحاد والترقي في الدولة، فضم إليه الكثير من ضباط الفيلق الأول المسيطر على الآستانة، وكذلك الفيلقين الثاني والثالث المرابطين في الولايات العثمانية الباقية في أوروبا. وقد حاول السلطان عبد الحميد مقاومة هذه الجمعيات، فنادى وتمسّك بفكرة الجامعة الإسلامية، لكنه فشل أمامهم، خصوصًا بعد أن سيطروا على أكثر الجيش.[129] فرض الاتحاديون على السلطان إعلان دستور جديد للبلاد يخلف الدستور الأول أو "القانون الأساسي" الذي أعلنه سنة 1876م، فذعن لمطلبهم وأعلن الدستور، فسيطر الاتحاديون على معظم مقاعد المجالس النيابية، ووجدوا أن السلطان سيكون عائقًا في تحقيق أهدافهم، فعزلوه وولوا أخاه محمد الخامس مكانه.[129]
مصطفى كمال "أتاتورك"، رئيس الجمهورية التركية مستقبلاً، إلى جانب بعض المقاومين الليبيين، أثناء الحرب العثمانية الإيطالية.
تولّى محمد "رشاد" الخامس العرش والدولة في احتضار، ولكنها كانت ما تزال متماسكة، وأصبح الاتحاديون هم الحكام الفعليين للبلاد، أما السلطان فكان مجرّد ألعوبة في أيديهم، وفي ذلك الوقت كانت الدولة قد أضاعت كثيرًا من بلادها في أوروبا، والأفكار القومية تنتشر يومًا بعد يوم، والبلاد في حالة إفلاس بسبب الحروب المتواصلة، والأوروبيون قد تسلطوا على مالية الدولة لاستيفاء ما لهم عليها من ديون.[139] وفي نفس السنة لاعتلاء محمد رشاد العرش، سيطرت الإمبراطورية النمساوية المجرية على البوسنة والهرسك، وبعد ثلاث سنوات هاجمت إيطاليا ليبيا، آخر الممتلكات العثمانية الفعلية في شمال أفريقيا، فقاومها العثمانيون بكل طاقتهم، لكنهم لم يستطيعوا شيءًا، فسقطت البلاد بعد سنة من المعارك الشديدة.[139] ثم جاءت حرب البلقان الأولى التي تولّى كبرها كل من مملكة صربيا ومملكة الجبل الأسود ومملكة اليونان ومملكة بلغاريا، وفقدت فيها الدولة العثمانية ما تبقى لها من ممتلكات في البلقان عدا تراقيا الشرقية ومدينة أدرنة، وانسحب حوالي 400,000 مسلم من سكّان تلك البلاد إلى تركيا خوفًا من ما قد تُقدم عليه جنود العدو.[140] وفي تلك الفترة ظهرت النزعة التركية الطورانية بقوة وعنف، وسعى حزب الاتحاد والترقي إلى تتريك الشعوب غير التركية المشتركة مع الأتراك في العيش تحت ظل الدولة العثمانية، مثل العرب والشركس والأكراد والأرمن.[139] وفي سنة 1913م عقد الوطنيون العرب مؤتمرًا في باريس، واتخذوا مقررات أكدوا فيها على رغبة العرب في الاحتفاظ بوحدة الدولة العثمانية بشرط أن تعترف الحكومة بحقوقهم، كون العرب أكبر الشركاء في الدولة، وطالب هؤلاء أن تُحكم الأراضي العربية حكمًا ذاتيًا وفق نظام اللامركزية، وقد وعد الاتحاديون الزعماء العرب الأحرار بقبول مطالبهم، لكن ذلك لم يتحقق بفعل نشوب الحرب العالمية الأولى.[141]
الحرب العالمية الأولى (1914–1918)
إحدى البوارج الألمانية تفر هاربة إلى داخل البحر الأسود، وتبدو في الخلفية السفن البريطانية في إثرها.
جنود روس يتفقدون جثث جنود عثمانيين قضوا أثناء حملة القوقاز على الجبهة الشرقية.
ترحيل أرمن من الازيغ بالأناضول الشرقية إلى الشام.
انطلقت شرارة الحرب الأولى في 28 يونيو عام 1914م عندما كان الأرشيدوق فرانز فرديناند، وليّ عهد العرش النمساوي المجري يقود سيارته في مدينة سراييڤو في البوسنة الخاضعة للنمسا، فاغتاله أحد القوميين الصرب، فاعتبرت الإمبراطورية النمساوية المجرية صربيا مسؤولة عن هذا الاغتيال، فتدخلت روسيا لدعم صربيا مدعومة من فرنسا وتحركت ألمانيا ضدهما، وما لبثت أن دخلت بريطانيا الحرب بعد ذلك بفترة قليلة، ومن ثم تشكلت الأحلاف، فدخلت الدولة العثمانية الحرب إلى جانب معسكر دول المحور، أي ألمانيا والنمسا وبلغاريا،[142] بعد أن فقد العثمانيون الأمل في محاولات التقارب مع بريطانيا وفرنسا، وفشلوا في الحصول على قروض عاجلة منهما لدعم الخزينة، وعُزلت الدولة سياسيًا بعد حروب البلقان وإيطاليا؛ فلم يكن لهم سوى خيار التقارب مع ألمانيا التي رأت مصلحتها في "الانتشار نحو الشرق".[143] وفي 10 أغسطس سنة 1914م، دخلت الدولة العثمانية الحرب بشكل فعليّ،[144] بعد أن سمحت لبارجتين ألمانيتين كانتا تطوفان البحر المتوسط، بعبور مضيق الدردنيل نحو البحر الأسود هربًا من مطاردة السفن البريطانية.[145] وخطا الباب العالي خطوة هامة باتجاه الاشتراك بالحرب، حيث أعلن الصدر الأعظم إلغاء الامتيارات الأجنبية، ملبيًا بذلك إحدى المطالب الرئيسية للقوميين الأتراك، ثم اتخذ خطوة أخرى في طريق التحدي بإغلاقه المضائق بوجه الملاحة التجارية، كما ألغى مكاتب البريد الأجنبية وجميع السلطات القضائية غير العثمانية.[143] بعثت الانتصارات الألمانية الخاطفة على الجبهة الروسية الأمل في نفوس الاتحاديين، بشأن إمكانية استعادة الأراضي العثمانية المفقودة لصالح روسيا المهزومة، فهاجم الأسطول العثماني الموانئ الروسية في البحر الأسود، وقد شكّل ذلك أمرًا واقعًا زج بالدولة العثمانية في الحرب، فأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، واقتدت بها كل من بريطانيا وفرنسا، وردّ السلطان محمد الخامس بإعلان الحرب، ودعا المسلمين إلى الجهاد، إلا أن ذلك لم يتحقق، فأغلب مسلمي العالم كانوا يزرحون تحت نير الاستعمار البريطاني أو الفرنسي، وكانت السلطات الاستعمارية قد جندت بعضًا منهم أيضًا في جيوشها.[143] خاضت الجيوش العثمانية الحرب على جبهات متعددة من دون استعداد كامل، فعلى الجبهة الروسية مُنيت الحملة العثمانية بهزيمة فادحة، حيث فتك القتال والصقيع والوباء بتسعين ألف جندي عثماني، وفي الجنوب نزل البريطانيون في الفاو على الخليج العربي واستولوا على العراق، أما عملية قناة السويس فجرت قبل الموعد المحدد، وفيها اتفق العثمانيون مع المصريين على قتال البريطانيين، لكنها أسفرت عن هزيمة العثمانيين وأودت بحياة الكثيرين دون طائل. وقام أسطول الحلفاء بمهاجمة مضيق الدردنيل في خطوة للاستيلاء على الآستانة وإخراج الدولة العثمانية من الحرب، وإمداد الجبهة الروسية،[146] لكن هذا الأسطول الضخم عجز عن اجتياز المضيق وهزم العثمانيون طاقمه هزيمة كبيرة في معركة بريّة، كانت النجاح الوحيد لهم في مقابل سلسلة من الإخفاقات، وبرز في هذه المعركة القائد مصطفى كمال.[143]
الجيش العثماني قبل هجومه على قناة السويس بوقت قصير.
وأثيرت أثناء المعارك، التي اندلعت على الجبهة الشرقية وهجوم الحلفاء في الدردنيل وغاليبولي، قضية الأرمن مرة أخرى، إذ قام الاتحاديون بنقل سكان المناطق الأرمنية في ولايات الشرق وكيليكيا والأناضول الغربية إلى بلاد الشام، بهدف تأمين حياة السكان المدنيين وحماية القوات المسلحة من خيانة محتملة من جانب العناصر الموالية لروسيا.[143] وكان بعض الأرمن قد تطوعوا في الجيش الروسي،[147] وقتلوا عددًا من السكان المسلمين في الأناضول الشرقية، ونتيجة لذلك تعرّض المرحلون لعمليات تعذيب وقتل فيما أصبح يُعرف باسم "مذابح الأرمن".[148][149][150] بعد فشل الحملة العثمانية على مصر، جرت اتصالات سريّة بين البريطانيين في مصر وشريف مكة حسين بن علي الهاشمي، وبعض الزعماء العرب، وتمّ الاتفاق بين الفريقين على أن يثور العرب على الأتراك وينضموا إلى الحلفاء مقابل وعد من هؤلاء بمنح العرب الاستقلال وإعادة الخلافة إليهم. وتنفيذًا لهذا الاتفاق أعلن شريف مكة حسين في يونيو سنة 1916م الثورة العربية على الأتراك، فأخرجهم من الحجاز وأرسل قوّاته شمالاً بقيادة ولديه فيصل وعبد الله لتشارك القوات البريطانية في السيطرة على بلاد الشام.[151] وفي غضون ذلك سُحقت المقاومة البلغارية في البلقان، مما أرغم حكومة صوفيا على طلب الهدنة، فأدرك الباب العالي خطورة الموقف، لأن الحرب أضحت قريبة من الأراضي التركية، ويمكن للعدو أن يتغلغل بحريّة في تراقيا الشرقية ويزحف حتى أبواب الآستانة، فأبرم العثمانيون معاهدة مودروس مع الحلفاء، خرجوا بموجبها من الحرب.[143]
حرب الاستقلال التركية (1919–1922)
مظاهرة في الآستانة منددة بالاحتلال بتاريخ 23 مايو سنة 1919.
