محاضرة في النظر العقلي – المنهاجي - أحمد قطامش
لئن كانت (الحكمة ضالة المؤمن) فثمة أسس نظرية، منطلقات تساعد العقل على التفكير الصائب. ففي نهاية الأمر يتعين على المرء أن يسعى للعنب لا أن يقاتل الناطور، أي (اطلبوا العلم ولو في الصين). فكل ما يساعد على الفهم السديد واستحثاث التفكير هو غاية في حد ذاته بصرف النظر عن منبعه في سياق استقصاء أسرار الطبيعة والمجتمع والعقل البشري. ولا أزعم أن هذه المداخلة تغطي كافة جوانب العنوان، كما لا أدعي موهبة خاصة في تعميم الأحكام، وأن كنت سأتقدم بمفاصل يمكن الاتكاء عليها في النظر والتحليل والإبداع عموما، وبالتالي إثارة الأسئلة وتحريض العقل للتحرر من خموله، ذلك أن العقل الفردي شأن العقل الجمعي، إما أن تفترسه العفوية والعشوائية وقوة العادة أو أن توجهه خلفيات منهجية. ومن البديهي أن يتطلع العقل الأكثر نباهة والأكثر تأثيرا لقدر أكبر من الاتساق في القراءة والاستخلاص وتقدير الموقف والتصرف، فما بالكم بالعناصر الناشطة في المجتمع التي تحمل الهم العام وتحاول تنوير غيرها والانخراط في عملية سجالية مع الرأي الآخر، ناهيكم عن مواجهة الثقافة المعادية سيما وقد دهم البشرية زمن يمنح الأقوى عسكريا وتكنولوجيا فرصته لاختراق وضبط العقل البشري ضمن أهدافه ومصالحه.
مهما تنوعت الإيديولوجية والمنظورات، دينية - سلفيه، رأسمالية - ليبرالية، ماركسية - اشتراكية، وما راكمته العملية التعليمية، فثمة مرجعيات منهاجية تنظمها وتطبعها بشاماتها، والأمر نفسه يقال عن الممارسة المجتمعية سيما في التجارب الكبرى الناجحة في الصين الشعبية، أوروبا، اليابان، أمريكا، العرب سابقا والرومان من قبلهم... الخ.
والعقل ملزم بالبحث والتقصي وتجاوز الوهم بأن المعرفة إوزة محمرة جاهزة للهضم، فهي صيرورة دائمة الحركة لا تتوقف أبداً، مثل اللوحة ترسم خطأ بعد أخر، نقطة بعد أخرى، ظلال، ألوان، زوايا، جزيئات تتراكم بتدرج، كما ثمة متغيرات وأحداث تتوالى وتتسارع تستدعي الفهم والتحليل والمواكبة، بل ويتوجب على الدوام مراجعة الصياغات والتحليلات والاستنتاجات بين استصواب وتصويب وإضافة فلا يعلوها الصدأ وتتجاوزها حركة الواقع فليس ثمة نسق نهائي متكامل. كتب هيجل (أن جميع الأشياء المتناهية مآلها الدمار الذاتي، فالجدلية هي الروح المحرك لأي تقدم). على أن نفهم من هذه المقولة المفتاحية أن الفكر لا ينقد نفسه وحسب ويتجاوز كل ما هو شائخ وحسب بل ويغني الإيجابي لكي يتسق مع حركة الحياة أيضا. وفي النهاية ألا يجب الإمساك بالثور من قرنيه للوقوف على الأسباب الواقعية للظواهر والأحداث ومفردات الواقع؟ فلوحة الحياة حافلة بالمستغلقات والتداعيات والتناقضات، وأبعد من ذلك ألا يتعين تجاوز تفسير الواقع إلى تغييره؟ ومن التفسير الصحيح إلى النقد الصريح (إذ ما يجب أن نضعه في الوقت الحاضر – أنشأ ماركس – النقد الصارم لجميع الأشياء الموجودة، النقد الذي لا يخشى نتائجه الخاصة، وأن خوفه ضئيل من الدخول في نزاع مع السلطات القائمة). النقد اللاذع، الجذري المعلل، الذي يمهد لاستخراج رؤيا لمشروع تاريخي نهضوي عربي. وعلى نفس المنوال ما أهمية العلم، التعليم، المعارف... إن لم تخدم شهوة الفهم والتغيير. فالمعرفة سلاح والمعلومات قوة، ويتنامى دور الأمم بتنامي علومها وثقافتها سيما في عصر الثورة التقنية والمعلوماتية، الإنترنت، الفضائيات… من هنا لم يكن غريباً أن يوصف الفلسطيني بأنه أسوأ محامي لأعدل قضية. بل ولم يكن مفاجئاً أن ينجح الإعلام الإسرائيلي في تسويق رواية للعالم بأن الفلسطيني إرهابي، دموي، همجي... دون أن ينجح الإعلام الفلسطيني – العربي بنقل الصورة الحقيقية، وأن تحتوي المكتبات العالمية مؤلفات إسرائيلية أكثر مما تحتوي على مؤلفات عربية، مع أن العرب ينتجون ثقافة وفنون أكثر...
تصمد النظريات بقدر ديناميتها واستيعابها الجديد، إذ ليس أسوأ من القوالب الجامدة والنمذجة التي تقلد الغير ميكانيكياً ولا تقف على الخصائص و(التحليل الملموس للواقع الملموس) لينين. فالجمود وصفة قاتلة للفكر والتطبيق معاً، وهذا تجلى أكثر ما تجلى في سحب النموذج السوفييتي على أوروبا الشرقية، إلى درجة أن يمعن الفكر المعادي للاشتراكية في دحض وتفنيد الماركسية دون تمحيص لمنظوماتها في مختلف الميادين وتجاربها المحققة التي انهارت أو التي لم تنفك صامدة تقطف النجاحات والمآثر، بما يذكرنا بكلمة بليخانوف في أواخر القرن التاسع عشر (أنه بقدر ما يتسع نقد الماركسية يفقد أكثر كل محتوى نقدي)، بما يشبه الكلمات العجولة عن الأزمة البنيوية للرأسمالية في الستينات التي ظنت أن الرأسمالية) على باب قوسين أو أدنى من الانهيار – النهائي، أو عن انطفاء الفكر الديني - التقليدي (إسلامي، مسيحي، يهودي، بوذي...).
