-->

بحث حلول التنمية الاقتصادية

بحث حلول التنمية الاقتصادية

         أن السياسات والأساليب الإنمائية، في أي بلد كان، لا تجري في الفراغ، بل هي تستلهم، علناً أو ضمناً، من الأجواء الاقتصادية والمالية الدولية والإقليمية السائدة والمهيمنة. وهذا صحيح بخاصة في حالة الدول النامية التي تتأثر أكثر من سواها بما يجري في الدول المتقدمة.  حيث شهد التاريخ الاقتصادي للدول النامية نوع من التناوب أو تبادل الأدوار في عملية التنمية الاقتصادية بين الدولة في القطاع والخاص ، فبلغ التوجه نحو توسيع دور القطاع العام ذروته في بداية الستينات من القرن الماضي ،ثم تراخى تدريجياً لينحسر في نهاية السبعينات ،في المقابل أشتد زخم الخصخصة في بداية الثمانينات ،وبلغ ذروته عند مطلع الألفية الثالثة مع تزايد دور الشركات العابرة للقومية وأتساع نطاق عولمة الاقتصاد  .أن هذا التغيير المستمر في موقف الدولة من المشاركة في عملية التنمية، وانتقالها من مرحلة الدولة الفاعلة الى أخرى أقل فاعلية وأكثر حيادية. لم يأت كرد فعل على الضغوط والقيود الداخلية التي تواجه
    عملية التنمية ، وأما جاء في الغالب كمحاكاة للسياسات الاقتصادية المستخدمة في الدول المتقدمة ،وتولدت هذه المحاكاة عن الاستجابة للضغوط السياسية والاقتصادية الخارجية التي تمارس بشكل مباشر أو غير مباشر على تلك الدول . ولكن من الناحية المنطقية لا يبدو هناك مبرر لمثل تلك المحاكاة  ، فالقوانين  والنظم  الاقتصادية نسبية و ليست  مطلقة في الزمان والمكان ، وعلى كل مجتمع أن يأخذ منها ما يتلاءم  ودرجة تطوره وترتيباته المؤسسية ،وبالتالي فأن ما هو مفيد لدول قطعت أشواطاً طويلة في عملية التنمية ، قد لا يكون بالضرورة مفيد لدول ما زالت ترزح تحت وطأة التخلف . ولكن ذلك لا يتعارض مع مبدأ الاستفادة من تجارب الدول الأخرى ، على أن تعتمد تلك الاستفادة على دراسة متأنية لتاريخ  الدول المتقدمة ، وتحديداً على تلك الفترات التي سعت فيها تلك الدول للخروج من التخلف وتهيئة شروط الانطلاق نحو  التنمية ، حيث  تكشف تلك الفترات عن وجود دور حيوي للدولة في تحقيق التقدم الاقتصادي ،وحماية الاقتصاد الوطني ودعم الطبقة الرأسمالية ،ومساعدتها في عملية تجميع الفائض الاقتصادي وتوجيهه لإحداث التراكم الرأسمالي اللازم لعملية التنمية  .و بهدف التعرف على أهم الدوافع والأسباب والنتائج المترتبة علىالتغييرات في موقف الدولة من قضية المشاركة في النشاط الاقتصادي سيتم تقسيم الدراسة إلى الفقرات آلاتية :-

    أولاً:- الفكر الاقتصادي ودور الدولة في عملية التنمية
    ثانياً:- مرحلة الاقتصاد الحر والدولة الحيادية
    ثالثاً:- مرحلة الاقتصاد الموجه والدولة المتدخلة
    رابعاً:- مرحلة الدولة المنتجة والمخططة
    خامساً:- الدولة والقطاع الخاص في الدول النامية
    سادساً:- الدولة والقطاع الخاص في الدول العربية

    أولاً:- الفكر الاقتصادي ودور الدولة في عملية التنمية
        تعد الفرضية التي صاغها  الاقتصادي (غرشنكرون  A.Gerschenkorn )(1) بعد دراسته لتجربة التصنيع في أوربا ، التي تنص على " أن الدولة تلعب دوراً أكبر في عملية النمو كلما كان الاقتصاد أكثر تخلفاً " من أكثر الفرضيات  شيوعاً في الأدب الاقتصادي ، الذي يتناول دور الدولة في عملية التنمية ، وقد أعترف الاقتصادي (كوزنتس  S.Kuznets ) (2) بتأثير تلك الفرضية عليه ،عندما صاغ فرضيته التي أكد فيها "على أن التخلف المتزايد أو الدخول المتأخر  إلى عملية النمو الاقتصادي الحديث ،سيمارس ضغوطاً كبيرة تدفع  بوحدات القطاع الخاص التي تدخل متأخرة إلى السوق  إلى الاعتماد بشكل متزايد على سلطة الدولة لمساعدتها  على اللحاق بالوحدات الاكثر تقدماً  " .غير أن أفضل صياغة لفرضية "غرشنكرون" تلك التي قدمها ( ايكشتاين  A.Eckstein) و ربط فيها حاجة الاقتصاد إلى التدخل المكثف للدولة بالعوامل آلاتية(3)  :-
    1- كلما كان مدى أهداف التنمية الاقتصادية واسعاً ، من الناحية الكمية والنوعية .
    2- كلما قصر الأفق الزمني الذي تحتاجه عملية تحقيق الأهداف .
    3- كلما زادت ندرة الموارد والوسائل المتاحة لتحقيق هذه الأهداف.
    4- كلما زادت العوائق غير الاقتصادية الناتجة عن ضعف مرونة  أو  جمود البنيان الاجتماعي والثقافي والمؤسسي ،لأن هذه العوامل ستنعكس بدورها على الترتيبات التعاقدية والقانونية ، ودرجة التحضر وخصائصه ، ودرجة الحراك الاجتماعي ،وطبيعة البناء الطبقي، وتركيبة القوى السياسية وحجم المشاركة الشعبية في صياغة وتنفيذ القرارات التنموية  ، ونظام القيم السائد .
    5-كلما زادت درجة التخلف النسبي للاقتصاد .
    كما يرى "ايكشتاين " أن هناك  ارتباط موجب  بين مستوى التنمية المتحقق وبين الفرص المتاحة للقطاع الخاص لممارسة الاختيار و المبادأة الفردية ، ألا  أنه يؤكد من ناحية أخرى على أن القيود الداخلية في الدول النامية وبخاصة  قيود التقنية والموارد لا تترك مجالاً واسعاً لإختيار  الشكل المؤسسي الملائم لعملية التنمية. وبصورة عامة فأن عملية الاختيار تجري بصورة تلقائية في ألاقتصادات التي يسيطر فيها القطاع الخاص ونظام السوق . آما في ألاقتصادات التي يسيطر فيها القطاع العام ونظام التخطيط المركزي فأنها تكون  في الغالب دالة لتوجهات  النظام السياسي  .
