تمهيد
يوجد علاقة متبادلة بين الثلاثي ( المجتمع والثقافة والشخصية ) ، وسوف نوضح هذه العلاقة من خلال تناول : تعريف المجتمع ووظائفه ، وتأثيره على الثقافة والشخصية ؟ وكيف تؤثر الثقافة على الشخصية ؟ وكيف تؤثر الشخصية على الثقافة ؟أولا : تعريفات المجتمع
ليس هناك تعريف واحد متفق عليه لمصطلح المجتمع ؛ فقد اختلف العلماء في تحديد مفهوم المجتمع, والنماذج التي يصح إطلاق المجتمع عليها , إلا أنهم وضعوا تعريفات عديدة منها :تعريف إميل دوركايم : " جماعة من الناس يعيشون على قطعة محددة من الأرض لفترة من الزمن ، بحيث يكونون معا ثقافة مشتركة تميزهم عن غيرهم من المجتمعات "
تعريف آلان جونسون : " نظام اجتماعي له خصائص ثقافية وبنائية وسكانية واقتصادية ،وأهم ما يميز المجتمع هو وجوده في منطقة جغرافية محددة ، وله ثقافة محددة ، ونمط حياة ، وحكم ذاتي نسبي ، واستقلالية واكتفاء ذاتي "
تعريف مصطفى النجار : " الاطار العام الذي يحدد العلاقات التي تنشأ بين الأفراد الذين يعيشون داخل نطاقه في هيئة وحدات أو جماعات ، ويجب ان تكون هذه العلاقات مستقرة وقائمة بصفة مباشرة "
يرى د. عاطف غيث : ان التعريفات المتعددة للمجتمع تنبع من استخداماته الثلاثة وهي :
مجموع العلاقات الاجتماعية بين الناس
تجمع بشرى يرتبطون معا داخل جماعة اجتماعية لها كيانها ونظمها وثقافتها المتميزة
النظم والثقافة التي تتحقق عند جماعة من الناس.
يمكننا تعريف المجتمع بأنه " مجموعة من الأفراد يعيشون معافي بقعة محددة من الأرض ، ولهم ثقافة مشتركة ، ويكونون معا شبكة من العلاقات الاجتماعية التي تجمعهم في مصالح وأهداف واحدة ، ولهم تاريخ مشترك يميزهم عن غيرهم من الأفراد."
ويمكننا أن نميز بين نوعين من المجتمعات :
1-المجتمعات الصغيرة التقليدية : وتتميز بالبساطة مثل مجتمعات الرعي والزراعة
2- المجتمعات الكبيرة : وتتميز بالتعقيد وعدم التجانس مثل المجتمعات الحضرية.
ثانيا : وظائف المجتمع
المجتمع ضروري لبقاء الانساناستطاع الانسان التكيف وتجاوز الصعاب في البيئة المحيطة به لوجوده في المجتمع ولتعاونه مع الأخرين في سبيل اشباع احتياجاته الطبيعية ، فقد ادرك الانسان بفطرته انه لكى يكتب له البقاء والاستمرار لابد وان يعيش في سلام مع الآخرين فتنازل بمحض ارادته عن جزء من حريته للآخرين مقابل حمايته ومساعدته على توفير احتياجاته .
كما أدرك الانسان انه لكى يعيش لابد أن يتعلم بعض المهارات التي تساعده على التكييف مع البيئة الطبيعية المحيطة به ، ومن هنا كان المجتمع الإنساني نتاج طبيعي لعملية التكيف مع البيئة.
المجتمع ضروري لتحديد هوية الفرد
يقصد بالهوية " الصورة الذهنية التي يكونها الفرد عن ذاته عندما ينفصل عن والديه وأسرته ويصبح عضوا في المجتمع " ويستمد الفرد هويته الاجتماعية من خلال المجتمع ، فهو يتعرف على ذاته من خلال الجماعة التي ينشأ فيها ، والجماعات التي ينتسب لها كالأسرة التي ينشأ فيها ، والطبقة الاجتماعية التي ينتمى اليها ، والدين الذي يعتنقه .