ولا شيء ينقذ النظرية، الفكر من التحجر والشيخوخة أكثر من النقد، فحوار الذات، وحوار الفكر الآخر وحوار الواقع، في جدلية متواصلة لا تهمد ولا تخمد هو خشبة الإنقاذ والتطور في آن.
والعقل الانعزالي المفصول عن تيار الفكر الدفاق الذي يأتي بالجديد كل يوم والمنعزل عن حركة الحياة الدفاقة التي تلد الجديد كل يوم مآله الخبو والتأخر عن حركة التاريخ. ولئن كانت التعاسة في السياسة تكمن في عدم تمثل المتغيرات فالأمر نفسه ينطبق على الفلسفة والفكر عموما... بل وعامل رئيسي في تخلف الشعوب العربية التي أصبحت مفوته، أنها تفتقر لمشروع ثقافي يرشد مشروعها التنموي الاستقلالي ويكون درع وقاية يمنع الامبريالية من نهب ثرواتها ولو قارنا ذلك بالحالة الفلسطينية حيث تتخبط نظرية الثورة - أفردنا لذلك محاضرة منفصلة - ويغيب المشروع التنموي وتتهمش الثقافة ويرتبك الأداء والإدارة والتاكتيك لأدركنا الدلالات الحية...
لقد عرف التاريخ إمبراطوريات عظيمة ونظريات كبرى سقطت بعد قرون أو عقود ولو تفحصنا جملة الأسباب الرئيسة لوجدنا أن أحدها يتصل بتحجر فكرها وعجزه عن مواكبة المستجدات... بل وتتعاظم أهمية الفكر والثقافة والنظريات الموجهة في عصر الفضائيات التي تغذيها العولمة الأمريكية فتحل الإثارة وتزييف الوعي وأشغال الناس في اليومي والجزئي بما يقطع الطريق على الرؤية الستراتيجية بعيدة المدى، علما أن الرأسمالية تحققت على أسس استراتيجية، إنتاجية، وعقلانية صارمة على امتداد ثلاثة قرون. أي أن العولمة الأمريكية تحاول أن تقطع الطريق على أي مشروع تاريخي بديل من جهة أخرى.
وعليه، لا مهرب من نظرية مرشده يوجهها وفي القلب منها مبادئ منهجية، فالمنهاج هو الجوهر، الخاصية المركزية التي تميز نظرية عن أخرى، إبداع عن أخر، والمنهاج يتخلل أية نظرية وأي إبداع. وبالنظر لتعدد المناهج تتعدد النظريات وتتمايز كما تتباين الإبداعات وتتفارق، ويرتبط تعدد وتباين المناهج بتعدد وتباين أساسها الاجتماعي – الطبقي وظروفها التاريخية. والعقول الكبيرة والدعاة من أهل الفكر والثقافة والفلسفة إنما توجههم مناهج متناقضة الأمر الذي يوصلهم لرؤى متناقضة يسعون لزراعتها وتعبئة الناس بها بما يعكس تحزبهم وحزبية أهدافهم سواء خدمت الأغلبية أو الأقلية... أهل الحكم والصولجان أم الجماهير الشعبية والمقهورين... العملية التقدمية والسير للأمام أم المحافظة والرجوع للوراء... طلاقة العقل أو كبت وتقييد العقل... إشاعة الحريات أو تكميم الأفواه، الاستغلال الطبقي أم العدالة الاجتماعية وإنهاء الاستغلال... الخ.
واجد نفسي مضطر لاستخدام تعابير تقنية اتصالاً بالموضوع قيد المعالجة، وربما أن التدليل بأمثلة يزيل أية أكاديمية مستغلقة...
المنهاج، المبادئ المنهجية، في نهاية الأمر، هي الدربة، الطريقة، الولادة التي تنتج بيضاً، البذرة التي تنتج سنابل نظرية وإبداعية في الحقول المعرفية كافة، اقتصاد واجتماع وأدب وفن... الخ.
ولئن كانت الفلسفة تعني حب الحكمة والمعرفة التي تقرأ وتحاول تفسير عمليات وظواهر الكون والمجتمع والعقل البشري، أي الوجود برمته، فالمبادئ المنهجية هي الوسيلة التي تستخدم لقراءة وتفسير هذه العمليات والظواهر وأن كانت الفلسفة ومنهجها ثوريان فحينها يسعيان لتغيير التاريخ وحياة المجتمع أيضاً.
وسؤال المنهاج كما السؤال الفلسفي عموما ليس مجردا بدون نتائج أو ترقأ ذهنياً أو رياضة روحية، بل ينبغي أن يتحول لقوة تغيير أيضاً يخدم عملية قلب الأوضاع الظالمة وأواليات الكبح وقهر الإنسان دفعا لمسيرة البشرية التي لا تني تتقدم قرنا بعد قرن، مرحلة بعد أخرى.
والمنهاج المطلوب أكثر من سواه هو الذي يصوغ نظريات وفرضيات وحلول وخطط وإبداعات تحرض وتعقلن عملية التغيير، أي أن يكون قوة تغيير وروح محركة لمشروع تاريخي عظيم للبشرية جمعاء بشعوبها وأممها وقاراتها... لنتذكر فلسفات الشرق الأقصى، من طاوية، كونفوشية، هندوكية... وتأثيرها الهائل على جنوبي شرقي أسيا التي تشكل 40% من البشرية على امتداد 3- 4 آلاف سنة بما سبق اليهودية وجانبها المعتقدي الذي تواصل جوهره، في الديانات اللاحقة...
