عن عثمان بن عفان رضي الله عنه:عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أخرجه الجماعة
كتبه : مرهف عبد الجبار سقا
فإنه مما لا شك فيه أن تعلم القرآن وقراءته فرض عين على كل مسلم ,وأنه محاسب على ذلك أمام الله تعالى ، وينبغي على متعلم القرآن أن يتعلم ما يلزمه من الأدب في تعامله مع كتاب الله تعالى , وأن يعلم الخير الكثير الذي يتحصل من هذه العبادة الشريفة ،وهذه وريقات فيها بيان ذلك مع آداب المعلم والمتعلم للقرآن الكريم, وأيضا" آيات من كتاب الله تعالى وأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين فيما تدل عليه في ظاهرها ودلالاتها على الفضل العظيم الذي يعطيه الله تعالى لمعلم ومتعلم وقارىء القرآن الكريم[1] .
ـ الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله ، لا يشبهه شيء من كلام الخلق ، ولا يقدر على مثله الخلق بأسرهم .
ـ لا يجوز الكلام فيه بغير علم ، يقول الإمام النووي رحمه الله : ( ويحرم تفسيره بغير علم والكلام في معانيه لمن ليس من أهلها ، والأحاديث في ذلك كثيرة والإجماع منعقد عليه وأما تفسيره للعلماء فجائز حسن والإجماع منعقد عليه ) . ومن الأحاديث ما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) ، وأخرج أبو داود والترمذي عن جندب بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ).
ـ لا يجوز الجدال في القرآن لهوى في النفس ، أو لينصر فكراً معيناً أو يبرر عملاً ما ، ويحاول اللف على النص القرآني مع أن ظاهره يخالف ما يريد ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المراء في القرآن كفر ) أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم. قال الخطابي : المراد بالمراء : الشك ، وقيل : الجدل المشكك فيه وقيل : هو الجدل الذي يفعله أهل الأهواء في آيات .
أقول : وكل هذه المعاني مرادة في الحديث إن شاء الله ، وقد ظهر في زماننا أناس يعرضون القرآن على العامة ويجادلونهم فيه بغير علم ، وينفرونهم من كتب التفسير المعتمدة كابن كثير والقرطبي وغيرهما بحجة استعمال العقل وتعظيمه ، وسموا صنيعهم هذا تأويلاً، واشتهروا بأنهم أهل التأويل فضلوا كثيراً وأضلوا ، وإذا قيل لهم اتقوا الله أخذتهم العزة بالإثم فحسبهم جهنم وبئس المصير ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
إن حال المسلم الصادق الواقف عند حدود الله أن يرد العلم لأهله، وأن يجعل القرآن حاكماً على عقله لا أن يجعل القرآن تابعاً لهواه ومحكوماً بعقله، فقد أخرج الإمام أحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف ، والمراء في القرآن كفر ـ ثلاثاً ـ ، ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه ) ،وقال الله تعالى : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا . [ النساء (83) ]
الأمر الإلهي بقراءة القرآن الكريم:
قال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(91) وأن أتلوا القرآن الآية[ النمل : 91،92 ]
قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ الآية[ العنكبوت: 45 ] .
فقد أمر الله تعالى بتلاوة القرآن الكريم, و التلاوة في أصل معناها اللغوي هي المتابعة , وبه فسر قوله تعالى: و الشمس و ضحاها و القمر إذا تلاها أي تبعها .
و التلاوة على قسمين : الأولى باللسان، و الثانية بالعمل والقول , أي العمل بمقتضى كتاب الله تعالى ائتمارا" بأمره و انتهاء عن نهيه و التأدب بأدبه و التخلق بأخلاقه و غير ذلك .
ما أخرجه مسلم وأحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله يقول:{اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا" لأصحابه, اقرأوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما, اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة ولا يستطيعها البطلة} قال معاوية: بلغني أن البطلة : السحرة .
وقوله :( غيايتان ) هي بمعنى غمامتان ،و الغياية: هي كل ما أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها ،قال النووي رحمه الله : ( قال العلماء : المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين .).
والفرقان :الجماعتان أو القطيعان من أي شيء .و ذكرهما هنا من الطير التي صفت أجنحتها وبسطتها وتقف فوق رأس قارئ البقرة وآل عمران .أي فيستظل قارئهما يوم القيامة بثواب البقرة وآل عمران في المحشر وتدافعان عنه وتحميانه عند السؤال .
وأخرج ابن حيان في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال :
قلت : يا رسول الله أوصني .
فقال : ( عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله).
قلت : يا رسول الله زدني .
قال : (عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض ,وذخر لك في السماء).
وأخرج الدرامي بإسناده عن أبي مسعود رضي الله عنه أنه قال : (أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع)
قالوا : هذه المصاحف ترفع!، فكيف بما في صدور الرجال ؟
فقال : (يُسرَي عليه ليلا" فيصبحون منه فقراء, وينسون قول :لا إله إلا الله, و يقعون في قول الجاهلية و أشعارهم, وذلك حين يقع عليهم القول ).
و لهذا الحديث شاهد أخرجه ابن ماجه و الحاكم و البيهقي عن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه, قال :
قال رسول الله : يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثواب , حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ,ولَيسرى على كتاب الله عز و جل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية و تبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير و العجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : لا إله إلا الله فنحن نقولها }
و المعنى و الله أعلم : أن تعاليم الإسلام تختفي و تضيع بين الناس لإعراضهم عنها و انشغالهم بالدنيا و الماديات ووقوعهم في الفتن، ثم يعاقبهم الله تعالى على ذلك ؛ فيرفع كتابه منهم مع بقاء حفظه له في صدور طائفة فيهم منصورة بإذن الله تعالى للحديث الصحيح: ( لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )، ولعل هذا من علامات الساعة الكبرى والله اعلم .
ولقد اجتهد المسلمون _ولا يزالون_في خدمة القرآن الكريم ,اجتهادا" لم يحظ َ به كتاب أخر ,حفظا"وكتابة وجمعا", فأنشأوا المعاهد ودُور العلم الخاصة بتعليمه وتحفيظه جيلا" بعد جيل ,كل ذلك تصديقا" وتحقيقا" لقوله تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون [الحجر:9]
وكان المسلمون الأوائل ـ لسلامة فطرتهم و سليقتهم العربية الصحيحة وحرصهم على كتاب ربهم ـ يتلون كتاب ربهم تلاوة مجوَّدة ,كما تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ,إلا أنه بعد دخول عدد كبير من العجم في دين الإسلام واختلاط العرب بهم , بدأ اللحن يتسرب إلى الألسنة ,وبدأت العُجْمَة تفشوا في كلام الناس ,وتعدى ذلك إلى اللحن في كتاب الله ، فسارع العلماء لوضع قواعد تضبط ألسنة الناس بالقراءة الصحيحة والسليمة للقرآن , واعتبروا مراعاة تلك القواعد عند قراءة القرآن فرض عين على كل قارىء لكتاب الله الكريم .
فظهر بذلك علم التجويد ,الذي هو من أشرف العلوم وأجلها, إذ بمعرفته تُعرف القراءة الصحيحة لكتاب الله ,والجهل بها يعني الجهل بكتاب الله .
وقد بحث علماء التجويد في هذا العلم( أحكام التلاوة)، من إظهار وإقلاب وإدغام وإخفاء, وصفات الحروف ومخارجها ,ونحو ذلك من الأبحاث التي تكفلت كتب علم التجويد ببيانها ، إلا أنه ينبغي أن نعلم أن معرفة صفات الحروف وكيفية إخراج الحرف من مخرجه الأصلي مع شكله وضبطه أول ما يجب على المسلم أن يتعلمه وهو المقصود الأول من علم التجويد .