توفي السلطان محمد الخامس قبل أشهر من انتهاء الحرب، وخلفه أخاه محمد "وحيد الدين" السادس. وبعد مرور شهر على توقيع هدنة مودروس، دخلت البحرية البريطانية والفرنسية والإيطالية ثم الأمريكية إلى القرن الذهبي، وأنزلت قواتها في الآستانة التي حوّلتها إلى قاعدة لنشاط الحلفاء في المنطقة كلها. سيطر الحلفاء على موانئ البحر الأسود كلها، واقتسموا الأراضي التركية، فاحتل الفرنسيون مرسين وأضنة، والإيطاليون أنطاكية وكوشا داسي وقونية، واحتل اليونانيون القسم الغربي من الأناضول، بالإضافة إلى تراقيا.[152] كان ردّ الفعل الداخلي لاتفاق الهدنة سلبيًا، فقد رفض الأتراك الخضوع للاحتلال والقبول بمشاريعه، فقامت ثورة وطنية في جميع أنحاء البلاد احتضنتها الحركة الوطنية بزعامة القائد مصطفى كمال،[153] والتي عُرفت باسمه "الحركة الكماليّة"، لتواجه خضوع الحكومة لرغبات الحلفاء وتعاون السلطان محمد السادس مع المحتلين، ومحاولات اليونان توسيع المناطق التي احتلتها، وازدياد الثورات الأرمنية. وعقدت الحركة الكمالية مؤتمرات عديدة في طول البلاد وعرضها لاستنهاض الوعي القومي وإنقاذ البلاد من التقسيم، وتشكّلت حكومة وطنية برئاسة مصطفى كمال بهدف إقامة دولة تركية مستقلة، ألغت جميع القوانين والتعليمات التي أصدرتها الحكومة السابقة، ووضعت السلطان وحكومته خارج إطار القانون.[152] وقد حاول السلطان القضاء على هذه الحركة فلم يُفلح.
السلطان محمد "وحيد الدين" السادس، آخر سلاطين بني عثمان، يغادر البلاد إلى المنفى في سنة 1922.
وفي تلك الفترة فُرضت معاهدة سيڤر على السلطان، التي مزّقت أوصال الدولة، وقد وقّع عليها مرغمًا، في حين رفضتها الحكومة الكمالية، ووضعت مخططًا لإنقاذ تركيا بمعزل عن السلطان. تمكّن مصطفى كمال بعد جهود مضنية واصطدامات شديدة مع اليونانيين، من الانتصار، فاستعاد كمال الأراضي التي احتلوها، وفرض على الحلفاء توقيع هدنة جديدة اعترفت فيها اليونان بانتصارات تركيا،[152] فأضحى مصطفى كمال بطلاً قوميًا، وبرز في الواجهة السياسية في حين ظل السلطان في الظل، فما كان منه إلا أن تنازل عن العرش واعتزل الحياة السياسية، وغادر البلاد على ظهر بارجة بريطانية نقلته إلى جزيرة مالطة، في 17 أكتوبر سنة 1922م، الموافق فيه 27 ربيع الأول سنة 1341هـ.[152]
اعتلى عرش السلطنة العثمانية، بعد تنازل السلطان محمد السادس، وليّ العهد عبد المجيد الثاني، وبعد أن أصبح مصطفى كمال سيد الموقف، وقّع معاهدة لوزان مع الحلفاء التي تنازل بمقتضاها عن باقي الأراضي العثمانية غير التركية،[154] ثم جرّد السلطان من السلطة الزمنية وجعله مجرّد خليفة، أي أشبه بشيخ الإسلام، ولكن من غير سلطة روحيّة أيضًا. ثم ألغى الخلافة سنة 1924 وطرد عبد المجيد من البلاد، وبهذا سقطت الدولة العثمانية فعليًا بعد أن استمرت لما يقرب من 600 سنة، وانهارت معها الخلافة الإسلامية بعد أن استمرت ما يزيد عن ألف سنة.[155] وقد رثا أمير الشعراء أحمد شوقي الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية بأبيات من الشعر قال فيها:[156]
ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة تبكي عليك بمدمع سحَّاح
والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح؟!
المُدعون بالحق في عرش آل عثمان عدلعندما طرد مصطفى كمال عبد المجيد الثاني من البلاد، طرد معه كامل أفراد الأسرة العثمانية وصادر أملاكهم،[157] فذهب هؤلاء ليعيشوا في المنفى ومنعوا من العودة إلى تركيا. وفي سنة 1974م، أصدر البرلمان التركي قرارًا نص على جواز منح الجنسية التركية للمنفيين المتحدرين من نسل عثمان الأول، وتمّ إعلامهم بذلك عن طريق السفارة التركية في كل بلد يعيشون فيه. يندرج ضمن قائمة المدعين بالحق في العرش العثماني: "محمد أورخان" ابن الأمير محمد عبد القادر، الذي توفي في سنة 1994، و"أرطغرل عثمان" أصغر أحفاد السلطان عبد الحميد الثاني.
يشتهر أرطغرل عثمان برفضه حمل الجنسية التركية رغم عرضها عليه عدّة مرّات، قائلاً أنه "مواطن عثماني"، لكنه على الرغم من ذلك قال أنه لا يتمنى نهوض الدولة العثمانية من جديد، وأفاد أن "الديمقراطية تسري سريانًا جيدًا في تركيا".[158] عاد أرطغرل عثمان إلى تركيا في سنة 1992م، وكانت تلك المرة الأولى التي يدوس فيها أرض وطنه الأم منذ نفيه وأفراد الأسرة الحاكمة في عشرينيات القرن العشرين، وحصل على الجنسية والهوية التركية في سنة 2002م.[159] توفي أرطغرل عثمان في 23 سبتمبر سنة 2009م في إسطنبول عن عمر يناهز 97 عامًا ولم يخلف أولادًا، وبموته لم يتبق أحد من المدعين بالحق في العرش العثماني من الذين وُلدوا في الفترة التي كانت الدولة فيها لا تزال قائمة. كان الأتراك يُلقبون أرطغرل عثمان باسم "العثماني الأخير"،[160] ولو قُدّر له أن يحكم بصفته سلطانًا، لكان أكبر سلاطين الدولة سنًا منذ نشأتها، ولعُرف باسم السلطان أرطغرل الثاني.
يُعتبر "إبراهيم توفيق"، وهو حفيد حفيد السلطان عبد المجيد الأول الوريث الأول لعرش آل عثمان، كذلك تقول الحكومة التركية أن أحد المواطنين الأمريكيين من أصل تركي، واسمه "عدنان گلكور"، هو الوريث الأصغر لعرش الدولة العثمانية.[161]
الاقتصاد
رسم للسوق الكبير المغطى في الآستانة خلال العهد العثماني. بنى السلطان محمد الفاتح هذا السوق لإنعاش اقتصاد المدينة بعد أن فتحها لا سيما وأنها كانت تعاني من التدهور الاقتصادي.
اعتنى العثمانيون بالعواصم المختلفة لدولتهم عناية خاصة، فجعلوا من مدن بورصة وأدرنة والقسطنطينية مراكز صناعية وتجارية مهمة في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، بل في العالم عندما بلغت الدولة ذروة مجدها وقوتها، واستقطبوا إليها الصنّاع والحرفيين والتجّار المهرة من مختلف أنحاء الأراضي الخاضعة لهم.[162] ومن أبرز السلاطين الذين عملوا على تنمية الدولة العثمانية من الناحية الاقتصادية: محمد الفاتح وخليفته بايزيد الثاني وحفيده سليم الأول، فخلال عهد هؤلاء السلاطين فُتحت مناطق كثيرة في أوروبا الشرقية والعالم العربي، وكان العثمانيون ينقلون معهم غالبًا أمهر الصنّاع والحرفيين إلى عاصمتهم، كما فعل السلطان سليم الأول عندما فتح تبريز ومن ثم القاهرة،[163] وفي ذلك العهد أيضًا كان عدد من المسلمين واليهود الأندلسيين قد غادر شبه الجزيرة الأيبيرية بفعل اضطهاد الإسبان لهم بعد سقوط الأندلس، فاستقبلهم العثمانيون وقدموا لهم الكثير من التسهيلات ليستقروا في البلاد ويساهموا في نهضتها الاقتصادية.[164]
نظّم العثمانيون ماليّة دولتهم وخزينتها بشكل أفضل وأكثر فعاليّة من أي دولة إسلامية سابقة، واستمر نظامهم المالي أفضل نظم عصره وفاق جميع النظم المالية لكل الدول من إمبراطوريات وجمهوريات وممالك وإمارات معاصرة حتى القرن السابع عشر، عندما أخذت الدول الأوروبية الغربية تتفوق عليها في هذا المجال.[165] يُعزى ازدهار الخزينة العثمانية خلال العصر الذهبي للدولة إلى إنشائهم لوزارة خاصة تختص بالأمور المالية للدولة من إنفاق واستدانة وإدانة، عُرفت لاحقًا باسم "وزارة المالية"، وكان يرأسها شخص مختص هو "الدفتردار" الذي أصبح يُعرف لاحقًا باسم "وزير المالية"،[165] وكان لحسن تدبير بعض وزراء المالية أثر كبير في نجاح فتوحات السلاطين وحملاتهم العسكرية، إذ استطاعوا بفضل هؤلاء وسلامة سياستهم المالية التي رسموها للدولة، أن يصرفوا على الجيش ويزودوه بكامل المعدات اللازمة وأحدث أسلحة العصر.[166]
العملة
عملة ورقية عثمانية من فئة 100 ليرة.
كانت العملة العثمانية في بداية عهد الدولة تُعرف باسم "الغروش" أو "القروش"، وكانت تُسك من معدن البرونز النحاس، وفي أواخر عهد الدولة أصبحت "الليرة" مرادفًا لاسم العملة العثمانية، وكان يُضاف إليها اسم السلطان الذي صدرت في عهده، فكان يُقال "ليرة مجيدية" و"ليرة رشادية" على سبيل المثال. وكانت الليرة العثمانية تساوي مئة واثنين وستين قرشًا،[167] وأطلق عليها العرب اسم "العثمليّة". كانت الليرات العثمانية عبارة عن نقود ذهبية في بادئ الأمر، ثم أصدرت الدولة في عهد الحرب العالمية الأولى أوراقًا نقدية لأول مرة في تاريخ البلاد، بسبب المبالغ الطائلة التي أنفقتها على الحرب،[167] وأكثرت من الكميات التي أنزلتها إلى السوق، فهبطت قيمة هذه العملة بالنسبة للنقد الذهبي والفضي، هبوطًا كبيرًا، ولكن الحكومة كانت تصرّ على اعتبار الليرة الورقية مساوية لليرة الذهبية، وكانت تجبر الناس على قبضها والتعامل بها.[167] تعامل الشوام في أواخر العهد العثماني أيضًا بالعملة المصرية، ومنها اكتسبت النقود تسمية "مصاري" و"مصريات" اللتان لا تزالان تستعملان في بلاد الشام للإشارة إلى النقود.