لنتذكر الفلسفات الإغريقية والقوانين الرومانية التي سيطرت قرابة ألف سنة على أوروبا والشرق الأوسط؟
لتتذكر الرسالتين الكبيرتين المسيحية والإسلام اللتين فاق تأثيرهما أية فلسفات سابقة وامتدتا على نطاق واسع واخترقتا فضاءات الكرة الأرضية منذ 2000 و1400 عام إلى أن نشأت المدينة المعاصرة في القرنين الأخيرين، بركيزتها الصناعية وعلومها ومجتمعها المدني وثقافتها وحرياتها ضمن المنظورات الرأسمالية، فغدت الأقوى والأكثر نفاذا فيما يحاول الموقف الطبقي الاشتراكي، في العقود الأخيرة، تجاوزها وصياغة تشكيلة اقتصادية – اجتماعية أكثر عدالة أخلاقية تزيح الاستغلال والنهب والاغتراب والتمييز الجنسي والقومي وتحقيق ديمقراطية شاملة تتجاوز كثيراً الديمقراطية الليبرالية.
لكيما يؤدي المنهاج دوره الطليعي الثوري يتعين الثقة بقدرته وقدرة الإنسان على المعرفة الصحيحة التي تكشف الغاز الكون، المعرفة المتدرجة للحقيقة الكلية وبالتالي اضطلاعه بوظيفته في صياغة مقاربات، إبداعات، فرضيات، نظريات، تغييريه، وهذا يلزمه الاتكاء على خاصيات أساسية:
1. واقعيته وانطلاقة من قلب الواقع، فهو نص نظري يعكس مشهد الوجود بعملياته وظواهره سواء كانت مادية، عقلية، حية أو طبيعة صماء، يبدأ وينتهي من الحيثيات والمعضلات والتناقضات والتطلعات بغية مراكمة عوامل الكشف وتغيير الواقع (نار تشتعل وتخبو) بتعابير هيراقليط، (أزلي ومكون من ذرات) بكلمات ديموقريط، (مترابط وتحكمه كلية الارتباط) بلغة لوكاتش، وبصرف النظر عن دقة هذه الآراء فالعالم موجود وليس مجرد أحاسيس ذاتية كما يعتقد الفيلسوف بركلي، فأمريكا موجوده قبل أن يكتشفها كولومبوس والكهرباء موجودة قبل أن يهتك الستار عنها جيمس واط، وفائض القيمة موجود قبل ماركس والصراع الطبقي موجود قبل الفرنسيان موجونت ودوجونت والمسألة القومية موجودة قبل أن يكتب عنها لينين. والكون لانهائي قبل أن يقول ذلك التنويري سيبوزا، وهو معطىأول سبق الإنسان سواء كتب ذلك فورباخ أم لم يكتب، والأرض تدور حول الشمس سواء اكتشف ذلك كوبرنيكس أم لا...
2. جدليته، فهو مرآة تعكس جدلية الواقع الموضوعي، يتسق مع حقائقها شأن المصل العلاجي المستخرج من مفردات الواقع لمعالجة مشكلة واقعية، بل وتتجلى قدرته العلاجية، الثورية في مدى اتساقه مع منطق المشكلة المحددة، فلئن كان التشخيص خاطئا أو العلاج خاطئا، فلا جدوى منه.
وتتجلى جدليته في تفاعله الجدلي، فهو مرآة وأداة فعل في آن لا يكتفي بالتأمل، وبدوره ينقد نفسه باستمرار ويتمثل التطورات، فهو ليس نسقاً نهائياً كاملا وهذا حال نظرياته... فكما الواقع مفتوح فالمنهاج مفتوح وكذا نظرياته...
3. ثوريته، لا يكتفي بالإصلاح وإنما يسعى للتغيير شأن حركة التاريخ التي تسير في خط تركيمي ولكن ما تلبث أن تحقق طفرة تقطع سياق وتؤسس سياق جديد، وأية منظورات وسطية أو مساومات إنما تعكس ميزان القوى دون مساس بما هو مركزي يسعى للقفزة والتغيير... فالمنهاج ثوري وجذري في آن. ذلك أن أمريكا تؤمرك العقل البشري وتشدد النهبية في زمن العولمة، والصهيونية تصهين ما تستطيع صهينته، من منطلقات عنصرية والأصولية تؤدلج فضاءات واسعة، والاشتراكية تعبئ... فأين موقع المنهاج وما هو دوره؟
4. راهنيته وتاريخانيته، فهو يعيش الزمان وإبن الزمان الذي يستند إلى مستودع التاريخ ودروسه ويرتقي إلى الراهن وعلومه ومستجداته، لا يصلب نفسه في الماضي متجاهلا انعطافات القرنين الأخيرين وعنوانهما الأبرز الثورة الفرنسية 1789 وما أرتبط بها من ثورة صناعية وأفاق المرحلة الرأسمالية وثورة أكتوبر الشعبية العمالية عام1917 التي تجددت في الصين الشعبية بما تحمله من آفاق، وما أدته الجماهير الشعبية أو عقلها الخلاق من دور عظيم في صنع حياتها ومستقبلها… وبطبيعة الحال ما صاحب هذين القرنين من ثورة – علمية أجابت على الكثير من الأسئلة ودحضت الكثير من الإجابات السابقة التي نشأت في أرحام الجهل والظلمات والخرافة. والمنهاج وأن حشر نفسه في ملزمة الماضي تحجر وتخلف فيما تعدو حركة الحياة بإيقاع سريع بما تستوجبه من متابعات واستنتاجات... ومن هنا أهمية كلمة علي بن أبي طالب: لا تعلموا أبنائكم ما تعلمتم، فزمانهم ليس زمانكم.
5. منفتح غير انغلاقي وأعزه الضمير العلمي، يحاور، يساجل، يتبادل التأثير، يفعل وينفعل، ينقش على رايته: البحث عن الحقيقة، وبالتالي يقصي جانباً ما يشيخ ويتمثل عاجلا ما ينبثق من شجرة الحياة الخضراء دائماً... وهو في كل الأحوال تمحيصي بما يقتضيه ذلك من شك ديكارتي بل من الأصوب القول من شك غزالي ذلك أن الغزالي قد سبق ديكارت بستة قرون وهو الذي بدأ من التأمل والإختلاء والشك وعدم التقليد والمراجعة والتأني والمثابرة واستخدام الدليل والإحساس أي العقل لا النقل وهذه كلها مفردات وأدوات استخدمها ديكارت وأضاف إليها تجزئة المسألة إلى وحدات ومن البسيط إلى المعقد بغية الوصول إلى المعارف الصحيحة.
