الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على نبيه ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم. هناك عيدين في الإسلام: عيد الأضحى وعيد الفطر، أما الاحتفالات الأخرى كالاحتفال بذكرى مولد الرسول فهي ليست إلزامية ولا ممنوعة. ومع ذلك وصلنا إلى وقت بتنا نسمع فيه الكثير من الانتقادات لهذا الاحتفال. ولم أشأ أن أتطرق إلى هذا الموضوع من قبل بسبب وجود قضايا أهم تشغل بال المسلمين في وقتنا الحاضر. فنحن نعيش في زمن يهدم فيه أعداء الإسلام أمة النبي من الداخل والخارج بلا رحمة، فيما يوجد القليل فقط من المؤمنين القادرين على مواجهتهم. وقد وصلنا إلى زمن جاهلية جديدة أضحت فيه الحقيقة سلعة، وبات الكذب هو الأصل.
نعيش اليوم في عصر يذبح فيه المسلمون في كل مكان. وقلوب المؤمنين تناجي الله عز وجل طالبة العون ليرسل إليهم من هو مؤيد بنصره وملائكته ليخلصهم من هاوية الجهل والقهر التي وقعوا فيها. وحيثما نظرنا نرى المسلمين يعذبون، ويقتلون ويؤذون لا لشيء إلا لقولهم «ربنا الله». وما يحدث في البوسنة وأذربيجان وكشمير وتايلندا وطاجكستان والجزائر، كما في كثير من أنحاء المعمورة لشواهد مرعبة على الطرق التي يعامل بها الإسلام والمسلمون، وبين الآلاف المؤلفة من العلماء ليس هناك سوى قلة منهم على استعداد لأن تدب الصوت وتطالب بالتغيير والعودة للشريعة وسنة المصطفى .
هذه هي حالنا، وفي هذا الوضع كنت متردداً لأن أبحث في أي موضوع قد يساء فهمه مما قد يثير فتنة بين المسلمين. فالله سبحانه وتعالى قد أمر في كتابه العزيز: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا (آل عمران: 103).
ومع ذلك نرى، وأكثر من أي مرة سابقة، أن ما يؤلم المسلمين ليس جميعه من تدبير أعدائهم. فمن بين أظهرنا تهاجم الأمة وتصاب إصابات بالغة من أناس معروفين لا نحب أن نسميهم. هم لا يحبذون مقارعة أعداء الدين لكنهم يجدون ضرورة في محاربة المسلمين والجماعات المؤمنة في العالم الإسلامي. لذلك وجدت لزاماً علي أن أعد العدة لكي أرد عن المؤمنين كيد هؤلاء المسلمين الذين لا هم لهم سوى إيجاد العيوب في إيمان المسلمين الآخرين بينما أعداء الأمة يمزقونها شر ممزق. وهم يجهدون في إيجاد أي نقطة يعتبرها أئمتهم موضع شك كعذر للازدراء والحط من إيمان المسلمين فيكيلوا إليهم نعوتاً من أمثال: مشركين، كافرين، مبتدعين. ولا يجدون أسهل من أن يبدلوا ما اتفق عليه أئمة المسلمين على مدى أربعة عشر قرناً ويسمونه: بدعاً، شركاً أو كفراً.
لذا، ومن أجل حماية المسلمين والمؤمنين من هكذا اتهامات خاطئة وغير مقبولة، خاصة في أميركا وكندا، حيث هناك ندرة في العلماء القادرين على الرد على هؤلاء الجهلة، وجدت لزاماً عليّ أن أعد هذا الرد. وإن شاء الله فإني سأسرد الحقائق والبراهين على جواز الاحتفال بالمولد النبوي من القرآن والسنة واجتهاد أئمة المسلمين بنية الرد على انتقاد وتشكيك بعض العلماء الجهلة الذين يدّعون الإلمام بكل أمور الدين وكذلك من أجل مشاركة الآخرين بالفهم الذي أنعم الله به على علماء الإسلام الحقيقيين. وقبل أن نخوض في الشرح أود أن أطرح ثلاثة أمور:
1 – إن الاحتفال بذكرى مولد النبي جائز، وأن الاجتماع للاستماع إلى السيرة والمدائح النبوية جائز، وإطعام الطعام وإدخال البهجة إلى قلوب الأمة في تلك المناسبة جائز.
2 - إن الاحتفال بالمولد النبوي يجب ألا يكون فقط يوم الثاني عشر من ربيع الأول بل يجب أن يقام في كل يوم من كل شهر وفي كل مسجد، لكي يشعر الناس بنور الإسلام ونور الشريعة تدخل في قلوبهم.
3 – ونقول بأن هذه التجمعات في المولد مفيدة ومنشطة لجهة دعوة الناس للإسلام وتعليم الأطفال أمور الدين، كما أن فيها فرصة ذهبية لا تعوض لكل الأئمة والدعاة لكي يرشدوا ويذكَروا الآمة المحمدية بأخلاقه وطريقة عبادته ومعاملته للناس. وهذه إحدى السبل لجعل الأطفال يحبون النبي ويذكرونه. عن طريق الحلوى والعصير والهدايا لإدخال البهجة إلى قلوبهم.
معنى الاحتفال بالمولد
إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو الاحتفال بالإسلام عينه، ذلك لأن النبي هو رمز الإسلام.
يقول الإمام متولي الشعراوي في كتابه "مائدة الفكر الإسلامي" ص 295، إذا كان بنو البشر فرحون بمجيئه لهذا العالم، وكذلك المخلوقات الجامدة فرحة لمولده وكل النباتات فرحة لمولده وكل الحيوانات فرحة لمولده وكل الجن فرحة لمولده، فلماذا تمنعونا من الفرح بمولده.
الأدلة على أن الاحتفال بالمولد النبوي جائز
أثر الاحتفال بالمولد على الكفار
إن الابتهاج والاحتفال بيوم مولد النبي يعود بفائدة، بفضل الله ورحمته، حتى على الكافرين. وقد جاء في صحيح البخاري الذي ذكر في حديثه بأنه في كل يوم اثنين يطلق سراح أبي لهب من عذاب القبر لأنه أعتنق جاريته ثويبة عندما بشرته بخبر مولد النبي ه.
قال ابن كثير وهو من أئمة السلف في كتاب "البداية والنهاية" إن أول من أرضعته هي ثويبة مولاة أبي لهب وكان قد أعتقها حين بشرته بولادة النبي . ولهذا لما رآه أخوه العباس بعد موته في المنام بعدما رآه بشر خيبة، سأله: ما لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم خيراً غير أني سقيت في هذه بعتاقتي لثويبة (وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع). وأصل الحديث في الصحيحين. وقد ذكر السهيلي وغيره أنه قال لأخيه العباس في هذا المنام: وإنه ليخفف عني في كل يوم اثنين.
وهذا الحديث مذكور في صحيح البخاري في «كتاب النكاح». وقد ذكره ابن كثير في كتبه «سيرة النبي» الجزء الأول ص 124، وفي كتاب «مولد النبي» ص 21، وفي كتاب «البداية والنهاية» ص 272 – 273
كما أن الحافظ شمس الدين بن نصر الدين الدمشقي كتب الأبيات التالية في كتابه «مورد الصادي في مولد الهادي».
بتبّت يداه في الجحيم مخلّدا
إذا كان هذا كافراً جاء ذمه
يخفف عنه للسرور بأحمدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائماً
بأحمد مسروراً ومات موحّدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره
تبيان النبي على أن ولادته جاءت يوم الاثنين
وقد روي في صحيح مسلم في «كتاب الصيام» عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: سئل رسول الله عن صوم يوم الاثنين، فقال: هذا يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه رواه مسلم.
ونورد أيضاً من أقوال الشيخ متولي الشعراوي: إن أشياء عجيبة حدثت يوم مولده كما ورد في الحديث والتاريخ، ولم تكن ليلة مولده كأية ليلة من ولادات بني البشر. وقد وردت هذه الأحداث والأحاديث العائدة لها كاهتزاز عرش كسرى، وانطفاء النار بفارس بعد أن دامت ألف عام، وغيرها في كتاب ابن كثير «البداية والنهاية» الجزء الثاني ص 265-268.
ونورد لكم من كتاب ابن الحاج «كتاب المدخل» الجزء الأول ص 261: «يجب علينا في كل يوم اثنين من ربيع الأول أن نكثر من العبادات لنحمد الله على ما أتانا من فضله بأن بعث فينا نبيه الحبيب ليهدينا للإسلام والسلام… فالنبي عندما سئل عن صوم يوم الاثنين أجاب: هذا يوم ولدت فيه. لذا، فهذا اليوم يشرف ذاك الشهر لأنه يوم النبي ... وقد قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر.وقال: آدم ومن جاء بعده تحت لوائي يوم القيامة. رواها الشيخان بخاري ومسلم. وقد أورد في صحيحه أن النبي قال: ولدت يوم ذاك الاثنين وفي مثله نزل عليّ أول الوحي. وقد أعطى النبي اهتماماً ليوم مولده وحمد الله على نعمة خلقه بأن صام في هذا اليوم كما هو وارد في حديث أبي قتادة. ونفيد من ذلك أن النبي كان يعبر عن فرحه بهذا اليوم بالصوم، وهو نوع من العبادات. وبما أن النبي أبدى اهتماماً بهذا اليوم بصومه عرفنا أن العبادة في مختلف أشكالها جائزة لبيان مكانة هذا اليوم. وحتى لو تغير الشكل فالمحتوى قائم لذا فالصوم أو إطعام المساكين، أو الاجتماع لمدح النبي أو تبيان مناقبه وخلقه الحسن كلها طرق لتبيان أهمية ذاك اليوم.
وقد جاء الأمر الإلهي بالابتهاج بمبعث النبي بقوله تعالى في كتابه العزيز: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا (يونس: 58).
وقد جاء هذا الأمر لأن الفرح يجعل القلب شاكراً لرحمة الله. وأية رحمة إلهية أعظم من النبي إذ قال الله تعالى فيه: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء: 17).