    وفي المجال الاقتصادي يميز "ايكشتاين "  بين خمسة أصناف من التدخل الحكومي وهي (4):-
    1- التدخل الحكومي لتوفير رأس المال الاجتماعي ,بما في ذلك الحفاظ على القانون والنظام في المجتمع, تحديد الالتزامات القانونية والتعاقدية وتنفيذها , تقديم التسهيلات التعليمية والصحية,والقيام بالوظائف العسكرية والدفاعية.وهي كلها يجري تجهيزها عادة من قبل وكالات حكومية .
    2- توفير البنية الارتكازية الاقتصادية , مثل المصارف المركزية والتسهيلات النقدية والمالية , والطرق العامة والمرافق العامة الأخرى كالماء والكهرباء ووسائل المواصلات والاتصالات
    3-تطبيق الرقابة المباشرة و غير مباشرة من خلال إجراءات متنوعة مثل التعريفة الجمركية والضرائب والدعم وتقنين السلع والائتمان والرقابة على الأسعار.
    4- إقامة بعض المشروعات الحكومية ، التي تتراوح بين إدارة بعض الصناعات أو بعض المشروعات العامة في صناعات مختلفة , أو الملكية العامة لبعض أو كل وسائل الإنتاج .

    5- التخطيط المركزي الذي قد يشتمل على تركز كامل أو جزئي في عملية صنع القرار الاقتصادي في مجلس تخطيط قومي مركزي .
    وتجدر الإشارة هنا إلى أن كل من الصنف الأول والثاني للتدخل الحكومي يمثلان الحد الأدنى من وظائف الحكومة ،ويمثلان النمط السائد  في معظم الدول  الصناعية المتقدمة, أما الصنف الاخير وهو أسلوب التخطيط المركزي الشامل, فيمثل الحد الأعلى للوظائف  الحكومية. و بصورة عامة ، كلما زادت شمولية وسرعة ما توفره الحكومة من الحد الأدنى من وظائفها , قل الضغط أو الحاجة إلى قيامها بوظائفها في حدها الأعلى . فربما يكون الاعتماد على الحد الأعلى من الوظائف الحكومية دليلاً على فشل الحكومة في توفير الحد الأدنى من وظائفها في الماضي والحاضر (5).

    ثانياً:- مرحلة الاقتصاد الحر والدولة الحيادية
         أن مراجعة التاريخ الاقتصادي للدول الصناعية المتقدمة تبرهن وبوضوح ، على أن النمو الاقتصادي ظاهرة حديثة نسبيا تعود إلى نهاية القرن الثامن عشر فقط ، أي عندما بدأت الثورة الصناعية في بريطانيا آنذاك ، كما أن درجة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي و موقفها من القطاع الخاص خلال الفترة الممتدة من بداية الثورة الصناعية إلى حدوث الكساد الكبير جاءت في معظم الأحيان كاستجابة لمتطلبات الواقع الاقتصادي ولم تفرضها النظريات والأيديولوجيات الاقتصادية أو توجهات النظام السياسي ، بل أن تلك النظريات والأيديولوجيات هي نفسها كانت انعكاس للبيئة الاقتصادية التي سادت في تلك الفترة (6). حيث شكل  انطلاق الثورة الصناعية  في الربع الأخير من القرن الثامن عشر ، البداية الحقيقية لتشكل ملامح النظام  الرأسمالي الجديد ، و شهدت هذه المرحلة ازدهار النشاط الصناعي ، وبروز الرأسمالية الصناعية  كقوة فاعلة  اقتصادياً واجتماعيا ،في تلك الأيام كانت بريطانيا أكثر البلدان الأوربية تطوراً ، نتيجة قيامها باستغلال الموارد المتاحة في مستعمراتها في أسيا بشكل عام وشبه القارة الهندية بشكل خاص ،حيث أدت  هذه العملية إلى توفير فوائض مالية كبيرة جداً ،ومستويات ادخار عالية سمحت للرأسماليين بالاستثمار حتى في مجالات رأس المال الاجتماعي بالإضافة إلى استثماراتهم الإنتاجية الرئيسية في قطاع الصناعات الخفيفة والثقيلة (7) ،في تلك  الظروف ساد مفهوم الدولة الليبرالي ،وكانت وظائف الدولة تنظيمية مقتصرة على الحد الأدنى : الآمن والقضاء والجيش والدبلوماسية ، أما الوظائف الأخرى فكانت من اختصاص القطاع الخاص ، وكان محظور على الدولة أن تتدخل في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية ، وقد ساهم في تعزيز هذا الموقف الأفكار الليبرالية للاقتصاديين الكلاسيك وفي مقدمتهم آدم سميث و ريكاردو التي جاءت لدعم  موقف الدولة من القطاع الخاص ، فقد أكد آدم سميث  على أهمية ضرورة تركيز  الدولة على أداء وظيفتها كدولة حارسة ، وحصرها بثلاث وظائف أساسية هي ، الدفاع  ،وتوفير الآمن والعدالة لحماية الملكية الخاصة  ،فضلا عن قيامها بالمشاريع التي يعجز الرأسماليون عنها أو لا يرغبون بها ، وبذلك جعل وضع الوظيفة الثالثة في إطار شديد المرونة ، تحدده التغييرات التي يمكن أن تطرأ على ظروف عملية النمو الاقتصادي .  كما طالب الدولة بالمحافظة على مبدأ الميزانية المتوازنة ، التي لا يكون فيها للضرائب أو الأنفاق العام  أثار على النشاط الاقتصادي (8). وذلك من أجل توفير الظروف الملائمة لعمل  نظام السوق ، الذي يقوم على ضرورة توفر  الحرية الاقتصادية ، التي تشمل على حرية الإنتاج ،أي حرية المنتج في أن يستغل موارده في أي شكل من أشكال الاستغلال ،وحرية المستهلك في أن يتصرف في دخله بالطريقة التي يراها مناسبة،كما يقوم جهاز السوق أو نظام الأسعار بالتوفيق بين قرارات المستهلكين والمنتجين.و اختلف موقف الدولة  من مسالة التدخل في النشاط الاقتصادي ومن القطاع الخاص  في بلدان أوربا القارية  واليابان ، وذلك  لاختلاف الظروف التي واجهت عملية انتقال هاتين المجموعتين إلى الرأسمالية عن تلك الظروف التي واجهت بريطانيا. فنجد في مجموعة بلدان أوربا القارية  وخاصة في فرنسا وسويسرا  وألمانيا وهولندا وبلجيكا ، أن النظم الابوية استثمرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مبالغ ضخمة في عدد من المشاريع الرائدة ،التي كانت مملوكة كلياً للحكومة ، وقد تفاوتت مستويات رأسمالية الدولة (الملكية الحكومية ) في هذه البلدان بحسب التفاوت في مستوى فجوة النمو الصناعي بينها وبين بريطانيا .
