-->

ضوابط التأويل الصحيح للنصوص وتطبيقاته

ضوابط التأويل الصحيح للنصوص وتطبيقاته
    د. جابر زايد السميري
    أستاذ مشارك بكلية أصول الدين
    الجامعة الإسلامية – غزة
    ملخص بحث
    ضوابط التأويل الصحيح للنصوص
    يهدف هذا البحث إلى تمييز المعنى الصحي للنصوص من المعنى الفاسد ، ولا يتم ذلك إلا عبر التعرف على مجموعة من الضوابط المتصلة أو المنفصلة بالكلام .
    وبدون هذه الضوابط ، يحصل اللبس والخطأ في تحقيق المعنى المراد – والذي يقصده المتكلم – مما يؤدي إلى مشاكل في الفهم يتطور لينعكس على جميع أمور الحياة ، ومن هنا نعلم كم هي مهمة قضية التعرف على هذه الضوابط .
    Abstract

    making right for intrepration of vercess.

                  This research amied at distinguishing between the right and unright for the meaning of verses, so it will be relized by a goupe of connection, or non connection restruction for the speech, and without this restrictions, misunderstanding in the meaning which speaker meant, that will lead to misconcuption in many aspetes of life, so its very nessesary to know this restructions.


    المقدمة

    الحمد لله الذي علم بالقلم ، وهدى الإنسان إلى آفاق الأدب والعلم ، وصلى الله وسلم على من أوتي جوامع الكلم وخُص بدقيق الفصاحة والبيان والهمم وبعد :
    فهذا البحث الموسوم باسم (ضوابط التأويل الصحيح للنصوص) هدفه القريب ، تقديم الأدوات اللازمة للقارئ ليتمكن من فهم النصوص وتحليلها دون إفراط أو تفريط . والهدف البعيد تحقيق الآثار المحمودة والمترتبة على الفهم الصحيح للنصوص ، فإذا ما تحقق لنا تحصيل هذين الهدفين الساميين ، ألا وهما الفهم السليم للنص ، والأثر العميق المترتب عليه نكون قد وفقنا أيّما توفيق في قنص القدح المعلى والمكانة العليا .
    ولا يخفي على كل مجرب وخائض في مثل هذه الميادين ، كم هي المعاناة الماثلة في تحقيق المجد من خلال الخوض في تصيد المعاني الحقة من خلف قضبان الألفاظ وسورها الرقراق ، فمشكلة تحصيل المعاني من خلال قراءة الألفاظ غير خفية على أربابها ، فكل لفظ في اللغة له معناه الخاص إذا انفرد ، وله معناه إذا انضم إلى مفردات ليكون جملة ، ورحم الله ابن تيمية حينما قال : (إن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب ، أو خلاف الألسنة كلها ... وإلا فيمكن لكل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له ، وإن لم يكـن له أصل في اللغـة)(ابن تيمية ، مجموع الفتاوى ، الرسالة المدنية 8/260) ، وحتى لا يكون هناك نوع فوضى تضيع فيها معالم المقاصد بضياع التفاهمات والمعاني ، لا بد من بحث يبين فيه ضوابط محددة يعلم من خلالها المعنى الصحيح من المعنى السقيم ، ويمثل الفارق بين التأويل الصحيح المعتبر ، والتأويل الفاسد المحتضر . وكان بعون الله هذا البحث المتكون من خطة علمية قوامها ثلاثة مطالب ومقدمة وخاتمة وتوصيات ، وكان عنوان المطلب الأول : أقسام الكلام المفيد ، والمطلب الثاني : معاني التأويل بين اللغة والاصطلاح ، والمطلب الثالث : أقسام التأويل وضوابطه ، وتضمن البحث مسائل كثيرة وزعت على المطالب توزيعاً جيداً ، وتم في البحث بيان نماذج للتأويل الصحيح والتأويل الفاسد وما يلحق بهما وانتهى البحث بذكر خاتمة وتوصيات وفهارس للمصادر ، وضمَّنا متن البحث الهوامش .
    والله المستعان وعليه التكلان .