وقد قسَّم علماء التجويد التلاوة القرآنية إلى ثلاثة أقسام :
الأول الترتيل :وهو القراءة بتؤدة واطمئنان ,مع إعطاء الحروف حقها ومستحقها ,من المخارج والصفات .
الثاني الحَدْر: وهو سرعة القراءة .
الثالث التدوير :وهو التوسط بين الترتيل والحدر .
ينبغي أن تُلحظ الأحكام التجويدية في هذه الأقسام الثلاثة ,ولا ينبغي تفويت شيء منها في أي قسم .
الآية الأولى من هذه الآيات تسمى آية القراء كما قال قتادة :( كان مطرِّفُ رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء) .
فقد أثنى الله تعالى في هذه الآية على القراء الذين يتلون الكتاب و يعلمون به, فيصلون و ينفقون ويقومون بأوامره سبحانه,ثم بشرهم بما وعدهم من الثواب العظيم والنعيم المقيم, فقال سبحانه: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ . أي أجورهم مقابل أعمالهم, لأن الأجر مقابل الأعمال, ولكن ليس هذا ثوابهم فقط بل هناك الفضل من الله تعالى بالزيادة يزيدهم بها من عنده سبحانه وهذه الزيادة لا يعلم قدرها وعددها إلا الله تعالى,ولكن أعظم الزيادات التي يتفضل الله تعالى بها عليهم أن يكشف لهم الحجاب حتى ينظروا إليه سبحانه, كما روى مسلم وغيره عن صهيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(إذا دخل أهل الجنة الجنة, يقول الله تعالى :أتريدون شيئا" أزيدكم ؟.
قال: فيكشف الحجاب, فما أعطوا شيئا" أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى ثم قرأ قول الله تعالى :
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26) [ سونس:26] .
وقد أثنى الله تعالى في هذه الآيات السابقة على هذه الأمة المصطفاة من بين الأمم, المخصوصة بوراثة كتاب الله العظيم, وحق لأفضل أمة أن ترث أفضل كتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم صنفهم إلى ثلاثة أصناف بالنسبة لأخذهم من كتاب الله وتمسكهم به .
فالأول : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو التارك لأمر محتم ,أو فاعل لمنهي عنه محرم , وقد ورد عن السلف الصالح أنهم الذين خلطوا عملا" صالحا" وأخر سيئا" .
والثاني : قال تعالى : وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو المؤدي للواجبات التي بينه وبين الخالق, وبينه وبين المخلوقين التارك كذلك للمحرمات, ويقال أنهم أصحاب اليمين, ويقال:أنهم الأبرار عند مقابلتهم بالمقربين.
والثالث :هم الذين قال تعالى عنهم: وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وهؤلاء الذين قاموا بجميع الأوامر وتركوا جميع المنهيات, وسبقوا بفعل الخيرات وهي النوافل فوق الفرائض, ولنعلم أن لفظ الخيرات اسم جنس يعم كل خير زائد على الفرض ولا يقتصر على موضوع العبادات فقط .
أخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يقول الرب عز وجل : ( من شغله القرآن وذكري عن مسألتي؛ أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ) .
وأخرج مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لحامل القرآن دعوة مستجابة).
وأخرج الترمذي عن أبن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( من قرأ حرفا"من كتاب الله فله به حسنة ,والحسنة يعشر أمثالها ,لا أقول :ألم حرف , ولكن ألف حرف ,ولام حرف ,وميم حرف ) . قال الترمذي :حسن صحيح غريب .
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علبه وسلم :
( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ,ومثل الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو , ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر, ومثل الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر ) .
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ,والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) ,وفي رواية :( والذي يقرؤه وهو يشتد عليه له أجران ) .
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (القرآن شافع مشفع ,وماحل مصدَّق,من جعله أمامه قاده إلى الجنة ,ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار )
وماحل :أي ساع ,وقيل : خصم مجادل .
والمعنى : أن القرآن محاجج عن صاحبه يوم القيامة عند الله ، وقوله: ( مصدًّق ) أي لا يرد,فإما أن يحاجج عنك ,أو يحاجج عليك .
وأخرج أبو داود والحاكم ,وقال :صحيح الإسناد عن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه تاجا" يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا ,فما ظنكم بالذي عمل بهذا ؟ ).
وأخرج الترمذي وقال :حسن غريب عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما ,وإن البر لَيُذَرُّ على رأس العبد ما دام في صلاته ,وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه ,يعني القرآن )
وقوله : لَيُذَرُّ :أي أن الخيرات والحسنات الكثيرة لتنصب وتغدق بكثرة ,فينالها المصلي ما دام في صلاته .
وأخرج الترمذي _وحسنه_وابن خزيمة في صحيحه , والحاكم _وقال صحيح الإسناد_عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يجيء صاحب القرآن يوم القيامة ,فيقول القرآن :يا ربّ حَلَّه ,فيلبس تاج الكرامة ,ثم يقول :يا رب زده ,فيلبس حلة الكرامة ,ثم يا رب ارض عنه ,فيقال له :اقرأ وارق ,ويزداد بكل آية حسنة ) .
وأخرج الترمذي _وصححه_وأبو داود وابن ماجة وابن حيان في صحيحه ,والحاكم_وقال صحيح الإسناد_عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ,ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ,فإن منزلك عند أخر آية تقرؤها ) .
قال الخطابي :جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة ,فيقال للقارىء : ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن ,فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة ,ومن قرأ جزأ" منه كان رقيه في الدَّرج على قدر ذلك ,فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة .
وأخرج الطبراني في المعجم الوسيط والصغير بإسناد لا بأس به عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاثة لا يهولهم الفزع الأكبر ,ولا ينالهم الحساب ,وهم على كثيب من مسك حتى يفرغ من حساب الخلائق :رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله ,وأمَّ به قوما" وهم به راضون ,وداع يدعوا إلى الصلوات ابتغاء وجه الله ,وعبد أحسن فيما بينه وبين ربه ,وفيما بينه وبين مواليه ) .
وأخرج الحاكم وقال :صحيح الإسناد ,عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من قرأ القرآن استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحي إليه ,لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ,ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله ) .
وقوله ( لا يجد مع من وجد ): أي لا يغضب مع من غضب ( ولا يجهل مع من جهل ) أي لا يفسق مع من فسق فعليه التخلق بأخلاق الصالحين الكمل ,الوارثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم ,أن هذا القرآن حبل الله ,والنور المبين ,والشفاء النافع ,عصمة لمن تمسك به ,ونجاة لمن اتبعه ,ولا يزيغ فَيُستَعتب ,ولا يَعوج فَيُقَوَّم ,ولا تنقضي عجائبه ,ولا يَخلَق من كثرة الردّ, اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات ,أمَا إني لا أقول الم حرف ولكن :ألف حرف ,ولام حرف ,وميم حرف ) .
وأخرج النسائي وابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح ,عن أنس رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن لله أهلين من الناس ) ,قالوا :من هم يا رسول الله ؟ قال :( أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ) .
فيكفي حافظ القرآن و المعتني فيه شرفا" أن يكون من أهل الله وحزبه فيكونون في كنفه ونصره ورعايته .
وأخرج الحاكم في المستدرك عن بريدة رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من قرأ القرآن وتعلم وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجا"من نور ضوءه مثل ضوء الشمس ,ويكسى والداه حلّتين لا يقوم لهما الدنيا , فيقولون :بم كُسبنا هذا ؟ فيقال : بأخذ ولديكما القرآن ) .