    وقد برهنت تجربة اليابان وعقب ثورة ( الميجيMeiji) في أواخر القرن التاسع عشر وتحديداً خلال الفترة 1868-1880 ، على إمكانية الإسراع في عملية النمو الاقتصادي ، وعلى أن الانتعاش الاقتصادي المستمر ليس بظاهرة أوربية فقط. ورغم أن التجربة اليابانية شديدة الشبه بتجارب بلدان أوربا القارية  ، من حيث اعتمادها على التدخل الحكومي الواسع النطاق لدعم النشاط الإنتاجي للقطاع الخاص ولحمايته من المنافسة الخارجية ،حيث عملت الدولة في هذه التجارب كحاضنة للقطاع الخاص ،ورغم أن هذه الحضانة  تمت في إطار زمني محدد ، آلا أن أهميتها تتجاوز عمرها الزمني ، لدورها في تفعيل دور القطاع الخاص الذي تميز  بسرعة الاستجابة وتحمل المسؤولية في عملية  إقامة المشاريع الصناعية ، وهذه الاستجابة هي التي أسرعت في نهاية فترة حضانة الدولة ، ودفعها إلى اتخاذ القرار ببيع معظم المشاريع الحكومية إلى القطاع الخاص. ومن هنا نجد أن وجود النظام السياسي  الحامل لعناصر إرادة التنمية كان هو الشرط الضروري الدافع للانتقال ،الذي أكتمل بوجود الشرط الكافي المتمثل بوجود القطاع الخاص القادر على تحمل مسؤولية النهوض بأعباء عملية التنمية.
    . وهكذا نجد أن الدولة في تلك المرحلة قد جمعت بين  خاصية التدخل المؤقت لدعم الأنشطة الاقتصادية و توفير عناصر رأس المال الاجتماعي في حالة وجود قطاع خاص ضعيف ،كما في حالة اليابان وبلدان أوربا القارية  ،و بين  خاصية الحيادية و الأحجام عن التدخل في حالة وجود قطاع خاص قوي كما في حالة بريطانيا(9)  .
    وبناءاً على ما تقدم نستطيع القول  أن الأفكار الليبرالية للاقتصاديين الكلاسيك لم تكن هي السبب وراء موقف الدولة الحيادي في تلك المرحلة ،وأن ما كانت تلك  الأفكار هي نفسها نتاج لذلك الواقع الاقتصادي، الذي كانت سمته الرئيسة الحرية الاقتصادية وضعف تدخل الدولة في الشأن.
    ثالثاً:- مرحلة الاقتصاد الموجه والدولة المتدخلة
       بدأت الدولة بالتدخل بقوة  في توجيه النشاط الاقتصادي في السنوات اللاحقة الانهيار الاقتصادي العالمي الذي تلا الكساد الكبيرفي عقد الثلاثينات ،فقد برهنت هذه الظروف على أن القطاع الخاص  غير قادر لوحده على تصحيح تلك الأوضاع، كما أن آليات السوق لم تعد كافية للعودة إلى حالة  التوازن الاقتصادي ،هذا الواقع الجديد وفر  الأرضية  المناسبة لتعميم الأفكار الكينزية الداعية إلى  ضرورة  تدخل الدولة وخروجها عن دورها التقليدي والحيادي  ،كسبيل لمعالجة نواحي  النقص  أو الفشل في عمل جهاز الأسعار من خلال استخدام أدوات السياسية المالية ، خصوصاً بعد أن تبين أن استخدام  أدوات السياسة النقدية بمفردها غير كاف لتحقيق التشغيل الكامل للموارد، كما أن هذه الظروف سمحت للدولة بالخروج عن مبدأ توازن الموازنة ، حيث  اصبح بإمكان الدولة التوسع في النفقات العامة وأحداث عجز في موازنتها  ،إذا كان ذلك العجز يساهم في رفع مستوى الطلب الكلي الفعال و يساهم في  العودة إلى حالة التوازن الاقتصادي ،وفي ظل هذا الواقع الجديد تطورت وظائف الدولة ، في ضوء الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها وأهمها رفاهية المواطنين من خلال تنظيم وإدارة النشاط الاقتصادي ، ولقد تجسد هذا التوجه بقيام الحكومة بتوفير السلع والخدمات وتوجيه الإنتاج ، كما استهدفت تحقيق التوزيع العادل للدخل وتحقيق الاستخدام الأفضل للموارد فأصبح تدخل الحكومة بارزاً في مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية ،وتحققت إنجازات إنمائية كبيرة في الصحة والتغذية والتعليم ،ورغم هذا التطور في وظائف الدولة آلا أن السياسات الكينزية كانت تنصح  أيضاً بعدم  قيام الدولة بمزاحمة للقطاع الخاص في ميدان الإنتاج ، وحصر مهمتها في توفير عناصر رأس المال الاجتماعي. على أن تترك للقطاع الخاص مهمة تجهيز راس المال الإنتاجي المباشر  ، وفي هذه المرحلة منحت الحكومة صلاحيات لم يكن يسمح بها الفكر الكلاسيكي  يمكن تلخيصها بما يأتي(10)  :
    1-     التأكيد على أهمية الوظيفة التوزيعية للحكومة في المحافظة على العدالة في توزيع الدخول .
    2-  التأكيد على أهمية الوظيفة الاستقرارية للحكومة المتمثلة في تحقيق استقرار الأسعار والنمو الاقتصادي والعمالة الكاملة  من خلال التدخل لتصحيح الخلل في أسواق السلع والخدمات  و أسواق عناصر الإنتاج .
    3- التأكيد على أهمية الوظيفة التخصيصية للحكومة المتعلقة بمعالجة  نواحي القصور  والفشل  في عمل جهاز السوق ،للوصول إلى  التوزيع الكفء للموارد.أن هذه  المبررات كافية للدعوة  إلى تخفيف القيود عن دور الدولة الاقتصادي ، و توسيع دور القطاع العام  ، التي برزت بوضوح في فترة الخمسينات والستينات.و التي رافقها تراجع كبير في دور قوى السوق ودور القطاع الخاص وقد تعزز هذا الاتجاه أيضاً  بفعل عوامل عديدة من أهمها(11) :-
    1-العوامل الاجتماعية و السيكولوجية التي أدت إلى النظر إلى القطاع العام باعتباره سمة من سمات النزعة القومية ،و أخذت تفضل تدخل الدولة وتنظر إلى  تأميم الملكية الأجنبية بأنه يحقق إشباعا نفسيا  وشعوراً بالتفوق القومي .
    2- تزايد القناعة بميل الإدارات الحكومية نحو التنظيم ،مقابل الاعتقاد بأن عمل نظام الأسعار كمنظم للنشاط الاقتصادي يمكن أن يقود نحو الفوضى .
    3- النجاح  الذي حققته تجربة القطاع العام والتخطيط الاقتصادي في الاتحاد السوفيتي ومجموعة الدول الاشتراكية سابقاً.