    المطلب الأول
    أقسام الكلام المفيد


    بالاستقراء التام تبين أن الكلام ينقسم إلى قسمين، قسم مفيد، وآخر غير مفيد، أما الكلام المفيد فهو الذي اهتم به العلماء، وكان موضوع البحث والتخاطب فيه فقد قسمه أهل الاختصاص إلى أقسام متعددة أهمها ثلاثة أقسام ألا وهي:
    القسم الأول: النص، القسم الثاني:الظاهر، القسم الثالث:المجمل                             وسيأتى الحديث على البقية.
    أولاً : النص : قال إمام الحرمين الجويني (478هـ) (والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحداً، وقيل: ما تأويله تنزيله وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي)[الجويني، إمام الحرمين، متن الورقات، مركز البحث العلمي، القاهرة، ط سنة 1432، ص20].و عرفه أ بو حامد الغزالي (505) بأنه هو الذي لا يحتمل التأويل والدال على معنى بين لا يتطرق اليه احتمال أصلاً)[الغزالي، أبو حامد (550) المستصفي من علم الأصول: دار أحباء التراث، بيروت ط سنة 1418 هـ، 1/245].  ).اذن كل مادل على معنى واحد يطلق عليه نص .
    وربما حصل بعض الخلط بين تعريف النص والظاهر بسبب أن معنى النص في اللغة يأتي بمعنى الظهور والبروز، وكان الأوّلى ألا يقع ذلك حتى لا يحصل اللبس حين الاستعمال ولهذا قال: ابن قدامه المقدسي (62) ( النص: ما يفيد بنفسه من غير احتمال.. وقيل هو الصريح في معناه، وحكمه أن يصار إليه ولا يعدل عنه) ثم عقب على اختياره لهذا التعريف بقوله( إلا أن الأقرب تحديد النص بما ذكرناه أولاً دفعاً للترادف والاشتراك عن الألفاظ فإنه خلاف الأصل ) [موفق الدين، عبد الله بن أحمد بن قدامه المقدسي، (620)، روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقة، ص92-93، بدون طبعة].
    ثانياً: الظاهر:
    ذهب الإمام سيف الدين الآمدي : (631)إلى أن الظاهر من الكلام هو الواضح، ومنه يقـال: (ظهر الأمرُ الفلاني، إذا اتضح وانكشف.. ثم قال: والحق في ذلك أن يقال: اللفظ الظاهر ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي، ويحتملُ غيره احتمالاً مرجوحاً)[الآمدي، سيف الدين علي بن أبي على بن محمـد، الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية. بيروت، سنة 1400هـ، 3/73].
    وبالنظر إلى هذا التعريف تجد أن اللفظ الظاهر إذا دل على معنى دون أن يتطرق إليه احتمال، وأفاده أيضاً بغير قرينة أو دليل فإنه يكون نصاً، فالظاهر في معناه والمحدد اصطلاحاً هو الذي تصطحبه أدلة وقرائن تقوي فيه المعنى المرجوح ولهذا حينما عرف العلماء النص اشترطوا فيه قولهم: (ألا يتطرق إليه احتمال لا يعضده دليل، فإن تطرق إليه احتمال لا دليل عليه فلا يخرجه عن كونه نصاً)[روضة الناظر، 92].
    وقد أطلق بعض العلماء كالسبكي (756) اصطلاحاً آخر على الرتبة الواقعة بين النص والظاهر، وسماها بالمحكم فقال(.. والقدر المشترك بينهما من الرجحان يسمى المحكم لإحكام عبارته وإتقانه فالمحكم جنس لنوعين النص والظاهر )[السبكي، على بن عبد الكافي، الإبهاج في شرح المنهاج، دار الكتب العلمية. بيروت، ط سنة 1404، 1/216.
    والمدقق في معنى المحكم وهو ا(البين الواضح الذي لا يفتقر في بيان معناه إلى غيره، وذلك لوضوح مفرداته وإتقان تركيبها)[انظر، الشاطبي، إبراهيم بن موسى (790)، الموافقات في أصول الشريعة، دار الكتب العلمية، بيروت بدون طبعة، 3/63]. يتبن له أن النص والمحكم في الاصطلاح في المعنى سواء، فإذا قيل هذا نص في المسألة كان معنى هذا الكلام، بيناً واضحاً متقناً محكماً لا يقبل احتمالاً ما ومن ثم لا يحتاج إلى تأويل.
    وقد فرع الإمام الشاطبي وغيره القول في الكلام عن الظاهر وأدخله تحت المتشابه فقال: (.. والظاهر.. داخله تحت معنى المتشابه [الموافقات، 3/63] وَّلما كان الظاهر يتردد بين معنيين ويحتاج إلى دليل يرجح المعنى المقصود شارك بهذا المعنى المتشابه بل صار فرداً من مفرداته يندرج تحته (وإذا كان المتشابه هو:(ما غمض ودق، فهو يحتاج في فهم المراد منه إلى تفكر وتأمل، إذ أنه محتمل لمعاني كثيرة ومختلفة، فهو كالمشكل؛ لأنه دخل في شكل غيره فأشبهه وشاكله) [انظر: ابن قتيبة، لأبي محمد عبد الله بن مسلم، تأويل مشكل القرآن، تحقيق، أحمد صقر، المكتبة العلمية، بدون طبعة، ص102] فالمتشابه كالظاهر من ناحية حاجته الماسة إلى دليل يوضح معناه ويكشف حقيقته ولهذا لابد من رده إلى المحكم ليتحدد معناه، ولتحقق المراد منه[ انظر، ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم، مكتبة الصفا، ط سنة 1423هـ] وكذلك، القاسمي، جمـال الدين (1332) محاسن التأويل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط سنة 1418هـ، 2/258].
    ثالثاً:المجمل:
    قال ابن قدامة: (وهو ما يفهم منه عند الإطلاق معنى، وقيل ما احتمل أمرين لا مزية لأحد هما على الآخر وذلك مثل الألفاظ المشتركة كلفظة العين المشتركة بين الذهب والعين الناظرة وغيرها.. ) [روضة الناظر، ص93] وقال بعض الأصوليين ( يترجح حمله على ما يفيد معنيين، كما لو دار بين ما يفيد وما لا يفيد يتعين حمله على المفيد، لأن المعنى الثاني مما قصر اللفظ عن إفادته إذا حمل على الوجه الآخر فحمله على الوجه المفيد بالإضافة إليه أولى)[المستصفى، /253] وعلى ذلك يحتاج اللفظ المجمل إلى دليل يبين معناه، ويجلي عن حقيقة مراده فهو أيضاً أشبه بالظاهر من هذه الناحية ولهذا أوجب ابن قدامة التوقف في الحكم عليه حتى يتبين المراد منه [انظر، روضة الناظر، ص94].
    الخلاصة :
    مما مضى نخلص إلى أن لفظ الظاهر والمتشابه والمجمل تحتاج إلى ما يبين المراد منها إذا هي عاجزة ذاتياً عن الإفصاح عن المعنى المحدد والمراد وإن كانت تدل على معاني غير محددة لتعيين المعنى وتحديده دون لبس أو تمييع.
    أما لفظ النص وما يوصف به من إحكام، فهذا يقدم لنا المعنى الواضح البين وهو الحقيقة الناصعة التي لا تحتاج إلى بينة أو قرينة تدل على معناه، فهو هادي بنفسه إلى مراده بدون عون عائن أو دلالة دال.