والفرد لا يستطيع التعرف على نفسه ، وماهي مكانته في المجتمع الا من خلال وضعه مع الآخرين من حوله ، لذا فالمجتمع هو البوتقة التي تحدد هوية الفرد .
المجتمع مهم لتحديد مكانة الفرد في المجتمع
المجتمع هو المسئول الأول عن تحديد مكانة الفرد في المجتمع ، ومكانة الفرد هى التي تحدد الدور المتوقع من الفرد أداؤه في وضع اجتماعي معين ، وتختلف الأدوار الاجتماعية باختلاف المراكز الاجتماعية التي يشغلها الفرد ، كما تختلف الأدوار من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى . ( دور الأب في المجتمع العربي يختلف عن دور الأب في مجتمع التروبرياند)
المجتمع يساعد على خلق ثقافة مشتركة
من أهم وظائف المجتمع انه يساعد على تكوين ثقافة مشتركة لأبنائه ، فوجود الأفراد مع بعضهم البعض لفترة طويلة من الزمن وفي بقعة محددة من الأرض ساعدهم على تكوين ثقافة واحدة تمييزهم عن الثقافات الأخرى.
ثالثا : أثر الثقافة على الشخصية
تمهيد :الثقافة هى البوتقة التي تحيط بالطفل منذ الصغر وتجعل منه انسانا ؛ فالفرد يتعلم كيف يتصرف كإنسان من خلال الثقافة السائدة في مجتمعه ، والثقافة هى التي تحدد أساليب التنشئة الاجتماعية التي يتعرض لها في سنوات حياته الأولى .
وجدير بالذكر أن أساليب التنشئة الاجتماعية ليست واحدة في كل المجتمعات ، بل تختلف من مجتمع لآخر وتختلف في نفس المجتمع من وقت إلى آخر .
ويأتي الانسان الى الوجود مثله مثل الحيوانات الأخرى يحتاج الى اشباع الاحتياجات الغريزية ( كالغذاء والشراب والجنس ... الخ ) لكن الانسان يتميز عن غيره من الحيوانات بالعقل الذي أهله لاختراع الثقافة التي تساعده على اشباع احتياجاته بوسائل مقبولة اجتماعيا ، فالثقافة هى التي تشكل شخصياتنا كأفراد ، ويمكن تحديد أهم آثار الثقافة على شخصية الفرد فيما يلي :
1- أثر الثقافة في الناحية الجسمية
تؤثر الثقافة السائدة في كل مجتمع على السمات الجسمية لأفرادها ؛ فالسمنة والرفع ولن البشرة وشكل الشعر وغيرها من مواصفات الجمال تتأثر بنظرة المجتمع وتقييمه للجمال ، ففي الماضي كان ينظر الى السمنة على انه من مواصفات الجمال في المرأة العربية ، اما في وقتنا الحالي فان الرفع وقله الوزن أصبح من مواصفات المرأة الجميلة . وهكذا نجد ان الثقافة السائدة تلعب دورا كبيرا في تشكيل أجسام أفرادها .
2- أثر الثقافة في الناحية العقلية
تؤثر ثقافة المجتمع على النواحي العقلية والمعرفية للأفراد ؛ فهناك مجتمعات تشجع أفرادها على المعرفة العلمية واستخدام التفكير المنطقي والعقلاني ، في حين نجد ان هناك مجتمعات أخرى تشجع أبناءها على ارجاع الأمور والظواهر الى الغيبيات والقوى الخفية والسحر ، وعدم محاولة البحث عن الأسباب الرئيسية للمشكلة.
كذلك فان الابداع يتأثر بثقافة المجتمع فبعض المجتمعات تشجع على التخيل والابداع عن طريق توفير مساحة من الحرية لأفرادها ، وتشجيعهم على الابداع الفكري والأدبي ؛ بينما نجد مجتمعات أخرى لا تحث أفرادها على التخيل فهم يعرفون ما يرون فقط .