    رابعاً:- مرحلة الدولة المنتجة والمخططة
         وصل موقف الدولة حدوده القصوى في الاتحاد السوفيتي ومجموعة الدول الاشتراكية سابقاً عندما تم البدء  باتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير الكفيلة  بإزاحة القطاع الخاص من النشاط الاقتصادي بهدف تحويل  الدولة إلى دولة منتجة ومالكة لجميع وسائل الإنتاج ،و الجهة الوحيدة المسؤولة عن توليد وتوجيه الفائض الاقتصادي نحو المنافذ المسرعة لعملية التراكم الرأسمالي . وأهم ما يميز  هذه المرحلة هو تحول  أسلوب التنمية من نظام السوق إلى نظام التخطيط المركزي ، فالملكية العامة لوسائل الإنتاج والحاجة إلى تحقيق النمو المتوازن المخطط للاقتصاد القومي تجعلان من استخدام التخطيط لإدارة الاقتصاد القومي أمراً لازما،واستخدام التخطيط يتطلب وجود سلطة مركزية للتخطيط قادرة على توجيه الموارد ،وحتى يكون المخطط قادر على توجيه الموارد  و إلزام الوحدات الإنتاجية بتوجيهات الخطة الاقتصادية المركزية ،لابد من وجود الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج .لآن الملكية هنا تعني السيطرة ،والسيطرة تعني القدرة على التوجيه والرقابة . ومع استخدام التخطيط ظهرت الحاجة إلى وضع نظام لمحاسبة المشروعات الإنتاجية و الأشراف والرقابة العامة كأحد النشاطات الاقتصادية للدولة في ظل النظام الاشتراكي . واختلفت صيغة تدخل الدولة في ظل النظام الاشتراكي عن الصيغة السائدة في ظل النظام الرأسمالي ، التي تقوم على صيغة التدخل الجزئي ، وبالتالي مهما  أتسع نطاق القطاع العام  في الدول الرأسمالية ، فلن يمس الإطار العام  لعلاقات الملكية ، وسيبقى محصوراً في نطاق محدود وتابع للقطاع الخاص. فالتدخل الجزئي يهدف إلى علاج ما يعجز عن تحقيقه جهاز الأسعار ، وهو تدخل لاحق لحدوث الأزمة ،أي تدخل لعلاج الأزمة بعد وقوعها ،أو حينما تظهر بوادرها في الأفق ، في حين كان ما يميز  التخطيط  في الدول الاشتراكية كونه تخطيطاً شاملاً، و تدخل سابق لحدوث الأزمة لمنع حدوثها (12).
    و أخيرا يمكن القول أن  الدوافع  وراء موقف الدولة  السلبي من القطاع الخاص في ظل النظام الاشتراكي كانت دوافع أيديولوجية ،تعكس الإيديولوجيا التي يتبناها النظام السياسي  ،  وهذه الإيديولوجيا هي النظرية الماركسية وهي نظام فكري يدعو إلى ضرورة سيطرة الدولة على عناصر الإنتاج والثروة ،وكل مكونات رأس المال الإنتاجي المباشر و رأس المال الاجتماعي ، وإزاحة القطاع الخاص خارج ميدان النشاط الإنتاجي باعتبار هذا نشاط اقتصادي يقوم على استغلال الطبقة العاملة .
    خامساً:- الدولة والقطاع الخاص في الدول النامية
      تأثر موقف الدولة في الدول النامية من قضية التدخل في الشأن الاقتصادي بشكل عام وفي عملية التنمية بشكل خاص ، ومن مسالة تحديد طبيعة وحجم مشاركة القطاع الخاص في هذه العملية بعاملين رئيسين(13)  :أولهما داخلي يتعلق بالمهمة المعقدة التي واجهت الدول المستقلة حديثاً بعد الحرب العالمية الثانية ، المتمثلة بكيفية مواجهة الاختلالات الهيكلية وبخاصة اختلال العلاقة بين الموارد المادية والبشرية واختلال  هيكل الإنتاج ،  و ما يتبع ذلك من ضرورة تحديد أسلوب التنمية الكفيل بالقضاء على التخلف وتهيئة شروط الانتقال نحو التنمية.وثانيهما خارجي وهو أن اشتداد حدة التوتر الدولي بين دول المعسكر الغربي والشرقي ،الذي جعل التغييرات في السياسة الاقتصادية للدول النامية وبخاصة تلك المتعلقة بدرجة تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي ، متغير تابع للمتغيرات في البيئة السياسية والاقتصادية الدولية ،وجزءاً من لعبة التوازن الدولي . ويمكن القول أن معظم دوافع التدخل في الدول النامية جاءت  بتأثير العامل الثاني ،أي كاستجابة للضغوط الخارجية  ، ولم تكن منبثقة  في معظم  الأحيان من متطلبات وشروط التنمية الداخلية.و أسفر هذا الواقع عن تقسيم الدول النامية إلى مجموعتين(14)  :-
    - مجموعة الدول الصديقة للمعسكر الشرقي ، وتضم تلك المجموعة الدول النامية التي لعبت فيها  الأيديولوجيا اليسارية أو اشتراكية دوراً أساسياً في تحديد ورسم  حدود دور الدولة في التنمية الاقتصادية  ،و أعطت هذه المجموعة الدور القيادي في عملية التنمية  للقطاع العام ، و استخدمت أسلوب التخطيط المركزي  لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية، وأسفرت سياساتها الاقتصادية عن توسيع ملكية القطاع العام  وتحجيم دور القطاع الخاص وبخاصة في النشاط الإنتاجي وعمليات التجارة الخارجية .
    - مجموعة الدول الصديقة للمعسكر الغربي ، وتضم  تلك المجموعة الدول النامية التي تتبنى  الأيديولوجيا اليمينية وفلسفة النظام الرأسمالي ،وتعطي الدور القيادي في عملية التنمية للقطاع الخاص ، و استخدمت على آليات السوق، و التدخل الجزئي للحكومة في النشاط الاقتصادي ، أي بالشكل الذي لا يمس الإطار العام  لعلاقات الملكية . وأسفرت السياسات الاقتصادية لهذه المجموعة عن إقامة نوع من الاقتصاد المختلط الذي يتعايش فيه كلا القطاعين ، ويتولى فيه القطاع العام  مهمة تجهيز مستلزمات رأس المال الاجتماعي بالإضافة إلى المجالات الإنتاجية التي تفوق الإمكانيات الاستثمارية للقطاع الخاص . و بناءاً على  التغيير في  موقف الدولة من القطاع الخاص في الدول النامية يمكن أن نميز بين مرحلتين :-
    1-مرحلة الدور الموسع للقطاع العام
    أن المتتبع للسياسيات التنموية في البلدان النامية خلال الفترة من بداية عقد الخمسينات إلى أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي يلاحظ أنها اتجهت في كلا المجموعتين  تقريباً نحو توسيع نطاق القطاع العام  ، وقد تفاوتت الحكومات فيما بينها حول مدى تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية وفي  حجم القطاع العام وطبيعة علاقته مع القطاع الخاص ، وفي الآثار المرجوة على علاقات الملكية ، وفي المبررات المقدمة للجماهير لتفسير أهداف التوسع في دور القطاع العام ، وذلك بحسب الاختلاف في نوع الأيديولوجيا التي يتبناها  النظام السياسي .