التجارة
رسم لسوق أقمشة في الآستانة سنة 1878م.
بنى العثمانيون الكثير من المراكز التجارية والأسواق الكبيرة والخانات على الطرق الرئيسية للتجارة لينزل فيها التجّار المسافرون والقوافل. وكان هناك مراكز تُجمع فيها البضائع التجارية وتقوّم قيمها وتُثبت أسعارها، أي كانت تعمل عمل البورصة حاليًا، وكان يُطلق على هذه المراكز التجارية اسم "بَدَسْتان".[168] تأسست هذه المراكز أولاً في مدينة بورصه وفي أدرنه ثم انتشرت منهما إلى سائر أرجاء الدولة العثمانية. كانت جميع أنواع السلع والبضائع تباع وتشترى في هذه المراكز التجارية، وكان بعضها يتخصص في بيع أنواع معينة من البضائع، مثل المجوهرات أو البُسط أو الأقمشة أو البهارات أو الكتب أو العطورات، وكان يوجد حول تلك المراكز بياعو الحاجيات اليومية من أغذية أو وقود أو مواد خام.[168]
كانت التجارة الدولية في القرن الرابع عشر بيد البرتغاليين والبنادقة، وكانت البضائع الثمينة تتجمع في الموانئ، حيث تتم التجارة فيها عن طريق النقل البحري بواسطة السفن. كانت الدولة العثمانية على وعي بأن ازدهار التجارة في أي بلد يساعد على ازدهاره، وتخلفها يعني تخلفه. لذا قامت بإحياء طريق الحرير التاريخي، وأمّنت بذلك تحول التجارة إلى الطريق البري مرة أخرى.[168] لذا بنت الخانات ومراكز التجارة على الطرق التجارية المهمة، وأنشأت هذه المراكز في داخل المدن أيضاً. واستطاعت الدولة - بتحقيقها الأمن والأمان للتجارة والتجار في أراضيها الواسعة وتيسير سبل التجارة أمامهم - السيطرة على التجارة الدولية بدءً من القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر.[168]
كان التجّار في العهد العثماني على نوعين: التجار المتجولون، والتجار المقيمون في المدن. فكانت مباني البدستان محل عمل التجار المقيمين في المدن ومركزًا لتعيين أسعار البضائع، كما كانت دائرة لاستيفاء الضرائب. وكان الموظفون الرسميون الذين يعيّنون الأسعار ويستوفون الضرائب يقيمون هناك، لذا لم يكن يُسمح بزيادة الأسعار خارج الحد المعقول، أي لم يكن يُسمح بالتعامل بالسوق السوداء.[168] كان أصحاب الحرف المختلفة يعملون في البدستان كعائلة واحدة، وكانت لهم منظمات ذات تقاليد عريقة ومستقرة مثل "نقابة الأخوة". ولم يكن يؤخذ إلى هذه النقابة من أصحاب المهن من لم يمر بمرحلة التدريب والتعليم التي تتدرج من مرحلة المتعلم الناشئ أو العامل المبتدئ إلى المتدرب إلى المعلم أو "الأسطة".[168]
الزراعة والصناعة
تاجر حرير يبتاع شرانق ديدان قز في أنطاكية قرابة سنة 1895م.
كانت الدولة العثمانية تسيطر على أراض زراعية خصبة جدًا موزعة في جميع أنحائها، ومنها السهول الخصبة في بلاد الشام، وحوض نهر الدانوب، وحوضيّ دجلة والفرات، ووادي النيل، وسهول آسيا الصغرى وشمال أفريقيا. وقد اشتهرت جميع هذه المناطق في سائر العصور بخصب تربتها ووفرة مياهها وغنى إنتاجها. وكان الإنتاج الزراعي متنوعًا، فالقمح الحبوب الأخرى كان يُعتمد في إنتاجها على سهول الشام ومصر والأناضول، وزيت الزيتون كان يُنتج في الشام والأناضول والبلقان. واشتهرت اليونان وسوريا ولبنان وفلسطين وبعض أنحاء شمالي أفريقيا بالفاكهة والأثمار، كالعنب والتين والكرز والخوخ والإجاص والتفاح والدراق والسفرجل واللوز وغير ذلك.[169]
ولم تكن الثروة الحيوانية أقل أهمية من الإنتاج الزراعي، فقد كانت قطعان الغنم الماعز البقر والإبل وجواميس الماء سارحة في هضاب البلقان وآسيا الصغرى وبوادي الشام ووادي النيل.[169] وانتشرت في الكثير من أنحاء الدولة الصناعات الغذائية والمستخرجة من مصادر حيوانية ونباتية، وأبرزها صناعة الحرير والصوف والصابون.[169]
وفي عصر الدولة الذهبي نشطت الصناعة العسكرية لتلبي حاجة الجيوش الفاتحة، وفي مقدمتها صناعة الأسلحة النارية من بنادق ومسدسات ومدافع، وفي الكثير من الأحيان تولّى هذه الصناعة مهندسون مجريون ونمساويون وفرنسيون وسويديون، وتليها صناعة الأسلحة البيضاء من سيوف ورماح ونبال، وصناعة الدروع. وقد تضائلت أهمية هذه الصناعة مع ازدياد ضعف الدولة وتراجعها مقابل تقدم أوروبا الغربية.
نظام الحكم
اتبع العثمانيون تنظيمًا بسيطًا لدولتهم، حيث ابتكروا جهازين إداريين للحكم: جهاز إداري مركزي وجهاز إداري محلي، وكان يتم اتباع هرميّة معينة في كل جهاز منها، وكان السلطان بوصفه حاكم البلاد، وخليفة المسلمين، يقبع على قمّة هذا الهرم. أخذ العثمانيون بالكثير من العادات العربية والفارسية والبيزنطية في تنظيمهم للأجهزة الإدارية، ودمجوا معها بعض العادات التركية القديمة، وصهروها كلها في بوتقة واحدة مميزة، مما جعل الدولة العثمانية تظهر بمظهر الوريث الشرعي لجميع تلك الحضارات التي سبقتها.[170]
الجهاز الإداري المركزي
السلطان مصطفى الثاني يستقبل السفير الفرنسي "شارل آل فريول" في الديوان السلطاني سنة 1699، بريشة "جان بابتيست ڤامور".
كان الجهاز الإداري المركزي يتكوّن من السلطان وحاشيته، وهؤلاء جميعًا يُعرفون باسم "آل عثمان"، ويُعاونهم في الحكم ما يُعرف باسم "الديوان"، وهو جهاز إداري مضمّن يتكوّن من الصدر الأعظم وأفراد الطبقة الحاكمة. ومنصب الصدر الأعظم هو أعلى مناصب الدولة بعد منصب السلطان، وكان من يتبوأ هذا المنصب يلعب دور رئيس الوزراء ورئيس الديوان، ومن صلاحياته تعيين قادة الجيش وجميع أصحاب المناصب الإدارية المركزية أو الإقليمية. أما الطبقة الحاكمة فكان يُشار إلى أفرادها باسم "العساكرة" أو "العسكر"، ومفردها "عسكري"، وهي تشمل: الدفتردار، أي الشخص المُكلف بالشؤون المالية وحساب موارد الدولة ومصاريفها؛ الكاهية باشا، وهو الموظف العسكري الذي يتكلف بتسير الشؤون العسكرية للدولة؛ الشاويش باشا (بالتركية العثمانية: چاويش پاشا؛ نقحرة: تشاويش پاشا) وهو موظف ينفذ الأحكام القضائية التي يصدرها القضاة؛ رئيس الكتّأب، وشيخ الإسلام وطبقة العلماء. كان السلطان العثماني هو صاحب القرار النهائي الفاصل في أغلب الأحيان، وقد استمر الأمر على هذا المنوال حتى عهد السلطان مراد الرابع، عندما ازداد نفوذ الديوان وأخذ السلاطين لا يشاركون في جلساته أكثر فأكثر. جرت العادة منذ العهد العثماني على إطلاق تسمية "الباب العالي" على الحكومة العثمانية، وهي تسمية تعني في الأصل قصر السلطان، ومع مرور الوقت أصبح المقصود بالباب العالي: أعلى سلطة تتجسد في قوة السلطان المستمدة من قوة جيشه.
طغراء السلطان سليمان القانوني (1520).
تعتبر السلالة العثمانية أطول سلالات الأسر الإسلامية الحاكمة عمرًا،[171] وكان رأس الأسرة هو السلطان، وهو في نفس الوقت رأس الدولة، وخليفة المسلمين، وكان يُشار إليه باسم "پاديشاه" بمعنى "ملك الملوك" أو "سيّد الملوك"، وكان يحكم الدولة حكمًا مطلقًا، ولا يقيده إلا حدود الشريعة الإسلامية، حيث كان شيخ الإسلام يتمتع بسلطة عزل السلطان لو ثبت أنه تخطى حدود الشريعة أو أصيب بعاهة عقلية أو جسدية تمنعه من ممارسة عمله والاهتمام بشؤون العباد على أكمل وجه.[معلومة 14] وقد كان السلاطين الأوائل الذين بلغت الدولة في عهدهم ذروة مجدها وقوتها ملتزمين بحدود الشريعة عادةً، أما بعد عهد السلطان سليمان القانوني، أصيب البلاط العثماني بفساد شديد استمرّ حتى تولّي السلطان مصطفى الرابع العرش،[143] فقد حكم خلال هذه المدة ثمانية عشر سلطانًا، لم يكن أحد منهم على مستوى يؤهله لأن يمارس الحكم إلاّ بواسطة وزراء كانوا أحيانًا مثالاً للفساد، وأحيانًا أخرى مشفقين على الدولة من الانهيار، كما كانوا يقومون بإصلاحات تعطي الدولة حيوية تمكنها من إدارة أمورها لسنوات عدّة.[172] كانت الأسرة العثمانية أسرة تركية من الناحية العرقية والإرثية فقط، وفي واقع الأمر أصبح البيت العثماني في ذروة اتساع الدولة عبارة عن مزيج ثقافي واسع للحضارات والثقافات المجاورة، الأمر الذي جعل العنصر التركي للدولة يفقد هيمنته مع مرور الزمن، وأصبحت الدولة ككل يُشار إليها في أوروبا باسم "المشرق".[173] كان لكل سلطان ختم خاص به يُصنع في بداية عهده ويستخدمه لختم الفرمانات والرسائل التي يبعثها للملوك والأباطرة وغيرهم من الحكّام، ويُعرف هذا الختم باسم "الطغراء"، وقد تطوّر شكل الطغراء منذ أن ابتدعها السلطان أورخان الأول حتى عهد السلطان سليمان القانوني، عندما اتخذت شكلاً ثابتًا استخدمه باقي السلاطين الذين تلوه.[174]
دار الحريم في قصر الباب العالي.