واخرج الترمذي وابن ماجه بإسنادهما عن أبي طالب رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله الله به الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم وجبت لهم النار ).
وأخرج ابن ماجة بإسناد حسن عن أبي ذر رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لأن تغدوا فتعلم آية من كتاب الله خير من أن تصلي مائة ركعة ,ولأن تغدوا فتعلم بابا" من العلم عُمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة ) .
علامات التدبر:
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم علامات وصفات تصف حقيقة تدبر القرآن وتوضحه بجلاء من ذلك :
وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [(83) سورة المائدة] .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [ (2) سورة الأنفال ] ،
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [ (124) سورة التوبة] ،
قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [107-109 : سورة الإسراء] ،
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [(73) سورة الفرقان] ،
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [(53) سورة القصص ] ،
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [ (23) سورة الزمر]
فتحصل من الآيات السابقة سبع علامات هي:
1- اجتماع القلب والفكر حين القراءة .
2- البكاء من خشية الله .
3- زيادة الخشوع .
4- زيادة الإيمان .
5- الفرح والاستبشار .
6- القشعريرة خوفا من الله تعالى ثم غلبة الرجاء والسكينة .
7- السجود تعظيما لله عز وجل .
فمن وجد واحدة من هذه الصفات أو أكثر فقد وصل إلى حالة من التدبر والتفكر ، أما من لم يحصّل أيّاً من هذه العلامات فهو محروم من تدبر القرآن ولم يصل بعد إلى شئ من كنوزه وذخائره .
قال إبراهيم التيمي : من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما لأن الله نعت العلماء .. ثم تلا قول الله تعالى : قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:(107-109)] . وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : كان أصحاب النبي إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم "
ولاشك أن للصوت أثر كبير على السامع إقبالا" وإدباراً ، وواقع الناس أكبر دليل على هذه الحقيقة ,فنحن مثلا"عندما نسمع صوت مؤذن ينادي للصلاة بصوت ندي,نُرهف السمع إليه , ونتمنى ألا ينتهي مما هو فيه,ولهذا المعنى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن زيد ,أن يطلب من بلال رضي الله عنه أن يؤذن,قائلا" له: ( إنه أندى صوتا" منك ) رواه أحمد و أبو داود و ابن ماجه .
ولأهمية جمال الصوت وحسنه ,وجدنا الناس يسعون إلى كل ما يُدخل إلى قلوبهم الراحة والاطمئنان , فكانت العرب مثلا"إذا ركبت الإبل تتغنى بالحداء ,وهكذا كانت في كثير من أحولها .
ودعا صلى الله عليه وسلم إلى التغني بالقرآن ,فقال:(ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن) رواه البخاري ,ومعنى الحديث_كما قال شرَّاحه_ما استمع الله لشيء من كلام الناس ,ما استمع لنبي يتغنى القرآن .
وثبت في السنة أنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس صوتا"بقراءة القرآن ، فكانت قراءته صلى الله عليه وسلم ـ بالإضافة لبيان القرآن ـ تسلب الألباب وتستولي على النفوس,فقد روى البخاري من حديث البراء رضي الله عنه قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ والتين والزيتون في العشاء ,وما سمعت أحدا"أحسن صوتا"منه ,أو قراءة .
وجاء في حديث عبد الله بن الغفل المزني أنه قال:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح,قال:فرجّع فيها) رواه البخاري .
والترجيع في القراءة_كما قال العلماء_ترديد الصوت في الجهر بالقول مكررا"بعد خفائه .
قال شرّاح الحديث في معناه :وفي هذا الحديث دلالة على جواز قراءة القرآن بالترجيع والألحان الملذذة للقلوب بحسن الصوت ,وذلك أن القراءة بالترجيع تجمع نفوس الناس إلى الإصغاء وتستميلها بذلك. وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن من غيره,وقد أثنى على صحابته الذين يقرؤون القرآن بصوت حسن,فعندما مرَّ صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وسمعه يقرأ القرآن_وكان ذا صوت حسن_سُرَّ بصوته,وقال له:( لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك البارحة,لقد أوتيت مزمارا"من مزامير آل داود ) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والدارمي وأحمد. والمراد بالمزمار هنا الصوت الحسن ,وأصل الزمر الغناء .
وفد صح في السنة_إضافة لما تقدم_الترغيب بتحسين الصوت وتزيينه عند القرآن ,من ذلك ما رواه البخاري معلقا" في كتاب التوحيد,عن البراء بن عازب أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( زينوا القرآن بأصواتكم ) رواه أصحاب السنن إلا الترمذي والدارمي وأحمد.
قال النووي رحمه الله:أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط ونحوه,فإن خرج حتى زاد حرفا" أو أخفاه حَرُم .
قال :وأما القراءة بالألحان فقد كرهها بعضهم ,لما رأى فيها من خروج عن الخشوع والتدبر المطلوب بالقرآن ,وأجازها البعض.
ومفاد قول النووي هنا ,أن قراءة القرآن بالألحان إذا انتهت إلى إخراج الألفاظ أو بعض منها عن مخارجها حرُم ذلك ,فإن لم تخرج بالألحان عن المنهج القويم جاز ,مع الإشارة إلى أن المقصود بالألحان في كلام الفقهاء ليس الآلات الموسيقية المعروفة لدينا اليوم ,بل مقصودهم اللحن الصوتي ,وهو النغم الصوتي فحسب ,وإلا فالإجماع منعقد على تحريم قراءة القرآن بتلحين الموسيقى ,وأن فاعله مستهزىء بكتاب الله تعالى ,مستخفّ به .
والذي يتحصل من الأدلة الواردة في مسألة التغني بالقرآن,أنه على وجهين ,أحدهما :ما جاء على مقتضى الفطرة دون تكلف أو تصنع ,فهذا جائز شرعا"و مرغَّب فيه,لأن الصوت الحسن أوقع في النفس من غيره,وأدعى للقبول و الاستماع إليه.الثاني:ما كان متكلَّفا"فيه,ولا يحصل إلا بالتعلم, كما يُتعلم الغناء ,فهذا هو المنهي عنه شرعا" .
والناظر في أحوال السلف رضي الله عنهم يعلم قطعا" أنهم برآء من القراءة بالألحان المتكلفة, ويعلم قطعا" كذلك ,أنهم كانوا يقرؤون بالترجيع, ويُحسِّنون أصواتهم بالقرآن,ويقرؤونه بصوت شجي تارة,وبصوت فيه شوق تارة أخرى.
آداب تعلم القرآن وتعليمه
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو أفضل مما يُتعلم,وأفضل ما يعلَّم,ومصداق ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه} رواه البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم حريصا" كل الحرص على تعليم صحابته الـقرآن, وتعاهـدهم على تلاوته والعمل به,فـــقد جـاء عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم القرآن.
ونقل عن ابن مسعود أنه أقرأ رجلا", فقال له حين أخطأ:ما هكـذا اقرأنيها رسول الله صلى الله عليـه وسلم .
وكان من أمره صلى الله عليه وسلم أن يرسل القراء إلى كل بلد يعلِّمون أهله كتاب الله, فأرسل مصعب بن عمير و ابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته,وبعث معاذ ابن جبل إلى مكة بعد فتحها. وعلى هذا الدرب سار السلف الصالح من بعدُ, فاهتموا بتعلُّم كتاب ربهم وتعليمه, فأقاموا المساجد والمدارس تحقيقا" لهذا العرض.