ولأن النبي بعث رحمة للعالمين كان لزاماً ليس على المسلمين فقط، بل على كافة البشر أن يفرحوا به. ولكن مع الأسف نجد أن بعض المسلمين هم في طليعة العاصين لأمر الله بالابتهاج بنبيه.
احتفال النبي بالمناسبات التاريخية الكبرى
كان النبي دائم الربط بين المناسبات الدينية والأحداث التاريخية، وكلما مرت مناسبة هامة نبَه أصحابه للاحتفال بذلك اليوم والتأكيد على أهميته حتى لو كان الحدث قد تم في زمن سحيق. وهذا البدء يؤكده الحديث التالي من صحيح البخاري في كتاب الصوم باب 69 وكتاب الأنبياء باب 24 وابن ماجد ومالك في الموطأ والإمام أحمد: أن النبي قدم إلى المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه قوم فرعون، ونجى موسى، فنحن نصومه شكراً لله تعالى فقال: نحن أولى بصوم موسى منكم.
قال تعالى: صلوا على النبي
إن في إقامة ذكرى مولد النبي ما يحث على الثناء والصلاة عليه وهو واجب أمرنا الله تعالى بالقيام به:
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (الأحزاب:56)
فمجرد الاجتماع وذكر النبي يجعلنا نثني ونصلي عليه، فمن له ان يمنع الالتزام بواجب أمرنا الله به في كتابه العزيز. ولعمري ففي إنفاذ أمر من أمور الله نكتسب نوراً يملأ قلوبنا بفيض لا حد له. والجدير بالذكر أن هذا الأمر أتى بالجمع: إن الله وملائكته يصلون على النبي، كأنهم في اجتماع منعقد، فمن الخطأ الجسيم والحال هذه أن يقال بأن الصلاة على النبي يجب أن تكون على انفراد.
التكليف بالازدياد في حب النبي وتشريفه
يطلب الله من النبي بأن يذكّر أمته بأن على من يدعي حب الله عليه أن يحب نبيه أيضاً:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله 0(آل عمران: 31).
فالاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف يعد من الالتزام بالتكليف بحب النبي وطاعته والإقتداء بسنته والفخر به لأن الله سبحانه وتعالى يفخر به في كتابه العزيز:
وإنك لعلى خلق عظيم (القلم: 4).
فحب النبي هو ما يميز المؤمنين في كمال إيمانهم. ففي حديث صحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله قال:
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين رواه البخاري ومسلم فكمال الإيمان يعتمد على حب النبي لأن الله تعالى وملائكته دائمون في تشريفه كما جاء في الآية السابقة: إن الله وملائكته يصلون على النبي. فالأمر الإلهي الذي جاء بعد هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه صحيح وواضح بأن صفة الإيمان تعتمد وتتجلى بالصلاة على النبي. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ضرورة معرفة السيرة النبوية والإقتداء بها
ومن البديهي أن تكون لنا دراية عن نبينا عن حياته، معجزاته، مولده، أخلاقه، إيمانه، آياته، خلواته وعبادته، وبعد أوليست هذه المعرفة واجبة على كل مسلم؟ فما الذي هو أفضل من الاحتفال وتذكر مولده الذي يمثل أساس حياته كمقدمة لنكتسب المعرفة عن حياته؟ فبتذكرنا لمولده نبدأ بتذكر كل شيء عنه، وبذلك يرضى الله عنا لأننا حينئذ نصبح قادرين على أن نعرف سيرة النبي على وجه أفضل، ونصبح أكثر استعداداً لكي نجعله مثالاً لنا نصلح به عثراتنا ونقتدي به. ولهذا كان الاحتفال بالمولد فضلاً عظيماً أرسل ألينا.
قبول النبي للقصائد المنظومة في مدحه
في زمن النبي كان من المعروف أن الشعراء يأتون بقصائد كثيرة يمدحونه فيها ويذكرون فيها غزواته ومعاركه وصحابته. والبرهان على ذلك واضح من الأشعار الكثيرة الواردة في سيرة ابن هشام، وأعمال الواقدي وغيرهما، وقد كان النبي راضياً عن الشعر الحسن وجاء في «الأدب المفرد» للبخاري قوله: «في الشعر حكمة». كما أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وهو عم النبي قد نظم شعراً مدح فيه مولد النبي ومن هذه الأبيات المذكورة في «حسن المقصد» للسيوطي (صفحة 5) وكتاب المولد لابن كثير (صفحة 30):
أرض وضاءت بنورك الأفق
النور وسبل الرشاد نخترق
وأنت لما ولدت أشرقت ال
فنحن في ذلك الضياء وفي
قال ابن كثير في كتاب المولد: قال أصحاب رسول الله كنا إذا اشتدت الحرب اتقينا برسول الله ، وقد كان يوم حنين حين انهزم أصحابه عنه وولوا مدبرين. ولم يبق إلا في نحو من مئة من أصحابه، وحده في مواجهة عدة من الألوف، في العدة الباهرة من الرماح والسيوف، وهو مع ذلك على بغلته يهمزها إلى وجوه أعدائه وينوه باسمه ويقول:
أنا ابن عبد المطلب
أنا النبي لا كذب
وقد رضي النبي عن الذين مدحوه لأن في ذلك امتثالاً لأمر الله وقد أعطاهم مما أعطاه الله. فلو عملنا شيئاً للتقرب من النبي فإنما نكون نعمل للتقرب من الله عز وجل كما أن التقرب من النبي يعود علينا بمرضاة الله تعالى.
غناء وإنشاد الشعر
وقال ابن القيم في كتاب مدارج السالكين أن النبي أقر عائشة على غناء القينين يوم العيد. وقال لأبي بكر "دعهما. فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا أهل الإسلام". وبأنه أذن بالغناء في العرس وسماه لهواً. وقد سمع رسول الله الحداء (أي الشعر). وأذن فيه. وكان يسمع أنساً والصحابة، وهم يرتجزون بين يديه في حفر الخندق:
على الجهاد ما بقينا أبدا
نحن الذين بايعوا محمداً
ودعا لحسان أن يؤيده الله بروح القدس ما دام ينافح عنه وكان يعجبه شعره وقال له اهجهم وروح القدس معك. وأنشدته عائشة قول أبي بكر الهذلي:
وفساد مرضعة وداء مغيل
برقت كبرق العارض المتهلل
ومبرئ من كل غبّر حيضة
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
وقال عائشة «أنت أحق بهذا البيت يا رسول الله» فسر بقولها.
وقد ذكر ابن القيم أيضاً قصيدة عبد الله بن رواحة المطولة في مدح النبي عندما دخل مكة، وبأنه دعا له. كما أنه خلع بردته على كعب بن زهير بعد أن ألقى قصيدته الشهيرة في مدح النبي وطلب النبي من أسود بن سارح بأن يصنع قصائد يثني فيها على الله عز وجل، كما أنه طلب من أحدهم أن ينشد معلقة «أمية بن أبي السلط».
ترتيل وتلاوة القرآن
يقول ابن القيم في كتابه (ص. 488): أذن الله لنبيه بأن يرتل القرآن. وفي ذات يوم كان أبو موسى الأشعري يرتل القرآن على مسمع من النبي ، فلما فرغ أثنى عليه لترتيله وقال له: إنك لذو صوت حسن، والله لقد أعطيت مزماراً من مزامير داوود. فقال أبو موسى: يا رسول الله لو كنت أعلم بأنك تسمعني لرتلت بصوت لم تسمع مثله قط. وتابع ابن القيم يقول بأن النبي قال: «زينوا القرآن بأصواتكم» و«من لم يرتل القرآن فليس منا».
ويعلق ابن القيم في الصفحة 490 قائلاً: «الطرب جائز طالما أنه موافق للشرع» وهو كالاستمتاع بمنظر جميل للجبال أو الطبيعة، أو برائحة زكية، أو مأكل طيب، ولو كان الاستماع للصوت الحسن حراماً لكان الاستمتاع بكل هذه الأشياء حراماً أيضاً.
ويختتم ابن القيم بقوله (صفحة 498): والاستماع إلى صوت حسن في احتفالات المولد النبوي أو أية مناسبة دينية أخرى في تاريخنا لهو مما يدخل الطمأنينة إلى القلوب ويعطي السامع نوراً من النبي إلى قلبه ويسقيه مزيداً من العين المحمدية.
تحديد النبي لأيام وأماكن ولادة الأنبياء
لقد حدد النبي في حديثه أيام وأماكن ولادة الأنبياء السابقين. فمن حديثه عن مكانة يوم الجمعة أنه قال: في هذا اليوم خلق الله آدم، وفيه أن أهمية يوم الجمعة تعود لكون آدم ولد فيه وهو نبي وأب لجميع الناس فكيف باليوم الذي خلق فيه أعظم الأنبياء وخير البشر. عن العرباض بن ساريه السلمي رضي الله عنه قال قال رسول الله : إني عند الله لخاتم النبيين وآدم مجندل في طينته رواه ابن كثير في كتاب مولد رسول الله ورواه أحمد في مسنده والبيهقي في دلائل النبوة.
عن شداد بن عويس أمر جبريل عليه السلام النبي بصلاة ركعتين ببيت لحم ثم قال له: أتدري أين صليت؟ قال: لا، قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى رواه البزار وأبو يعلي والطبراني. وكذلك الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، ورجاله رجال الصحيح ج1 ص47 وقد نقل هذه الرواية الحافظ بن حجر في الفتح ج7 ص199.
إجماع العلماء على جواز المولد
إن إقامة ذكرى المولد النبوي لعمل تقبّله علماء المسلمين في جميع أنحاء العالم. وهذا يعني أن الله عز وجل يقبله بحسب ما جاء في الحديث عن ابن مسعود بأن ما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح، أخرجه أحمد في المسند.