يُلاحظ خلال مدة القرنين السابع عشر والثامن عشر، ضعف اهتمام السلاطين بمزاولة شؤون الدولة. وكان عدد من هؤلاء السلاطين، قبل أن يتولوا العرش، سجناء في دار الحريم أو في أقبية، ما انعكس سلبًا على سلوكهم خلال توليهم الحكم، ومنهم من كان شديد الإسراف في الأبهة والقتل، فيما البعض الآخر شُغل بالقنص ومعاقرة الخمر والفساد والسطو على مالية الدولة وأخذ الرشوة وبيع المناصب، وكان لنساء القصر تأثيرهنّ القويّ على السلاطين، وخصوصًا في القرن السابع عشر، حيث كانت الدولة في بعض الأوقات تحت حكمهنّ.[175]
استمر السلاطين هم الحكّام الفعليين للدولة منذ عهد مصطفى الرابع حتى عبد الحميد الثاني، عندما أصبح تسيير أمور البلاد بيد جمعية الاتحاد والترقي وأصبح السلطان مجرّد أداة في أيديهم يسيرونها كما يشاؤون، وتحوّل لقبه إلى "سلطان العثمانيين وخليفة المسلمين"،[176] بعد أن كان لقب السلطان من أطول ألقاب الحكّام في العالم سابقًا، فالسلطان سليمان القانوني مثلاً كان يُلقب "سلطان السلاطين وبرهان الخواقين وأمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين، متوّج الملوك ظلّ الله في الأرضين وسلطان البحرين وخادم الحرمين الشريفين، ملك الأناضول والروملي وقرمان الروم وولاية ذي القدريّة وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم والشام وحلب ومصر وجميع ديار العرب واليمن وممالك كثيرة أخرى، السلطان سليمان خان بن السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد خان".[177]
الصدر الأعظم "إبراهيم باشا" يستقبل أعضاء الوفد الفرنسي إلى الباب العالي بتاريخ 10 أكتوبر سنة 1724م.
كان لقب "الوزير" هو المستخدم خلال المراحل الأولى للدولة العثمانية. وأوّل من لُقب بالصدر الأعظم كان الوزير "خليل خير الدين باشا" وزير السلطان مراد الأول. والغرض من اللقب الجديد هو تمييز حامل الختم السلطاني من الوزراء الآخرين. ثم بدأ اللقب الجديد "صدر أعظم" يحل محل اللقب القديم "وزير أعظم" تدريجيًا وإن كانا لهما نفس المعنى والرتبة. وخلال التاريخ العثماني ظهرت ألقاب جديدة للصدر الأعظم مثل الصدر العالي والوكيل المطلق وصاحب الدولة والسردار الأكرم والسردار الأعظم والذات العالي. وقد برزت أهمية الصدور العظام بعد عهد السلطان سليمان القانوني، عندما أصبحوا يتولون شؤون الدولة، ومن أشهرهم آل "كوبرولي".[178] وبعد فترة التنظيمات في القرن التاسع عشر، أصبح من يتولّى منصب الصدر الأعظم يقوم بدور أكبر مما هو في منصب رئيس الوزراء في الملكيات الغربية. وبعد إقرار دستور سنة 1908 أصبح الصدر الأعظم مسؤولاً عن أعماله أمام البرلمان.[179]
الجهاز الإداري المحلي
الولايات العثمانية سنة 1900.
نظرًا لاتساع رقعة الدولة فقد قسمها العثمانيون إلى ولايات أو "إيالات"، ثم قسموا كل ولاية إلى سناجق أو مقاطعات، وكلّ سنجق إلى نواح، وكل ناحية إلى أحياء وحارات. وكان حاكم الولاية، أو الوالي ولقبه "الباشا"، تبعًا للحكومة المركزية في الآستانة، في حين كان حاكم السنجق، أو "الحكمدار" ولقبه "البك"، تابعًا للباشا، ويساعده ديوان و"صوباشي"، أي ضابط أمن؛ وكان حاكم الناحية، ولقبه "الآغا" تابعًا للبك، وكان على رئس كل حي أو حارة "مختار" تابع للآغا.[180] وكان الوالي يُعيد شراء منصبه من الصدر الأعظم كل سنة، فكان طبيعيًا أن يعمد إلى ابتزاز ما دُفع من الضرائب الباهظة التي كان يفرضها على الرعيّة ومن الموظفين الخاضعين لسلطته، كما كان طبيعيًا أن يعمد هؤلاء الموظفون بدورهم إلى ابتزاز المال بمختلف الوسائل من أفراد الشعب، وعُرف هذا النظام، أي جباية الضرائب السنوية عن مساحة من الأرض من أهلها من الفلاحين، باسم "نظام الالتزام".[143] كان والي الشام متميزًا عن غيره من الولاة بإضافة منصب إمارة الحج عليه، وكانت مهمة "أمير الحج" الإشراف على قافلة الحج الشامي التي تضم حجاجًا من أنحاء بلاد الشام والأناضول والبلقان، وتأمين ما يلزم لسلامة الحجاج، من ماء وجنود ودليل خبير بالطريق أو أكثر من دليل، وغير ذلك من الأمور. كان عدد ولايات الدولة يتفاوت بين الحين والآخر، وفق ما تكسبه أو تفقده من البلدان، أو بسبب دمج بعض الولايات ببعض.[180]
أنشأ العثمانيون خلال بعض الفترات من تاريخهم تقسيمات إدارية محلية جديدة، ففي عهد التوسع والفتوحات أصبحت الدولة تضم ألوية جديدة كان من الصعب ربطها بالعاصمة، فاضطرت إلى ضم عدد منها في ولاية واحدة، وعُين على رأس كل ولاية أمير أمراء الألوية، ولقبه "بكلر بك". كذلك أنشأ العثمانيون نظام "المتصرفية" خلال فترة أفول نجم الدولة، بضغط من الأوروبيين، وهذا النظام يهدف من الأساس لحماية الأقليات الدينية المسيحية في الدولة وإعطائها نوعًا من الاستقلال الذاتي، كما في حالة متصرفية جبل لبنان، أو لحماية بعض المناطق المقدسة عند أهل الكتاب عمومًا، مثل متصرفية القدس. وكان يُعين على رأس المتصرفية موظف عثماني يُعرف باسم "المتصرّف"، وفي حالة متصرفية جبل لبنان، فقد كان يجب أن يكون مسيحيًا عثمانيًا غير لبناني أو تركي.[181]
البرلمان والدستور العثماني
السلطان عبد العزيز خان الأول، أوّل سلطان عثماني أسس مجلس ذو طابع شبه دستوري.
ترجع بداية الحياة الدستورية في الدولة العثمانية إلى عام 1808م، وهو العام الذي تبوأ فيه السلطان محمود الثاني عرش السلطنة، ففي بداية عهده دعا الصدر الأعظم مصطفى باشا البيرقدار إلى عقد مجلس استشاري في الآستانة وعرض فيه برنامجًا إصلاحيًا أبرز ما جاء فيه إلزام حكّام الولايات بالولاء للسلطان، وتعهّد الدولة المركزية بالطاعة التامة لقراراته، وحدد الاتفاق العلاقات بين حكّام الولايات بعضهم ببعض، وبالتالي بين موظفي الدولة على أساس ضمانات متبادلة قائمة على العدالة.[182] وكان يمكن لهذا الاتفاق أن يكون أساس دستور حقيقي للدولة العثمانية، إلا أنه لم يعش طويلاً، فالسلطان لم يوقع عليه إلا مرغمًا، حين رأى نفسه مضطرًا لتصديقه وإصداره، بفعل أنه عدّه انتقاصًا من سلطته، لذا قرر إلغاءه عند سنوح أوّل فرصة، واستطاع ذلك عندما قُتل البيرقدار، وخلال السنوات التالية أخضع السلطان الولايات العثمانية لحكومة مركزية قوية.[182]
صدرت في عهد السلطان عبد المجيد الأول قوانين إصلاحية عدّة ذات طابع شبه دستوري، مثل منشور الكلخانة ومنشور التنظيمات الخيرية، وينظر بعض المؤرخين إلى هذين المنشورين على أنهما وثيقتان دستوريتان لاشتمالهما على مبادئ عامّة في الحكم والإدارة، لكنهما في واقع الأمر لا يُعدان قانونين دستوريين بفعل أنهما لم يقيدا حرية السلطان أو يحدا من صلاحياته، كما أنهما لم يُنشئا المجالس النيابية أو القضائية.[183] وفي عام 1856م أنشأ السلطان عبد المجيد مجلسًا عُرف باسم "مجلس أعيان الولايات" يتكون من عضوين عن كل ولاية، يختارات من بين أصحاب المعرفة والاحترام، هدفه إبداء الرأي بالإصلاحات الواجب إدخالها على أجهزة الدولة، على أن يُبدي كل منهم وجهة نظهره في ذلك. كانت هذه التجربة الأولى من نوعها في تاريخ الحياة النيابية في الدولة العثمانية، إلا أنها باءت بالفشل لعدم قدرة المندوبين على استيعاب المشكلة برمتها، كما داخلهم الشك في نوايا الحكومة المركزية.[182] وأنشأ السلطان عبد العزيز الأول في عام 1876م "مجلس الدولة" أو "شوري دولت"، الذي تميز بطابع شبه دستوري، وشملت اختصاصاته إعداد مشاريع القوانين للدولة وإبداء الرأي للوزارات بالمسائل الخاصة بتطبيق القوانين، كما كان بمثابة محكمة ينظر بالقضايا الإدارية ويُحاكم الموظفين المتهمين بالانحراف.[184] وقد وُصف هذا المجلس بأنه بداية انطلاق لمجلس النواب.[182]
الصفحة الأولى من الدستور العثماني.
اشتهر السلطان عبد الحميد الثاني أنه أوّل سلطان دستوري في تاريخ الدولة العثمانية، فقد أعلن دستورًا للبلاد بعد أن أقنعه زعيم تكتل "اتفاق الحمية" مدحت باشا أن الإقدام على هذا العمل يجعل الدول الأوروبية تتوقف عن تدخلها في الشؤون الداخلية للدولة لا سيما وإنه سيُصلح وضع الرعايا المسيحيين في البلقان والشام. تشكلت لجنة عامة برئاسة مدحت باشا، ولجان فرعية لدرس مشروع الدستور قبل إصداره، وانتهت بعد مداولات طويلة إلى وضع هيكل للنظام البرلماني يقوم على مجلسين: مجلس شيوخ، يُطلق عليه "مجلس الأعيان"، ومجلس نواب يُطلق عليه "مجلس المبعوثان".[185]
حفل إعلان الدستور العثماني وافتتاح البرلمان.