وإلى جانب اهتمام سلف هذه الأمة وخلفها بأمر قرآنها تعلما" وتعليما",فقد أولو كذلك عناية خاصـة بآداب تعــلُّم الــقرآن وتعليمه,فقرروا في ذلك جمله من الآداب نقف على أهمها فيما يأتي:
ولابد لمتعلم القرآن أن يأخذ القرآن عمن تأهل وظهر دينه,وكان أهلا" للتلقي عنه,كما قال بعض أهل العلم: «العلم دين ,فانظروا عمن تأخذوا دينكم»
ومن الآداب ألا يرفع المتعلم صوته بلا حاجة عند معلمه,ولا يضحك,أو يكثر من الكلام الذي ليس فيه مصلحة شرعية,ولا يعبث بيده,ولا يلتفت إلا لحاجة,بل يتوجه بوجهه إليه. ولا يقرأ على الشيخ حال ملله, وعليه أن يحتمل جفوته وسوء خلقه. وليحرص على الإتيان إليه مبكرا",ليحصل له الخير والبركة.
وعلى متعلم القرآن كذلك ، يكون متواضعا" لمعلمه ومتأدبا" مع إخوانه,فلا ينظر إلى معلمه إلا بعين الاحترام ولا يُعامل إخوانه إلا بما فيه رفق وأدب فإن في ذلك عون له على الانتفاع بما يتعلمه.
قال علي رضي الله عنه:«من حق المعلم عليك أن تسلِّم على الناس عامة,وتخصه دونهم بتحية,وأن تجلس أمامه, ولاتشيرن عنده بيدك,ولا تغمزن بعينك,ولا تقولن:قال فلان خلاف ما تقول,ولا تغتابن عنده أحدا"»
ومن آداب متعلم القرآن تجنب الأسباب الشاغلة عن تعلم كتاب الله,كالانشغال بمالا يُسمن ولا يغني من جوع,كالجلوس أمام الرائي «التلفاز» وتضييع الأوقات لمتابعة المسلسلات الفارغة,وأنواع الرياضات الشاغلة, وتتبع عثرات الناس وسقطاتهم وما شابه ذلك من أمور لا يليق أن يشغل نفسه بها,ويضيع أوقاته لأجلها.
وليحذر كل الحذر من الحسد و الرياء والعجب بالنفس واحتقاره الغير,بل عليه أن يكون ناصحا" مرشدا" رفيقا" بمن يعلمه,معتنيا"بمصالحه,وأن يحب له ما يحبه لنفسه وولده. ولا ينبغي للمعلم أن يكون عنيفا" أو متساهلا" في تعليمه, بل مقتصدا" في أمره,خشية أن ينفّر من هو بين يديه, وخاصة إذا كانوا ناشئة في العلم, وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ,أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{إن الله يحب الرفق في الأمر كله,ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف} وفي رواية لمسلم:{إن الرفق لا يكون في شيء إلا زا نه ولا يُنزع من شيء إلا شأنه } .
وعليه أن يصبر على من بطأ فهمه,وأن يعذر من قلَّ أدبه أحيانا".وأن يأخذ طلبته بإعادة محفوظاتهم, ويثني على من ظهر تفوقه وإقدامه,ويعنَّف من قصَّر تعنيفا" لطيفا",ويقدم في القراءة السابق فالسابق, إلا إن كان ثمة مصلحة فيقدِّم اللاحق.
وعليه أن يتفقد أحوال طلبته, ويسأل عن غائبهم.
وعلى معلم القرآن أن يكون قدوة للمتعلم في سلوكه كله,من احترام للوقت, والعدل بين المتعلمين, فلا يفضَّل أحدا"على أحد, إلا لمصلحة تتطلب ذلك, ولا يخاطب أحدا"بعينه ويعرض عن غيره, بل يكون عادلا" في كل ذلك حتى في نظراته, فهو يعلِّم كلام الله, فليراعِ أمر الله القائل في كتابه: يا أيها الذين أمنوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِِاِلْقسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ [النساء:135]
وعليه أن يصون يديه حال الإقراء عن العبث , وعينه عن النظر فيما لا حاجة له إليه. وليرعَ الأمانة التي حُمِّلها, وهي أمانة هذا الكتاب, وليتحل بأوصاف أهل القرآن,الذين هم أهل الله وخاصته, ففي ذلك كله فلاح له إن شاء الله.
وجملة القول هنا إن أهل القرآن وحَمَلَتُه إذا أرادوا أن يكونوا أهلا" لهذا الوصف الذي وصفهم به رسول الله, فعليهم أن يتحلوا بآداب القرآن,لينالوا عز الدنيا وعز الآخرة, والله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
اللهم اجعل في هذه الوريقات النفع والبركة لكاتبها وقارئها وناشرها اللهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
2 ـ صحيح مسلم ، ت : قؤاد عبد الباقي ، ط دار الحديث
3 ـ سنن أبي داود ، ط : دار الحديث
4 ـ جامع الترمذي ت أحمد شاكر ط دار الفكر بيروت .
5 ـ سنن النسائي ، ط : دار إحياء التراث .
6 ـ سنن ابن ماجه ت : فؤاد عبد الباقي ، ط دار إحياء التراث .
7 ـ سنن الدارمي ، ت د. مصطفى البغا ط : دار القلم .
8 ـ مسند الإمام أحمد : ط دار الفكر بيروت .
9 ـ الترغيب والترهيب للمنذري ، ت مصطفى عمارة ، ط دار الريان للتراث .
10 ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي ، ت : عبد الله درويش ، ط دار الفكر .
11 ـ التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ت :عبد الحميد درويش ط عالم التراث .
12 ـ هدي القرآن الكريم للشيخ عبد الله سراج الدين ط حلب .
13 ـ مفاتح تدبر القرآن والنجاح في الحياة تأليف : د . خالد بن عبد الكريم اللاحم بحث مستفاد من الأنترنت .
14 ـ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ط دار إحياء التراث .
15 ـ تلاوة القرآن المجيد للمحدث الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله . ط دار الفلاح حلب .
(خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أخرجه الجماعة
كتبه : مرهف عبد الجبار سقا
المقدمة :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسالم على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:فإنه مما لا شك فيه أن تعلم القرآن وقراءته فرض عين على كل مسلم ,وأنه محاسب على ذلك أمام الله تعالى ، وينبغي على متعلم القرآن أن يتعلم ما يلزمه من الأدب في تعامله مع كتاب الله تعالى , وأن يعلم الخير الكثير الذي يتحصل من هذه العبادة الشريفة ،وهذه وريقات فيها بيان ذلك مع آداب المعلم والمتعلم للقرآن الكريم, وأيضا" آيات من كتاب الله تعالى وأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين فيما تدل عليه في ظاهرها ودلالاتها على الفضل العظيم الذي يعطيه الله تعالى لمعلم ومتعلم وقارىء القرآن الكريم[1] .
وجوب تعظيم كتاب الله :
قال تعالى : ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [ الحج :32] ولا ريب فإن عنوان الشعائر الإلهية هو القرآن العظيم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،يقول الإمام النووي رحمه الله : ( أجمع المسلمون على وجوب تعظيم القرآن على الإطلاق وتنزيهه وصيانته وأجمعوا على أن من جحد منه حرفاً مما أجمع عليه أو زاد حرفاً لم يقرأ به أحد وهو عالم بذلك فهو كافر . ) وهذا التعظيم لا يكون بإجلال القرآن في القلب فقط ، بل أيضاً بالأدب العام مع كلام الله تعالى ، فمن صور التعظيم :ـ الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله ، لا يشبهه شيء من كلام الخلق ، ولا يقدر على مثله الخلق بأسرهم .