تاريخ الاحتفال بالمولد
المولد في مكة بحسب المؤرخين المسلمين وتكريم موضع ولادة النبي
مكة، أم القرى، زادها الله رفعة وشرفاً، هي رائدة المدن الإسلامية في الاحتفال بالمولد وغيره. وقد ذكر الأزرقي وهو من مؤرخي القرن الثالث الهجري في كتابه أخبار مكة (ص. 160 الجزء الثاني) أنه من بين الأماكن التي تستحب الصلاة فيها المنزل الذي ولد فيه النبي . وقال أيضاً بأن المنزل قد تم تحويله سابقاً إلى مسجد على يد أم الخليفتين موسى الهادي وهارون الرشيد.
كما ذكر النقاش وهو من علماء القرآن (ص. 266 – 351) بأن موضع ولادة النبي هو مكان يستجاب فيه الدعاء عند الظهر من كل يوم اثنين. ذكره الفاسي في كتاب شفاء الغرام (ص. 199 الجزء الأول)، وغيره.
أول ذكر لاحتفال عام بالمولد
إن أقدم المصادر التي ذكر فيها إقامة احتفال عام لذكرى المولد هي كتاب رحال (ص. 114 115) لابن جبير (ولد عام 540 وتوفي عام 614 هجرية):
يفتح هذا المكان المبارك أي منزل النبي ويدخله جميع الرجال للتبرّك به في كل يوم اثنين من شهر ربيع الأول ففي هذا اليوم وذاك الشهر ولد النبي .
وذكر أبو العباس العظافي وابنه أبو القاسم العظافي وهما من مؤرخي القرن السابع عشر في كتاب الدر المنظم والذي لم ير سبيله إلى النشر:
كان الحجاج الأتقياء والمسافرون البارزون يشهدون أنه في يوم المولد في مكة لا يتم بيع ولا شراء كما تنعدم النشاطات ما خلا وفادة الناس إلى هذا الموضع الشريف. وفي هذا اليوم أيضاً تفتح الكعبة وتزار.
ويروي ابن بطوطة المؤرخ الشهير من القرن الهجري الثامن في رحلته (الجزء الأول ص. 309 – 347) : أنه بعد كل صلاة جمعة وفي يوم مولد النبي يفتح باب الكعبة بواسطة كبير بني شيبة، وهم حجّاب الكعبة، وأنه في يوم المولد يوزع القاضي الشافعي وهو قاضي مكة الأكبر نجم الدين محمد ابن الإمام محيي الدين الطبري الطعام على الأشراف وسائر الناس في مكة.
ثلاث روايات للاحتفال بالمولد من القرن العاشر
الوصف التالي يطابق رواية ثلاث شهود أعيان لمرجعيات من القرن العاشر الهجري: وهم المؤرخ ابن زهيرة في كتابه الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها (ص. 326)، الحافظ ابن حجر الهيثمي من كتاب لم ينشر له بعنوان كتاب المولد الشريف المعظم، والمؤرخ النهروالي من كتابه الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص. 205:
في اليوم الثاني عشر لربيع الأول من كل عام وبعد صلاة المغرب يخرج قضاة المذاهب الأربعة في مكة مع أعداد غفيرة من الناس بما فيهم الفقهاء والفضلاء والشيوخ ومدرسي الزوايا وتلاميذهم وكذلك الرؤساء والمتعممين من المسجد ويقومون جميعاً بزيارة لموضع ولادة النبي وهم يذكرون ويهللون. أما البيوت التي تقع في طريقهم فتضاء جميعها بالمشاعل والشموع الكبيرة وتتواجد خارجها وحولها جموح غفيرة من الناس حيث يلبس الجميع ثياباً خاصة ويأخذون أولادهم معهم. وعندما يصلون إلى موضع الولادة تلقى خطبة خاصة لذكرى مولد النبي ثم يتم الدعاء للسلطان ولأمير مكة وللقاضي الشافعي ثم يصلي الجميع بخشوع. ثم قبيل صلاة العشاء يعود الجميع إلى المسجد الكبير وهو يعج بالناس فيجلسون في صفوف متراصة عند أعتاب مقام إبراهيم. وفي المسجد يبدأ الخطيب بالحمد والتهليل ثم الدعاء مرة أخرى للسلطان وللأمير وللقاضي الشافعي. بعد ذلك يؤذن لصلاة العشاء ويتفرق الجمع بعد الصلاة. وجاء وصف مطابق لهذا في كتاب تاريخ الخميس للديار بكري المتوفى عام 960 للهجرة.
الاحتفال بالمولد في البلاد الإسلامية المعاصرة
في كل دولة إسلامية معاصرة تجد الناس يحتفلون بذكرى المولد النبوي الشريف. وهذا ينطبق على مصر، سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين، العراق، الكويت، الإمارات، السعودية، (في أكثر البيوت وليس على الصعيد الرسمي)، السودان، اليمن، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا، جيبوتي، الصومال، تركيا، باكستان، الهند، سريلانكا، إيران، أفغانستان، أذربيجان، أوزباكستان، التركستان، البوسنة (يوغوسلافيا سابقاً)، إندونيسيا، ماليزيا، بروناي، سنغافورة، ومعظم الدول الإسلامية الأخرى. وفي أكثر الدول العربية يعتبر عطلة رسمية. فكل هذه الدول تحتفل بهذه المناسبة. فكيف يا أمة الإسلام تقوم فئة قليلة وتقول بأنه حرام مع أننا أوردنا رأي ابن القيم وسنقوم الآن بعرض رأي ابن تيمية وغيره.
الاحتفال بالمولد في مفهوم العلماء السلفيين والمدارس الأخرى
رأي ابن تيمية بالاحتفال بالمولد
هذا هو رأي الإمام ابن تيمية في المولد من مجمع فتاوى ابن تيمية الجزء 23 ص. 1634:
فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون لهم فيه أجر عظيم لحسن قصدهم وتعظيمهم لرسول الله
إجازة الإمام أحمد لتزيين المصحف
ونذكر هنا حادثة وقعت للإمام أحمد ابن حنبل شيخ مذهب ابن تيمية. فقد أخبره بعض الناس أن أميراً أنفق ألف دينار على تزيين مصحف فقال لا بأس فهذا خير مكان ينفق فيه الذهب.
ونسأل هل كان ابن تيمية يروّج بدعة عندما أذن بالاحتفال بالمولد؟
فهو لم يكتف بإجازته بل ذكر أن للمحتفلين أجراً عظيماً. نسأل أيضاً هل كان الإمام أحمد يصطنع بدعة عندما أجاز بتزيين المصحف. الجواب على كلا السؤالين هو النفي المطلق.
رأي ابن تيمية في مجالس الذكر
وهذا هو رأي ابن تيمية في مجالس الذكر ويقع في الجزء 22 ص. 523، طبعة الملك خالد بن عبد العزيز لمجمع فتاوى ابن تيمية:
وسئل رحمه الله عن الفقراء يجتمعون في مسجد يذكرون ويقرأون شيئاً من القرآن ثم يدعون ويكشفون رؤوسهم ويبكون ويتضرعون وليس قصدهم من ذلك رياء ولا سمعة، بل يفعلونه على وجه التقرب لله تعالى فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب: الحمد لله، الاجتماع على القراءة والدعاء حسن مستحب.
ثناء ابن كثير على ليلة المولد
ويذكر الإمام ابن حجر العسقلاني وهو محدث من أتباع ابن تيمية في كتاب الدرر الكامنة في عين الماء الثامنة. عن ابن كثير يقول وفي آخر أيامه دوّن كتاباً عنوانه مولد رسول الله بلغت شهرته الآفاق. هذا الكتاب يجيز ويحض على الاحتفال بالمولد، وفي ص. 19 يقول: إن ليلة مولد النبي كانت ليلة شريفة عظيمة مباركة سعيدة على المؤمنين، طاهرة، ظاهرة الأنوار جليلة المقدار.
آراء أخرى بالاحتفال بالمولد
وبحسب مفتي مكة أحمد زين المعروف بدهلان في كتابه السيرة النبوية والآثار المحمدية ص. 51: إن الاحتفال بالمولد وتذكر النبي مقبولان عند جميع علماء المسلمين وأكثر الاقتباسات التالية مأخوذة من هذا الكتاب.
قال الإمام السبكي: عندما نحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف يدخل الأنس قلوبنا ونشعر بشيء غير مألوف.
وقال الإمام الشوكاني في كتابه «البدر الطالع»: «إن الاحتفال بالمولد النبوي جائز». ويذكر أن الملاّ علي القاري كان له الرأي نفسه في كتاب اسمه المورد الراوي في المولد النبوي، وقد وضعه خصيصاً ليؤيد الاحتفال بالمولد النبوي.
وقال الإمام أبو شامة، شيخ الإمام النووي: أفضل ذكرى في أيامنا هي ذكرى المولد النبوي. ففي هذا اليوم يكثر الناس من الصدقات ويزيدون في العبادات ويبدون كثيراً من المحبة للنبي ويحمدون الله تعالى كثيراً بأن أرسل إليهم رسوله ليحفظهم على سنة وشريعة الإسلام.
وقال الإمام السخاوي: بدأ المولد بعد ثلاثة قرون من وفاة النبي واحتفلت به جميع الأمم الإسلامية، كما تقبله جميع العلماء بعبادة الله وحده بالصدقات وتلاوة السيرة النبوية.
وقال الحافظ ابن حجر الهيثمي: كما أن اليهود تحتفل بيوم عاشوراء بالصوم حمداً لله كذلك علينا الاحتفال بيوم المولد.
وأورد الحديث المذكور آنفاً: عندما قدم النبي إلى المدينة… فيستفاد منه (أي حديث صوم عاشوراء) فعل الشكر لله تعالى على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة. ويعاد هذا في نظير ذلك اليوم من كل سنة. والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادات كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من نعمة ظهور هذا النبي الذي هو نبي الرحمة في ذلك اليوم.