أما الانغلاق وكأنه يحتكر الحقيقة ويكف عن التفاعل والحوار مع المناهج الأخرى ومنجزات الحياة، فهو إنما يعزل نفسه فيفقد ركن رئيسي هو: الجدلية. الأمر الذي يشله ويهمشه تمهيداً لانطفائه ويصبح شأن نظريات التشريح الأولى في بداية عهد الطب أو المعتقدات القديمة عن الكون المرفوع على أعمدة... فيتجاوزه الزمن وينتج مناهج أخرى بديلة.
وعليه أننا، كسائر البشر، بحاجة لمبادئ وقوانين (لمنهاج) نستند إليها، كما المهندس الذي يستخدم أدواته والطبيب الذي يستعين بأجهزته والبنّاء والمعلم ومربية الأطفال... فكلهم يتوسلون طرقاً ومعارف، ولولاها لتخبط عملهم وقاد لنتائج عكسية... والمنهاج هو المرجعية الأولى، وسيلة كل الوسائل، المرشد الأساسي، الذي يفترض أن يساعدنا لفهم ما يدور حولنا محلياً وعالمياً وفهم تاريخنا وهويتنا، وصياغة برامج عملنا وأدوات كفاحنا وبناء مجتمعنا، ودفع مسيرتنا للأمام وحل تناقضاتنا، وإنتاج ثقافة ومعارف وفنون ونسج علاقات وتحالفات... والإجابة على أسئلة التخلف والتقدم، الهزيمة والانتصار، الديكتاتورية والديموقراطية...
وقصارى القول استخراج نظريات وطروحات وإبداعات لمواجهة الرؤى المعادية وتعبئة الشعب وتنظيم صفوفه والسير في طريق التحرر والتنمية و... الخ وهو بإبداعاته إنما يجد الحلول للعلاقة بين النظريات العلمية والصياغات الأيدلوجية فتتطور الأيدلوجية في ضوء منجزات العلوم (فشجرة الحياة خضراء والنظريات رمادية يا صديقي) أي على النظرية أن تتمثل أية منجزات تفاديا للجمود، وعلى المنهاج أن يستحث على التجديد والإنتاج المتنوع في كافة الميادين تماشيا مع مبادرات وميول الناس...الخ.
وثمة زعم أن المنهاج الذي سوف اعرضه ليس حكراً على أحد، بل هو إنساني يستخدمه كل البشر بدرجة أو بأخرى، بهذا القدر من الاتساق أو ذاك، المثقف وغير المثقف، الثوري والرجعي، الحاكم والمحكوم، الاشتراكيين والرأسماليين ورجال الدين واللاهوت... أما الذين يستخدمونه باتساق أعلى ويتقبلون نتائجه للنهاية فهؤلاء هم الثوريون البنيويون الذي ينقدون الواقع بدأب ويسعون لتغييره بدأب... ومن هنا تمايزهم حيث يتلاءم ويتناغم منهجهم وأفكارهم وخط سيرهم... أما غيرهم فهو انتقائي وتجزيئي.
وعلى سبيل المثال... هل يستطيع أحد أن ينكر أو يتجاهل الواقع، الوجود المادي، الطبيعي والاجتماعي، بصرف النظر عن دينه، فكره، طبقته... والادعاء أنه يعيش القرن الأول الميلادي أو الرابع أو العاشر، و يستطيع إعادة الزمن للوراء؟ إذ مهما تشبث العقل الماضوي فهو يعيش الراهن، حيث المدينة العصرية ومجتمعها المدني، اللباس المعاصر، الفضائيات، الموسيقى، يعمل في مصنع أو شركة، يدرس في الجامعة، يعالج أمة في مستشفى، يسافر في الطائرة، يستخدم الهاتف، يقرأ الصحافة، يسمع أو يهتم بالإضراب، يلمس بشاعات السياسات الإمبريالية وفظاعات الاحتكارات الرأسمالية...
أن حقائق الحياة عنيدة والإنسان والمجتمعات تعيش في الزمان والمكان، وها هو القرن الجديد بعد الألفية الثانية، بما يحمله من معطيات ومفردات يظلل الكرة الأرضية، والإنسان يعيشه بهذا القدر أو ذاك. ومهما انتكس الزمان وحاول البعض إعادة عقارب الساعة، فهذا شيء جزئي ومؤقت، وأكثر الحركات تشدداً كانت الطالبان في أفغانستان ومآلها بات معروفا بعد العدوان التدميري الأمريكي، وهذا حال مجموعة أمريكية انزوت في غابة وانتحرت بصورة جماعية... وهاتين الفئتين استخدمتا الكثير من منجزات العصر...
من يستطيع أن يتجاهل التعددية الفكرية والسياسية والتأثيرات السياسية والاقتصادية للنفط والثورة التقنية، وما نسبة الذين ينكرون حق تقرير المصير والاستقلال وأهمية الغذاء والدواء والمسكن الصحي في حماية الطفولة، ومن يجرؤ على هدم الجامعات بعلومها التي تتناقض مع معتقدات الأمس أو منع المرأة من التعليم والانخراط في الحياة الاقتصادية أو العمال من الانتظام في نقابات وخوض الإضراب لتحسين شروط عملهم لتخفيف الاستغلال الذي أسهب في شرحه عالم الاجتماع- الاقتصاد ماركس، ومن يستطيع أن يستغني عن التكنولوجيا في الصناعة، الزراعة، الإدارة... واسقاطات كل ذلك على وعي وقيم وسلوك الناس، بصرف النظر عن سلبيات الراهن؟...
أنه العصر، الواقع المتحرك الذي يلد الجديد ويترك بصماته على كل شيء.
والوجود، الواقع، ليس مجرد العصر، ففي ثناياه أيضا الموروث، فانهيار الدولة اليهودية في حمير اليمن أو الإمبراطورية الرومانية المسيحية أو الدولة الإسلامية الممتدة أو الصين الكونفوشية والهند البوذية والقبائلية الأفريقية... الخ لا يعني موت أفكارها وبقايا مكوناتها الاجتماعية، فهي لم تنفك تنبض بهذا الحضور أو ذاك في الراهن أيضاً.