    المطلب الثاني
    معاني التأويل فى اللغة والإصطلاح


    أولاً: في اللغة
    التأويل: مصـدر من بـاب التفعيـل، وأصله" أول" من آل يؤول، ومادته اللغوية تدور على معان هي:
    1-         الإصلاح: ويتعدى بنفسه، قال أبو العباس المبرد "285هـ" (أصل من الإصلاح، يقال: آله يؤوله أولاً، إذا أصلحه)[المبرد، محمد بن يزيد، الكامل، تحقيق: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة سنة1406هـ، 3/109] ووافقـه على ذلك من فحول أهل اللغة الفارابي اللغوي "350هـ" [ديوان الأدب، تحقيق أحمد مختار، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، سنة1394هـ، 4/199]، وكذلك محمد بن أحمد الأزهري"370هـ" [تهذيب اللغة، تحقيق: إبراهيم الأبيازي، القاهرة، الدار المصرية سنة 1966، 15/437].
    2-         العودة والرجوع: ويتعدى بإلى أو بعن، أو يكـون لازماً، قـال ابن دريد الأزدي"321هـ" ( آل الرجل عن الشيء ارتد عنه) [ ابن دريد، جمهرة اللغة، تحقيق: رمزي بعلبكي، بيروت، دار العلم للملايين، سنة 1987م، 3/482]. وقال ابن فارس"395هـ " ( يقال: أول الحكم إلى أهله، أي أرجعه ورده إليهم) [أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، مطبعة الحلبي، ط2، سنة 1969، 1/160].
    وذكر ابن جرير الطبري " 310هـ": (ومعنى التأويل في كلام العرب فإنه التفسير، والمرجـع والمصيـر) [ تفسير الطبري، جامع البيان تحقيق أحمد شاكر، القاهرة، الحلبي، 1388هـ، 3/184].
    ثانياً: في الاصطلاح:
    عند السلف الصالح وفي القرون الأولى المفضلة تبين بالتتبع أن معنى التأويل عند السلف هو العاقبة والمراجع والتفسير، وقد اجتمعت أقوالهم على ذلك موافقة في الغالب ما جاء في معاجم اللغة. ينقل الطبري عن مجاهد تفسير التأويل الوارد في قوله: تعلى(هل ينظرون إلا تأويله) [الأعراف: 52] أنه الجزاء، وفسره قتاده بالثواب، والسدى بالعاقبة، وابن زيد بالحقيقة( انظر تفسير الطبري، 8/204). وكل هذه المعاني تحمل معني المآل والعاقبة.
    وقد وردت لفظة التأويل في سورة يوسف في ثمانية مواضع، وكان معنى التأويل فيها العاقبة والحقيقة التي يرجع إليها الشيء في تفاسير السلف [ انظر، ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، المكتب الإسلامي، ط1، سنة 1384،2/117، وابن تيمية، مجموع الفتاوي، 3/290الرياض، مصورة، وتفسير ابن كثير، 2 /220].
    وقال ابن تيمية: (وأمّا التأويل في لفظ السلف فله معنيان:
    أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقارباً، أو مترادفاً...
    وثانيهما: هو نفس المراد بالكلام، فإن الكلام إن كان طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبراً كان تأويله نفس الشيء المخبر به)[ ابن تيميه، الفتاوي، الإكلييل، 13/288].وعلى هذا فان علماء السلف يقرون أن معنى التأويل لا يخرج عن معنيين وهما التفسير، والحقيقة.         عند المتأخرين:
    ذهب ابن حزم إلى أن التأويل هو نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره، وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر، فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان نلقه واجب الطاعة فهو حق، وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح، ولم يلتفت إليه، وحكم لذلك النقل بأنه باطل)[الظاهري، ابن حزم، على ابن أحمـد، الإحكـام في أصـول الأحكام، تحقيق: محمد عبد العزيز، مكتبة عاطف، ط1، 1398هـ، 1/48] فالتأويل عنـده هـو صـرف اللفظ من معنى إلى معنى آخر وهذا الصرف لا يدخل على النصوص المحكمة وإنما على الظاهرة المحتملة، ولكي يتحقق ابن حزم من حصول عملية الصرف من المعنى الظاهر إلى المرجوح اشترط أن يكون الصارف برهاناً قوياً و إلا كان باطلاً ولم يلتفت إليه وسنتكلم عن تفاصيل هذه المسألة فيما بعد .

    وذهب أبو حامد الغزالي إلى تعريف التأويل فقال: (احتمال يعضده دليل، يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر، ويشبه أن يكون كل تأويل صرفاً للفظ عن الحقيقة إلى المجاز)[ المستصفي، 1/245]ويشترط الغزالي في الدليل الصارف للظاهر أن يكون معتبراً يوثق به و إلا لا يصح هذا الصرف ولا يؤخذ بالمعنى الذي آل إليه الظاهر وسيأتي الحديث عن هذه المسألة عند ذكر ضوابط التأويل الصحيح.
    وذهب الفخر الرازي إلى ما ذهب إليه الغزالي، واشترط لصحة هذا التأويل الصارف للظاهر عن معناه أن يكون مقروناً بدليل يصيره راجحاً فقال: (هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح مع قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال) [ الرازي، فخر الدين، " 606"، المحصول في علم الأصول، تحقيق: طه جابر العلواني، الرياض سنة1399هـ، 1/3/232] ويصرح الفخر الرازي بذكر  بعض الشروط والضوابط اللازمة في تحصيل المعنى الصحيح عند صرف اللفظ الظاهر، فيقول: (.. وأعلم أن الإنصاف أنه لا سبيل إلى استفادة اليقين في هذه الدلائل اللفظية إلا إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين، سواء كانت تلك القرائن مشاهدة، أو كانت منقولة إلينا بالتواتر)[ المحصول، 1/1/575].
    ونختم هذا بذكر تعريف موفق الدين بن قدامه لأهميته حيث قال: (والتأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الظاهر إلى احتمال مرجوح به لاعتضاده بدليل يصير به أغلب الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر )[روضة الناظر، ص92] وقد أشار إلى(أن الاحتمال يقرب تارة ويبعد أخرى وقد يكون الاحتمال بعيداً جداً فيحتاج إلى دليل في غاية القوة، وقد يكون قريباً فيكفيه أدنى دليل، وقد يتوسط بين الدرجتين فيحتاج دليلاً متوسطاً. وقد يكون في الظاهر قرائن تدفع الاحتمال بمجموعها وآحادها لا تدفعه)[روضة الناظر، ص92].
    العلاقة بين التأويل والمجاز والحقيقة :
    ظهر لنا معنى التأويل آنفاً وأنه يدخل على كل ظاهر محتمل فيصرفه من معناه الراجح إلى معنى آخـر مرجـوح وقـد رأي الغزالي وهو يعرف التأويل أن هناك علاقة وطيدة فقال: ( ويشبه أن يكون كل تأويل صرفاً للفظ عن الحقيقة إلى المجاز، وكذلك تخصيص العموم برد اللفظ عن الحقيقة إلى المجـاز، فإنه إن ثبت أن وضعه وحقيقته للاستغراق فهو مجاز في الاقتصاد على البعض، فكأنه رد له إلى المجاز، إلا أن الاحتمال تارة يقرب وتارة يبعد.. ) [المستصفي، 1/245].