3- أثر الثقافة في الناحية المزاجية
اثبتت كثير من الدراسات أن العوامل الوراثية ليست وحدها التي تشكل مزاج الشخص وانفعالاته ، وان الثقافة لها أثرا كبيرا في الصفات المزاجية للفرد ؛ فان كانت الطبيعة الانفعالية شيء فطرى لدى الفرد إلا أن الثقافة تلعب دورا هاما في تشكيل طريقة التعبير عن الانفعالات والمشاعر ، والفرد يكتسب هذه السمات من الأسرة التي ينشأ فيها فهي سمات مكتسبة لا وراثية .
وتشجع بعض الثقافات أفرادها على التحكم في عواطفهم وانفعالاتهم ، في حين نجد أن هناك ثقافات تحث أفرادها على اظهار عواطفهم ومشاعرهم بلا تحفظ ( مثلا الانجليز لا يميلون الى البكاء بصوت عال عند وفاة أحد الأقارب مثلما يفعل المصريون )
4- أثر الثقافة في الناحية الأخلاقية
هناك صلة كبيرة وتداخلا بين بين النواحي الخلقية والعقلية والمزاجية للشخصية ، ومن الصعوبة الفصل بينهما ، غير ان الناحية الخلقية أقرب النواحي الى عوامل البيئة والوسط الاجتماعي والثقافة المهيمنة على الفرد ، فالأخلاق السائدة في المجتمع هى المحصلة الناتجة عن تفاعل النواحي المزاجية والعقلية مع عوامل البيئة الاجتماعية والثقافية .
القيم الأخلاقية نسبية وتختلف من ثقافة الى أخرى ، فالثقافة هى التي تحدد النسق القيمي للأفراد ؛ فما يعتبر حلالا في مجتمع ، قد يعتبر حراما في مجتمع أخر ، والصواب والخطأ يختلف باختلاف الثقافة السائدة ( مثلا السرقة تعتبر من الجرائم في المجتمعات الحديثة ولكنها كانت مباحة لدى كثير من الشعوب البدائية والقديمة )
وهكذا فليس صحيحا ان الصفات الخلقية ترجع إلى الفطرة والوراثة فقد أثبتت الأدلة الحديثة أن كثير من الصفات الخلقية ترجع الى حد كبير إلى فوارق الثقافة ، ومن ثم فان الصفات الخلقية يجب تفسيرها في اطار الثقافة التي تخضع لها
رابعا : أثر الشخصية على الثقافة
قد يتصور البعض أن الثقافة مجموعة من المعارف والمهارات والعادات والاتجاهات التي يكتسبها الفرد بشكل تلقائي من المجتمع المحيط به ، وان الفرد يتقبلها ويستسلم لها دون أي مقاومة أو رفض .ولكن الحقيقة أن الانسان لا يتقبل الثقافة ولا يكتسبها بشكل تلقائي سلبي دون اختيار أو تعقل ، فاكتساب الثقافة يختلف من فرد الى أخر باختلاف العوامل الوراثية والنفسية الخاصة بكل فرد وباختلاف أساليب التفاعل الاجتماعي التي يتعرض لها الفرد ، ومن ثم فان اكتساب الثقافة وتعاملنا معها يختلف من فرد إلى آخر .
أي ان الانسان يختار من الثقافة ما يناسب تكوينه الفيزيقي والنفسي وما يتناسب ومفاهيمه وتفكيره واتجاهاته ، فهو يأخذ من الثقافة ويضيف اليها ، وكل منا يؤثر على الثقافة بشكل مختلف عن الآخر .
والثقافة تحاول الحفاظ على نفسها من التفكك والانحلال بفرض العموميات على ابنائها ، وهذه العموميات هي التي تحافظ على استمرارية الثقافة .