كان الدستور العثماني ينص على تقييد السلطة المطلقة للسلطان وإنه حامي الدين الإسلامي، يتمتع شخصه بحرمة قدسية، وهو غير مسؤول عن تصرفاته أمام أحد، وحدد الدولة وعاصمتها والحقوق العامّة للرعايا.[185] وانتقص الدستور كثيرًا من سلطات الصدر الأعظم التنفيذية وأعطاها للسلطان. جعل الدستور للسلطان الحق في تعيين أعضاء مجلس الأعيان مدى الحياة، على أن لا تقل سن العضو عن أربعين عامًا، أما مجلس المبعوثان فكان أعضاؤه يعينوا عن طريق إجراء انتخابات عامّة، وكان المجلسان يجتمعان كل سنة في دورة عاديّة، تبدأ في الأول من شهر نوفمبر وتنتهي في آخر شهر فبراير، ويحق للسلطان تقديم موعد الدورة أو اختصار مدتها. كانت الحكومة هي التي تقترح التشريعات الجديدة على البرلمان، أما اقتراحات أعضاء المجلسين فيجب أن تُعرض على السلطان، فإذا وافق عليها يُحيلها إلى البرلمان عن طريق مجلس الدولة الذي يوافق عليها، وينتهي الأمر بصدور موافقة السلطان، أما إذا رفض أحد المجلسين مشروع قانون فلا يعيد النظر فيه في دورة انعقاده نفسها.[186]
الواقع أن الحياة الدستورية، بمعناها الحديث، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، كانت تجربة فاشلة قُدّر لها الإخفاق، ومرّت بمرحلتين: بدأت المرحلة الأولى بصدور الدستور في 23 ديسمبر سنة 1876م، الموافق فيه 6 ذي الحجة سنة 1293هـ، وانتهت بحل البرلمان وإيقاف العمل بالدستور في 14 فبراير سنة 1878م، الموافق فيه 11 صفر سنة 1295هـ.[182] وبدأت المرحلة الثانية حين قرر السلطان عبد الحميد إعادة العمل بالدستور في شهر يوليو من عام 1908م، واستمرت إلى ما بعد عهده، حيث انتهت في 18 مارس سنة 1920م، الموافق فيه 26 جمادى الآخرة سنة 1338هـ، حين قرر البرلمان إيقاف جلساته إلى أجل غير مسمّى، ثم أصدر السلطان محمد السادس في 11 أبريل من نفس العام قرارًا بحله.[182]
المجتمع والثقافة
مقالة مفصلة: ثقافة الدولة العثمانية
يكاد المؤرخون يُجمعون على أنه لم تكن ثمّة حضارة عثمانية بالمعنى الدقيق للكلمة.[187] فقد كانت الحضارة العثمانية مجرّد مزيج من حضارات الأمم التي سبقتها وحضارات الأمم التي عاصرتهم. فبرز فيها أثر العرب وأثر الفرس من ناحية، وأثر البيزنطيين وأثر الأوروبيين من ناحية ثانية.[187] والواقع أن خير ما يُمكن أن يُقال في هذا الموضوع هو أن الحضارة العثمانية امتدادٌ للحضارة والخلافة العربية الإسلامية التي بلغت أوجها في العصر العبّاسي، ولكنه امتداد طبعه العثمانيون بطابعهم التركي وطعّموه بكثير من المؤثرات البيزنطية أولاً، ثم بكثير من المؤثرات الأوروبية بعد ذلك.[187]
البنية الاجتماعية
راوي في إحدى المقاهي يروي قصة لتسلية الناس. كانت هذه الظاهرة الثقافية ظاهرة مشتركة بين العديد من المدن في أرجاء الدولة العثمانية.
اتسم العثمانيون بعدم اتباعهم لسياسة هضم القوميات، الأمر الذي ساعد على نمو العصبات الحاكمة وحفظ للقوميات طابعها القومي، فقد وضع السلاطين نظامًا خاصًا عُرف بنظام "الملل"، قسموا بمقتضاه الشعوب الخاضعة لهم، ووضعوا كل ملّة أو عصبية تحت حكم زعيم لها هو المسؤول عنها أمام السلطان.[188] يقول بعض المؤرخين أن هذه السياسة هي أحد الأسباب الرئيسية التي أدّت لضعف الدولة وانفصال بعض القوميات عنها في وقت لاحق، بينما يقول آخرون أن التعددية هي ما كان وراء دوام استمرار الدولة لسنين طويلة.[188] منح السلاطين بعض الأقليات العرقية والدينية حق الإقامة في ربوع الدولة العثمانية وأعطوهم الأمان وسمحوا لهم بممارسة شعائرهم الدينية بحريّة لقاء الجزية، كما فعل السلطان محمد الفاتح مع اليهود والروم الفنارية عندما دعاهم ليسكنوا القسطنطينية. طُبعت بعض المدن الكبرى في الدولة العثمانية بطابع ثقافي واجتماعي مختلط كما القسطنطينية، كونها كانت إما مرافئ تجارية مهمة أو عواصم ولايات، أو ذات أهمية دينية، ومن هذه المدن التي ما زالت تحتفظ بطابع عثماني: سراييڤو، سكوبيه، سالونيك، دمشق، بغداد، بيروت، مكة، القدس، والجزائر، فلا يزال المرء يُشاهد في هذه المدن عدد من المعالم المعمارية العثمانية الأثرية والحديثة المبنية على هذا الطراز، كما أن العديد من سكان هذه المدن نزح إليها من مناطق أخرى خلال العهد العثماني.[189] كان للانتماء المجالي تأثير كبير على وضعية ومكانة صاحب منصب ما في الدولة العثمانية، ويتمثل ذلك في ترابية أجهزة الدولة وفيما يخص بروتوكول الإستقبال. فقاضي الروملي كان أقرب وأعلى مكانة للسلطان من قاضي الأناضول، وهذان القاضيان هما أول من يدخل على السلطان، يليهما الصدر الأعظم ثم رئيس الكتّأب ورئيس بيت المال ولا يرى غيرهم. وقد اتبع أسلوب التشريفات هذا بعض الحكّام المحليين وطبقوه كما كان يُطبق في القسطنطينية.[190]
التعليم
مدرسة العشائر السلطانية، أنشئت في سنة 1892 على يد السلطان عبد الحميد الثاني وأغلقت في سنة 1907.[191]
أهملت الدولة العثمانية، خلال مراحل تاريخها، تنشيط التعليم المدني، إلا في نطاق المدارس التابعة للهيئة الدينية الإسلامية، وقامت إلى جانب هذه المدارس، مدارس الملل بإشراف الطوائف الدينية غير الإسلامية أو البعثات التبشيرية.[192] ولم يتطور التعليم في الدولة العثمانية إلاّ في بداية عهد السلطان عبد المجيد الأول وباقي السلاطين الذين تلوه، وأبرزهم عبد الحميد الثاني، الذي أنشأ المدارس المتوسطة والعليا والمعاهد الفنية لتخريج الشباب العثماني، وإعداده لتولّي المناصب الحكومية والنهوض بالدولة. واهتم السلطان اهتمامًا بالغًا بالمدرسة التي أنشأت عام 1859م على عهد السلطان عبد المجيد الأول، فأعاد تنظيمها وفق خطة علمية، وتحديثها بمناهج دراسية جديدة، وفتح أبوابها للطلاب القائمين في العاصمة، والوافدين من مختلف الأقاليم العثمانية، حتى غدت مركزًا ثقافيًا هامًا. وأنشأ السلطان بدءًا من عام 1878م، المدرسة السلطانية للشؤون المالية، ومدرسة الحقوق، ومدرسة الفنون الجميلة، ومدرسة التجارة، ومدرسة الهندسة المدنية، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الشرطة، ومدرسة الجمارك، كما أنشأ مدرسة طب جديدة في عام 1898م.[193]
مدخل جامعة إسطنبول سنة 1900.
وتوّج السلطان عبد الحميد الثاني جهوده في الحقل التعليمي بتطوير "مدرسة إستانبول الكبرى"، التي أنشئت في عهد السلطان محمد الفاتح، وأضحت جامعة إسطنبول، وضمّت، في أول أمرها، أربع كليّات هي:[194] العلوم الدينية، والعلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، والعلوم الأدبية، وعُدّت مدرستا الحقوق والطب كليتين ملحقتين بالجامعة.[195] وتطلبت المدارس الملكية، أو المدنية، بدورها إنشاء عدد من دور المعلمين لتخريج معلمين أكفاء يتولون التدريس فيها، وكانت أول دار للمعلمين في الدولة أنشئت، في عام 1848م، على عهد السلطان عبد المجيد الأول، وأضحى عددها في عام 1908م، ثمان وثلاثين دارًا منتشرة في العاصمة وحواضر الولايات والسنجقيات،[196] وأنشأ السلطان عددًا كبيرًا من المدارس الرشدية التي كانت بمثابة مدارس متوسطة. ومن الجامعات الكبرى التي تأسست خارج الحدود التركية في أواخر العهد العثماني: الكليّة السورية الإنجيلية التي أصبحت الجامعة الأمريكية في بيروت، سنة 1866م، وجامعة القديس يوسف، سنة 1874م، وجامعة القاهرة، سنة 1908م، وغيرها. يفيد بعض الأدباء والمؤرخين الذين عاصروا أواخر العهد العثماني أن اليوم الدراسي كان يبدأ بتلاوة سورة الفاتحة، عند المسلمين، والمزمور 23، عند المسيحيين، ثم يتلوها عبارة "عاش مولانا السلطان" (بالتركية العثمانية: پاديشاه متشوق يا شاه) ثم تتلوها ترتيلة تركية.[197]
أحد الخصيان السود على باب دار الحريم في قصر السلطان.