فضل الموت يوم الاثنين كما أورده البخاري
قال الإمام القسطلاني: وقد خصّ البخاري في كتابه عن الجنائز باباً خاصاً عن فضل الموت يوم الاثنين وفيه:
عن عائشة قالت دخلت على أبي بكر رضي الله عنه فقال: في كم كفنتم النبي ، قالت في ثلاث أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها: في أي يوم توفي النبي ؟ قالت يوم الاثنين، قال فأي يوم هذا؟ قالت يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل رواه البخاري في باب الجنائز باب موت يوم الاثنين.
ويتابع الإمام القسطلاني فيقول: فلماذا دعا أبو بكر لكي يكون موته يوم اثنين؟ أوليس لكونه يوم وفاة النبي ولكي يجوز على بركة ذلك اليوم فهل اعترض أحد على رغبة أبي بكر؟ ولماذا نرى أناساً يعترضون على الاحتفال والاهتمام بيوم المولد بقصد التبرك.
إجازة النبي لضرب الدف عند حسن القصد
قال الشيخ ابن عباد في رسائله إن للمولد النبوي مستنداً، يمكن أن يستروح منه وهو أن امرأة جاءت إلى النبي عند قفوله من بعض غزواته، فقالت: إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب على رأسك بالدف فقال لها أوفي بنذرك. الحديث مشهور.
رواه أبو داود كتاب الإيمان باب 22، والترمذي في المناقب باب 17، والإمام أحمد ج 5 ص. 353 – 356.
وتابع ابن عباد يقول: وما لا شك فيه أن ضرب الدف نوع من اللهو، حتى ولو أن النبي أمرها بإيفاء نذرها فقد فعله لحسن قصدها في تكريمه بعودته سالماً وليس بغرض معصية أو إضاعة الوقت. ويستتبع ذلك أنه لو احتفل أحدهم بالمولد النبوي بطريقة سليمة ونية حسنة بقراءة السيرة والثناء عليه لكان ذلك جائزاً.
ليلة المولد أعظم من ليلة القدر
قال ابن مرزوق: «قال الشيخ محيي الدين النووي الشافعي، بأن ليلة القدر هي أفضل من ليلة المولد وذلك إقرار من الشيخ بوجود ما يسمى بليلة المولد، لكن في رأيي حتى مع كون الشيخ محيي الدين عالماً ومحدثاً عظيماً فإن ليلة المولد هي أفضل من ليلة القدر ولو لم يكن محمداً لما كان هناك إسلام، والقرآن. ففي تلك الليلة أرسل الله رسوله الحبيب الذي جاء بالإسلام والقرآن ولما عرفنا الإسلام حتى وإن كان محمداً لا يزال في نطاق العبودية والله هو الخالق».
ليلة الإسراء والمعراج أعظم من ليلة القدر
وقد أورد ابن القيم في كتابه البدائع الجزء الثالث ص. 162 ما يلي:
وسئل شيخ الإسلام عن ليلة القدر أيهما أفضل؟ فأجاب بأن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي وليلة القدر أفضل إلى الأمة الخ…
ونحن نتساءل: إذا كان ابن تيمية قد سلّم بأن ليلة الإسراء يمكن اعتبارها أفضل من ليلة القدر لماذا لا تقبلوا منا أن نعتبر ليلة المولد أفضل من ليلة الإسراء بما أن ليلة المولد هي التي ولد فيها من قام بالإسراء والمعراج؟ وهكذا نقول كما قال ابن مرزوق: «ليلة المولد هي أفضل من ليلة القدر».
الاحتفال بالمولد أمر مندوب
يقول الإمام السيوطي في كتابه حسن المقصد في عمل المولد ص. 54 – 62:
«أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة وقربى… وكذلك نقول: أصل الاجتماع لإظهار شعائر المولد مندوب وقربى… وهذا معنى نية المولد، فهي نية مستحسنة بلا شك، فتأمل.
ويتابع الإمام السيوطي ص. 64 – 65:
وظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي، عن أنس، رضي الله عنه، أن النبي عقّ عن نفسه بعد النبوة. مع أنه قد ورد أن عبد المطلب قد عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل على أن الذي فعله النبي كان إظهاراً للشكر على إيجاد الله تعالى إياه، رحمة للعالمين، وتشريفاً لأمته، كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده باجتماع الإخوان، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجود القربات، وإظهار المسرات.
وهذا الحديث يؤكد الحديث السابق الذي يحدد فيه النبي بأن يوم الاثنين هو يوم مولده ويوم نبوّته.
شفاعة النبي في مفهوم العلماء السلفيين والمدارس الأخرى
لقد أثنى الله سبحانه وتعالى على النبي أمام المؤمنين إذ قال:
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (التوبة: 128).
فالله تعالى أعطى النبي الشفاعة لأنه أثنى عليه وباركه وصلى عليه وشرفه كثيراً ولولا ذلك لما أعطاه الشفاعة.
والأحاديث التالية تبين أنه حتى آدم لم يعط الشفاعة وبأن يهود خيبر كانوا يستشفعون به في دعائهم. ونحن في ذلك نفعل ما أمرنا به: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وإن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
أحاديث شفاعة النبي
روى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي بسنده المذكور في مجموعة الفتاوى للعلامة ابن تيمية، ج2 ص.150، عن ميسة رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى، نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك فلما أغراهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه.
رأي ابن القيم في شفاعة النبي
قال العلامة ابن القيم في الجامع الفريد ص 493:
عن ابن عباس رضي الله عنهما كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود خيبر فعانت اليهود بهذا الدعاء فقالت: «اللهم نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم»، قال فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان. فلما بعث النبي كفروا به. فأنزل الله عز وجل: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا يعني بك يا محمد.
رأي ابن القيم في أن النبي هو الوسيلة العظمى
وقد صرح ابن القيم الجوزية في كتابه زاد المعاد بقوله:
لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم.
فعلم أن الوسيلة التي تحصل بها السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة هي ذوات الأنبياء والرسل، وأيضاً أن الوسيلة تحصل بها الحوائج، وحصول الحاجة نعمة من الله، الوسيلة تحصل بها النعمة، ومن حصلت به النعمة فهو أيضاً نعمة، لأنه سبب النعمة. فإذا ثبت أن الوسيلة نعمة وإحسان من الله، فمن يكون أكمل نعمة فهو أكمل وسيلة، ولا شك أن ذوات الأنبياء والرسل من أعظم نعمه تعالى فجازت أن تكون وسيلة.
إذا تقرر هذا فاعلم أن النعمة الكبرى والإحسان الأكبر والمن الأعظم من الله عز وجل هو ذات محمد ، لأنه هو الرسول الأعظم ورحمة للعالمين وخاتم النبيين وشفيع المذنبين، إذ قال الله تعالى في إعلاء شأن محمد عليه أفضل السلام وأتم التسليم على العالمين: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فثبت أن النبي هو الوسيلة العظمى وصاحب المرتبة العليا في الدنيا والآخرة، فلا يحصل الفلاح والسعادة لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا به وبواسطته.
موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب من التوسل كما نشرتها جامعة محمد بن سعود الإسلامية في المملكة العربية السعودية في أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ينسب كثير من الناس اليوم إلى محمد بن عبد الوهاب أموراً تناقض ما درّس في زمانه من تعاليم. وقد حصل هذا أيضاً في أثناء حياته كما تبين الرسائل التي كتبها إلى قادة المسلمين وعلمائهم في العراق والقصيم والتي يبين فيها أنه لم يكن في يوم من الأيام ضد التوسل ولا ضد الثناء على النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ولا ضد دلائل الخيرات ولا ضد ابن عربي وابن الفارض ولا ضد زيارة قبر النبي بل إنه يقبل بجميع هذه الأمور ولم يقل قط بأنها شرك أو ضلال.
وقد وقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا الميدان موقفاً عظيماً، قد يستنكره كثير ممن يدعي أنه منسوب إليه ومحسوب عليه، ثم يكيل الحكم بالتكفير جزافاً لكل من خالف طريقته ونبذ فكرته، وها هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب ينكر كل ما ينسب إليه من هذه التفاهات والسفاهات والافتراءات فيقول ضمن عقيدته في رسالته الموجهة لأهل القصيم قال:
ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى عليّ أموراً لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي.
فمنها: قوله: أني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وأني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء وأني أدعي الاجتهاد، وأني خارج من التقليد، وأني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، وأني أكفر من توسل بالصالحين، وأني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق وأني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، وأني أحرم زيارة قبر النبي ، وأني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وأني أكفر من حلف بغير الله، وأني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وأني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين، وأسميه روض الشياطين.
جوابي عن هذه المسائل: أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، وقبله من بهت أنه يسب عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب، وقول الزور.
(أنظر مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، القسم الخامس: الرسائل الشخصية، طبعة 1980، ص11 – 12، ص61، ص 64، وهو في الدرر السنية الجزء الأول، ص 28).
الخاتمة:
ليس المولد عيداً
وسنفسر دقائق ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في منشورات لاحقة. أما الآن فقد أوردنا والحمد لله أدلة كافية بما لا يدع مجالاً للشك بأن الاحتفال بالمولد وكل ما يعود بالثناء والاحترام على نبي الإسلام كالصلوات وتلاوة السيرة والقصيدة والمدح، وأي صورة من الأذكار ليست فقط جائزة بحسب جميع المرجعيات الواردة، بل إنه وحسب جميع المصادر محمودة ومندوبة طالما لم نجعلها عيداً رسمياً لأنه وكما قلنا في البداية بأن هناك عيدان: عيد الأضحى، وعيد الفطر نقول بأن الاحتفال بمولد النبي هو مناسبة تجلب الفرح والبركة وليست عيداً.