وفي حالتنا الفلسطينية فعلى جلد وذاكرة الفلسطينية أثار نكبة 48، واحتلال 67، مذابح الأردن ولبنان، اجتياح الضفة وتوغلات غزة، التقتيل الجماعي، الشلل الاقتصادي، حظر التجول، الطفولة المعذبة، قلق الأمهات، ضبابية المستقبل، خذلان الفلسطيني من النظام العربي...الخ.
والذي يفقد الصلة بالواقع، الميت فقط، من يستطيع الادعاء أنه متحرر من كل ذلك...؟
وهل يستطيع أحد أن يكون خارج الجدلية؟
من الحالة الفلسطينية أيضًا... أوسلو، سلطة حكم ذاتي على مناطق، تدهور اقتصادي، عودة الآلاف، تفكك المنظمات الشعبية والقوى السياسية وتفاقم التناقضات، مواجهات العامين الأخيرين، استشراء البطالة والفقر، الشوارع الالتفافية والجدار الواقي، تجدد الطاقات الكفاحية، تنامي الاتجاه الإسلامي وتراجع الاتجاه اليساري وبهتان دور السلطة.
أي ثمة متغير هو أوسلو ونتائجه، كما استعصاء المفاوضات دون الخروج من نهج أوسلو...
وعلى صعيد آخر - انهيار السوفييت، هيمنة أمريكا وضرب العراق، صعود الصين، ثورة المعلومات، الإعلام، التكنولوجيا، انتصار المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله وهزيمة الاحتلال الإسرائيلي، الحركة المناهضة للعولمة، تفاقم النزاع الهندي - الباكستاني، اشتداد المطلب الديموقراطي، تنامي قوى التغيير في أمريكا الجنوبية، تفشي الاستهلاكية، العنف، المخدرات، الانفلات الجنسي، الواقع العربي وتهميشه وإذلاله، زيادة الإقبال على العلم الجامعي...
فهل يوجد مجتمع أو تجمع أو فرد بمنأى عن هذه الرياح التي تعصف بالبشرية بما يتخللها من تناقضات وتحولات؟
أجل، أجل فالواقع المتحرك هو حقيقة ثابتة، والعقل البشري الذي تكونت معارفه، مهاراته، تحليلاته، استخلاصاته، ابداعاته بتدرج، اتصالا بالواقع وحركته ملزم بالغوص أكثر لكشف كنة هذا الواقع وحركته، فهو عالم لا متناهي من جهة ودائم التحولات من جهة أخرى، وطلاسم وأسرار تاريخ البشرية، والإنسان والدماغ لم يهتك الستار عنها كلها بعد، وهناك جدالات حول كل محطة وزاوية ونقطة... مثلما أن الممارسة الاجتماعية، تشهد تحولات ومستجدات كل يوم وهي حرية بالمتابعة.
والذي تتأخر معارفه يتأخر في كل شيء ويسقط فريسة وتحت سطوه الأكثر معرفة وجبروت... وما يدور في فلسطين والعراق والعالم الثالث شاهد على ذلك... أي أن الانسان لا يترك وشأنه بل ويتعرض للنهب والسحق أيضاً.
والمعرفة ليست مجرد كتب، بل هي عقل طليق ينتج المعارف، وفرضيات ونظريات تتحول لتكنيك وتكنولوجيا مدنية وعسكرية، وبالتالي فهي اقتصاد متطور ومدن حديثة ورفاه اجتماعي وعدالة ونظام سياسي ديموقراطي... ولو نظرنا للبلدان التي تتمتع بهذه الصفات بهذه الدرجة أو تلك، بقطع الاعتبار عن رأينا فيها، لوجدناها الدول الرأسمالية وبلدان التحول الاشتراكي سيما الصين الشعبية، تنتج وتستهلك وتصدر... أما البلدان الأقل تطوراً، أو بصورة أدق المتخلفة والممحوطة، كما حال الوطن العربي، ورغم غناه بالنفط وبمقوماته الموضوعية، فهو مجتمع استهلاكي مما ينتجه المركز الرأسمالي من سلع مادية وثقافية وفنية وقيمية، فهو تابع حتى نخاع العظم، ومجزأ بما لا يشبه أمة أخرى تحكمه طغم وعوائل ونخب وأفراد في غالبيتهم نموذج للديكتاتورية والفشل تبدد مقدرات وعقول الأمة...
وعموما فالقانون الذي يحكم البشرية أن الأكثر تطور يقطر الأقل تطوراً، أو بصورة أدق الأقل تطور يحذو ويسير على درب الأكثر تطوراً ، ولكن ضمن خصوصيته...
ومن هنا حاجتنا للإفادة من تجارب غيرنا، ليس بشراء الأجهزة التكنولوجية، بل بإطلاق العقل الذي ينتج العلوم والتكنولوجيا وما يرتبط بذلك من حريات وحاجات ثقافية وديموقراطية...
أما الذي يصطدم بحقائق الواقع ويتبع نهجاً انعزاليا عن إنجازات العصر، فمآله الدخول في متحف العاديات كما هيكل الديناصورات وأرشيف التاريخ شأن أية حضارات سادت ثم بادت أو نظريات وأفكار شاخت أو أنظمة تجاوزها الزمن...
بل وبوسعنا إبصار تمظهرات العصر واكتساحها البنى والجيوب التقليدية في كافة الميادين الاقتصادية حيث التحولات الصناعية والزراعية الحديثة، والاجتماعية حيث نشوء البرجوازيات والطبقة العاملة واتساع شريحة المثقفين وعلو شأنهم، والثقافية حيث العلوم والإعلام والأيدلوجيات والقيم العصرية، كما بدايات المجتمع المدني من أحزاب وبلديات وجامعات ونوادي وأطر نسوية ونقابية والخ.