    و بشكل عام فان درجة هذا التوسيع  قد تأثرت بمجموعة من المعوقات والظروف والأهداف التي كانت تواجه جهود التنمية  ، التي من أهمها ما يأتي (15):-
    1-      عدم كفاية البناء الارتكازي  وراس المال الاجتماعي، ولكون الدولة المصدر الوحيد
    2-      النقص في رؤوس الأموال المعدة للاستثمار
    3-      ضعف مرونة عرض المهارات والكفاءات الإدارية والتكنيكية .
    4-      قلة المنظمين الأكفاء ، وصغر حجم الوحدات الإنتاجية ،وعجز القطاع الخاص عن توفير موارد كافية للاستثمار في الوحدات الإنتاجية الكبيرة .
    5-      عدم توفر المناخ الملائم للاستثمار المنتج و المحفز على الإبداع والابتكار وعلى زيادة الإنتاجية
    6-      الاعتماد الكبير على استيراد المدخلات الوسيطة والمعدات الإنتاجية  ، وعلى العون الإنمائي والديون الخارجية، والاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر في تنفيذ وتجهيز واستمرار مشاريع التنمية .
    7-      الرغبة في تحقيق الاستقلال الاقتصادي والتحرر من هيمنة الشركات الأجنبية ، سواء في قطاع الصناعات الاستخراجية أوفي قطاع الصناعة التحويلية.
    8-      الرغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الإقليمية وتحقيق الاكتفاء الذاتي والمحافظة على السلام الاجتماعي والآمن القومي.
    أن هذه العوامل جعلت أراء المفكرين التنمويين  و المؤسسات الدولية ومنها البنك الدولي ،التي طرحت خلال عقود  الخمسينات والستينات من القرن الماضي ، متسامحة مع القطاع العام  بل مشجعا له ،غير أنها كانت  تؤكد في نفس الوقت  على ضرورة إشراك القطاع الخاص في عملية التنمية .  وقد  أدى  ذلك الموقف إلى دعم عملية  توسيع دور  القطاع العام ، فبالإضافة إلى  وظائف الدولة التقليدية  في الدفاع وحماية الآمن الداخلي ،وبناء البنية الأساسية ، عرج القطاع العام نحو إدارة الاقتصاد الكلي من خلال تملك وسائل الإنتاج والسيطرة على الصناعات الناجحة  و الأنشطة ذات الأهمية الستراتيجية ، وتشجيعها من خلال توفير العملة الصعبة والقروض الميسرة والأراضي الرخيصة والحماية الجمركية ، وغيرها من الحوافز ،  وهذا ربما يفسر السبب وراء اندفاع معظم الأقطار النامية باستثناء مجموعة النمور الآسيوية نحو التوسع في الصناعات المعوضة عن الاستيراد، التي لا تتمتع في معظم الأحيان بأية ميزات نسبيه ،وف أحيان كثيرة تم ذلك لأسباب سياسية أكثر منها اقتصادية ، ورغم أن هذه السياسات أدت إلى زيادة مستويات التشغيل وتحسين أنماط توزيع الدخل ، إلا أنها  تسببت في تهميش وإضعاف القطاع الخاص ،وبخاصة في الدول التي أممت وصودرت فيها ممتلكاته ،كما أدت هذه السياسات إلى تبديد أو سوء استخدام جزء كبير من الموارد المادية والبشرية ، واختلال هيكل التجارة الخارجية وتضخم الجهاز الإداري للدولة ، واختلال سوق العمل ،كما أفرزت سياسات الدعم المتباين اختلالا في هيكل الطلب وتشوهات في هيكل الأسعار، فضلا عن كل ذلك فأن النشاط الاقتصادي يجري في مناخ تغييب عنه  المنافسة ،بسبب العمل في إطار مغلق داخلياً ، في ظل احتكار القطاع العام للأنشطة الإنتاجية الرئيسية ، وخارجياً بسبب وجود جدار عالي من الحماية الجمركية . ومع مرور الوقت ،تقلص دور القطاع الخاص ، وشاع مناخ من عدم الثقة والرغبة في الاستثمار ، دفع ذلك إلى تقوقع أو هروب رؤوس الأموال المحلية إلى الخارج(16)  .

    2-التحول نحو  تبني سياسات الخصخصة
        رغم الإنجازات التي حققها القطاع العام في عملية التنمية الاقتصادية وفي مجالات التنمية البشرية ألا أن هذه المساهمة كانت دون المستوى المتوقع ، الأمر الذي دفع العديد من البلدان المتقدمة والنامية إلى أعادت النظر في دوره في الحياة الاقتصادية وخصوصا بعد أن تدهورت الأوضاع الاقتصادية بشكل حاد في معظم الأقطار النامية خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي ، والتي أكدت أيضا على أن  مساهمة القطاع العام في عملية التنمية في تلك الأقطاركانت أقل بكثير من الأهداف المعلنة في خطط التنمية ، وبعد أن بدأت هذه الدول تواجه مأزقاً تنموياً حاداً ،نتيجة للارتفاع الكبير في مستويات المديونية الخارجية ،خاصة في الأقطار غير النفطية ،و تدهور معدلات التبادل التجاري الدولي مع استمرار تراجع أسعار السلع التصديرية الأولية ، وارتفاع مستويات العجز في موازين المدفوعات ، و العجز في الميزانيات العامة ،وتدهور مستويات التنمية البشرية نتيجة ارتفاع معدلات الفقر وتدهور مستويات المعيشة المرتبط بالتراجع في  معدلات النمو الاقتصادي  مقابل الارتفاع المستمر في معدلات نمو السكان ،فضلا عن تدهور مستوى الصحة والتعليم و ارتفاع مستويات البطالة الصريحة و الهيكلية(17). في ظل هذه الظروف ، أخذت مسألة إعادة النظر في دور الدولة بالشأن الاقتصادي دفعة قوية وزاد الاهتمام بها بعد أن تم تقديم الخصخصة كحل سحري ، للتخلص من الوحدات الإنتاجية الخاسرة في القطاع العام ، وتصفيته جزئياً أو كلياً  ، لتمهيد الطريق نحو توسيع الملكية الخاصة وزيادة حجم مشاركة القطاع الخاص في عملية التنمية ، واستندت هذه الدعوة إلى عدد من المبررات من بينها أن القطاع الخاص أكثر كفاءة من القطاع العام في إدارة التنمية ،وأن الخصخصة  يمكن أن تؤدي إلى التقليل من ظاهرة البطالة المقنعة وانخفاض الإنتاجية في وحدات القطاع العام ،كما يمكن أن تساهم في إلغاء مخصصات الدعم والقروض الميسرة والحماية الجمركية والعملة الصعبة التي كانت تقدمها الدولة لهذا القطاع . وتسرد معظم أدبيات التخصيص مزايا عديدة لهذه العملية أهمها18).