كانت طبقة العبيد تُشكل جزءًا مهمًا لا غنى عنه في المجتمع العثماني،[198] وكانت هذه الطبقة تتألف من الصبية والبنات الأوروبيين الذين يخطفهم القراصنة أو يتم سبيهم خلال المعارك والحروب، ومن الأفارقة الذين كان يخطفهم تجّار الرقيق من قراهم جنوب الصحراء الكبرى. ألغى السلطان محمود الثاني تجارة الرقيق الأبيض في أوائل القرن التاسع عشر،[199] فتحرر جميع العبيد من يونانيين وجورجيين وأرمن وشركس، وأصبحوا مواطنين عثمانيين يتمتعون بسائر الحقوق التي يتمتع بها الأحرار. إلا أن تجارة الرقيق الأسود استمرت قائمة حتى أواخر عهد الدولة العثمانية، كذلك يفيد بعض المؤرخين أن تجارة الإماء استمرت قائمة حتى سنة 1908م.[200] كان حريم السلطان يتألف بمعظمه من الإماء، وقد تزوّج بعض السلاطين بآمة أو أكثر مما ملكوا، مثل السلطان سليمان القانوني، الذي عشق آمته الأوكرانية المدعوة "روكسلانا" عشقًا شديدًا وتزوج بها، فولدت له السلطان سليم الثاني.[201] وقد حقق بعض العبيد العثمانيين شهرة كبيرة ووصلوا إلى مراكز مهمة، ومنهم علي بك الكبير يوناني الأصل، الذي كان والي مصر، ثم تمرّد على الدولة العثمانية وسمى نفسه سلطان مصر وخاقان البحرين (الأحمر والمتوسط)،[95] وأحمد باشا الجزار بشناقي الأصل، الذي أصبح والي عكا واستطاع صد هجوم نابليون بونابرت على المدينة.[202]
أخذت الدولة العثمانية بنظام الخصاء في قصور السلاطين، على الرغم من أن الشريعة الإسلامية تحرّم مبدأ الخصاء،[203] وكان أخذ الدولة بهذا النظام غير الشرعي من الحالات النادرة التي خرجت فيها على الشريعة الإسلامية. بينما يقول مؤرخون آخرون أن العثمانيين كانوا يشترون العبيد الخصيان من خارج حدود الدولة حيث تكون عملية الاخصاء قد أجريت للعبد في صغره ليتم بيعه في سوق النخاسة إلى الملوك والأمراء حيث كان اخصاء العبيد وبيعهم للخدمة في قصور ملوك الدول المختلفة تجارة رائجة في العصور القديمة والوسطى وشطر من العصور الحديثة قبل منع الرق دوليًا.[204] كانت هناك طائفتان من الخصيان: الخصيان السود وهم المخصيون خصاءً كاملاً، والخصيان البيض وهم المخصيون خصاءً جزئيًا، وكان يُطلق على رئيسهم "قبو آغاسي"،[205] في حين كان يُطلق على رئيس الخصيان السود، الذي هو في الوقت نفسه الرئيس الأعلى في القصور السلطانية، "قيزلر آغاسي"، أي "آغا البنات" و"آغا دار السعادة"،[206] ووضعت الدولة أنظمة خاصة تُطبق على خدمتهم في القصور السلطانية. وقام تنافس شديد بين هذين النوعين كان مرده رغبة كل فريق الاستئثار بالنفوذ الأعلى في دوائر القصور السلطانية وفي شؤون الدولة، وقد ارتفع مقام رئيس الخصيان السود نتيجة اتصاله المباشر بالسلطان ووصل إلى المركز الثالث من حيث الأهمية بعد الصدر الأعظم وشيخ الإسلام،[205] وأضحى الوزراء يتملقونه والمستوزرون يتقربون منه. يتحدر اليوم جميع الأتراك من أصل أفريقي من هؤلاء الأشخاص الذين عملوا كرؤساء للخصيان في قصر السلطان.
عُني العثمانيون بالناحية العمرانية عناية واضحة، فأقاموا شبكة واسعة من الطرق والجسور في طول الدولة وعرضها مستعينين على ذلك بمهرة الصنّاع البيزنطيين البلغار.[207] ومع أن هذه الشبكة أنشئت، في المقام الأول، لأغراض عسكرية، إلا أنها سهّلت حركة المواصلات العامّة وأسدت إليها خدمة جليلة أيضًا. كذلك عُني العثمانيون بتشييد المدارس ومعاهد التعليم التي كانت تتسع لسكنى الأساتذة والطلاّب، وبإقامة المستشفيات والبيمارستانات ودور العجزة، وبإنشاء المطاعم الشعبية والتكايا للفقراء، والخانات التي كان التجّار الغرباء ينزلون فيها؛ وكذلك عنوا ببناء الحمامات الشعبية، والمكتبات العامّة، والمتاحف والقصور، والمساجد، وبخاصة في الآستانة وعواصم الولايات.[207] تأثّر النمط العمراني العثماني بالأنماط الفارسية والبيزنطية والإسلامية في بداية عهده، فجاء خليطًا بينها ومطورًا لبعضها، فعلى سبيل المثال، اقتبس العثمانيون القبّة الفارسية من الفرس الساسانيون، وأدخلوا عليها بعض التعديلات حتى أصبحت سمة بارزة في معظم آثارهم المعمارية.[208][209] ازدهرت العمارة العثمانية في عهد التوسع والفتوحات، ثم أصبح النشاط المعماري راكدًا كما الدولة في فترة الركود، وفي فترة لاحقة أدخل المعماريون أنماطًا معمارية من أوروبا الغربية ودمجوها مع النمط العثماني، ومن هذه الأنماط: الباروكيه، الروكوكو، والنمط الإمبراطوري.
المصادر
^ أ ب The Encyclopædia Britannica, Vol.7, Edited by Hugh Chisholm, (1911), 3; Constantinople, the capital of the Turkish Empire...^ بريتانيكا، إسطنبول:حينما أنشأت الجمهورية التركية في سنة 1923، انتقلت العاصمة إلى مدينة أنقرة، وسُميت القسطنطينية "إسطنبول" بشكل رسمي في سنة 1930.^ "عملة ورقية عثمانية بالأبجدية العربية". اطلع عليه بتاريخ 2010-08-26.^ بعض القواعد النحوية للغة التركية^ From the article on the Ottoman Empire in Oxford Islamic Studies Online^ الموقع الرسمي للبحرية التركية: "Atlantik'te Türk Denizciliği"^ Glasse, Cyril, New Encyclopedia of Islam, (Rowman Altamira, 2003), 229.^ Finkel, Caroline, Osman's Dream, (New York: Basic Books, 2005), 57.^ "النص الكامل لمعاهدة لوزان (1923)". Wwi.lib.byu.edu. اطلع عليه بتاريخ 2010-08-26.^ أ ب ت المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 114-115^ أ ب كوبرولي، محمد فؤاد: قيام الدولة العثمانية: صفحة 119-122^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام وإقليم الجزيرة: صفحة 329-335^ أ ب تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 115 ISBN 9953-18-084-9^ أ ب أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 25 ISBN 978-9953-18-443-2^ History of the Ottoman Empire and modern Turkey, Volume 1, By Stanford Jay Shaw, Ezel Kural Shaw, pg. 13^ أ ب ت ث أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 26 ISBN 978-9953-18-443-2^ Southeastern Europe under Ottoman rule, 1354-1804, By Peter F. Sugar, pg.14^ أ ب ت ث المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 116^ Shaw, S: History of the Ottoman empire and Modern Turkey: I pp.13-14^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 116 ISBN 9953-18-084-9^ الميرالآي إسماعيل سرهنك: تاريخ الدولة العثمانية: صفحة 14^ (بالتركية) السلطان عثمان خان الأول، الموقع الرسمي لوزارة الثقافة التركية^ Nicolle, p. 7.^ J.J.Norwich (1996) Byzantium: the Decline and Fall, Penguin, London p.320^ Crowley, Roger. 1453: The Holy War for Constantinople and the Clash of Islam and the West. New York: Hyperion, 2005. p 31 ISBN 1-4013-0850-3.^ أ ب تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 129 ISBN 9953-18-084-9^ أ ب ت قصة إسلام: السلطان الغازي مراد الأول (761- 791هـ). تاريخ التحرير: الأحد، 28 آذار/مارس 2010^ أ ب ت ث ج المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 120^ أ ب ت ث ج Tuchman, 548^ The Crusades and the military orders: expanding the frontiers of latin christianity; Zsolt Hunyadi page 226^ Michal Biran, The Chaghadaids and Islam: The Conversion of Tarmashirin Khan (1331-34) , Journal of الجمعية الشرقية الأمريكية, Vol. 122, No. 4 (Oct. - Dec., 2002), 751; "Temur, a non-Chinggisid, tried to build a double legitimacy based on his role as both guardian and restorer of the Mongol Empire.".^ Weatherford, J. McIver, Genghis Khan and the making of the modern world, (Random House Inc., 2004), 252.^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 72 ISBN 978-9953-18-443-2^ أ ب تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 147 ISBN 9953-18-084-9^ Imber, Colin, The Ottoman Empire. London: Palgrave/Macmillan, 2002. ISBN 0 333 613872^ أ ب ت ث ج ح المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 122-123^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 92 ISBN 978-9953-18-443-2^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 106 ISBN 978-9953-18-443-2^ أ ب تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 164 ISBN 9953-18-084-9^ أ ب ت قصة إسلام: محمد الفاتح وفتح القسطنطينية، تاريخ التحرير: الخميس، 17 تموز/يوليو 2008^ Stone, Norman "Turkey in the Russian Mirror" pages 86-100 from Russia War, Peace and Diplomacy edited by Mark & Ljubica Erickson, Weidenfeld & Nicolson: London, 2004 page 94^ أ ب ت أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 135-137 ISBN 978-9953-18-443-2^ Duffy, 2006, p. 196.^ حليم: صفحة 72، أوزتونا: الجزء الأول، صفحة 190^ Egger, Vernon O. (2008). A History of the Muslim World Since 1260: The Making of a Global Community. Prentice Hall. صفحة 82. ISBN 0132269694.^ الجميّل، سيار: العثمانيون وتكوين العرب الحديث: صفحة 332-333^ أ ب قصة الإسلام: السلطان بايزيد الثاني (886- 918هـ): سيطرة سليم الأول على الحكم، تاريخ التحرير: الثلاثاء، 06 نيسان/أبريل 2010^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 187 ISBN 9953-18-084-9^ دائرة المعارف التركية، مقالة "سليم"، بقلم "سينساسي ألتيطاغ": الجزء الأول، صفحة 323-334^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 147-151 ISBN 978-9953-18-443-2^ Savory, R. M. (1960). <91:TPOOTS>2.0.CO;2-B "The Principal Offices of the Ṣafawid State during the Reign of Ismā'īl I (907-30/1501-24)". Bulletin of the School of Oriental and African Studies, University of London. 23 (1): 91–105. doi:10.1017/S0041977X00149006.^ أ ب ت المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 130-131^ Hess, Andrew C. (1973). <55:TOCOE(>2.0.CO;2-# "The Ottoman Conquest of Egypt (1517) and the Beginning of the Sixteenth-Century World War". International Journal of Middle East Studies. 4 (1): 55–76.^ السيرة الذاتية للسلطان سليم القاطع وُصل لهذا المسار في 2007-09-16^ أ ب المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 141-142^ "Encyclopaedia Britannica". Britannica.com. اطلع عليه بتاريخ 2010-08-26.