ويمكن للشخصية أن تؤثر على الثقافة من خلال عدة جوانب هي :
1- الاكتشافات
أهم ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الأخرى هو العقل الذي مكنه من اختراع الثقافة واكتشاف الثروات الطبيعية والاستفادة منها مثل النفط والطاقة الشمسية. .. الخ .
الاكتشاف يعنى أن الشيء موجود ولكنه مختفي ، والانسان هو الكائن الذي تمكن من الكشف عنه بواسطة العقل ، أما الحيوانات فهي غير قادرة على ذلك ؛ فالشمس موجودة منذ الأزل لكن الحيوانات لم تستطع ان تكتشف هذه الطاقة ، فهى تستفيد من الشمس بشكل سلبي ، بينما نجد أن الانسان استطاع تحويل هذه الطاقة إلى طاقة أخرى واستغلها في توليد الكهرباء . كما استطاع اكتشاف النفط واستغله في العديد من الصناعات
2- الاختراعات
من اسهامات الانسان في الثقافة اختراعه لأشياء وأدوات جديدة غيرت حياة الانسان وغيرت علاقته بالبيئة المحيطة لبه ، ومن هذه الاختراعات : اللغة ، الكهرباء ، الطاقة البخارية ، والسيارة ، الطائرة ، الكمبيوتر ... وغيرها من الاختراعات التي أدت الى رفاهية الانسان .
3- ظهور الأنبياء والرسل
لا يقتصر تأثير الانسان في الثقافة على الجوانب المادية فقط ، بل يمتد الى الجوانب المعنوية ، فقد استطاع الانسان أن يغير الكثير من الثقافات بأفكاره ومبادئه ؛ فظهور الأنبياء والرسل في العصور المختلفة كان له الأثر الكبير في تغيير مجرى التاريخ ، وفي تغيير حياة الناس وعاداتهم وتهذيب أخلاقهم ، والاجابة على التساؤلات التي تدور في عقل الانسان .
وكان للرسالات السماوية الثلاث ( اليهودية والمسيحية والاسلام ) الأثر الكبير في تغيير حياة ملايين البشر وانتقالهم من حياة الفوضى إلى الاستقرار ، ومن الظلم إلى العدالة ، ومن الكفر إلى الايمان .
4- الحركات الاصلاحية
كان للحركات الاصلاحية التي قام بها بعض الفلاسفة والمفكرين الأثر الكبير في اصلاح المجتمعات وتعديل الكثير من المفاهيم والأفكار الخاطئة لديهم ورفع الظلم عن الآخرين مثل : أفكار مارتن لوثر كنج في أمريكا ، وأفكار غاندي في الهند ، وافكار نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا ، ومحمد بن عبد الوهاب في السعودية .... وغيرهم .
5- الثورات والحروب .
لم يقتصر تأثير الانسان على الثقافة وعلى أفكاره فحسب ، بل على الأفعال كذلك ؛ فقد قاد الانسان الثورات وأسس الدول التي غيرت مجرى التاريخ مثل : الثورة الفرنسية ، والثورة في الجزائر ومصر ، وتأسيس الملك عبد العزيز للدولة السعودية في شبه جزيرة العرب .
ولم يكن تأثير الانسان على الثقافة والمجتمعات ايجابيا في جميع الأحوال ، بل كان سلبيا في الكثير من الأحوال ، فالإنسان أكثر الكائنات الحية اضرارا بالبيئة من خلال التلوث البيئي الذي أحدثه في هذا الكون .
كما قاد الانسان العديد من الحروب التي دمرت البشرية ، وأزهقت الأرواح ؛ مثل : الحرب العالمية الأولى الثانية التي حصدت ملايين الأرواح البريئة من النساء والشيوخ والأطفال .
ونخلص من ذلك كله إلى : أن العلاقة بين الشخصية والثقافة والمجتمع علاقة متبادلة وكل منهم يؤثر ويتأثر بالآخر ، والفرد كجزء من هذا الثالوث يؤثر ويتأثر بكل منها .