    أنها تعمل على زيادة إيرادات الدولة ،والترويج للكفاءة الاقتصادية وتقليل تدخل الحكومة في الاقتصاد ،والترويج للملكية الأوسع وتشجيع وأتاحه الفرصة للمزيد من المنافسة وإخضاع الشركات المملوكة للدولة لنظام السوق.
    وهكذا تضافرت عدة عوامل  للنيل من مصداقية  التخطيط ولزرع الشك في جدوى استمرار دور القطاع العام في عملية التنمية . هذا المناخ هيأ الفرصة المناسبة لعد كبير من الدول النامية لإعلان التحول نحو الخصخصة واقتصاد السوق مع مطلع الألفية الثالثة ، ويمكن تلخيص أهم العوامل التي ساهمت في التحول بما يأتي(19)  :-
    1- انهيار المنظومة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي ،إذ أعتبر هذا الانهيار وتدهور أوضاع الدول النامية التي اعتمدت  أسلوب التخطيط المركزي ، بمثابة دليل على عدم جدوى نظام التخطيط وضرورة التحول نحو الخصخصة واقتصاد السوق .
    2- الأزمات الاقتصادية العديدة التي واجهت عدد كبير من الدول النامية ، التي سعت إلى الخروج منها بالتماس العون من الدول الرأسمالية المتقدمة و المؤسسات المالية الدولية ،حيث اشترطت الأخيرة التحول إلى اقتصاد السوق كثمن لتقديم هذا عونها في مجال إعداد وتنفيذ وتمويل برامج التصحيح الاقتصادي  .
    3- انتشار الأفكار الليبرالية الجديدة التي ساهمت في تحقيقه مجموعة من العوامل من أهمها :-
    أ-أنه جاء كنتيجة طبيعة لانتصار الأفكار الليبرالية الجديدة على كل من الأفكار الكينزية  والماركسية .
    ب-ساهم الدعم المالي والفني الذي تقدمه الدول الرأسمالية المتقدمة و المؤسسات الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، للدول النامية التي تنفذ برامج الاستقرار والتصحيح الاقتصادي في توسيع نطاق هذا الانتشار.
    ج- أن مناخ الأزمات الذي تعيشه الدول النامية يغري بالتحول من الفكرة إلى نقيضها  ، فمن تبني أيديولوجيات تقع في أقصى اليسار( تدعو إلى تنمية بالتخطيط المركزي وبقيادة القطاع العام) إلى أخرى في أقصى اليمين (تدعو إلى الخصخصة ونظام السوق) ربما يأسا من الدروب المطروقة وأملاً في أن يأتي الطريق  الجديد مع خطورته وفداحة ثمنه بالهدف المنشود .
    4- قوة جذب النموذج الآسيوي ،الذي فسر نجاحه على أن جاء من اعتماده على نظام السوق والانفتاح على الاقتصاد العالمي . رغم  أن الواقع يشير إلى أن التنمية التي حدثت في هذه المجموعة من الأقطار  تمت  بقيادة الدولة ،وان الأسواق التي سمح لها بالعمل كانت أسواقا محكومة وموجهه من قبل الدولة وخضعت لتوجيهاتها المباشرة وغير المباشرة  ، وهذا يعني أن التنمية تمت عن طريق قيادة الدولة للسوق وليس عن طريق قيادة السوق لعملية التنمية .
    سادساً:- الدولة والقطاع الخاص في الدول العربية
    يمكن تصنيف الدول العربية وفقاً لدور الحكومة في عملية التنمية وموقفها من القطاع الخاص إلى ثلاثة مجموعات  وكآلاتي(20):-
    1- مجموعة النظم الشمولية المتأزمة :-  تشمل مجموعة الدول التي تلعب فيها الأيديولوجيا  القومية الاشتراكية للنظام السياسي دوراً أساسياً في تحديد ورسم سياسة الدولة الاقتصادية ودورها في عملية التنمية الاقتصادية و موقفها من القطاع الخاص ،وابرز دول هذه المجموعة مصر ( خلال الفترة الناصرية 1952- 1973 ) الجزائر ،سوريا ،ليبيا والعراق (قبل سقوط نظام صدام حسين) ، ظل القطاع العام في هذه المجموعة يحتكر النشاط الإنتاجي بشكل عام والنشاط الصناعي و الاستخراجي بشكل خاص بالإضافة إلى هيمنته على التجارة الخارجية ، وطبقت هذه المجموعة سياسات تعويض الاستيراد ووضع القيود الشديدة على عمليات الاستيراد  و الصرف الأجنبي و الاستثمار الأجنبي ، وغالباً ما كانت تعيش علاقات متأزمة مع الغرب ، و تواجه أنواع مختلفة من الضغوط بدءاً بالضغوط السياسية وانتهاء بالعقوبات الاقتصادية ، وقد وصل التأزم ذروته في هذه المجموعة مع العراق الذي فرضت عليه عقوبات اقتصادية قاسيه استمرت (12)عام ، انتهت باللجؤ إلى استخدام القوة العسكرية لإسقاط النظام من قبل تحالف قادته الولايات المتحدة الأمريكية في 9/4/2003 .
    2- مجموعة النظم التكنوقراطية المحدودة الديمقراطية  وابرز دول هذه المجموعة مصر (بعد عام 1974 ) وتونس والمغرب ولبنان والأردن ، وفي هذه المجموعة تقوم الدولة بالوظائف التقليدية فقط ، وتحل الملكية الخاصة محل الملكية العامة في معظم الأنشطة الإنتاجية والخدمية  ، وتعطى الأولوية في إجراءات السياسة الاقتصادية لخدمة الدين الخارجي ، وتطبيق سياسات الانفتاح و الاندماج مع الاقتصاد العالمي ،فهي لا تضع أية قيود أمام دخول السلع الأجنبية ، والاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر ، كما تتبنى سياسات تشجيع الصناعات التصديرية ، كما تلتزم بالوصفات التي تقدمها المنظمات المالية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي  التي توصي بتطبيق سياسات التحرر الاقتصادي و إزالة القيود والمعوقات أمام التجارة الخارجية ،ودعم المنافسة و تشجيع القطاع الخاص ، فضلا عن  إصلاح القطاع العام وتحسين أداء المؤسسات العامة من خلال خصخصتها ،أو إعادة هيكلتها وتبني سياسات اقتصادية تقود إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي.