وأشير هنا للاتجاه الأساسي في التطور التاريخي، وبعده الإيجابي المركزي، وليس للمظاهر الثانوية التي تلد على هامش التقدم، رغم ما في الموروث من قوة إيجاب، فالحداثة في نهاية الأمر هي القوة القائدة وبين طياتها نعثر على الأصالة البناءة والموروث فالثقافة شأن الحضارة سلسلة متصلة الحلقات يخفق حاضرها ببعض عناصر أمسها.
ولا يكفي بداهة القول أن تياراً أو مجموعة أو شخصاً يتخندقون في الحداثة والعصر، إذ عليهم أن يثبتوا مقدرة ناجعة وصائبة في التعاطي مع قضايا الواقع ومتغيراته...
لنتصور حركة سياسية لم تستوعب الجيشان الانتفاضي في أواخر الثمانينات، فلم تشارك جدياً في الميدان ولم تبتكر الأشكال التنظيمية الملائمة، وبالتالي لم تعبئ عناصرها بهذا المستجد... حينها تصبح كأهل الكهف تمضي سنوات الانتفاضة وهي غافلة عنها وصولا إلى انطوائها واندثارها...
ولان الكثيرين لم يصلوا لتحليل صحيح بأن أوسلو إدارة أزمة وليس حل أزمة، أزمة يصاحبها استعصاءات وصدامات، فقد طغت عليها المكتبية والعلنية تماشيا مع "استراتيجية التفاوض "إلى أن أصبحت كيس رماية وهدف سهل لبطش الاحتلال، إلى درجة أن يجد آلاف العناصر من الأجهزة والتنظيمات المختلفة أنفسهم دون حماية ولو مجرد سرير نوم ووجبة طعام ساخن في اجتياح نيسان أو أن تتلفت التراكيب القيادات فتجد أمعاءها مكشوفة تحت رحمة الاحتلال ينالها كما يشاء ومتى يشاء.
ولأن العقل القيادي المقرر لم يتمثل المهمة الديموقراطية – الاجتماعية - التنموية التي غدت مهمة رئيسية شأن المهمة الوطنية التحررية، بما يلزمها من مؤسسة قيادية وقضاء مستقل كامل الصلاحات وتوجيه الميزانية للاقتصاد الإنتاجي...الخ انفضت أعداد كبيرة من الشعب عن الحركة السياسية والقيادة الفصائلية، وتعاظمت البطالة، وزادت الطعونات والاستياءات كما تفشي الفساد والمحسوبية والاستزلام وصولاً إلى تفكيك المجتمع...الخ. والواقع ليس موجوداً ومتحركا فقط، بل ويسير للأمام، ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أكثر تطوراً، ومن معارف أولية إلى معارف أكثر تطوراً، ومن ثقافات بدائية إلى ثقافات أكثر غنى وتشعبا، أنه قانون التطور الذي يطبع الحياة وبدون استيعابه يعجز العقل عن تفسير وفهم أي شيء، وبدون استخدامه والعمل بمنطقة يتحجر ويتخلف العقل والمجتمع معا...
وللتدليل على مبدأ التطور يمكن اللجوء للأمثلة المتنوعة التالية:
1. الدين: كيف نفهمه كوعي اجتماعي منتشر على نطاق عالمي . صحيح أنني تعرضت لهذه المسألة في كتابي (مداخل لصياغة البديل) ولكنني أسمح لنفسي بإيجاز المقتطفات التالية:
بالنسبة للمسألة الإيمانية، بما في ذلك العبادات، وبصرف النظر عن التباين في فهم المسألة الإيمانية وموجباتها وطقوسها، فهي مسألة ضميرية صرفه تتعلق بحرية الاختيار والاقتناع أو الراحة النفسية.
وعلى الدوام هناك إيمان كما كتب المؤرخ توينبي، بقطع الاعتبار عن نوع الإيمان وماهيته...
والزاوية التي لا مهرب منها هو ما أشار له سبينوزا: المعيار الأخلاقي العملي، أي تأثيرات وانعكاسات التدين في الحياة والسلوك باتجاه تحرير الإنسان من القيود والمخاوف والقهر والاستغلال وبناء مجتمع أفضل أم العكس... وبالتالي القدرة على الإجابة عن الأسئلة الكبرى: القضية الطبقية + القومية + الديموقراطية + التنمية وفك الارتباط + العقلانية + المرأة كما القضايا الملموسة المتصلة بالخصوصية المحددة، وما أكثرها في حالتنا الفلسطينية – العربية...
هنا يمتحن أي فكر نفسه وقدرته على معالجة المعضلات واجتذاب العقول والعواطف البشرية.
ومثل هذا الموقف لم يتشكل دفعة واحدة... ففي البدايات كان ثمة تعددية هائلة في فهم القبائل والمجتمعات القديمة، مروراً بالأحادية التي تحتكر الحقيقة - أو تظن نفسها كذلك - وبالتالي الصراع الدموي مع الفكر الأخر، الحضارة الأخرى، وصولاً إلى الفلسفات التنويرية التي نقدت وشرحت الديانات في القرنين 17 +18 ... وصولاً إلى حرية المعتقد والمساواة القانونية والحقوق العامة بين المواطنين... الخ.
والشيء الأخر الذي لا مهرب منه هو تطورية الفهم الديني... فمعتقدات وأفكار وقيم الإنسان القديم ما قبل مليون سنة، هي غيرها عن معتقدات وأفكار وقيم الإنسان الحديث منذ نصف مليون ويزيد، وبطبيعة الحال هي غيرها لدى إنسان التاريخ المكتوب منذ 5- 6 آلاف سنة وصولاً إلى الإنسان المعاصر اليوم...