ـ لا يجوز الكلام فيه بغير علم ، يقول الإمام النووي رحمه الله : ( ويحرم تفسيره بغير علم والكلام في معانيه لمن ليس من أهلها ، والأحاديث في ذلك كثيرة والإجماع منعقد عليه وأما تفسيره للعلماء فجائز حسن والإجماع منعقد عليه ) . ومن الأحاديث ما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) ، وأخرج أبو داود والترمذي عن جندب بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ).
ـ لا يجوز الجدال في القرآن لهوى في النفس ، أو لينصر فكراً معيناً أو يبرر عملاً ما ، ويحاول اللف على النص القرآني مع أن ظاهره يخالف ما يريد ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المراء في القرآن كفر ) أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم. قال الخطابي : المراد بالمراء : الشك ، وقيل : الجدل المشكك فيه وقيل : هو الجدل الذي يفعله أهل الأهواء في آيات .
أقول : وكل هذه المعاني مرادة في الحديث إن شاء الله ، وقد ظهر في زماننا أناس يعرضون القرآن على العامة ويجادلونهم فيه بغير علم ، وينفرونهم من كتب التفسير المعتمدة كابن كثير والقرطبي وغيرهما بحجة استعمال العقل وتعظيمه ، وسموا صنيعهم هذا تأويلاً، واشتهروا بأنهم أهل التأويل فضلوا كثيراً وأضلوا ، وإذا قيل لهم اتقوا الله أخذتهم العزة بالإثم فحسبهم جهنم وبئس المصير ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
إن حال المسلم الصادق الواقف عند حدود الله أن يرد العلم لأهله، وأن يجعل القرآن حاكماً على عقله لا أن يجعل القرآن تابعاً لهواه ومحكوماً بعقله، فقد أخرج الإمام أحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أنزل القرآن على سبعة أحرف ، والمراء في القرآن كفر ـ ثلاثاً ـ ، ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه ) ،وقال الله تعالى : وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا . [ النساء (83) ]
الأمر الإلهي بقراءة القرآن الكريم:
قال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(91) وأن أتلوا القرآن الآية[ النمل : 91،92 ]
قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ الآية[ العنكبوت: 45 ] .
فقد أمر الله تعالى بتلاوة القرآن الكريم, و التلاوة في أصل معناها اللغوي هي المتابعة , وبه فسر قوله تعالى: و الشمس و ضحاها و القمر إذا تلاها أي تبعها .
و التلاوة على قسمين : الأولى باللسان، و الثانية بالعمل والقول , أي العمل بمقتضى كتاب الله تعالى ائتمارا" بأمره و انتهاء عن نهيه و التأدب بأدبه و التخلق بأخلاقه و غير ذلك .
الأمر النبوي بقراءة القرآن الكريم
وأما الأحاديث النبوية التي جاءت تأمر بتلاوة القرآن الكريم فهي كثيرة منها:ما أخرجه مسلم وأحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله يقول:{اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا" لأصحابه, اقرأوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما, اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة و تركها حسرة ولا يستطيعها البطلة} قال معاوية: بلغني أن البطلة : السحرة .
وقوله :( غيايتان ) هي بمعنى غمامتان ،و الغياية: هي كل ما أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها ،قال النووي رحمه الله : ( قال العلماء : المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين .).
والفرقان :الجماعتان أو القطيعان من أي شيء .و ذكرهما هنا من الطير التي صفت أجنحتها وبسطتها وتقف فوق رأس قارئ البقرة وآل عمران .أي فيستظل قارئهما يوم القيامة بثواب البقرة وآل عمران في المحشر وتدافعان عنه وتحميانه عند السؤال .
وأخرج ابن حيان في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال :
قلت : يا رسول الله أوصني .
فقال : ( عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله).
قلت : يا رسول الله زدني .
قال : (عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض ,وذخر لك في السماء).
وأخرج الدرامي بإسناده عن أبي مسعود رضي الله عنه أنه قال : (أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع)
قالوا : هذه المصاحف ترفع!، فكيف بما في صدور الرجال ؟
فقال : (يُسرَي عليه ليلا" فيصبحون منه فقراء, وينسون قول :لا إله إلا الله, و يقعون في قول الجاهلية و أشعارهم, وذلك حين يقع عليهم القول ).
و لهذا الحديث شاهد أخرجه ابن ماجه و الحاكم و البيهقي عن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه, قال :
قال رسول الله : يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثواب , حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ,ولَيسرى على كتاب الله عز و جل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية و تبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير و العجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : لا إله إلا الله فنحن نقولها }
و المعنى و الله أعلم : أن تعاليم الإسلام تختفي و تضيع بين الناس لإعراضهم عنها و انشغالهم بالدنيا و الماديات ووقوعهم في الفتن، ثم يعاقبهم الله تعالى على ذلك ؛ فيرفع كتابه منهم مع بقاء حفظه له في صدور طائفة فيهم منصورة بإذن الله تعالى للحديث الصحيح: ( لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )، ولعل هذا من علامات الساعة الكبرى والله اعلم .
تجويد القرآن
كان القرآن الكريم وما زال هدى الأمة الذي اهتدت به في درب حياتها ,فمنه استمدت قوتها وحيويتها ,وبالاعتصام به كانت عزتها وكرامتها ,وهو سيظل مصدر قوتها وعزتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ما دانت معتزة متمسكة وعاملة به .ولقد اجتهد المسلمون _ولا يزالون_في خدمة القرآن الكريم ,اجتهادا" لم يحظ َ به كتاب أخر ,حفظا"وكتابة وجمعا", فأنشأوا المعاهد ودُور العلم الخاصة بتعليمه وتحفيظه جيلا" بعد جيل ,كل ذلك تصديقا" وتحقيقا" لقوله تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون [الحجر:9]
وكان المسلمون الأوائل ـ لسلامة فطرتهم و سليقتهم العربية الصحيحة وحرصهم على كتاب ربهم ـ يتلون كتاب ربهم تلاوة مجوَّدة ,كما تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ,إلا أنه بعد دخول عدد كبير من العجم في دين الإسلام واختلاط العرب بهم , بدأ اللحن يتسرب إلى الألسنة ,وبدأت العُجْمَة تفشوا في كلام الناس ,وتعدى ذلك إلى اللحن في كتاب الله ، فسارع العلماء لوضع قواعد تضبط ألسنة الناس بالقراءة الصحيحة والسليمة للقرآن , واعتبروا مراعاة تلك القواعد عند قراءة القرآن فرض عين على كل قارىء لكتاب الله الكريم .
فظهر بذلك علم التجويد ,الذي هو من أشرف العلوم وأجلها, إذ بمعرفته تُعرف القراءة الصحيحة لكتاب الله ,والجهل بها يعني الجهل بكتاب الله .
وقد بحث علماء التجويد في هذا العلم( أحكام التلاوة)، من إظهار وإقلاب وإدغام وإخفاء, وصفات الحروف ومخارجها ,ونحو ذلك من الأبحاث التي تكفلت كتب علم التجويد ببيانها ، إلا أنه ينبغي أن نعلم أن معرفة صفات الحروف وكيفية إخراج الحرف من مخرجه الأصلي مع شكله وضبطه أول ما يجب على المسلم أن يتعلمه وهو المقصود الأول من علم التجويد .
وقد قسَّم علماء التجويد التلاوة القرآنية إلى ثلاثة أقسام :
الأول الترتيل :وهو القراءة بتؤدة واطمئنان ,مع إعطاء الحروف حقها ومستحقها ,من المخارج والصفات .