ليس لأحد الاعتراض على المولد
يا أهل الإسلام، يا أمة النبي ، احتفلوا بنبيكم بكل فخر وفرح ولا تتنازعوا في أمور تجلب الفتن والفوضى. لا تمنعوا أحداً من الاحتفال واتركوا الناس تفعل ما تمليه قلوبها ولنقف صفاً واحداً بالامتثال لأمر الله في كتابه العزيز (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) ولنبتهل إلى الله تعالى طالبين العون على أعداء الإسلام، ذلك خير من الاختصام والمجادلة.
1
نعيش اليوم في عصر يذبح فيه المسلمون في كل مكان. وقلوب المؤمنين تناجي الله عز وجل طالبة العون ليرسل إليهم من هو مؤيد بنصره وملائكته ليخلصهم من هاوية الجهل والقهر التي وقعوا فيها. وحيثما نظرنا نرى المسلمين يعذبون، ويقتلون ويؤذون لا لشيء إلا لقولهم «ربنا الله». وما يحدث في البوسنة وأذربيجان وكشمير وتايلندا وطاجكستان والجزائر، كما في كثير من أنحاء المعمورة لشواهد مرعبة على الطرق التي يعامل بها الإسلام والمسلمون، وبين الآلاف المؤلفة من العلماء ليس هناك سوى قلة منهم على استعداد لأن تدب الصوت وتطالب بالتغيير والعودة للشريعة وسنة المصطفى .
هذه هي حالنا، وفي هذا الوضع كنت متردداً لأن أبحث في أي موضوع قد يساء فهمه مما قد يثير فتنة بين المسلمين. فالله سبحانه وتعالى قد أمر في كتابه العزيز: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا (آل عمران: 103).
ومع ذلك نرى، وأكثر من أي مرة سابقة، أن ما يؤلم المسلمين ليس جميعه من تدبير أعدائهم. فمن بين أظهرنا تهاجم الأمة وتصاب إصابات بالغة من أناس معروفين لا نحب أن نسميهم. هم لا يحبذون مقارعة أعداء الدين لكنهم يجدون ضرورة في محاربة المسلمين والجماعات المؤمنة في العالم الإسلامي. لذلك وجدت لزاماً علي أن أعد العدة لكي أرد عن المؤمنين كيد هؤلاء المسلمين الذين لا هم لهم سوى إيجاد العيوب في إيمان المسلمين الآخرين بينما أعداء الأمة يمزقونها شر ممزق. وهم يجهدون في إيجاد أي نقطة يعتبرها أئمتهم موضع شك كعذر للازدراء والحط من إيمان المسلمين فيكيلوا إليهم نعوتاً من أمثال: مشركين، كافرين، مبتدعين. ولا يجدون أسهل من أن يبدلوا ما اتفق عليه أئمة المسلمين على مدى أربعة عشر قرناً ويسمونه: بدعاً، شركاً أو كفراً.
لذا، ومن أجل حماية المسلمين والمؤمنين من هكذا اتهامات خاطئة وغير مقبولة، خاصة في أميركا وكندا، حيث هناك ندرة في العلماء القادرين على الرد على هؤلاء الجهلة، وجدت لزاماً عليّ أن أعد هذا الرد. وإن شاء الله فإني سأسرد الحقائق والبراهين على جواز الاحتفال بالمولد النبوي من القرآن والسنة واجتهاد أئمة المسلمين بنية الرد على انتقاد وتشكيك بعض العلماء الجهلة الذين يدّعون الإلمام بكل أمور الدين وكذلك من أجل مشاركة الآخرين بالفهم الذي أنعم الله به على علماء الإسلام الحقيقيين. وقبل أن نخوض في الشرح أود أن أطرح ثلاثة أمور:
1 – إن الاحتفال بذكرى مولد النبي جائز، وأن الاجتماع للاستماع إلى السيرة والمدائح النبوية جائز، وإطعام الطعام وإدخال البهجة إلى قلوب الأمة في تلك المناسبة جائز.
2 - إن الاحتفال بالمولد النبوي يجب ألا يكون فقط يوم الثاني عشر من ربيع الأول بل يجب أن يقام في كل يوم من كل شهر وفي كل مسجد، لكي يشعر الناس بنور الإسلام ونور الشريعة تدخل في قلوبهم.
3 – ونقول بأن هذه التجمعات في المولد مفيدة ومنشطة لجهة دعوة الناس للإسلام وتعليم الأطفال أمور الدين، كما أن فيها فرصة ذهبية لا تعوض لكل الأئمة والدعاة لكي يرشدوا ويذكَروا الآمة المحمدية بأخلاقه وطريقة عبادته ومعاملته للناس. وهذه إحدى السبل لجعل الأطفال يحبون النبي ويذكرونه. عن طريق الحلوى والعصير والهدايا لإدخال البهجة إلى قلوبهم.
معنى الاحتفال بالمولد
إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو الاحتفال بالإسلام عينه، ذلك لأن النبي هو رمز الإسلام.
يقول الإمام متولي الشعراوي في كتابه "مائدة الفكر الإسلامي" ص 295، إذا كان بنو البشر فرحون بمجيئه لهذا العالم، وكذلك المخلوقات الجامدة فرحة لمولده وكل النباتات فرحة لمولده وكل الحيوانات فرحة لمولده وكل الجن فرحة لمولده، فلماذا تمنعونا من الفرح بمولده.
الأدلة على أن الاحتفال بالمولد النبوي جائز
أثر الاحتفال بالمولد على الكفار
إن الابتهاج والاحتفال بيوم مولد النبي يعود بفائدة، بفضل الله ورحمته، حتى على الكافرين. وقد جاء في صحيح البخاري الذي ذكر في حديثه بأنه في كل يوم اثنين يطلق سراح أبي لهب من عذاب القبر لأنه أعتنق جاريته ثويبة عندما بشرته بخبر مولد النبي ه.
قال ابن كثير وهو من أئمة السلف في كتاب "البداية والنهاية" إن أول من أرضعته هي ثويبة مولاة أبي لهب وكان قد أعتقها حين بشرته بولادة النبي . ولهذا لما رآه أخوه العباس بعد موته في المنام بعدما رآه بشر خيبة، سأله: ما لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم خيراً غير أني سقيت في هذه بعتاقتي لثويبة (وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع). وأصل الحديث في الصحيحين. وقد ذكر السهيلي وغيره أنه قال لأخيه العباس في هذا المنام: وإنه ليخفف عني في كل يوم اثنين.
وهذا الحديث مذكور في صحيح البخاري في «كتاب النكاح». وقد ذكره ابن كثير في كتبه «سيرة النبي» الجزء الأول ص 124، وفي كتاب «مولد النبي» ص 21، وفي كتاب «البداية والنهاية» ص 272 – 273
كما أن الحافظ شمس الدين بن نصر الدين الدمشقي كتب الأبيات التالية في كتابه «مورد الصادي في مولد الهادي».
بتبّت يداه في الجحيم مخلّدا
إذا كان هذا كافراً جاء ذمه
يخفف عنه للسرور بأحمدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائماً
بأحمد مسروراً ومات موحّدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره
تبيان النبي على أن ولادته جاءت يوم الاثنين
وقد روي في صحيح مسلم في «كتاب الصيام» عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: سئل رسول الله عن صوم يوم الاثنين، فقال: هذا يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه رواه مسلم.
ونورد أيضاً من أقوال الشيخ متولي الشعراوي: إن أشياء عجيبة حدثت يوم مولده كما ورد في الحديث والتاريخ، ولم تكن ليلة مولده كأية ليلة من ولادات بني البشر. وقد وردت هذه الأحداث والأحاديث العائدة لها كاهتزاز عرش كسرى، وانطفاء النار بفارس بعد أن دامت ألف عام، وغيرها في كتاب ابن كثير «البداية والنهاية» الجزء الثاني ص 265-268.
ونورد لكم من كتاب ابن الحاج «كتاب المدخل» الجزء الأول ص 261: «يجب علينا في كل يوم اثنين من ربيع الأول أن نكثر من العبادات لنحمد الله على ما أتانا من فضله بأن بعث فينا نبيه الحبيب ليهدينا للإسلام والسلام… فالنبي عندما سئل عن صوم يوم الاثنين أجاب: هذا يوم ولدت فيه. لذا، فهذا اليوم يشرف ذاك الشهر لأنه يوم النبي ... وقد قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر.وقال: آدم ومن جاء بعده تحت لوائي يوم القيامة. رواها الشيخان بخاري ومسلم. وقد أورد في صحيحه أن النبي قال: ولدت يوم ذاك الاثنين وفي مثله نزل عليّ أول الوحي. وقد أعطى النبي اهتماماً ليوم مولده وحمد الله على نعمة خلقه بأن صام في هذا اليوم كما هو وارد في حديث أبي قتادة. ونفيد من ذلك أن النبي كان يعبر عن فرحه بهذا اليوم بالصوم، وهو نوع من العبادات. وبما أن النبي أبدى اهتماماً بهذا اليوم بصومه عرفنا أن العبادة في مختلف أشكالها جائزة لبيان مكانة هذا اليوم. وحتى لو تغير الشكل فالمحتوى قائم لذا فالصوم أو إطعام المساكين، أو الاجتماع لمدح النبي أو تبيان مناقبه وخلقه الحسن كلها طرق لتبيان أهمية ذاك اليوم.
وقد جاء الأمر الإلهي بالابتهاج بمبعث النبي بقوله تعالى في كتابه العزيز: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا (يونس: 58).
وقد جاء هذا الأمر لأن الفرح يجعل القلب شاكراً لرحمة الله. وأية رحمة إلهية أعظم من النبي إذ قال الله تعالى فيه: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء: 17).
ولأن النبي بعث رحمة للعالمين كان لزاماً ليس على المسلمين فقط، بل على كافة البشر أن يفرحوا به. ولكن مع الأسف نجد أن بعض المسلمين هم في طليعة العاصين لأمر الله بالابتهاج بنبيه.