فالوعي الديني تشكل بتدرج، وكل فكرة لها سياقها... ومنذ أسطورة جلجامش (نصف الإله ونصف الإنسان) البابلية المسجلة على ألواح منذ 4.5 ألف سنة وحديثها عن مشكلة الخلود والأفعى مروراً بالطوفان... الشيء الذي يشبه ما جاء لاحقاً في التوراة عن خلق الله لآدم وحواء وطردهم وإبليس من الجنة... تعددت المعتقدات، إذ عبدت القبائل الهواء، الشمس، الحجارة، الأفاعي... وقبلئذ لم تعبد شيء... وبعدئذ وحدت الآلهة في أله واحد غير مرئي... وهذا سبق إبراهيم الكلداني العراقي، فالفراعنة في زمن إخناتون وحدوا آلهتهم في أله واحد هو آتون، والهنود آمنوا بالبراهما الذي خلق الكون والتأمل في الذات بديلا للعبادة... الخ وبمرور الزمن وتشعبات الحياة وأكبها تشريعات ملائمة إلى أن انتقل المجتمع الزراعي إلى مرحلة الرأسمالية الصناعية وما صاحبها من تحولات انعطافية اقتصادية – اجتماعية - سياسية – ثقافية - قانونية تجسدت في التجارب الأوروبية – الأمريكية - اليابانية... الخ.
وحتى اللحظة لم تنفك بواكير الحضارة قائمة في غابات البرازيل وغينيا الجديدة في استراليا، كما مناطق نائية في الهند وأفريقيا... حيث يعيش الناس عراه أو كالعراة ما قبل تشكل العائلة الأحادية فتسود علاقات غير منتظمة والأطفال لأمهم، والملكية الاقتصادية غائبة أو تعاونية... بما هو بعيد عن القيم الدينية والحضارية... والأسرى ظاهرة غير معروفة هنا، فأما أن يقتل أو يؤكل الأسير دون الحقوق المعروفة للمعتقل اليوم أو الاسترقاق والسبي والفدية في زمن سابق ولم يعد يسري قانون حمو رابي العين بالعين والسن بالسن أو قطع الأيدي في حالة السرقة...
وتجزأت الإمبراطوريات الدينية وتوزعت على قوميات، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية،... الخ التي كانت تخضع ذات يوم للقانون البابوي... والعرب، الإيرانيون، الباكستانيون، الأتراك...الخ الذين كان يخضعون لنفس الخليفة الإسلامي في قرون سابقة... ولم يعد الدين المرجعية الأساسية الناظمة لهذه الشعوب والقوميات...
2. العلوم: خلافا للمعتقد القديم الذي قال بانبساط الأرض فالفيلسوف الإغريقي بطليموس منذ أكثر من 1800 سنة قال بكرويتها وتحدث عن محيطها. أما كوبرنيكس منذ أقل من 500 سنة فقد تبنى هذا المنظور وأضاف أنها تدور حول الشمس، أما جاليليو من بعده فأثبت ذلك بالاستناد إلى التلسكوب، والعلم اليوم يقول بأنها إهليلجية، أو بيضوية. وفي القرون الوسطى كان يعتقد أن الكرة الأرضية ثلاث قارات هي أوروبا وآسيا وإفريقيا،أما المحيط الأطلسي فتعيش فيه الأشباح والملائكة، إلى أن جاء كولومبوس واكتشف الأمريكتين وأطلق على شعوبها الهنود الحمر، أما أمريكوفسبوتشي فقد توغل في القارتين وكان مقدمة لاستيطان بريطاني وأوروبي فأطلق على القارة أمريكا نسبة إليه ودار ماجلان من بعده حول أمريكا الجنوبية ومنها وصل شرق آسيا، فاصبح المضيق يعرف باسمه واكتشف فاسكوديغاما راس الرجاء الصالح. وكما تعلمون فقد تم اكتشاف استراليا بعدئذ منذ نحو 200 عام، وفي العقود الأخيرة تم اكتشاف قارة إنتراكتيكيا المغطاة بالثلوج والتي يعتقد أن حضارة متطورة عاشت عليها قبل آلاف السنين إلى أن تحركت وابتعدت وتراكمت عليها الثلوج لمئات الأمتار فاندثرت الحضارة...
يعرف العلم الآن المزيد عن الكرة الأرضية وطبقاتها وعمرها وكتلتها ومناخاتها... الخ.
وخذوا المثال التالي: العرب هم أول من استخدم التشريح في الطب منذ أكثر من ألف سنة، كما استخدموا البنج، وانظروا اليوم أين وصل علم التشريح بعملياته العبقرية التي وصلت حد إجراء عمليات بالأشعة دون ترك آثار!
وابن الهيثم العربي هو الذي قال بأن الضوء مستقل عن العين وحيثما سقط ينعكس في العين فيرى الإنسان، أما اليوم فالعالم يعرف الفوتونات والحواس الخمسة كوسيلة تنعكس عبرها الأشياء الخارجية بما يشكل مقدمة للمعرفة المنطقية في الدماغ ونظريات علم النفس الكثيرة والمعرفة الواسعة بالجهاز العصبي والدماغ ...
وجابر بن حيان اكتشف تراكيب كيماوية كحامض الكبريتيك وسواه، أما علم الكيمياء اليوم فهو غاية في التشعب والتعقيد إلى درجة أن أصبحت معظم الأشياء التي نستخدمها هي كيمياء، كالألبسة والتلفزيون ووو...
منذ مئات السنين تم اختراع البارود فانتقلت الأسلحة من السيف والمنجنيق إلى البندقية ومنها إلى المدفع والصاروخ واليوم إلى الأسلحة غير التقليدية والنووية...
3. العلمانية: جاء فوليتر قائد الفرنسية ومفكرها 1789 وأسس نظرية تعترف بالله ولا تعترف بالأديان، بل ونسفت الأديان وطروحاتها تمشياً مع الفلاسفة التنويريين ومن بعده تأسست نظرة واسعة الانتشار تعتبر أن السلوك الحسن ومساعدة الناس هي أفضل وسيلة ترضي الله دون أن تعبأ بالنتيجة وإنما اكتفت بالعمل الجيد والفكر الجيد. والثورة لم تكتف بمنح حق المعتقد والاختيار بل وفصلت الدين عن الدولة بالاستناد لعقل الناس في إدارة شؤون المجتمع وتجلي ذلك في الدستور الذي يتسع أيضا لأية أفكار دينية من التراث البشري أثبتت عصريتها وصلاحيتها، وبالتالي فحق القيادة والولاية يعطي للأكفأ دون تميز ديني أو معتقدي أو جنسي، وهذا أساس من أسس المجتمع المعاصر، أي العلمانية. وانتشرت الرؤية العقلانية التي لم تكتف باحترام عقل الإنسان وإنتاجه الفكري بل وانتقدت المعتقدات القديمة التي لا تتواءم مع منطق العقل، وبرز في المقدمة ديكارت، بل وجاء هوبز ولوك ودرسا المجتمع والسياسة والتاريخ على أساس عقلي واستخلاص تصورات مخالفة للمعتقدات والتصورات الدينية في فهم المجتمع وأركانه ونشأته. ناهيكم عن نظريات هيجل حول الديالكتيك والدولة الرأسمالية ومنهج ماركس المادي الديالكتيكي ونظرياته في التاريخ والاقتصاد والسياسة والمجتمع والأخلاق...