الثاني الحَدْر: وهو سرعة القراءة .
الثالث التدوير :وهو التوسط بين الترتيل والحدر .
ينبغي أن تُلحظ الأحكام التجويدية في هذه الأقسام الثلاثة ,ولا ينبغي تفويت شيء منها في أي قسم .
فضل قراءة القرآن الكريم
قال الله تعالى في سورة فاطر: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ(29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)الآية الأولى من هذه الآيات تسمى آية القراء كما قال قتادة :( كان مطرِّفُ رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء) .
فقد أثنى الله تعالى في هذه الآية على القراء الذين يتلون الكتاب و يعلمون به, فيصلون و ينفقون ويقومون بأوامره سبحانه,ثم بشرهم بما وعدهم من الثواب العظيم والنعيم المقيم, فقال سبحانه: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ . أي أجورهم مقابل أعمالهم, لأن الأجر مقابل الأعمال, ولكن ليس هذا ثوابهم فقط بل هناك الفضل من الله تعالى بالزيادة يزيدهم بها من عنده سبحانه وهذه الزيادة لا يعلم قدرها وعددها إلا الله تعالى,ولكن أعظم الزيادات التي يتفضل الله تعالى بها عليهم أن يكشف لهم الحجاب حتى ينظروا إليه سبحانه, كما روى مسلم وغيره عن صهيب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(إذا دخل أهل الجنة الجنة, يقول الله تعالى :أتريدون شيئا" أزيدكم ؟.
قال: فيكشف الحجاب, فما أعطوا شيئا" أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى ثم قرأ قول الله تعالى :
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26) [ سونس:26] .
وقد أثنى الله تعالى في هذه الآيات السابقة على هذه الأمة المصطفاة من بين الأمم, المخصوصة بوراثة كتاب الله العظيم, وحق لأفضل أمة أن ترث أفضل كتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم صنفهم إلى ثلاثة أصناف بالنسبة لأخذهم من كتاب الله وتمسكهم به .
فالأول : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وهو التارك لأمر محتم ,أو فاعل لمنهي عنه محرم , وقد ورد عن السلف الصالح أنهم الذين خلطوا عملا" صالحا" وأخر سيئا" .
والثاني : قال تعالى : وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وهو المؤدي للواجبات التي بينه وبين الخالق, وبينه وبين المخلوقين التارك كذلك للمحرمات, ويقال أنهم أصحاب اليمين, ويقال:أنهم الأبرار عند مقابلتهم بالمقربين.
والثالث :هم الذين قال تعالى عنهم: وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وهؤلاء الذين قاموا بجميع الأوامر وتركوا جميع المنهيات, وسبقوا بفعل الخيرات وهي النوافل فوق الفرائض, ولنعلم أن لفظ الخيرات اسم جنس يعم كل خير زائد على الفرض ولا يقتصر على موضوع العبادات فقط .
ما ورد من الأحاديث في فضل قراءة القرآن الكريم :
وأسوق إليك الآن طائفة من الأحاديث التي بينت فضل قراءة القرآن، وعظيم الأجر الذي يناله حافظه وتاليه في الدنيا و الآخرة:أخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يقول الرب عز وجل : ( من شغله القرآن وذكري عن مسألتي؛ أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ) .
وأخرج مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لحامل القرآن دعوة مستجابة).
وأخرج الترمذي عن أبن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( من قرأ حرفا"من كتاب الله فله به حسنة ,والحسنة يعشر أمثالها ,لا أقول :ألم حرف , ولكن ألف حرف ,ولام حرف ,وميم حرف ) . قال الترمذي :حسن صحيح غريب .
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله علبه وسلم :
( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ,ومثل الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو , ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر, ومثل الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح و طعمها مر ) .
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ,والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) ,وفي رواية :( والذي يقرؤه وهو يشتد عليه له أجران ) .
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (القرآن شافع مشفع ,وماحل مصدَّق,من جعله أمامه قاده إلى الجنة ,ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار )
وماحل :أي ساع ,وقيل : خصم مجادل .
والمعنى : أن القرآن محاجج عن صاحبه يوم القيامة عند الله ، وقوله: ( مصدًّق ) أي لا يرد,فإما أن يحاجج عنك ,أو يحاجج عليك .
وأخرج أبو داود والحاكم ,وقال :صحيح الإسناد عن سهل بن معاذ عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه تاجا" يوم القيامة ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا ,فما ظنكم بالذي عمل بهذا ؟ ).
وأخرج الترمذي وقال :حسن غريب عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما أذن الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما ,وإن البر لَيُذَرُّ على رأس العبد ما دام في صلاته ,وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه ,يعني القرآن )
وقوله : لَيُذَرُّ :أي أن الخيرات والحسنات الكثيرة لتنصب وتغدق بكثرة ,فينالها المصلي ما دام في صلاته .
وأخرج الترمذي _وحسنه_وابن خزيمة في صحيحه , والحاكم _وقال صحيح الإسناد_عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يجيء صاحب القرآن يوم القيامة ,فيقول القرآن :يا ربّ حَلَّه ,فيلبس تاج الكرامة ,ثم يقول :يا رب زده ,فيلبس حلة الكرامة ,ثم يا رب ارض عنه ,فيقال له :اقرأ وارق ,ويزداد بكل آية حسنة ) .
وأخرج الترمذي _وصححه_وأبو داود وابن ماجة وابن حيان في صحيحه ,والحاكم_وقال صحيح الإسناد_عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ,ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ,فإن منزلك عند أخر آية تقرؤها ) .
قال الخطابي :جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة ,فيقال للقارىء : ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن ,فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة ,ومن قرأ جزأ" منه كان رقيه في الدَّرج على قدر ذلك ,فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة .
وأخرج الطبراني في المعجم الوسيط والصغير بإسناد لا بأس به عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاثة لا يهولهم الفزع الأكبر ,ولا ينالهم الحساب ,وهم على كثيب من مسك حتى يفرغ من حساب الخلائق :رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله ,وأمَّ به قوما" وهم به راضون ,وداع يدعوا إلى الصلوات ابتغاء وجه الله ,وعبد أحسن فيما بينه وبين ربه ,وفيما بينه وبين مواليه ) .
وأخرج الحاكم وقال :صحيح الإسناد ,عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من قرأ القرآن استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحي إليه ,لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ,ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله ) .
وقوله ( لا يجد مع من وجد ): أي لا يغضب مع من غضب ( ولا يجهل مع من جهل ) أي لا يفسق مع من فسق فعليه التخلق بأخلاق الصالحين الكمل ,الوارثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم ,أن هذا القرآن حبل الله ,والنور المبين ,والشفاء النافع ,عصمة لمن تمسك به ,ونجاة لمن اتبعه ,ولا يزيغ فَيُستَعتب ,ولا يَعوج فَيُقَوَّم ,ولا تنقضي عجائبه ,ولا يَخلَق من كثرة الردّ, اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات ,أمَا إني لا أقول الم حرف ولكن :ألف حرف ,ولام حرف ,وميم حرف ) .
وأخرج النسائي وابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح ,عن أنس رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن لله أهلين من الناس ) ,قالوا :من هم يا رسول الله ؟ قال :( أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ) .
فيكفي حافظ القرآن و المعتني فيه شرفا" أن يكون من أهل الله وحزبه فيكونون في كنفه ونصره ورعايته .