احتفال النبي بالمناسبات التاريخية الكبرى
كان النبي دائم الربط بين المناسبات الدينية والأحداث التاريخية، وكلما مرت مناسبة هامة نبَه أصحابه للاحتفال بذلك اليوم والتأكيد على أهميته حتى لو كان الحدث قد تم في زمن سحيق. وهذا البدء يؤكده الحديث التالي من صحيح البخاري في كتاب الصوم باب 69 وكتاب الأنبياء باب 24 وابن ماجد ومالك في الموطأ والإمام أحمد: أن النبي قدم إلى المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه قوم فرعون، ونجى موسى، فنحن نصومه شكراً لله تعالى فقال: نحن أولى بصوم موسى منكم.
قال تعالى: صلوا على النبي
إن في إقامة ذكرى مولد النبي ما يحث على الثناء والصلاة عليه وهو واجب أمرنا الله تعالى بالقيام به:
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (الأحزاب:56)
فمجرد الاجتماع وذكر النبي يجعلنا نثني ونصلي عليه، فمن له ان يمنع الالتزام بواجب أمرنا الله به في كتابه العزيز. ولعمري ففي إنفاذ أمر من أمور الله نكتسب نوراً يملأ قلوبنا بفيض لا حد له. والجدير بالذكر أن هذا الأمر أتى بالجمع: إن الله وملائكته يصلون على النبي، كأنهم في اجتماع منعقد، فمن الخطأ الجسيم والحال هذه أن يقال بأن الصلاة على النبي يجب أن تكون على انفراد.
التكليف بالازدياد في حب النبي وتشريفه
يطلب الله من النبي بأن يذكّر أمته بأن على من يدعي حب الله عليه أن يحب نبيه أيضاً:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله 0(آل عمران: 31).
فالاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف يعد من الالتزام بالتكليف بحب النبي وطاعته والإقتداء بسنته والفخر به لأن الله سبحانه وتعالى يفخر به في كتابه العزيز:
وإنك لعلى خلق عظيم (القلم: 4).
فحب النبي هو ما يميز المؤمنين في كمال إيمانهم. ففي حديث صحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله قال:
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين رواه البخاري ومسلم فكمال الإيمان يعتمد على حب النبي لأن الله تعالى وملائكته دائمون في تشريفه كما جاء في الآية السابقة: إن الله وملائكته يصلون على النبي. فالأمر الإلهي الذي جاء بعد هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه صحيح وواضح بأن صفة الإيمان تعتمد وتتجلى بالصلاة على النبي. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ضرورة معرفة السيرة النبوية والإقتداء بها
ومن البديهي أن تكون لنا دراية عن نبينا عن حياته، معجزاته، مولده، أخلاقه، إيمانه، آياته، خلواته وعبادته، وبعد أوليست هذه المعرفة واجبة على كل مسلم؟ فما الذي هو أفضل من الاحتفال وتذكر مولده الذي يمثل أساس حياته كمقدمة لنكتسب المعرفة عن حياته؟ فبتذكرنا لمولده نبدأ بتذكر كل شيء عنه، وبذلك يرضى الله عنا لأننا حينئذ نصبح قادرين على أن نعرف سيرة النبي على وجه أفضل، ونصبح أكثر استعداداً لكي نجعله مثالاً لنا نصلح به عثراتنا ونقتدي به. ولهذا كان الاحتفال بالمولد فضلاً عظيماً أرسل ألينا.
قبول النبي للقصائد المنظومة في مدحه
في زمن النبي كان من المعروف أن الشعراء يأتون بقصائد كثيرة يمدحونه فيها ويذكرون فيها غزواته ومعاركه وصحابته. والبرهان على ذلك واضح من الأشعار الكثيرة الواردة في سيرة ابن هشام، وأعمال الواقدي وغيرهما، وقد كان النبي راضياً عن الشعر الحسن وجاء في «الأدب المفرد» للبخاري قوله: «في الشعر حكمة». كما أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وهو عم النبي قد نظم شعراً مدح فيه مولد النبي ومن هذه الأبيات المذكورة في «حسن المقصد» للسيوطي (صفحة 5) وكتاب المولد لابن كثير (صفحة 30):
أرض وضاءت بنورك الأفق
النور وسبل الرشاد نخترق
وأنت لما ولدت أشرقت ال
فنحن في ذلك الضياء وفي
قال ابن كثير في كتاب المولد: قال أصحاب رسول الله كنا إذا اشتدت الحرب اتقينا برسول الله ، وقد كان يوم حنين حين انهزم أصحابه عنه وولوا مدبرين. ولم يبق إلا في نحو من مئة من أصحابه، وحده في مواجهة عدة من الألوف، في العدة الباهرة من الرماح والسيوف، وهو مع ذلك على بغلته يهمزها إلى وجوه أعدائه وينوه باسمه ويقول:
أنا ابن عبد المطلب
أنا النبي لا كذب
وقد رضي النبي عن الذين مدحوه لأن في ذلك امتثالاً لأمر الله وقد أعطاهم مما أعطاه الله. فلو عملنا شيئاً للتقرب من النبي فإنما نكون نعمل للتقرب من الله عز وجل كما أن التقرب من النبي يعود علينا بمرضاة الله تعالى.
غناء وإنشاد الشعر
وقال ابن القيم في كتاب مدارج السالكين أن النبي أقر عائشة على غناء القينين يوم العيد. وقال لأبي بكر "دعهما. فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا أهل الإسلام". وبأنه أذن بالغناء في العرس وسماه لهواً. وقد سمع رسول الله الحداء (أي الشعر). وأذن فيه. وكان يسمع أنساً والصحابة، وهم يرتجزون بين يديه في حفر الخندق:
على الجهاد ما بقينا أبدا
نحن الذين بايعوا محمداً
ودعا لحسان أن يؤيده الله بروح القدس ما دام ينافح عنه وكان يعجبه شعره وقال له اهجهم وروح القدس معك. وأنشدته عائشة قول أبي بكر الهذلي:
وفساد مرضعة وداء مغيل
برقت كبرق العارض المتهلل
ومبرئ من كل غبّر حيضة
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
وقال عائشة «أنت أحق بهذا البيت يا رسول الله» فسر بقولها.
وقد ذكر ابن القيم أيضاً قصيدة عبد الله بن رواحة المطولة في مدح النبي عندما دخل مكة، وبأنه دعا له. كما أنه خلع بردته على كعب بن زهير بعد أن ألقى قصيدته الشهيرة في مدح النبي وطلب النبي من أسود بن سارح بأن يصنع قصائد يثني فيها على الله عز وجل، كما أنه طلب من أحدهم أن ينشد معلقة «أمية بن أبي السلط».
ترتيل وتلاوة القرآن
يقول ابن القيم في كتابه (ص. 488): أذن الله لنبيه بأن يرتل القرآن. وفي ذات يوم كان أبو موسى الأشعري يرتل القرآن على مسمع من النبي ، فلما فرغ أثنى عليه لترتيله وقال له: إنك لذو صوت حسن، والله لقد أعطيت مزماراً من مزامير داوود. فقال أبو موسى: يا رسول الله لو كنت أعلم بأنك تسمعني لرتلت بصوت لم تسمع مثله قط. وتابع ابن القيم يقول بأن النبي قال: «زينوا القرآن بأصواتكم» و«من لم يرتل القرآن فليس منا».
ويعلق ابن القيم في الصفحة 490 قائلاً: «الطرب جائز طالما أنه موافق للشرع» وهو كالاستمتاع بمنظر جميل للجبال أو الطبيعة، أو برائحة زكية، أو مأكل طيب، ولو كان الاستماع للصوت الحسن حراماً لكان الاستمتاع بكل هذه الأشياء حراماً أيضاً.
ويختتم ابن القيم بقوله (صفحة 498): والاستماع إلى صوت حسن في احتفالات المولد النبوي أو أية مناسبة دينية أخرى في تاريخنا لهو مما يدخل الطمأنينة إلى القلوب ويعطي السامع نوراً من النبي إلى قلبه ويسقيه مزيداً من العين المحمدية.
تحديد النبي لأيام وأماكن ولادة الأنبياء
لقد حدد النبي في حديثه أيام وأماكن ولادة الأنبياء السابقين. فمن حديثه عن مكانة يوم الجمعة أنه قال: في هذا اليوم خلق الله آدم، وفيه أن أهمية يوم الجمعة تعود لكون آدم ولد فيه وهو نبي وأب لجميع الناس فكيف باليوم الذي خلق فيه أعظم الأنبياء وخير البشر. عن العرباض بن ساريه السلمي رضي الله عنه قال قال رسول الله : إني عند الله لخاتم النبيين وآدم مجندل في طينته رواه ابن كثير في كتاب مولد رسول الله ورواه أحمد في مسنده والبيهقي في دلائل النبوة.
عن شداد بن عويس أمر جبريل عليه السلام النبي بصلاة ركعتين ببيت لحم ثم قال له: أتدري أين صليت؟ قال: لا، قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى رواه البزار وأبو يعلي والطبراني. وكذلك الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، ورجاله رجال الصحيح ج1 ص47 وقد نقل هذه الرواية الحافظ بن حجر في الفتح ج7 ص199.
إجماع العلماء على جواز المولد
إن إقامة ذكرى المولد النبوي لعمل تقبّله علماء المسلمين في جميع أنحاء العالم. وهذا يعني أن الله عز وجل يقبله بحسب ما جاء في الحديث عن ابن مسعود بأن ما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح، أخرجه أحمد في المسند.
تاريخ الاحتفال بالمولد
المولد في مكة بحسب المؤرخين المسلمين وتكريم موضع ولادة النبي
مكة، أم القرى، زادها الله رفعة وشرفاً، هي رائدة المدن الإسلامية في الاحتفال بالمولد وغيره. وقد ذكر الأزرقي وهو من مؤرخي القرن الثالث الهجري في كتابه أخبار مكة (ص. 160 الجزء الثاني) أنه من بين الأماكن التي تستحب الصلاة فيها المنزل الذي ولد فيه النبي . وقال أيضاً بأن المنزل قد تم تحويله سابقاً إلى مسجد على يد أم الخليفتين موسى الهادي وهارون الرشيد.