^ "Encyclopaedia Britannica". اطلع عليه بتاريخ 2010-08-26.^ أ ب قصة الإسلام: الخليفة سليمان الأول (القانوني) (926- 974هـ)، تاريخ التحرير: الثلاثاء، 06 نيسان/أبريل 2010^ Imber, 50.^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 212 ISBN 978-9953-18-443-2^ The Cambridge history of Islam by Peter Malcolm Holt,Ann K. S. Lambton, Bernard Lewis p.330 [1]^ تاريخ الترك: معركة بروزة^ Corsari nel Mediterraneo: Hayreddin Barbarossa^ L. Kinross, The Ottoman Centuries: The Rise and Fall of the Turkish Empire, 206^ أ ب ت ث ج المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 146^ أ ب ت ث قصة الإسلام: الخليفة سليم الثاني (974- 982هـ)، تاريخ التحرير: الثلاثاء، 06 نيسان/أبريل 2010^ أ ب ت ث ج ح خ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 253-258 ISBN 9953-18-084-9^ Lewis Bernard: The emergence of Modern Turkey: p24^ Norman Itzkowitz, Ottoman Empire and Islamic Tradition p.64–65.^ Hammer: II p187. Venrad, Marc: Le Monde et son Histoire: V p415^ أ ب Kinross, 272.^ Norman Itzkowitz, Ottoman Empire and Islamic Tradition p.67.^ Partly based on an entry on Sebastian in The Popular Encyclopedia, or, Conversations Lexicon (London: Blackie & Son, 1864)^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 259 ISBN 9953-18-084-9^ بروكلمان: صفحة 509، أوزتونا: الجزء الأول، صفحة 400^ أ ب ت أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 243 ISBN 978-9953-18-443-2^ قصة الإسلام: العثمانيون في النصف الأول من القرن الحادي عشر الهجري، تاريخ التحرير: الثلاثاء، 06 نيسان/أبريل 2010^ أ ب ت تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 267-270 ISBN 9953-18-084-9^ Inalcik, An Economic And Social History Of The Ottoman Empire, Vol 1 1300–1600 p.24.^ تاريخ الدولة العثمانية: الجزء الأول، الفصل السابع: الدولة العثمانية في القرن السابع عشر، اتجاه إلى الاستقرار أم انحدار؟ بقلم روبير مانتران: صفحة 343^ أ ب تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 271-285^ Pouqueville, François Charles H.L.: Travels through the Morea, Albania, and several other parts of the Ottoman Empire, page 113-114, published 1806^ E. van Donzel, Islamic Desk Reference: Compiled from the Encyclopaedia of Islam, Brill Academic Publishers, p 219^ Akın Alıcı, Hayata Yön Veren Sözler, 2004^ Norman Itzkowitz, Ottoman Empire and Islamic Tradition p.77–81.^ Norman Itzkowitz, Ottoman Empire and Islamic Tradition p.80–81.^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 304 ISBN 9953-18-084-9^ أ ب ت ث ج ح خ د قصة الإسلام: العثمانيون في القرن الثاني عشر الهجري، تاريخ التحرير: الثلاثاء، 06 نيسان/أبريل 2010^ Norman Itzkowitz, Ottoman Empire and Islamic Tradition p.83–84.^ Stone, Norman "Turkey in the Russian Mirror" pages 86-100 from Russia War, Peace and Diplomacy edited by Mark & Ljubica Erickson, Weidenfeld & Nicolson: London, 2004 page 97^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 258 ISBN 978-9953-18-443-2^ Davison: Reform in the Ottoman Empire: p21^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 320-326 ISBN 9953-18-084-9^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 383 ISBN 9953-18-084-9^ أ ب المصور في التاريخ، الجزء السابع. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، لبنان والأحداث المجاورة، صفحة 104-122^ Sicker, Martin (2001), The Islamic world in decline: from the Treaty of Karlowitz to the disintegration of the Ottoman Empire, pp. 83-85. Greenwood Publishing Group, ISBN 0-275-96891-X^ Sayyid-Marsot, Afaf Lutfi (2007), A history of Egypt: from the Arab conquest to the present, pp. 57-59. Cambridge University Press, ISBN 0-521-70076-0^ أ ب Amira K. Bennison, "Muslim Universalism and Western Globalization," in Globalization in World History, ed. A.G. Hopkins, p. 89.^ أ ب ت ث ج ح خ قصة الإسلام: العثمانيون في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، تاريخ التحرير: الثلاثاء، 06 نيسان/أبريل 2010^ Goodwin, Jason: "Lords of the Horizons", Chapter 24: The Auspicious Event, 1998^ Davis, Claire (1970). The Palace of Topkapi in Istanbul. New York: Charles Scribner's Sons. صفحات 213–217. ASIN B000NP64Z2.^ Davis, Claire (1970). The Palace of Topkapi in Istanbul. New York: Charles Scribner's Sons. صفحات 214–217. ASIN B000NP64Z2.^ أ ب تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 404-409 ISBN 9953-18-084-9^ "Liberation, Independence and Union". Njegos.org. اطلع عليه بتاريخ 2010-08-26.^ Berend, Tibor Iván, History derailed: Central and Eastern Europe in the long nineteenth century, (University of California Press Ltd, 2003), 127.^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 410 ISBN 9953-18-084-9^ أ ب المصور في التاريخ، الجزء السابع. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، محمد علي والي مصر، صفحة 155^ أ ب ت ث أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 327-334 ISBN 978-9953-18-443-2^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 430-447 ISBN 9953-18-084-9^ Alistair Horne, (2006). A Savage War of Peace: Algeria 1954–1962 (New York Review Books Classics). 1755 Broadway, New York, NY 10019: NYRB Classics. صفحات 29–30. ISBN 978-1-59017-218-6.^ أ ب ت ث ج ح خ د المصور في التاريخ، الجزء السابع. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، الحملة المصرية، صفحة 153-170^ Laffin, John, Brassey's Dictionary of Battles, (Barnes & Noble Inc., 1995),.227^ Grant, R.G., Battle: A Visual Journey through 5,000 years of combat, (DK Publishing Inc., 2005), 263.^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 363 ISBN 978-9953-18-443-2^ أ ب ت ث ج ح قصة الإسلام: الدولة العثمانية في مرضها الأخير، تاريخ التحرير: الثلاثاء، 06 نيسان/أبريل 2010^ الشناوي: الجزء الأول، صفحة 222-223^ BAŞ,Ersan:Çeşme, Navarin, Sinop Baskınları ve Sonuçları Türk Deniz Harp Tarihinde İz Bırakan Gemiler, Olaylar ve Şahıslar Sayı: 8, Piri Reis Araştırma Merkezi Yayını, Deniz Basımevi, 2007, İstanbul, ISBN 975-409-452-7^ أ ب أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 378 ISBN 978-9953-18-443-2^ المصور في التاريخ، الجزء السابع. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، عهد القائممقاميتين، صفحة 187-192^ Joseph, J (2000). The modern Assyrians of the Middle East: encounters with Western Christian missions, archaeologists, and colonial powers. BRILL. صفحة 82. ISBN 978-9004116412.^ عبد الرؤوف سنّو: العلاقات الروسية العثمانية: مجلة تاريخ العرب والعالم، العددان 77-78، آذار-نيسان 1985م، صفحة: 26^ نوّار ونعنعي: التاريخ المعاصر، أوروبا من الثورة الفرنسية حتى الحرب العالمية الثانية، صفحة 232^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 396-397^ أ ب ت ث ج ح المصور في التاريخ، الجزء السابع. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، أحداث حركة 1860، صفحة 198-200^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 529 ISBN 9953-18-084-9^ أ ب Stone, Norman "Turkey in the Russian Mirror" pages 86-100 from Russia War, Peace and Diplomacy edited by Mark & Ljubica Erickson, Weidenfeld & Nicolson: London, 2004 page 95.^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 576 ISBN 9953-18-084-9^ أ ب أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 423-424^ أ ب ت ث ج ح قصة الإسلام: عهد الخليفة عبد الحميد الثاني، تاريخ التحرير: الثلاثاء، 06 نيسان/أبريل 2010[هل المصدر موثوق؟]^ تاريخ الدولة العثمانية، بإشراف روبير مانتران: الجزء الثاني، الفصل الثاني عشر، فترة التنظيمات، بقلم پول دومون: صفحة 151^ Albertini, Luigi (1952). The Origins of the War of 1914, Volume I. Oxford University Press. صفحة 20.^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 446-450^ مصطفى كامل: صفحة 301-320، حرب: السلطان عبد الحميد: صفحة 106، فرانسوا جورجو: النزاع الأخير، مقال في كتاب تاريخ الدولة العثمانية، بإشراف روبير مانتران: الجزء الثاني، صفحة 217^ de Courtois, S (2004). The forgotten genocide: eastern Christians, the last Arameans. Gorgias Press LLC. صفحة 99. ISBN 978-1593330774.^ Hovannisian. "The Armenian Question", p. 217.^ Akcam, Taner. A Shameful Act: The Armenian Genocide and the Question of Turkish Responsibility. New York: Metropolitan Books, 2006, p. 42. ISBN 0-8050-7932-7.^ Andrieu, C؛ Sémelin, J؛ Gensburger, S (2010). Resisting Genocide: The Multiple Forms of Rescue. Columbia University Press. صفحات 212–213. ISBN 9780231701723.^ حسّان حلاّق: موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية: صفحة 78-105^ أ ب ت تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 715-718 ISBN 9953-18-084-9^ Greek and Turkish refugees and deportees 1912–1924. Universiteit Leiden.^ المصور في التاريخ، الجزء الثامن. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، الحركات التحررية العربية قُبيل الحرب. صفحة 36^ أعظم أحداث العالم، إعداد موريس شربل، دار المناهل، صفحة 163^ أ ب ت ث ج ح خ د أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 543-549 ISBN 978-9953-18-443-2^ 'Castles' p.22-23^ 'Castles' p. 48–49^ The Encyclopaedia Britannica, Vol.7, Edited by Hugh Chisholm, (1911), 3; "Constantinople, the capital of the Turkish Empire..".