وأخرج الحاكم في المستدرك عن بريدة رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من قرأ القرآن وتعلم وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجا"من نور ضوءه مثل ضوء الشمس ,ويكسى والداه حلّتين لا يقوم لهما الدنيا , فيقولون :بم كُسبنا هذا ؟ فيقال : بأخذ ولديكما القرآن ) .
واخرج الترمذي وابن ماجه بإسنادهما عن أبي طالب رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله الله به الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم وجبت لهم النار ).
وأخرج ابن ماجة بإسناد حسن عن أبي ذر رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لأن تغدوا فتعلم آية من كتاب الله خير من أن تصلي مائة ركعة ,ولأن تغدوا فتعلم بابا" من العلم عُمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة ) .
تدبر القرآن الكريم :
ومعنى تدبر القرآن: هو قراءة تفسير القرآن والتفكر والتأمل لآيات القرآن من أجل فهمه وإدارك معانيه وحِكَمه والمراد منه .علامات التدبر:
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم علامات وصفات تصف حقيقة تدبر القرآن وتوضحه بجلاء من ذلك :
وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [(83) سورة المائدة] .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [ (2) سورة الأنفال ] ،
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [ (124) سورة التوبة] ،
قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [107-109 : سورة الإسراء] ،
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا [(73) سورة الفرقان] ،
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [(53) سورة القصص ] ،
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [ (23) سورة الزمر]
فتحصل من الآيات السابقة سبع علامات هي:
1- اجتماع القلب والفكر حين القراءة .
2- البكاء من خشية الله .
3- زيادة الخشوع .
4- زيادة الإيمان .
5- الفرح والاستبشار .
6- القشعريرة خوفا من الله تعالى ثم غلبة الرجاء والسكينة .
7- السجود تعظيما لله عز وجل .
فمن وجد واحدة من هذه الصفات أو أكثر فقد وصل إلى حالة من التدبر والتفكر ، أما من لم يحصّل أيّاً من هذه العلامات فهو محروم من تدبر القرآن ولم يصل بعد إلى شئ من كنوزه وذخائره .
قال إبراهيم التيمي : من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما لأن الله نعت العلماء .. ثم تلا قول الله تعالى : قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:(107-109)] . وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : كان أصحاب النبي إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم "
قراءة القرآن بالترجيع و التغني به
من الفِطَر التي فَطَرَ الله عليها قلوب عباده: حب الاستماع إلى الصوت الحسن,ونفورها من الصوت القبيح .ولاشك أن للصوت أثر كبير على السامع إقبالا" وإدباراً ، وواقع الناس أكبر دليل على هذه الحقيقة ,فنحن مثلا"عندما نسمع صوت مؤذن ينادي للصلاة بصوت ندي,نُرهف السمع إليه , ونتمنى ألا ينتهي مما هو فيه,ولهذا المعنى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن زيد ,أن يطلب من بلال رضي الله عنه أن يؤذن,قائلا" له: ( إنه أندى صوتا" منك ) رواه أحمد و أبو داود و ابن ماجه .
ولأهمية جمال الصوت وحسنه ,وجدنا الناس يسعون إلى كل ما يُدخل إلى قلوبهم الراحة والاطمئنان , فكانت العرب مثلا"إذا ركبت الإبل تتغنى بالحداء ,وهكذا كانت في كثير من أحولها .
ودعا صلى الله عليه وسلم إلى التغني بالقرآن ,فقال:(ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن) رواه البخاري ,ومعنى الحديث_كما قال شرَّاحه_ما استمع الله لشيء من كلام الناس ,ما استمع لنبي يتغنى القرآن .
وثبت في السنة أنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس صوتا"بقراءة القرآن ، فكانت قراءته صلى الله عليه وسلم ـ بالإضافة لبيان القرآن ـ تسلب الألباب وتستولي على النفوس,فقد روى البخاري من حديث البراء رضي الله عنه قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ والتين والزيتون في العشاء ,وما سمعت أحدا"أحسن صوتا"منه ,أو قراءة .
وجاء في حديث عبد الله بن الغفل المزني أنه قال:(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح على ناقة له يقرأ سورة الفتح,قال:فرجّع فيها) رواه البخاري .
والترجيع في القراءة_كما قال العلماء_ترديد الصوت في الجهر بالقول مكررا"بعد خفائه .
قال شرّاح الحديث في معناه :وفي هذا الحديث دلالة على جواز قراءة القرآن بالترجيع والألحان الملذذة للقلوب بحسن الصوت ,وذلك أن القراءة بالترجيع تجمع نفوس الناس إلى الإصغاء وتستميلها بذلك. وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن من غيره,وقد أثنى على صحابته الذين يقرؤون القرآن بصوت حسن,فعندما مرَّ صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وسمعه يقرأ القرآن_وكان ذا صوت حسن_سُرَّ بصوته,وقال له:( لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك البارحة,لقد أوتيت مزمارا"من مزامير آل داود ) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والدارمي وأحمد. والمراد بالمزمار هنا الصوت الحسن ,وأصل الزمر الغناء .
وفد صح في السنة_إضافة لما تقدم_الترغيب بتحسين الصوت وتزيينه عند القرآن ,من ذلك ما رواه البخاري معلقا" في كتاب التوحيد,عن البراء بن عازب أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( زينوا القرآن بأصواتكم ) رواه أصحاب السنن إلا الترمذي والدارمي وأحمد.
قال النووي رحمه الله:أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط ونحوه,فإن خرج حتى زاد حرفا" أو أخفاه حَرُم .
قال :وأما القراءة بالألحان فقد كرهها بعضهم ,لما رأى فيها من خروج عن الخشوع والتدبر المطلوب بالقرآن ,وأجازها البعض.
ومفاد قول النووي هنا ,أن قراءة القرآن بالألحان إذا انتهت إلى إخراج الألفاظ أو بعض منها عن مخارجها حرُم ذلك ,فإن لم تخرج بالألحان عن المنهج القويم جاز ,مع الإشارة إلى أن المقصود بالألحان في كلام الفقهاء ليس الآلات الموسيقية المعروفة لدينا اليوم ,بل مقصودهم اللحن الصوتي ,وهو النغم الصوتي فحسب ,وإلا فالإجماع منعقد على تحريم قراءة القرآن بتلحين الموسيقى ,وأن فاعله مستهزىء بكتاب الله تعالى ,مستخفّ به .
والذي يتحصل من الأدلة الواردة في مسألة التغني بالقرآن,أنه على وجهين ,أحدهما :ما جاء على مقتضى الفطرة دون تكلف أو تصنع ,فهذا جائز شرعا"و مرغَّب فيه,لأن الصوت الحسن أوقع في النفس من غيره,وأدعى للقبول و الاستماع إليه.الثاني:ما كان متكلَّفا"فيه,ولا يحصل إلا بالتعلم, كما يُتعلم الغناء ,فهذا هو المنهي عنه شرعا" .
والناظر في أحوال السلف رضي الله عنهم يعلم قطعا" أنهم برآء من القراءة بالألحان المتكلفة, ويعلم قطعا" كذلك ,أنهم كانوا يقرؤون بالترجيع, ويُحسِّنون أصواتهم بالقرآن,ويقرؤونه بصوت شجي تارة,وبصوت فيه شوق تارة أخرى.
آداب تعلم القرآن وتعليمه
مما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو أفضل مما يُتعلم,وأفضل ما يعلَّم,ومصداق ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه} رواه البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم حريصا" كل الحرص على تعليم صحابته الـقرآن, وتعاهـدهم على تلاوته والعمل به,فـــقد جـاء عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم القرآن.