كما ذكر النقاش وهو من علماء القرآن (ص. 266 – 351) بأن موضع ولادة النبي هو مكان يستجاب فيه الدعاء عند الظهر من كل يوم اثنين. ذكره الفاسي في كتاب شفاء الغرام (ص. 199 الجزء الأول)، وغيره.
أول ذكر لاحتفال عام بالمولد
إن أقدم المصادر التي ذكر فيها إقامة احتفال عام لذكرى المولد هي كتاب رحال (ص. 114 115) لابن جبير (ولد عام 540 وتوفي عام 614 هجرية):
يفتح هذا المكان المبارك أي منزل النبي ويدخله جميع الرجال للتبرّك به في كل يوم اثنين من شهر ربيع الأول ففي هذا اليوم وذاك الشهر ولد النبي .
وذكر أبو العباس العظافي وابنه أبو القاسم العظافي وهما من مؤرخي القرن السابع عشر في كتاب الدر المنظم والذي لم ير سبيله إلى النشر:
كان الحجاج الأتقياء والمسافرون البارزون يشهدون أنه في يوم المولد في مكة لا يتم بيع ولا شراء كما تنعدم النشاطات ما خلا وفادة الناس إلى هذا الموضع الشريف. وفي هذا اليوم أيضاً تفتح الكعبة وتزار.
ويروي ابن بطوطة المؤرخ الشهير من القرن الهجري الثامن في رحلته (الجزء الأول ص. 309 – 347) : أنه بعد كل صلاة جمعة وفي يوم مولد النبي يفتح باب الكعبة بواسطة كبير بني شيبة، وهم حجّاب الكعبة، وأنه في يوم المولد يوزع القاضي الشافعي وهو قاضي مكة الأكبر نجم الدين محمد ابن الإمام محيي الدين الطبري الطعام على الأشراف وسائر الناس في مكة.
ثلاث روايات للاحتفال بالمولد من القرن العاشر
الوصف التالي يطابق رواية ثلاث شهود أعيان لمرجعيات من القرن العاشر الهجري: وهم المؤرخ ابن زهيرة في كتابه الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها (ص. 326)، الحافظ ابن حجر الهيثمي من كتاب لم ينشر له بعنوان كتاب المولد الشريف المعظم، والمؤرخ النهروالي من كتابه الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص. 205:
في اليوم الثاني عشر لربيع الأول من كل عام وبعد صلاة المغرب يخرج قضاة المذاهب الأربعة في مكة مع أعداد غفيرة من الناس بما فيهم الفقهاء والفضلاء والشيوخ ومدرسي الزوايا وتلاميذهم وكذلك الرؤساء والمتعممين من المسجد ويقومون جميعاً بزيارة لموضع ولادة النبي وهم يذكرون ويهللون. أما البيوت التي تقع في طريقهم فتضاء جميعها بالمشاعل والشموع الكبيرة وتتواجد خارجها وحولها جموح غفيرة من الناس حيث يلبس الجميع ثياباً خاصة ويأخذون أولادهم معهم. وعندما يصلون إلى موضع الولادة تلقى خطبة خاصة لذكرى مولد النبي ثم يتم الدعاء للسلطان ولأمير مكة وللقاضي الشافعي ثم يصلي الجميع بخشوع. ثم قبيل صلاة العشاء يعود الجميع إلى المسجد الكبير وهو يعج بالناس فيجلسون في صفوف متراصة عند أعتاب مقام إبراهيم. وفي المسجد يبدأ الخطيب بالحمد والتهليل ثم الدعاء مرة أخرى للسلطان وللأمير وللقاضي الشافعي. بعد ذلك يؤذن لصلاة العشاء ويتفرق الجمع بعد الصلاة. وجاء وصف مطابق لهذا في كتاب تاريخ الخميس للديار بكري المتوفى عام 960 للهجرة.
الاحتفال بالمولد في البلاد الإسلامية المعاصرة
في كل دولة إسلامية معاصرة تجد الناس يحتفلون بذكرى المولد النبوي الشريف. وهذا ينطبق على مصر، سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين، العراق، الكويت، الإمارات، السعودية، (في أكثر البيوت وليس على الصعيد الرسمي)، السودان، اليمن، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا، جيبوتي، الصومال، تركيا، باكستان، الهند، سريلانكا، إيران، أفغانستان، أذربيجان، أوزباكستان، التركستان، البوسنة (يوغوسلافيا سابقاً)، إندونيسيا، ماليزيا، بروناي، سنغافورة، ومعظم الدول الإسلامية الأخرى. وفي أكثر الدول العربية يعتبر عطلة رسمية. فكل هذه الدول تحتفل بهذه المناسبة. فكيف يا أمة الإسلام تقوم فئة قليلة وتقول بأنه حرام مع أننا أوردنا رأي ابن القيم وسنقوم الآن بعرض رأي ابن تيمية وغيره.
الاحتفال بالمولد في مفهوم العلماء السلفيين والمدارس الأخرى
رأي ابن تيمية بالاحتفال بالمولد
هذا هو رأي الإمام ابن تيمية في المولد من مجمع فتاوى ابن تيمية الجزء 23 ص. 1634:
فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون لهم فيه أجر عظيم لحسن قصدهم وتعظيمهم لرسول الله
إجازة الإمام أحمد لتزيين المصحف
ونذكر هنا حادثة وقعت للإمام أحمد ابن حنبل شيخ مذهب ابن تيمية. فقد أخبره بعض الناس أن أميراً أنفق ألف دينار على تزيين مصحف فقال لا بأس فهذا خير مكان ينفق فيه الذهب.
ونسأل هل كان ابن تيمية يروّج بدعة عندما أذن بالاحتفال بالمولد؟
فهو لم يكتف بإجازته بل ذكر أن للمحتفلين أجراً عظيماً. نسأل أيضاً هل كان الإمام أحمد يصطنع بدعة عندما أجاز بتزيين المصحف. الجواب على كلا السؤالين هو النفي المطلق.
رأي ابن تيمية في مجالس الذكر
وهذا هو رأي ابن تيمية في مجالس الذكر ويقع في الجزء 22 ص. 523، طبعة الملك خالد بن عبد العزيز لمجمع فتاوى ابن تيمية:
وسئل رحمه الله عن الفقراء يجتمعون في مسجد يذكرون ويقرأون شيئاً من القرآن ثم يدعون ويكشفون رؤوسهم ويبكون ويتضرعون وليس قصدهم من ذلك رياء ولا سمعة، بل يفعلونه على وجه التقرب لله تعالى فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب: الحمد لله، الاجتماع على القراءة والدعاء حسن مستحب.
ثناء ابن كثير على ليلة المولد
ويذكر الإمام ابن حجر العسقلاني وهو محدث من أتباع ابن تيمية في كتاب الدرر الكامنة في عين الماء الثامنة. عن ابن كثير يقول وفي آخر أيامه دوّن كتاباً عنوانه مولد رسول الله بلغت شهرته الآفاق. هذا الكتاب يجيز ويحض على الاحتفال بالمولد، وفي ص. 19 يقول: إن ليلة مولد النبي كانت ليلة شريفة عظيمة مباركة سعيدة على المؤمنين، طاهرة، ظاهرة الأنوار جليلة المقدار.
آراء أخرى بالاحتفال بالمولد
وبحسب مفتي مكة أحمد زين المعروف بدهلان في كتابه السيرة النبوية والآثار المحمدية ص. 51: إن الاحتفال بالمولد وتذكر النبي مقبولان عند جميع علماء المسلمين وأكثر الاقتباسات التالية مأخوذة من هذا الكتاب.
قال الإمام السبكي: عندما نحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف يدخل الأنس قلوبنا ونشعر بشيء غير مألوف.
وقال الإمام الشوكاني في كتابه «البدر الطالع»: «إن الاحتفال بالمولد النبوي جائز». ويذكر أن الملاّ علي القاري كان له الرأي نفسه في كتاب اسمه المورد الراوي في المولد النبوي، وقد وضعه خصيصاً ليؤيد الاحتفال بالمولد النبوي.
وقال الإمام أبو شامة، شيخ الإمام النووي: أفضل ذكرى في أيامنا هي ذكرى المولد النبوي. ففي هذا اليوم يكثر الناس من الصدقات ويزيدون في العبادات ويبدون كثيراً من المحبة للنبي ويحمدون الله تعالى كثيراً بأن أرسل إليهم رسوله ليحفظهم على سنة وشريعة الإسلام.
وقال الإمام السخاوي: بدأ المولد بعد ثلاثة قرون من وفاة النبي واحتفلت به جميع الأمم الإسلامية، كما تقبله جميع العلماء بعبادة الله وحده بالصدقات وتلاوة السيرة النبوية.
وقال الحافظ ابن حجر الهيثمي: كما أن اليهود تحتفل بيوم عاشوراء بالصوم حمداً لله كذلك علينا الاحتفال بيوم المولد.
وأورد الحديث المذكور آنفاً: عندما قدم النبي إلى المدينة… فيستفاد منه (أي حديث صوم عاشوراء) فعل الشكر لله تعالى على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة. ويعاد هذا في نظير ذلك اليوم من كل سنة. والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادات كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من نعمة ظهور هذا النبي الذي هو نبي الرحمة في ذلك اليوم.
فضل الموت يوم الاثنين كما أورده البخاري
قال الإمام القسطلاني: وقد خصّ البخاري في كتابه عن الجنائز باباً خاصاً عن فضل الموت يوم الاثنين وفيه:
عن عائشة قالت دخلت على أبي بكر رضي الله عنه فقال: في كم كفنتم النبي ، قالت في ثلاث أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة، وقال لها: في أي يوم توفي النبي ؟ قالت يوم الاثنين، قال فأي يوم هذا؟ قالت يوم الاثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل رواه البخاري في باب الجنائز باب موت يوم الاثنين.