^ Encyclopædia Britannica. "Encyclopædia Britannica: Armenian massacres (Turkish-Armenian history)". Britannica.com. اطلع عليه بتاريخ 2010-08-26.^ Balakian, Peter. The Burning Tigris: The Armenian Genocide and America's Response. New York: Perennial, 2003. ISBN 0-06-019840-0^ Walker, Christopher J. "World War I and the Armenian Genocide" in The Armenian People From Ancient to Modern Times, Volume II, pp. 239–273.^ Akcam. A Shameful Act, pp. 109–204.^ المصور في التاريخ، الجزء الثامن. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، الحرب في سنة 1916، صفحة 20-21^ أ ب ت ث أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 550-552 ISBN 978-9953-18-443-2^ Mustafa Kemal Pasha's speech on his arrival in Ankara in November 1919^ League of Nations Treaty Series, vol. 28, pp. 12-113.^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 718 ISBN 9953-18-084-9^ إسلام أونلاين: أحمد شوقي.. أمير الشعراء، تاريخ التحرير: الأحد. يونيو. 17، 2007^ المصور في التاريخ، الجزء العاشر. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، تفكك الإمبراطورية العثمانية وقيام الجمهورية التركية، صفحة 191^ Bilefsky, Dan. "Weary of Modern Fictions, Turks Glory in Splendor of Ottoman Past," New York Times. December 5, 2009.^ "Political Obituaries: Ertugrul Osman". The Daily Telegraph. 2009-09-27. اطلع عليه بتاريخ 2009-10-26.^ "'Last Ottoman' dies in Istanbul". BBC. 2009-09-24. اطلع عليه بتاريخ 2009-09-24.^ "Atatürk hayatımızı kurtardı (in Turkish)". Vatan. 2009-10-03. اطلع عليه بتاريخ 2009-10-26.^ Halil İnalcık, Studies in the economic history of the Middle East : from the rise of Islam to the present day / edited by M. A. Cook. London University Press, Oxford U.P. 1970, p. 209 ISBN 0-19-713561-7^ ابن اياس. بدائع الزهور في وقائع الدهور. القاهرة 1984 (ج4/ص384)^ Halil İnalcık, Studies in the economic history of the Middle East : from the rise of Islam to the present day / edited by M. A. Cook. London University Press, Oxford U.P. 1970, p. 217 ISBN 0-19-713561-7^ أ ب Antony Black (2001), "The state of the House of Osman (devlet-ı al-ı Osman)" in The History of Islamic Political Thought: From the Prophet to the Present, p. 199^ Halil İnalcık, Donald Quataert (1971), An Economic and Social History of the Ottoman Empire, 1300–1914, p. 120^ أ ب ت المصور في التاريخ، الجزء الثامن. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 44-45^ أ ب ت ث ج ح مجلة حراء: مراكز النشاط الاقتصادي في الدولة العثمانية، بقلم د. ناظم إينتبه، ترجمة عن نص أورخان محمد علي^ أ ب ت المصور في التاريخ، الجزء السابع، الصناعة تبلغ مستوى عالميّا، صفحة: 68-69^ Norman Itzkowitz, Ottoman Empire and Islamic Tradition p.38.^ Antony Black, ibid, page 197^ نوّار، عبد العزيز سليمان: الشعوب الإسلامية: صفحة 153^ Donald Quataert, 2^ "طغراء سليمان القانوني". المتحف البريطاني. 2010-05-14. 1949,0409,0.86. اطلع عليه بتاريخ 2010-06-05.^ İlhan Akşit. The Mystery of the Ottoman Harem. Akşit Kültür Turizm Yayınları. ISBN 975-7039-26-8^ تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 709 ISBN 9953-18-084-9^ أوزگان, كركود. "تاريخ العثمانيين". TheOttomans.org. تمت أرشفته من الأصل على 2008-01-11. اطلع عليه بتاريخ 2009-02-06.^ إسلام أونلاين: محمد الرابع.. آخر الفاتحين: محمد الرابع يباشر سلطاته (فترة آل كوبريللي) تاريخ التحرير: السبت. يناير. 1، 2000^ ألماظ أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية – مؤسسة فيصل للتمويل – إستانبول – 1988م.^ أ ب ت ث ج المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 157^ عهد المتصرفين في لبنان، لحد خاطر، صفحة: 11-12^ أ ب ت ث ج ح أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 493-519 ISBN 978-9953-18-443-2^ نوري، عثمان: عبد المجيد ودور سلطنتي، حيات خصوصية وسياسة سي، الآستانة، 1909م: الجزء الأول، صفحة 35^ عبد العزيز محمد الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة – 1984م. الجزء الرابع، صفحة 1722^ أ ب تاريخ الدولة العليّة العثمانية، تأليف: الأستاذ محمد فريد بك المحامي، تحقيق: الدكتور إحسان حقي، دار النفائس، الطبعة العاشرة: 1427 هـ - 2006 م، صفحة: 590-591 ISBN 9953-18-084-9^ عبد العزيز محمد الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة – 1984م، الجزء الرابع، صفحة: 1764-1766^ أ ب ت المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 150^ أ ب أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 248-249 ISBN 978-9953-18-443-2^ {{مرجع كتاب|الأخير=Hourani|الأول=Albert Habib|العنوان=A History of the Arab Peoples|المكان=[[كامبريدج (ماساتشوستس).*]|الناشر=Belknap Press of Harvard University Press|السنة=1991|ref=CITEREFHourani1991}}^ تاريخ جودت: أصول التشريفات في عهد الشهابيين، صفحة: 349^ George Walter Gawrych (2006). The Crescent and the Eagle: Ottoman Rule, Islam and the Albanians, 1874-1913. I.B.Tauris. صفحة p.95. ISBN 1845112873.^ Findley. Vaughn Carter: Ottoman Civil Officialdom: pp.132, 133^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 521 ISBN 978-9953-18-443-2^ Joel S. Migdal (2004). Boundaries and Belonging: States and Societies in the Struggle to Shape Identities and Local Practices. Cambridge University Press. صفحة p.46. ISBN 0521835666.^ محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة، دار القلم، دمشق، ط1، 1989م، صفحة 104^ عبد العزيز محمد الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها – مكتبة الأنجلو المصرية – القاهرة – 1984م، الجزء الثالث، صفحة: 1161^ إسمع يا رضا، د. أنيس فريحة، 1957، "وتغيرت الدنيا": صفحة 198-200^ "Supply of Slaves". Coursesa.matrix.msu.edu. اطلع عليه بتاريخ 2010-08-26.^ Ottomans against Italians and Portuguese about (white slavery).^ "Islam and slavery: Sexual slavery". Bbc.co.uk. اطلع عليه بتاريخ 2010-08-26.^ Thomas M. Prymak, "Roxolana: Wife of Suleiman the Magnificent," Nashe zhyttia/Our Life, LII, 10 (New York, 1995), 15–20. A nicely illustrated popular-style article in English with a bibliography^ المصور في التاريخ، الجزء السابع. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، أحمد باشا الجزار، صفحة 114^ موقع الإسلام سؤال وجواب: حكم "الخِصاء"^ الرق ماضيه وحاضره - تأليف عبد السلام الترمانيني - اصدارات عالم المعرفة^ أ ب محمد جميل بيهم: فلسفة التاريخ العثماني، بيروت، 1954م، الجزء الثاني، صفحة 58^ مذكرات الأميرة عائشة عثمان أوغلي: تعريب صالح سعداوي صالح، دار البشير، عمّان، ط1، 1991م، صفحة 165-166^ أ ب ت ث ج المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 151-152^ Von Gabriel Piterberg, An Ottoman Tragedy: History and Historiography at Play, pp.98–103, Books.Google.de^ Von Helen Gardner, Horst De la Croix, Richard G. Tansey, Gardner's Art Through the Ages, p. 263, ISBN 0-15-503758-7,Books.google.de^ "Eli Shah. The Ottoman Artistic Legacy". Mfa.gov.il. اطلع عليه بتاريخ 2010-08-26.^ Gibb, E.J.W. Ottoman Literature: The Poets and Poetry of Turkey. ISBN 0-89875-906-4^ Tanpınar, Ahmet Hamdi. 19'uncu Asır Türk Edebiyatı Tarihi. İstanbul: Çağlayan Kitabevi, 1988^ Ersin Alok, "Karagöz-Hacivat: The Turkish Shadow Play", Skylife - Şubat (Turkish Airlines inflight magazine), February 1996, p. 66–69.^ Bert Fragner, "From the Caucasus to the Roof of the World: a culinary adventure", in Sami Zubaida and Richard Tapper, A Taste of Thyme: Culinary Cultures of the Middle East, London and New York, p. 52^ Behar, Cem, ed. 1996. Osmanlı Đmparatorluğu'nun ve Türkiye'nin nüfusu, 1500-1927. Ankara: T.C. Basbakanlık Devlet Đstatistik Enstitüsü^ M. Kabadayı, Inventory for the Ottoman Empire / Turkish Republic 1500–2000^ أ ب ت ث Persian historiography and geography, Bertold Spuler,M. Ismail Marcinkowski, page 69, 2003^ دنيا الرأي: كلمات تركية الأصل دخيلة في العربية بقلم: بروفيسور حسيب شحادة، تاريخ النشر: 2010-10-19^ أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 80-83 ISBN 978-9953-18-443-2^ "The Divinely-Protected, Well-Flourishing Domain: The Establishment of the Ottoman System in the Balkan Peninsula", Sean Krummerich, Loyola University New Orleans, The Student Historical Journal, volume 30 (1998–99^ Turkish Toleration, The American Forum for Global Education^ المصور في التاريخ، الجزء الثامن. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 31^ Daniela Kalkandjieva, “The Restoration of the Patriarchal Dignity of the Bulgarian Orthodox Church,” Bulgarian Historical Review, Sofia, vol. 4, (1994): 101-105.^ الدرر السنيّة: اليهود والدولة العثمانية^ إيلاف: اليهود والدولة العثمانية، بقلم محمد سعيد العشماوي.^ "Mecelle" in Oxford Islamic Studies Online^ أ ب ت ث ج ح أ.د. محمد سهيل طقّوش: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة: صفحة 34-38 ISBN 978-9953-18-443-2^ أ ب ت ث ج ح المصور في التاريخ، الجزء السادس. تأليف: شفيق جحا، منير البعلبكي، بهيج عثمان، دار العلم للملايين، صفحة 158-159^ Norman Itzkowitz, Ottoman Empire and Islamic Tradition p.96.^ Shaw. II p29> Lewis, Bernard: The Emergence of Modern Turkey: pp 79, 80^ مصطفى طوران: أسرار الانقلاب العثماني، ترجمة كمال خوجة، مطابع المختار الإسلامي، القاهرة، صفحة 190^ Ellesmerereportstandard.co.uk, The standard - Petition created for submarine name