    فإذا كان الظاهر يحتاج إلى تأويل فكذلك تترك الحقيقة إلى المجاز وفي الجميع يحتاج الأمر إلى قرينة أو دليل ليحسن صرف اللفظ من معنى إلى معنى، ولذلك عرف العلماء المجاز بأنه (ما أفيد به معنى مصطلح عليه غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة التي وقع التخاطب بها لعلاقة بينه وبين الأول)[ المحصول في أصول الفقة، 1/395-397] وعرفوه أيضاً مع الحقيقة بقولهم: (الحقيقة لفظ مستعمل فيما وضع له ابتداء.. والمجاز: اللفظ المستعمل بوضع ثان لعلاقة)[ السبكي، عبد الوهاب"771هـ"، جمع الجوامع مع حشية البناني على شرح المحلي، بالقاهرة، مطبعة الحلبي، ط2، دون سنة، 1/300-304].
    فالأصل ألا يزال اللفظ عن حقيقته وموضوعه لا بتأويل ولا مجاز إلا بحجه ولهذا لو دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فلا بد من تقديم الحقيقة و إلا حصل اللبس و التخليط يقول ابن حزم في ذلك (فكل خطاب خاطبنا الله – تعالى- أو رسوله  لا ينقل عن موضوعه إلى معنى آخر فإن وجد ذلك أخذناه على ما نقل إليه ) [ ابن حزم، الإحكام، 4/28]. ثم عقب ابن حزم على ذلك بقوله: (وهذا الذي لا يجوز غيره ومن ضبط هذا الفصل وجعله نصب عينيه ولم ينسه، عظمت منفعته به جداً، وسلم من عظائم وقع فيها كثير من لناس)[ السابق] وما ذكره ابن حزم ردده غيره، وكل ذلك يعتبر من الشروط والضوابط التي تمنع الغالين من البغي، ومجاوزة الحدود، وتضطرهم إلى المهابة و التقيد بما ورد .

    المطلب الثالث
    أقسام التأويل وضوابطه


    أولاً: أقسام التأويل :
    قسم العلماء التأويل إلى قسمين لا ثالث لهما :
    أولاً: التأويل الصحيح، ثانياً: التأويل الفاسد
    يقول ابن تيمية: ( إنا لا نذم كل ما يسمى تأويلاً مما فيه كفاية، إنما نذم تحريف الكلم عن مواضعه، ومخالفة الكتاب والسنة، والقول في القرآن بالرأي )[ ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 6/20-21] فهذا هو التأويل الصحيح وهذه شروطه،  فبما دل عليه الدليل لا يذم، ولا محذور فيه، وإن كان فيه صرفُ للفظ عن ظاهره، ما دام أن هذا التفسير مأخوذ من نصوص الشرع نفسها، والدليل عليه صحيح وإن كان السلف لا يسمون هذا تأويلاً، لكن كانوا يأتون به عملياً ويسمونه تفسيراً قال ابن تيمية( ويجوز باتفاق المسلمين أن نفسر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى ويصرف الكلام عن ظاهره، إذ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السنة، وإن سمى تأويلاً وصرفاً عن الظاهر، فذلك لدلالة القرآن عليه، ولموافقة السنة والسلف عليه، لأنه تفسير للقرآن بالقرآن، ليس تفسيراً له بالرأي، والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين)[ مجموع الفتاوي، 6/21].
    وبالجملة فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الشرع هو التأويل الصحيح، والذي يخالفها هو التأويل الفاسد[ انظر ابن القيم، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تحقيق: على الدخيل الله، الرياض، ط1، سنة1408، 1/187، وشرح العقيدة الطحاوية، 1/256].
    والتأويل الفاسد: هو الذي لا يحظَ بدليل يصيره راجحاً وموافقاً قال الغزالي: (فليس كل تأويل مقبولاً بوسيلة كل دليل، بل ذلك يختلف ولا يدخل تحت ضبط) [ المستصفي، 1/245].
    وقال السبكي: (.. فإن حمل لدليـل فصحيح، أو ما يظن دليلاً ففاسد، أولا شيء فعبث لا تأويل )[ السبكي، جمع الجوامع، 2/35] وعرفه ابن النجار"972" (حمل ظاهر على محتمل مرجوح بلا دليل محقق لشبه يخيل للسامع أنه دليل وعند التحقيق تضمحل)[التفوحي، محمد بن أحمد، المشهور بابن النجار، شرح الكوكب المنير، تحقيق محمد الزحيلي وغيره، مركز البحث العلمي مكة سنة 1402هـ، 3/461].

    وبالجملة: فالتأويل الفاسد هو ما كان فيه صرف الظاهر إلى معنى آخر بدون دليل أصلاً، أو بشبهة يظنه المؤول دليلاً وليس بدليل، وقد عنف ابن حزم من ذهب إلى التأويل الفاسد ونسبه إلى الجهل فقال )وبالجملة، فمن أراد إخراج الأمور عن حقائقها في المبادئ، ثم عن حقائقها في المعاهد ، فينبغي أن يتهم في دينه، وسوء أغراضه، فإن سلم من ذلك فلا بد من وصمه في عقله أو قوة في جهله)[ابن حزم، الإحكام، 4/33].
    ثانياً: ضوابط التأويل الصحيح :
    لا شك أن التأويل الوارد في معاجم اللغة وما جاء واضحاً عن السلف الصالح تفسيراً للقرآن وبياناً له لا يحتاج بحث وطول معاناة أمَّا الذي جاء عن المتأخرين من أهل الأصول والكلام والذي تضمن صرف الألفاظ عن ظاهرها فهذا الذي يحتاج إلى شروط وضوابط حتى تبقى الألفاظ مصونة من الانحراف والتميع والتلاعب ويصد به عن حياض اللغة والدين كلُ منْ تزين له نفسه العبث والقول بما شاء.
    فما أحوجنا إلى معرفة ما يسوغ تأويله مما لا يسوغ حتى لا نزيغ وما أجمل ما قاله ابن تيمية في هذا المعنى(ولهذا لمّا لم يكن لهم قانون قويم وصراط مستقيم في النصوص، لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل والتي لا تحتاج إليه، إلا بما يرجع إلى نفس المتأول المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب) [ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 5/24].ولهذا عقد ابن القيم – رحمه الله – فصلاً سماه( تعجيز المتأولين عن حقيقة الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ)[انظر، الصواعق المرسلة، 1/111].
    وما ذكره ابن قتيبة من أن أكثر غلط المتأولين من جهة المجاز (.. حيث تشعبت بهم الطرق، واختلفت النحل، فالنصارى تذهب في قول المسيح عليه السلام في " الإنجيل":" أدعو أبي، وأذهب إلى أبي" وأشباه هذا إلى أبوة الولادة، ولو كان المسيح قال هذا في نفسه خاصة دون غيره، ما جاز لهم أن يتأولوه هذا التأويل في الله - تعلى عما يقولون علواً كبيراً- سعة المجاز) [ابن قتيبة، تأويل مشكلة القرآن، ص103]، لأجل ذلك لا بد من نظام معين، وقانون مرتب، يخلص من خلاله لفهم المعاني ولا يكون ذلك إلا بتمييز التأويل الصحيح من التأويل الفاسد،  لهذا نشرع في بيان ضوابط التأويل الصحيح مع أمثلة ونماذج يتضح فيه المقال بعد ذكر الحال.