ويتابع الإمام القسطلاني فيقول: فلماذا دعا أبو بكر لكي يكون موته يوم اثنين؟ أوليس لكونه يوم وفاة النبي ولكي يجوز على بركة ذلك اليوم فهل اعترض أحد على رغبة أبي بكر؟ ولماذا نرى أناساً يعترضون على الاحتفال والاهتمام بيوم المولد بقصد التبرك.
إجازة النبي لضرب الدف عند حسن القصد
قال الشيخ ابن عباد في رسائله إن للمولد النبوي مستنداً، يمكن أن يستروح منه وهو أن امرأة جاءت إلى النبي عند قفوله من بعض غزواته، فقالت: إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب على رأسك بالدف فقال لها أوفي بنذرك. الحديث مشهور.
رواه أبو داود كتاب الإيمان باب 22، والترمذي في المناقب باب 17، والإمام أحمد ج 5 ص. 353 – 356.
وتابع ابن عباد يقول: وما لا شك فيه أن ضرب الدف نوع من اللهو، حتى ولو أن النبي أمرها بإيفاء نذرها فقد فعله لحسن قصدها في تكريمه بعودته سالماً وليس بغرض معصية أو إضاعة الوقت. ويستتبع ذلك أنه لو احتفل أحدهم بالمولد النبوي بطريقة سليمة ونية حسنة بقراءة السيرة والثناء عليه لكان ذلك جائزاً.
ليلة المولد أعظم من ليلة القدر
قال ابن مرزوق: «قال الشيخ محيي الدين النووي الشافعي، بأن ليلة القدر هي أفضل من ليلة المولد وذلك إقرار من الشيخ بوجود ما يسمى بليلة المولد، لكن في رأيي حتى مع كون الشيخ محيي الدين عالماً ومحدثاً عظيماً فإن ليلة المولد هي أفضل من ليلة القدر ولو لم يكن محمداً لما كان هناك إسلام، والقرآن. ففي تلك الليلة أرسل الله رسوله الحبيب الذي جاء بالإسلام والقرآن ولما عرفنا الإسلام حتى وإن كان محمداً لا يزال في نطاق العبودية والله هو الخالق».
ليلة الإسراء والمعراج أعظم من ليلة القدر
وقد أورد ابن القيم في كتابه البدائع الجزء الثالث ص. 162 ما يلي:
وسئل شيخ الإسلام عن ليلة القدر أيهما أفضل؟ فأجاب بأن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي وليلة القدر أفضل إلى الأمة الخ…
ونحن نتساءل: إذا كان ابن تيمية قد سلّم بأن ليلة الإسراء يمكن اعتبارها أفضل من ليلة القدر لماذا لا تقبلوا منا أن نعتبر ليلة المولد أفضل من ليلة الإسراء بما أن ليلة المولد هي التي ولد فيها من قام بالإسراء والمعراج؟ وهكذا نقول كما قال ابن مرزوق: «ليلة المولد هي أفضل من ليلة القدر».
الاحتفال بالمولد أمر مندوب
يقول الإمام السيوطي في كتابه حسن المقصد في عمل المولد ص. 54 – 62:
«أصل الاجتماع لصلاة التراويح سنة وقربى… وكذلك نقول: أصل الاجتماع لإظهار شعائر المولد مندوب وقربى… وهذا معنى نية المولد، فهي نية مستحسنة بلا شك، فتأمل.
ويتابع الإمام السيوطي ص. 64 – 65:
وظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي، عن أنس، رضي الله عنه، أن النبي عقّ عن نفسه بعد النبوة. مع أنه قد ورد أن عبد المطلب قد عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل على أن الذي فعله النبي كان إظهاراً للشكر على إيجاد الله تعالى إياه، رحمة للعالمين، وتشريفاً لأمته، كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده باجتماع الإخوان، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجود القربات، وإظهار المسرات.
وهذا الحديث يؤكد الحديث السابق الذي يحدد فيه النبي بأن يوم الاثنين هو يوم مولده ويوم نبوّته.
شفاعة النبي في مفهوم العلماء السلفيين والمدارس الأخرى
لقد أثنى الله سبحانه وتعالى على النبي أمام المؤمنين إذ قال:
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (التوبة: 128).
فالله تعالى أعطى النبي الشفاعة لأنه أثنى عليه وباركه وصلى عليه وشرفه كثيراً ولولا ذلك لما أعطاه الشفاعة.
والأحاديث التالية تبين أنه حتى آدم لم يعط الشفاعة وبأن يهود خيبر كانوا يستشفعون به في دعائهم. ونحن في ذلك نفعل ما أمرنا به: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وإن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
أحاديث شفاعة النبي
روى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي بسنده المذكور في مجموعة الفتاوى للعلامة ابن تيمية، ج2 ص.150، عن ميسة رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى، نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك فلما أغراهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه.
رأي ابن القيم في شفاعة النبي
قال العلامة ابن القيم في الجامع الفريد ص 493:
عن ابن عباس رضي الله عنهما كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود خيبر فعانت اليهود بهذا الدعاء فقالت: «اللهم نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم»، قال فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان. فلما بعث النبي كفروا به. فأنزل الله عز وجل: وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا يعني بك يا محمد.
رأي ابن القيم في أن النبي هو الوسيلة العظمى
وقد صرح ابن القيم الجوزية في كتابه زاد المعاد بقوله:
لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم.
فعلم أن الوسيلة التي تحصل بها السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة هي ذوات الأنبياء والرسل، وأيضاً أن الوسيلة تحصل بها الحوائج، وحصول الحاجة نعمة من الله، الوسيلة تحصل بها النعمة، ومن حصلت به النعمة فهو أيضاً نعمة، لأنه سبب النعمة. فإذا ثبت أن الوسيلة نعمة وإحسان من الله، فمن يكون أكمل نعمة فهو أكمل وسيلة، ولا شك أن ذوات الأنبياء والرسل من أعظم نعمه تعالى فجازت أن تكون وسيلة.
إذا تقرر هذا فاعلم أن النعمة الكبرى والإحسان الأكبر والمن الأعظم من الله عز وجل هو ذات محمد ، لأنه هو الرسول الأعظم ورحمة للعالمين وخاتم النبيين وشفيع المذنبين، إذ قال الله تعالى في إعلاء شأن محمد عليه أفضل السلام وأتم التسليم على العالمين: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فثبت أن النبي هو الوسيلة العظمى وصاحب المرتبة العليا في الدنيا والآخرة، فلا يحصل الفلاح والسعادة لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا به وبواسطته.
موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب من التوسل كما نشرتها جامعة محمد بن سعود الإسلامية في المملكة العربية السعودية في أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب
ينسب كثير من الناس اليوم إلى محمد بن عبد الوهاب أموراً تناقض ما درّس في زمانه من تعاليم. وقد حصل هذا أيضاً في أثناء حياته كما تبين الرسائل التي كتبها إلى قادة المسلمين وعلمائهم في العراق والقصيم والتي يبين فيها أنه لم يكن في يوم من الأيام ضد التوسل ولا ضد الثناء على النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ولا ضد دلائل الخيرات ولا ضد ابن عربي وابن الفارض ولا ضد زيارة قبر النبي بل إنه يقبل بجميع هذه الأمور ولم يقل قط بأنها شرك أو ضلال.
وقد وقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في هذا الميدان موقفاً عظيماً، قد يستنكره كثير ممن يدعي أنه منسوب إليه ومحسوب عليه، ثم يكيل الحكم بالتكفير جزافاً لكل من خالف طريقته ونبذ فكرته، وها هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب ينكر كل ما ينسب إليه من هذه التفاهات والسفاهات والافتراءات فيقول ضمن عقيدته في رسالته الموجهة لأهل القصيم قال:
ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى عليّ أموراً لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي.
فمنها: قوله: أني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وأني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء وأني أدعي الاجتهاد، وأني خارج من التقليد، وأني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، وأني أكفر من توسل بالصالحين، وأني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق وأني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، وأني أحرم زيارة قبر النبي ، وأني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وأني أكفر من حلف بغير الله، وأني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وأني أحرق دلائل الخيرات، وروض الرياحين، وأسميه روض الشياطين.
جوابي عن هذه المسائل: أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، وقبله من بهت أنه يسب عيسى ابن مريم، ويسب الصالحين، فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب، وقول الزور.
(أنظر مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، القسم الخامس: الرسائل الشخصية، طبعة 1980، ص11 – 12، ص61، ص 64، وهو في الدرر السنية الجزء الأول، ص 28).
الخاتمة:
ليس المولد عيداً
وسنفسر دقائق ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في منشورات لاحقة. أما الآن فقد أوردنا والحمد لله أدلة كافية بما لا يدع مجالاً للشك بأن الاحتفال بالمولد وكل ما يعود بالثناء والاحترام على نبي الإسلام كالصلوات وتلاوة السيرة والقصيدة والمدح، وأي صورة من الأذكار ليست فقط جائزة بحسب جميع المرجعيات الواردة، بل إنه وحسب جميع المصادر محمودة ومندوبة طالما لم نجعلها عيداً رسمياً لأنه وكما قلنا في البداية بأن هناك عيدان: عيد الأضحى، وعيد الفطر نقول بأن الاحتفال بمولد النبي هو مناسبة تجلب الفرح والبركة وليست عيداً.
ليس لأحد الاعتراض على المولد
يا أهل الإسلام، يا أمة النبي ، احتفلوا بنبيكم بكل فخر وفرح ولا تتنازعوا في أمور تجلب الفتن والفوضى. لا تمنعوا أحداً من الاحتفال واتركوا الناس تفعل ما تمليه قلوبها ولنقف صفاً واحداً بالامتثال لأمر الله في كتابه العزيز (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) ولنبتهل إلى الله تعالى طالبين العون على أعداء الإسلام، ذلك خير من الاختصام والمجادلة.
1