    3- مجموعة النظم السلفية الثابتة ظاهرياً وتشمل على دول مجلس التعاون الخليجي ، التي تقف في مقدمتها المملكة العربية  السعودية ، ويتلون دور الدولة التنموي في هذه المجموعة بلون ديني هدفه في الأساس سياسي الحفاظ على النظم القائمة دون السماح بأي نشاط يستهدف التغيير كالتعددية السياسية وتوسيع دور مؤسسات المجتمع المدني  ، ولا تقف هذه النظم موقف المعارضة  من القطاع الخاص ، وإنما تدعو إلى أن يكون نشاطه عادلا وتنافسياً ،فباستثناء القطاع النفطي تترك الدولة جزءاً كبيراً من عمليات الإنتاج والتوزيع للنشاط الخاص ولا يدخل القطاع العام ألا في المجالات التي يعجز القطاع الخاص عن الدخول أليها ، أي أنها تعطي القطاع الخاص الحرية الكاملة في ممارسة النشاط الاقتصادي ، ولكن بشرط أن لا يتعارض نشاطه مع المصالح الاجتماعية والسياسية للنظام .
    ويمكن القول أن هذه المجموعة تتبنى أيديولوجيا رأسمالية محلاة بالدين ، وهي أيديولوجيا ليبرالية كاملة على الجانب الاقتصادي ، ولكنها مركزية غير ديمقراطية على الجانب السياسي كما أنه موقف يرتبط بالعامل السياسي ارتباط وثيق فهدف الدولة هو إقناع الجمهور بالمشاركة بالفائض الاقتصادي المتولد عن الريع النفطي (21). وهذا الموقف الأيديولوجي / السياسي بقي ثابتا منذ العشرينات وحتى مطلع الألفية الجديدة ، حيث قامت بعض دول المجموعة وفي مقدمتها مملكة البحرين والإمارات العربية المتحدة ودولة قطر بأجراء العديد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية وتحت تأثير التغييرات التي شهدتها البيئة السياسية والاقتصادية العالمية مع تنامي تيار العولمة .


    الاستنتاجات والمقترحات
          بناءاً على كل ما تقدم  توصلت الدراسة إلى الاستنتاجات والمقترحات الاتية :-
    1-أن القرار الاقتصادي في الدول المتقدمة متغير تابع لحالة النشاط الاقتصادي،فالمتغيرات الاقتصادية الكلية  وبخاصة حالة النمو الاقتصادي ومستوى التشغيل  و الاستثمار والتجارة الخارجية  ، هي المتغيرات الرئيسية التي تتحكم في قرار الدولة حول التدخل  في النشاط الاقتصادي من عدمه ، وبناءاً على هذا الاستنتاج تم التمييز بين موقفين :-
    أ-  في ظل ظروف الانتعاش والاستقرار الاقتصادي  أو في  ظل حالة التوازن عند مستوى الاستخدام الشامل كما وصفها الكلاسيك ، كانت  الدولة محايدة ، لا تتدخل في الشأن الاقتصادي ، وكان الاقتصاد حراً ، و مجال الاختيار واسعاً  وتلقائياً سواء على الصعيد الجزئي ( المستهلك والمنتج ) أم على صعيد الاقتصاد الكلي ، في ظل المدى الواسع من البدائل  الذي تتيحه عملية التنمية للمجتمع.
    ب-  في ظل ظروف الركود والانكماش الاقتصادي وارتفاع مستويات البطالة و الابتعاد عن حالة التوازن الاقتصادي عند مستوى التشغيل الكامل   ، تدخلت الدولة باستخدام أدوات السياسة الاقتصادية ، لتؤكد على أن تدخل الدولة كان أمرا لا غنى عنه  لتعويض النقص في عمل آليات السوق  ولمعالجة حالات فشل أو إخفاق السوق  .فقد تبين أن هناك حالات تعجز فيها السوق عن تحقيق الكفاءة في عملية تخصيص الموارد .
    2- أن القرار الاقتصادي في دول المنظومة الاشتراكية السابقة كان متغير تابع لإيديولوجيا للنظام السياسي  وكانت هذه الأيديولوجيا وهي الماركسية-اللينينة توصي بضرورة ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والثروة ،وإزاحة القطاع الخاص خارج ميدان النشاط الإنتاجي باعتبار هذا نشاط اقتصادي يقوم على استغلال الطبقة العاملة .
    3- أن القرار الاقتصادي في معظم الدول النامية متغير تابع لردود أفعال النظام السياسي على الضغوط الخارجية والداخلية، بعدها يتحول هذا القرار إلى توجهات لرسم الخطوط العامة للسياسة الاقتصادية وبضمنها السياسة الاقتصادية والموقف من القطاع الخاص . فاستمرار الأزمات  التي تواجه قسم كبير من الدول النامية أدى إلى  تعريضها لتأثيرات الضغوط الخارجية بأنواعها المختلفة الاقتصادية و/ أو السياسية لإجبارها على تغيير توجهاتها السياسية عامة والاقتصادية بشكل خاص . وساعد  هذا المناخ على التحول بسرعة وسهولة من الفكرة إلى نقيضها  . فتحولت بعض الدول النامية من أيديولوجيات التنمية بقيادة القطاع العام والتخطيط المركزي التي طبقتها في الستينات والسبعينات إلى أيديولوجيات الخصخصة ونظام السوق ،مع مطلع الألفية الثالثة ومع تزايد دور الشركات العابرة للقومية  و المؤسسات الدولية التي تعمل على توسيع نطاق عملية العولمة  .
    4-أن الفشل الذي أصاب بعض التجارب التي اعتمدت على التخطيط وتدخل الدولة في دول المنظومة الاشتراكية السابقة ، أوفي بعض الدول النامية التي عملت على محاكاة هذا النموذج ،لا يعني فشل القطاع العام ونظام التخطيط ، لكنه يعني فشل تجارب تلك الدول أو النمط الذي استخدمته تلك الدول .
    5- أن تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي في الأقطار النامية ، هو الشرط الضروري لتهيئة ظروف الانتقال من حالة التخلف إلى حالة التنمية ،غير أن الذي يحدد نطاق هذا التدخل ،هو نوع وحجم القيود والعوائق الداخلية التي تعترض سبيل التنمية ،وهذا الشرط لا يكتمل إلا بوجود الشرط الكافي المتمثل بوجود قطاع خاص يمتلك القدرة على تحمل مسؤولية النهوض بأعباء التنمية.فلو كان تدخل الدولة المخططة لوحده كافياً أو شرطاً وحيداً لتحقيق التنمية ، لما انهارت تجربة التنمية في دول المنظومة الاشتراكية ، ولما عاشت تجارب التنمية بقيادة القطاع العام في بعض الدول النامية مأزقها الحالي .
    6- عند الشروع في تطبيق برامج الخصخصة يجب مراعاة ، أن عملية التنمية تنطوي على تغييرات هيكلية عميقة في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية ،قد لا تستطيع الأسواق بمفردها التعامل معها ، عندئذ يكون لا مناص من الاعتماد على التخطيط لأحداث تلك التغييرات ومحاولة  أيجاد نوع من التوازن بين دور كل من القطاعين العام والخاص في عملية التنمية .