    ذكر الضوابط بصورة إجمالية:

    ذكرها موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامه المقدسي "620" فقال: (والدليل يكون قرينة، أو ظاهراً آخر، أو قياساً راجحاً. ومهما تساوي الاحتمالان وجب المصير إلى الترجيح، وكل متأول تحتاج إلى بيان احتمال اللفظ لما حمله عليه ثم إلى دليل صارف له وقد يكون في الظاهر قرائن تدفع الاحتمال بمجموعها وآحادها) [روضة الناظر، ص92].
    وقال فخر الدين الرازي(الدلائل السمعية المقرونة بتلك القرائن الثابتة بالأخبار المتواترة مفيدة لليقين([الرازي فخر الدين محمد بن عمر، الأربعين في أصول الدين، مطبعه دائرة المعارف العثمانية، ط1، سنة 1335هـ].
    وقال ابن القيم(.. السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته، فانظر إلى قول الله – تعالى- (ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم) [الدخان:49] كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير) [ ابن قيم الجوزية، أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر، بدائع الفوائد، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون طبعة، 4/169].
    ذكر أثر الخلل في الضوابط بالجمله:
    قال ابن الوزيـر: ( يتكلـف المتكلمون كلهم التأويلات البعيدة تارة لما لا يمكن تأويله لو دل دليل قاطع على امتناع ظاهره ولكن لا قاطع محقق إلا مجرد دعوى وتارة لما لا يمكن تأويله إلا بتعسف يشابه تأويل القرامطة وربما استلزم بعض التأويلات مخالفة الضرورة الدينية وهم لا يعلمون ولا يؤمن الكفر في هـذا المقام في معلوم الله تعالى وأحكام الآخرة) وقال أيضاً:(.. النقص في الدين برد النصوص والظواهر ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدجل على ثبوت الموجب للتأويل.) [ ابن المرتضي، أبوعبد الله محمد، إيثار الحق على الخلق، دار الكتب العلمية، بيروت سنة 6318، ص121-122].
    وقال ابن القيم: (.. وهذا موضع زلت فيه أقدام كثير من الناس، وضلت فيه أفهامهم، حيث تأولوا كثيراً من ألفاظ النصوص بما لم يؤلف استعمال اللفظ له في لغة العرب البتة... وهذا مما ينبغي التنبه له، فإنه قد حصل بسببه من الكذب على الله ورسوله ما حصل) [ابن القيم، الصواعق، 1/189].

    وقال أبو الحسن الأشعري) لأن القرآن على ظاهره، ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة.. ويقول: وقد أبطلنا حمل الألفاظ على المجاز إلا بحجة)[ الأشعري، أبو الحسن، الإبانة، تحقيق: فوقيه حسنين محمود، دار الأنصار، ط1، سنة 1397هـ، ص149-140ٍٍ].
    وقال ابن حزم:( فالواجب أن لا يحال نص عن ظاهره إلا بنص آخر صحيح مخبر أن على غير ظاهره... أو بإجماع متيقن كإجماع الأمة... فصح لنا أن البيان لنا: إنما هو حمل القرآن والسنة على ظاهر هما وموضوعها فمن أراد صرف شيء من ذلك إلى تأويل بلا نص ولا إجماع فقد افترى على الله تعالى وعلى رسوله  وخالف القرآن، وحصل في الدعاوى وحرف الكلم عن مواضعه)[ ابن حزم، أبو محمد على بن أحمد، النبذة الكافية في أحكام أصول، تحقيق: محمد عبد العزيز، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، سنة 1405هـ، ص36-37].

    ضوابط التأويل الصحيح مفصلة ونماذج عليها:

    أولاً:
    1-         أن يكون التأويل في مجاله وموضوعه المحدد كما بيناه سابقاً، حيث لا يدخل التأويل على النصوص المحكمة في مراد المتكلم وتحميله التأويل افتراء ظاهر على صاحب الشرع، وهذا شأن عامة النصوص الشرعية في معناها كنصوص التوحيد والمعاد وغيرها وهذا القسم إذا سمحنا للتأويل بدخوله، رجع الشرع كله متأولاً لأنه أظهر الأقسام ثبوتاً، وأقواها دلالة فقبول ما عداه للتأويل أقـرب من قبولـه بكثير. [ أنظر، الصواعق المرسلة 1/382، بدائع الفوائد 1/15].
    2-         ما هو ظاهر في مراد المتكلم وقد احتفت به قرائن تقويه، يقول الإسنوي "772هـ" (يجوز أن يريد الله بكلامه خلاف ظاهره إذا كان هناك قرينة يحصل بها البيان) [ الإسنوي، عبد الرحيم بن الحسن، نهاية السول في شرح منهاج الأصول للإسنوى 1/194] والقرينة قد تكون متصلة يقصد بها دلالة سياق وتركيب الكلام على المعنى المراد باللفظ، فإن سياق الكلام هو الذي يحدد معنى اللفظ ويبين المراد منه، وأما القرينة المنفصلة فهي ما يكون خارج ألفاظ الخطاب كدلالة الحال والعقل على المعنى المراد باللفظ.
    ويمثل ابن تيمية بنموذج القرينة الماثلة في السياق لتحديد المعنى المراد بالوجه في قوله تعالى: ( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) [سورة البقرة:117] فقال( والسياق يدل عليه؛ لأنه قال:( أينما تولوا) وأين من الظروف وتولوا أي تستقبلوا فالمعنى: أي موضع استقبلتموه، هذا بعد قوله: ( ولله المشرق والمغرب) وهي الجهات كلها، كما في الآية الأخرى: ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [البقرة:   ] [ابن تيمية، مجموع الفتاوي، 6/16] ويؤكد ابن القيم ما ذهب إليه ابن تيمية باعتبار سياق الكلام قرينة مهمة لتحديد المعنى فيقول: (.. ولذلك لا يجوز تفسير اللفظ بمعنى يحتمله في أصل اللغة دون نظر إلى موقعـه من الكلام في سياقه وتركيبه) [ ابن القيم، انظر بدائع الفوائد، 1/15، الصواعق المرسلة1/89] ولولا القرائن التي حفت النص، لحملت الآية على أنها من آيات الصفات، ولكان معنى الوجه فيها يحمل على أنه صفة ذات، أسوة بالآيات الأخرى التي ذكر فيها الوجه وكان صفة وهذا اختيار الشافعي ومجاهد وابن تيمية، أما ابن القيم فإنه جوز حمل الوجه في الآية على الوجهين بمعنى القبلـة علـى تقدير وعلى أن يكون صفة بتقدير آخر[ انظر، مختصر الصواعق2/183، ومجموع الفتاوي، 3/193] فالقرائن تتحكم في توجيه ظاهر اللفظ.
    3-   ما ليس بنص ولا ظاهر في المراد، بل هو مجمل يحتاج إلى بيان وهذا القسم دائر بين ثلاثة أحوال:
    أن يكون مع هذا النص بيانه ومثاله: قوله تعالى: ( وكلم الله موسى تكليماً) [ سورة النساء:146] فرفع توهم صرف معنى "كلم" إلى أي معنى آخر بالمصدر المؤكد لحقيقة الكلام وفي هذا يقول ابن قتيبة:( أن أفعال المجاز لا تخرج منها المصاد ولا تؤكد بالتكرار – وقال في الآية - إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) [سورة النحل:40] فوكد القول بالتكرار، ووكد المعنى بإنما... وقال: ولا يقـال في مثل هذا المعنى: تكلم، ولا يعقلُ الكلام إلا بالمنطق بعينه) [ تأويل مشكل القرآن، 109-111].
    أن يكون بيان بيانه منفصلاً عنه في نص آخر، ومثاله: قوله تعالى:( إنا أنزلناه في ليلة مباركة)[ سورة الدخان:3] فبقي الاحتمال في ما هية هذه الليلة، ومقدار بركتها فجاء البيان في سورة أخرى، وهو قوله تعالى: ( إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر)[سورة:1-3].
    أن يكون له عده معان، وليس معه ما يبين مراد المتكلم، يقول ابن القيم:( فهذا للتأويل فيه مجال واسع، وليس في كلام اله ورسوله من هذا النوع شيء من الجمل المركبة، وإن وقع في الحروف المقطعة المفتتح بها السور )[الصواعق المرسله، 1/389] فظهر بهذا:
    أنه لا تأويل في المنصوص وهو المسمى بواضح الدلالة.
    أن الظاهر يمتنع تأويله إلا بما يوافق عرف المتكلم وعادته المطردة.
    أن المجمل لابد أن يكون له مبين يتعين المصير إليه.
    أنه لا يوجد في النصوص المتضمنة للمطالب الشرعية نص مجمل غير مبين.
    ثانياً: أن يحتمل اللفظ المؤول المعنى المصروف إليه عن ظاهره في ذلك التأويل الذي وقع فيه، وإلا كـان تحريفـاً وكذبـاً على اللغة فإن اللفظ قد لا يحتمل ذلك المعنى لغة، وقد يحتمله لغة ولا يحتمله في ذلك التركيـب الخاص ويمثل له الغزالي بقوله:(ما رأيته في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطى الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطى العلم لغيره ويخله، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، وإما أن يكون واحداً في نفسه وموجوداً وعالماً على معنى اتصافه فلا. فهذا كفر صراح؛ لأنه حمل الوحده على اتحاد الوحدة ليس من التأويل في شيء ولا نحتمله لغة العرب أصلاً... فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبر عنها بالتأويلات)[الغزالي"505" فصل التفرقة ضمن مجموعة الرسائل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1سنة 1414، ص90] ولهذا ذكر ابن القيم بطلان هذا التأويل من أكثر من أربعين وجهاً[انظر، الصواعق المرسلة، 1/292-293، ومختصر الصواعق، 2/126] مثال آخر: ذهب المعتزلة إلى تأويل الاستواء الوارد في الآيات القرآنية الكثيرة ومنها قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)[طه:5] وقوله:( ثم استوى على العرش)[يونس:3]وقالوا: المراد به الاستيلاء والقهر والاقتدار [انظر شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار، ص226]، ولم يفطنوا إلى أن لفظ الاستواء في هذا المعنى "الاستيلاء" لا يطلق على الله؛ لأنه لا بد له من مقابل ينافسه ولهذا قال ابن الأعرابي الكوفي اللغوي النحوي"231"( العرب لا تقول استولى على العرش فلان حتى يكون له فيه مضاد فأيهما غلب قيـل قد استولى عليه، والله تعلى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر) [لسان العرب، 19/140].
    ثالثاً: أن يقيم الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره إذا الأصل عدمه وادعاؤه لابد فيه من دليل. يقول ابن تيمية:( والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليـل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر)[ ابن تيمية، الأكليل، ضمن مجموع الفتاوي، 13/288].
    وعقب ابن قدامه على هذا الضابط بقوله ).... إلا أن الاحتمال يقرب تارة ويبعد أخرى، وقد يكون الاحتمال بعيداً حداً فيحتاج إلى دليل في غاية القوة، وقد يكون قريباً فيكفيه أدنى دليل، وقد يتوسط بين الدرجتين فيحتاج دليلاً متوسطاً)[روضة الناظر، ص، 92].
    ومثل الآمدي لذلك بقوله  :" أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل باطل باطل" [قال ابن حجر: أخرجه أبو داودو الترمذي وحسنه، وصححه أبو عوانه والحاكم، فتح الباري9/191] صدَّر الكلام "بأي وما " في معرض الشرط والجزاء وذلك من أبلغ  أدوات العموم عند القائلين به، وأكده بالبطلان ثلاث مرات وهو من أبلغ ما يدل به الفصيح المصقع على التعميم والبطلان ، وقد طرق إليه أصحاب أبي حنيفة ثلاث تأويلات الأوًّل: أنَّه يحتمل أنه أراد بالمرأة الصغيرة، الثاني: أنه وإن أراد بها الكبيرة، فيحتمل أنه أراد بها الأمة والمكاتبة، الثالث: أنه يحتمل أنه أراد ببطلان النكاح مصيره على البطلان غالباً، بتقدير اعتراض الأولياء عليه، إذا زوجت نفسها من غير كفؤ. وهذه التأويلات ممّا لا يمكن المصير إليها في صرف هذا العموم القوى المقارب للقطع، عن ظاهره.
    أما الحمل على الصغيرة، فمن جهة أنها لا تسمى امرأة في وضع اللسان؛ ولأن النبي  حكم بالبطلان، ونكاح الصغيرة لنفسها دون إذن وليها، صحيح عندهم،  موقوف على إجازة الولي. وأما الحمل على الأمة، فيدرأه قوله  " فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها" ، ومهرُ الأمة ليس لها بل لسيدها. وأما الحمل على المكاتبة فبعيدٌ أيضا من جهة أنها بالنسبة إلى جنس النسـاء نادرة،  واللفظ المذكـور من أقوى مراتب العموم، وليس من الكلام العربي إطلاق ما هـذا شـأنه، وإرادة ما هـو في غاية الندرة والشذوذ...)[ الأمدي، الأحكام، 3/81، والمستصفي1/250].
    رابعاً: ألا يعود التأويل على أصل النص الشرعي بالإبطال ومثل له الغزالي بقوله:( ومثال تأويل أبي حنيفة في مسألة الأبدان حيث قال عليـه الصلاة والسلام: " في أربعيـن شاة شاة" [الترمذي 3/17/621، الزكاة، ما جاء في زكاة الأبل والغنم] فقال أبو حنيفة: الشاة غير واجبة، وإنما الواجب مقدار قيمتها من أي مال كان، قال بعض الأصوليون فهذا باطل؛ لأنه اللفظ نص في وجوب شاة، وهذا دفع وجوب الشاة، فيكون رفعاً للنص، فإن قوله: (وآتوا الزكاة) [النساء:77] للإيجاب، وقوله: عليه السلام: " في أربعين شاة شاة" بيان للواجب وإسقاط وجوب الشاة دفع للنص ) [ المستصفي، 1/247].
                  ورد أبو الحسن الأشعري علي خصومه هذا التأويل الفاسد بقوله: ( لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السماوات... وقال أيضاً: فكل ذلـك يدل على أنه - تعالى- في السماء، مستو: على عرشه... استواء منزها عن الحلول والإتحاد )[الأشعري، الإبانة، ص107-119] فالنص يثبت العلو لله تعلى فأي تفسير للاستواء بالاستيلاء والقهر يعود على النص بالإبطال[ النظر، الباقلاني، التمهيد ص262].
    خامساً: أن يكون المعني المصروف غليه عن ظاهره مما يجوز نسبته إلى الشارع لأن المتأول يخبر عن مراد الشارع، وفي ذلك يقول بعض العلماء.[التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وبعدها تحتمله، كشف الظنون، دارالفكر1/335]. ومثل له كثير من العلماء بضرورة حمل " اليدين" الواردة في قوله تعالى ( يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)[ص:75] على الصفة فقال البيهقي:( فلا يجوز أن يحمل على الجارحة... ولا على القوة والملك والنعمة والصلة؛  لان الاشتراك يقع حينئذ بين وليه آدم وعدوه إبليس، فيبطل ما ذكر من تفضيله عله لبطلان معنى التخصيص، فلم يبق إلا أن يحملا على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفاً له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدر)[ البيهقي أبو بكر بن الحسين بن على، الأسماء والصفات، تحقيق: عبد الله بن عامر، دار الحديث، سنة1423هـ، ص237-458 " انظر مجموع الفتاوي، 6/364-365والباقلاني، التمهيد، ص258].
    سادساً: الجواب عن المعارض، لكي يكون التأويل صحيحاً لابد من الجواب عن المعارض؛ فإن مدعي الحقيقة والظاهر قد أقام الدليل العقلي والسمعي على إدارة الحقيقة والظاهر أما العقلي فمن وجهين عام وخاص، فالعام هو الدليل الدال على كمال علم المتكلم، وكمال بيانه، وكمال نصحه، والدليل على ذلك أقوى بكثير من الشبه الخيالية التي يستدل بها المؤولة، وأما الخاص فإن كل صفة – مثلاً- وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله فيه صفة كمال قطعاً فلا يجوز تعطيل صفات كماله وتأويلها بما يبطل حقائقها، وأما الأدلة السمعية القاضية بأصالة الحقيقة والظاهر فتقارب ألف دليل فعلى المتأول أن يجيب نحن ذلك كله وهيهات[ انظر، الصواعق المرسلة، سنة294، ومختصره، 2/   ، ومجموع الفتاوي، 6/360].
    وقال ابن تيمية (... وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني ليبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصاً قاطعاً لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهراً فلا بد من ترجيح)[مجموع الفتاوي، الرسالة المدنية، 6/361].
    هذه الضوابط إذا تحققت ساغ التأويل وكان صحيحاً وإلا فلا، قال الآمدي:(وإذا عرف معنى التأويل فهو مقبول معمول به، إذا تحقق بشروطه، ولم يزل علماء الأمصار في كل عصر من عهد الصحابة إلى زمننا عاملين به من غير نكير) [ الآمدي، الأحكام، 3/75] ولهذا فإن التأويل الفاسد المردود هو الذي جرد من الدليل وخالف الأصول والمبادئ ومداره على المناقضة لما صح من معاني.