ونقل عن ابن مسعود أنه أقرأ رجلا", فقال له حين أخطأ:ما هكـذا اقرأنيها رسول الله صلى الله عليـه وسلم .
وكان من أمره صلى الله عليه وسلم أن يرسل القراء إلى كل بلد يعلِّمون أهله كتاب الله, فأرسل مصعب بن عمير و ابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته,وبعث معاذ ابن جبل إلى مكة بعد فتحها. وعلى هذا الدرب سار السلف الصالح من بعدُ, فاهتموا بتعلُّم كتاب ربهم وتعليمه, فأقاموا المساجد والمدارس تحقيقا" لهذا العرض.
وإلى جانب اهتمام سلف هذه الأمة وخلفها بأمر قرآنها تعلما" وتعليما",فقد أولو كذلك عناية خاصـة بآداب تعــلُّم الــقرآن وتعليمه,فقرروا في ذلك جمله من الآداب نقف على أهمها فيما يأتي:
آداب المتعلم
لا بد لمتعلم القرآن أن يُخلص النية لله أولا",لينال عمله القبول عند الله سبحانه . والنية قد يُتساهل فيها مع الناشئة في بداية أمرهم,لكن لا بد من التنبيه عليها و مراعاة تصحيحها عند من بلغ رشده وأصبح مكلفا" شرعا".ولابد لمتعلم القرآن أن يأخذ القرآن عمن تأهل وظهر دينه,وكان أهلا" للتلقي عنه,كما قال بعض أهل العلم: «العلم دين ,فانظروا عمن تأخذوا دينكم»
ومن الآداب ألا يرفع المتعلم صوته بلا حاجة عند معلمه,ولا يضحك,أو يكثر من الكلام الذي ليس فيه مصلحة شرعية,ولا يعبث بيده,ولا يلتفت إلا لحاجة,بل يتوجه بوجهه إليه. ولا يقرأ على الشيخ حال ملله, وعليه أن يحتمل جفوته وسوء خلقه. وليحرص على الإتيان إليه مبكرا",ليحصل له الخير والبركة.
وعلى متعلم القرآن كذلك ، يكون متواضعا" لمعلمه ومتأدبا" مع إخوانه,فلا ينظر إلى معلمه إلا بعين الاحترام ولا يُعامل إخوانه إلا بما فيه رفق وأدب فإن في ذلك عون له على الانتفاع بما يتعلمه.
قال علي رضي الله عنه:«من حق المعلم عليك أن تسلِّم على الناس عامة,وتخصه دونهم بتحية,وأن تجلس أمامه, ولاتشيرن عنده بيدك,ولا تغمزن بعينك,ولا تقولن:قال فلان خلاف ما تقول,ولا تغتابن عنده أحدا"»
ومن آداب متعلم القرآن تجنب الأسباب الشاغلة عن تعلم كتاب الله,كالانشغال بمالا يُسمن ولا يغني من جوع,كالجلوس أمام الرائي «التلفاز» وتضييع الأوقات لمتابعة المسلسلات الفارغة,وأنواع الرياضات الشاغلة, وتتبع عثرات الناس وسقطاتهم وما شابه ذلك من أمور لا يليق أن يشغل نفسه بها,ويضيع أوقاته لأجلها.
آداب المعلم
أول الآداب التي ينبغي يتحلَّى بها معلم القرآن أن يبتغي بعمله مرضاة الله,فيخلص لله في عمله,فلا يعلِّم القرآن لأجل مغنمٍ دنيوي أو مكسب معنوي,بل عليه ، يكون زاهدا" بما في أيدي الناس,عفيف النفس,واسع الخلق,طلق الوجه,صابرا" ومحتسبا" أجره عند الله,مستحضرا" قوله تعالى: وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلا على رب العالمين [الشعراء:109]وليحذر كل الحذر من الحسد و الرياء والعجب بالنفس واحتقاره الغير,بل عليه أن يكون ناصحا" مرشدا" رفيقا" بمن يعلمه,معتنيا"بمصالحه,وأن يحب له ما يحبه لنفسه وولده. ولا ينبغي للمعلم أن يكون عنيفا" أو متساهلا" في تعليمه, بل مقتصدا" في أمره,خشية أن ينفّر من هو بين يديه, وخاصة إذا كانوا ناشئة في العلم, وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ,أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{إن الله يحب الرفق في الأمر كله,ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف} وفي رواية لمسلم:{إن الرفق لا يكون في شيء إلا زا نه ولا يُنزع من شيء إلا شأنه } .
وعليه أن يصبر على من بطأ فهمه,وأن يعذر من قلَّ أدبه أحيانا".وأن يأخذ طلبته بإعادة محفوظاتهم, ويثني على من ظهر تفوقه وإقدامه,ويعنَّف من قصَّر تعنيفا" لطيفا",ويقدم في القراءة السابق فالسابق, إلا إن كان ثمة مصلحة فيقدِّم اللاحق.
وعليه أن يتفقد أحوال طلبته, ويسأل عن غائبهم.
وعلى معلم القرآن أن يكون قدوة للمتعلم في سلوكه كله,من احترام للوقت, والعدل بين المتعلمين, فلا يفضَّل أحدا"على أحد, إلا لمصلحة تتطلب ذلك, ولا يخاطب أحدا"بعينه ويعرض عن غيره, بل يكون عادلا" في كل ذلك حتى في نظراته, فهو يعلِّم كلام الله, فليراعِ أمر الله القائل في كتابه: يا أيها الذين أمنوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِِاِلْقسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ [النساء:135]
وعليه أن يصون يديه حال الإقراء عن العبث , وعينه عن النظر فيما لا حاجة له إليه. وليرعَ الأمانة التي حُمِّلها, وهي أمانة هذا الكتاب, وليتحل بأوصاف أهل القرآن,الذين هم أهل الله وخاصته, ففي ذلك كله فلاح له إن شاء الله.
وجملة القول هنا إن أهل القرآن وحَمَلَتُه إذا أرادوا أن يكونوا أهلا" لهذا الوصف الذي وصفهم به رسول الله, فعليهم أن يتحلوا بآداب القرآن,لينالوا عز الدنيا وعز الآخرة, والله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
اللهم اجعل في هذه الوريقات النفع والبركة لكاتبها وقارئها وناشرها اللهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المراجع :
1 ـ صحيح البخاري ت : د. مصطفى البغا .ط دار العلوم الإنسانية2 ـ صحيح مسلم ، ت : قؤاد عبد الباقي ، ط دار الحديث
3 ـ سنن أبي داود ، ط : دار الحديث
4 ـ جامع الترمذي ت أحمد شاكر ط دار الفكر بيروت .
5 ـ سنن النسائي ، ط : دار إحياء التراث .
6 ـ سنن ابن ماجه ت : فؤاد عبد الباقي ، ط دار إحياء التراث .
7 ـ سنن الدارمي ، ت د. مصطفى البغا ط : دار القلم .
8 ـ مسند الإمام أحمد : ط دار الفكر بيروت .
9 ـ الترغيب والترهيب للمنذري ، ت مصطفى عمارة ، ط دار الريان للتراث .
10 ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي ، ت : عبد الله درويش ، ط دار الفكر .
11 ـ التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ت :عبد الحميد درويش ط عالم التراث .
12 ـ هدي القرآن الكريم للشيخ عبد الله سراج الدين ط حلب .
13 ـ مفاتح تدبر القرآن والنجاح في الحياة تأليف : د . خالد بن عبد الكريم اللاحم بحث مستفاد من الأنترنت .
14 ـ النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ط دار إحياء التراث .
15 ـ تلاوة القرآن المجيد للمحدث الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله . ط دار الفلاح حلب .