    7- أن البدء بعملية تحرير الأسواق وتحرير إدارة الشركات الحكومية  وتفعيل المناخ التنافسي ورفع القيود و الحواجز على عملية الدخول للأسواق المحلية ،  يمكن أن تحل محل عملية نقل الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص ، فتحويل الملكية في حد ذاتها ليست لها تأثير كبير على الأداء الاقتصادي ،  كما أن العوائد المالية والاقتصادية للخصخصة لا تتحقق فقط من إجراء هذا النقل للملكية ، بل تأتي بالدرجة الأساس من تحرير إدارة الشركات الحكومية من القيود البيروقراطية ،وتوجيهها لتتبع التغييرات في احتياجات السوق ،والسماح لها بالعمل في مناخ تنافسي مفتوح للجميع .
    8- أن أي إستراتيجية تستهدف تكوين قطاع خاص قوي ومنافس كفء للقطاع العام يمكنه المشاركة بفاعلية في عملية التنمية الاقتصادية ،لابد لها من توفير العناصر آلاتية :-
    أ- بنية تشريعية توفر قوانين المنافسة ،وقوانين الإفلاس والقانون التجاري
    ب- بنية تحتية في المجالات التي لا يستطيع القطاع الخاص تأمينها .
    ج-تأمين بيئة اقتصادية مستقرة
    د- نظام مالي مستقر وفعال ،يعمل في ظل إطار تنظيمي لا يوفر الآمان والسلامة فحسب ،بل يعزز المنافسة ، ويحمي المودعين ، ويخلق الثقة في السوق المالية .
    هـ- إستراتيجية تصحيحية تزيل التشوهات في الاقتصاد التي تعرقل تحقيق التخصيص الكفوء للموارد
    9- أن القطاع الخاص واليات السوق من ناحية والقطاع العام والتخطيط من ناحية ثانية ليست بدائل كاملة لبعضها ، فلكل منهما حدوداً ، ولا يقدر أي منهما منفرداً على إنجاز كل المهام التي تتطلبها عملية التنمية في البلدان النامية ، وفي ظروف الأزمات التي تعيشها معظم البلدان النامية  ، لا يمكن أن يعهد بعجلة قيادة عملية التنمية إلى السوق والقطاع الخاص ، ولابد أن تكون تلك العملية من مسؤولية الدولة وجهاز التخطيط ، على أن يعمل السوق كآلية مساعدة للإلية التي يعتمد عليها بشكل رئيسي ،وهي التخطيط . أن تحقيق هذه العملية يتطلب معالجة عيوب التخطيط ، ونواحي الفشل والقصور في أجهزة الدولة والقطاع العام ، ومن بين  أهم سبل العلاج
    أ- ضرورة أجراء التطوير المستمر للكوادر البشرية والأساليب والأدوات التكنيكية اللازمة لإعداد الخطط الاقتصادية لكي تتواءم مع التغييرات المستمرة في الاقتصاد الوطني ، وفي البيئة الدولية .
    ب- ضرورة أجراء التطوير المستمر في أجهزة الدولة الإدارية وتنقيتها من مظاهر الفساد الإداري ، وإضفاء نوع من الشفافية على أنشطتها ،مع ضرورة تطوير أساليب عمل القطاع العام . وإعادة هيكلته و تنظيمه لتأهيله لعملية المنافسة مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي .


    الهوامش والمراجع
    A.Gerschenkorn" Economic Backwardness in Historical Perspective " -1"
    Harvard University press ,1962,pp 353-354
    "Notes on Economic Growth as System Determinant "          -2 S.Kuznets
    California University press ,1971,pp 259-260
    3-A.Eckstein" Individualism and the Role of the State in Economic Growth" Homewood,III:Irwin,1969,pp 396-403
    A.Eckstein    Ibid pp 299-300                                                                    - 4                                                                                                                          A.Eckstein    Ibid p 402                                                                               - 5 - 6  عصام الخفاجي "رأسمالية الدولة الوطنية "دار أبن خلدون ،بيروت 1979،ص 26
    7- عصام الخفاجي "المصدر السابق " ص ص 24-26
    8- حسين العمر "مبادئ المالية العامة " مكتبة الفلاح للنشر ، الكويت 2002 ، ص 14
    9- عصام الخفاجي "المصدر السابق " ص ص 43-44
    10- ريتشارد موسجريف و بيجي موسجريف " المالية العامة في النظرية والتطبيق " ترجمة محمد السباخي دار المريخ للنشر ، الرياض 2002 ، ص ص20-32
    11H.Johnson " A Theoretical Model of Economic Nationalism in New     - and Developing states" chicagoUniversity press ,1967,pp. 1-17
    - 12  عمرو محي الدين "التخطيط الاقتصادي "دار النهضة العربية  ،بيروت 1975،ص ص 11-13
    13 -عمرو محي الدين " التخلف والتنمية  " دار النهضة العربية  ، بيروت 1975ص ص54-55

    G.Myrdal " Asian Drama , An Inquiry into the Poverty of nation"     -14
    -          A Pelican Book ,1968, pp.8-11

    15G.Colm and T. Geiger" Puplic Planning and private Decision-Making "- Pakistan Economic Journal ,Vol.VIII,NO .2 ,June 1952, p 416
    16 - موريس جرجيس " آليات دعم القدرة التنافسية في القطاع الصناعي " مجلة التنمية والسياسات الاقتصادية، المجلد الثالث ، العدد الأول ، ديسمبر  ،الكويت، 2000 ،  ص ص10-11
    17 – علي توفيق الصادق وأخرون " دور الحكومات الإنمائي في ظل الانفتاح الاقتصادي " صندوق النقد العربي، معهد السياسات الاقتصادية، أبو ظبي ، الإمارات العربية المتحدة، 2000 ، ص 39
    18 – علي أحمد البلبل وأخرون " تحليل قضايا رئيسية في التخصيص ،مع إشارة موجزة للبلدان العربية " صندوق النقد العربي، معهد السياسات الاقتصادية، أبو ظبي ، الإمارات العربية المتحدة، 2001 ، ص 20
    19 – إبراهيم العيسوي " نحو نظرة واقعية إلى التخطيط واقتصاد السوق " مجلة بحوث اقتصادية عربية، المجلد الثالث ، العدد الخامس،القاهرة، ربيع 1996 ص ص 69-75
    20 - سمير أمين " الدولة والسياسة والاقتصاد في الوطن العربي " مجلة المستقبل العربي العدد164
    مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ،أكتوبر 1992، ص20
    21 – عبد المنعم السيد علي " دور الدولة المتغير في التنمية الاقتصادية " مجلة بحوث اقتصادية عربية، المجلد الثالث ، العدد الخامس،القاهرة، ربيع 1996 ص ص 120-125