    الخاتمة وفيها نتائج البحث


    ظهر لنا من خلال هذا البحث المتواضع ما يلي:
    أولاً: لا تأويل في المحكم وهو النص الذي لا يحتمل أكثر من معنى.
    ثانياً: أن الظاهر يمتنع تأويله إلا بما يوافق عرف المتكلم وعادته المطرده، ولابد أن يخضع لنظام محدد يعرف من خلاله مجموعة الضوابط اللازمة.
    ثالثاً: من السهل تسمية التحريف تأويلاً وهذا ما وقع لكثير من المخالفين حيث أطلقوا على صرف النصوص والألفاظ بغير وجه حق تأويلاً وهو في الحقيقة تلاعب وعبث ويكثر هذا عند الصوفية ومن اشتغل بالفلسفة وعلم الكلام وأهل الباطن.
    رابعاً: لا يمكن الوصول إلى المعنى السليم المنسجم مع اللغة العربية ومبادئها، والنصوص الشرعية ومراجعها إلا وفق معايير فائقة الدقة، وتبع لضوابط رزينة تقي النص من آفات التأويل الفاسد.
    خامساً: من أهم مميزات التأويل الفاسد، الحيرة والشك وعدم الانضباط تحت ضوابط معينة واضحة، والاختلاف والتفرق في الدين وفقدان الوحدة الفكرية والعقدية، وبعثرة الموضوع الواحد وتشتيت الفهم.
    سادساً: يمكن إجمال الأدلة المعتبرة في ضوابط التأويل الصحيح.
    نصوص الكتاب والسنة.
    الإجماع.
    القرينة.
    النظر الصحيح أو سلامة دليل التأويل من المعارض المقاوم.
    سابعاً: آثار التأويل الصحيح على أخلاق وسلوك العاملين به واضحة ومنتجه على كافة المستويات بخـلاف الآثـار المدمـرة الناشـئة عن مفاهيم مستنبطة من تأويلات غير موزونة و لا معتمدة.

    التوصيات

    العمل على إيجاد مصنف حافل يجمع معاني المصطلحات ويهتم بتوفيرها بين يدي الباحثين.
    التنبيه من خلال المحاضرات والدورات الهادفة وغيرها إلى ما يثار ويشاع من ثقافات مغرضة تستهدف طموحات البلد وأصوله الحضارية.
    الاهتمام ما أمكن بتعليم الأجيال أصول اللغة العربية كالنحو والبلاغة والتاريخ، وإرشادهم إلى محاسن المصادر والمراجع .

    مراجع البحث ومصادره


    أبو حامد الغزالي"550"، المستصفي من علم الأصول، بيروت، دار أحياء التراث العربي، ط1، سنة 1418هـ.
    أحمد بن قدامة المقدسي"620"، روضة الناظر وجنة المناظر، بدون طبعة وسنة.
    أمام الحرمين الجويني"478"، متن الورقات، القاهرة، مركز البحث العلمي، ط1، سنة 1422.
    الآمدى"631"، سيف الدين على بن أبي علي، الإحكام في أصول الأحكام، بيروت، دار الكتب العلمية، بدون طبعة، سنة 1400هـ.
    ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، مجموع الفتاوي، الرياض المصورة ط1.
    ابن كثير "774"، تفسير القرآن العظيم، مكتبة الصفا، ط1، سنة1423هـ.
    الأزدي بن دريد "321"، جمهرة اللغة، تحقيق: رمزي بعلبكي، بيروت دار العلم للملايين، بدون تطبعه، سنة 1987.
    أبو العباس المبرد "285" محمد بن يزيد، الكامل، تحقيق: محمد أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، بدون طبعة سنة 1987.
    الأزهري محمد بن أحمد"370" تهذيب اللغة، تحقيق: إبراهيم الأبياري، القاهرة –الدار المصرية، بدون طبعة، سنة1987.
    ابن زكريا، أحمد بن فارس "395"، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة، مطبعة الحلبي، ط2، 1969.
    ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، تحقيق: رشاد سالم، الرياض، مطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، سنة 1401هـ.
    ابن حزم الظاهري، على بن محمد " 456"، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق محمد عبتد العزيز، مكتبة عاطف، ط1، سنة 398.
    ابن حزم الظاهري، النبذة الكافية في أحكام أصول الدين، بيروت، دار الكتب العلمية.
    الإيجي، عبد الرحمن بن أحمد، المواقف في علم الكلام، بيروت، مكتبة، مكتبة سعد الدين.
    ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير، المكتب الإسلامي، ط1، سنة 387هـ.
    الرازي، فخر الدين"606"، المحصول في الأصول، تحقيق:طه جابر العلواني، الرياض، سنة 1399هـ.
    الرازي، فخر الدين محمد بن عمر، الربعين في أصول الدين، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، ط1، 1353هـ.
    الإسنوي"772"، عبد الرحيم بن الحسن، نهاية السول في شرح منهاج الأصول بدون طبعة وسنة.
    ابن المرتضى، أبو عبد الله محمد، إيثار الحق على الخلق، بيروت، دار الكتب العليمة، سنة 1318هـ.
    الأشعري، أبو الحسن إسماعيل"   "، الإبانة عن أصول الديانة، تحقيق: فوقيه حسن، القاهرة، دار الأنصارط1، سنة 1397.
    ابن القيم الجوزية، بدائع الفوائد، بيروت، دار الكتاب العربي، بدون طبعة وسنة.
    ابن القيم، الصواعق على الجهمية والمعطلة، تحقيق: على الدخيل الله، الرياض، ط1، سنة 1408.
    ابن القيم، مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، دار الفكر، بدون طبعة وسنة.
    ابن جرير الطبري، جامعة البيان، تحقيق: أحمد شاكر، القاهرة، الحلبي، سنة 1388هـ.
    تفسير القاسمي، جمال الدين، محاسن التأويل، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، سنة 18.
    ابن قتيبة، محمد بن عبد الله بن مسلم، تأويل مشكل القرآن، تحقيق: أحمد صقر، المكتبة العلمية، بدون طبعة.
    السبكي، "756"، على بن عبد موسى، "790"، الموافقات في أصول الشريعة بيروت، دار الكتب العلمية، بدون طبعة وسنة.
    الشاطبي، إبراهيم بن موسى " 790"، الموافقات في أصول الشريعة بيروت، دار الكتب العلمية، بدون طبعة وسنة.
    الفارابـي اللغـوي"350"، ديوان الآدب، تحقيق أحمد مختار، المطابع الأميرية، سنة 1394هـ.
    الطحاوية، القاضي، على بن على محمد بن أبي العز الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية حققها: جماعة من العلماء، ط1، سنة 1399.
    السبكي، عبد الوهاب "771هـ" جمع الجوامع مع حاشية البناني على شرح المحلي، القاهرة، مطبعة الحلبي، ط2، بدون   .
    البيهقي، أحمد بن حسين، الأسماء والصفات، ط1، سنة 1405.

    مراجع استفاد منها الباحث


    أبطال التأويلات، القاضي أبو يعلي.
    إبكار الأفكار، الآمدي.
    إثبات صفة العلو، لموفق الدين ابن قدامه المقدسي.
    تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة.
    اختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والشيهه لابن قتيبة.
    الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد لإمام الحرمين.
    أساس التقدير، للفخر الرازي.
    الإمام ابن تيمية وموقفة من قضية التأويل، محمد السيد الجليند.
    الاعتصام، للشاطبي.
    الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة، للبيهقي.
    التعريفات، الجرجاني.
    تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية.
    الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد بن حنبل، لمحمد بن محمد السعدي.