وها هو العقل ينتج نظريات لا تعد ولا تحصى وحضارات متطورة بعيدة عن منطق النظرة التقليدية والغيبية.
معروفة نظريات سان سيمون الداعية لإلغاء الإرث ومنح فرص متكافئة لكل الناس وروبرت أوين الذي دعا للتعاونيات ومارس ذلك عملياً ففشل في إطار مجتمع رأسمالي تحكمه قوانين السوق، ولم تنفع معه كل الدعوات الأخلاقية للرأسماليين لكي يخفضوا الاستغلال عن الشغيلة ويشركوهم في الملكية، كما لم تنتج الدعوات الفابية ببناء تعاونيات متدرجة تقوم بها النقابات، إلى أن جاء التحليل الماركسي وكشف فائض القيمة وحتمية ثورة العمال والشغيلة على رأس مال وما أضافه لينين في المسالة الوطنية وحق تقرير المصير وحتمية الثورات الشعبية التحررية على الاستعمار وبناء الحزب الثوري، وكل هذا تحقق في غير بلد.
4. النظريات السياسية: كان الناس في القدم يتقبلون حكم رئيس القبيلة القوي، أو رئيس المجلس القبلي وبالتالي حكم الملك أو الأمير أو الخليفة أو الإمبراطور والكل يعتبر أن سلطته مستمدة من الله، وكان المجتمع القديم يتقبل حقيقة تفتت الأمم، وبصورة أدق الأمة التي لم تتشكل بعد في بعض البلدان، أما في القرون الأخيرة فتبدلت الأمور ونظرة الشعوب. فبريطانيا المكونة من إمارات ودويقات يحكم كل واحدة أمير له سلطته وسلطانه حيث يتنازع الأمراء وطبقة النبلاء والكل يخضع جزئياً للملك والكهنوت من رجال الدين يتوحدون في شكل برلماني هزيل يحل تناقضاتهم فيما الجميع يحتفظ بامتيازاته وتسلطه، اندلعت حرب أهلية فاز فيها كرومويل وحزبه البرلماني وأقام حكماً جمهورياً فردياً، وغير ديني، حيث نص البرلمان على عدم شرعية اعتقال شخص بدون تقديمه لمحاكمة خلافاً لتعسف الأمراء السابق، وأكد على أن البرلمان هو مصدر التشريعات التي تكفل حقوق الأفراد في التملك حسب القانون الروماني القديم وحق الرأي وجرت الانتخابات بناء على نظام الدوائر وجرى تداول السلطة سلمياً بين الأحزاب الفائزة في مرحلة لاحقة بعد موت كرومويل، كل هذا في الثورة المجيدة عام 1689، أي قبل الثورة الفرنسية بمائة عام، بل ونص القانون على التسامح الديني مع البروتستانت ولكن بدون منح هؤلاء حق النشاط السياسي، وبعدئذ بسنيين عديدة ضمن لهم هذا الحق، واليوم لا أحد يعبأ فيما إذا كنت كاثوليكياً أو بروتستانتياً، أو بدون دين على الإطلاق، فالمهم هو احترام الدستور.
وأمريكا كانت حافلة بالحكومات الذاتية المحلية في المدن هنا وهناك التي أسسها المستوطنون الأوروبيون، إلى أن اندلعت الثورة ضد البريطانيين وضرائبهم وتشكل أول كونغرس عام 1776 بقيادة جورج واشنطن الذي كفل حريات فردية وديموقراطية أوسع من التجربة الإنجليزية.
أما في فرنسا فحدثت أعظم ثورة برجوازية شعبية نشر أفكارها فولتير الذي دعا للمساواة والحرية والإخاء ونقد فساد الحكم الإقطاعي– الديني ووجود ثلاثة قوانين واحد لرجال الدين، وقانون للنبلاء والإشراف وقانون لعامة الشعب، داعياً لتوحيد القوانين والمساواة بين المواطنين. فيما جان جاك روسو دعا الشعب لقلب نظام الحكم الفاسد وكان سياسياً لامعاً رفض أن يدفع الشعب 80% من مداخيله ضرائب لأهل الحكم، أما مونتسيكيو فدعا للفصل بين السلطات التشريعية البرلمانية والتنفيذية الحكومية والقضائية.
واندلعت الثورة وتم اقتحام سجن الباستيل عام 1789 هذا اليوم الذي أرّخ للثورة وأطيح بالطبقات القديمة وأعدم الملك وصودرت ممتلكات الحاشية ووزعت أراضي الإقطاعيين على الفلاحين وجرى التأكيد على فصل الدين عن الدولة.
ولماذا نذهب بعيداً، ما علينا سوى تذكر وزير الخارجية الأمريكي السابق الكسندر هيج الذي دعا لأمركة العالم فيما دعا بريجنسكي لعولمة العالم، أما كيسنجر فقال أن الفوضى تعم العالم وعلى أمريكا قيادته... ليأتي ويشن حربا بدأت في أفغانستان وتتهيأ في العراق... كل ذلك تحت شعار محاربة الإرهاب بغية أحكام القبضة الأمريكية على العالم...
5. تطور المعرفة: معلوم أن المعارف تراكمت في سياق دراسة العمليات الإنتاجية ومراحلها ومتطلبات الممارسة الاجتماعية كما الحياة التي يعيشها الناس... وثمة صلة جدلية بين العمليات الإنتاجية والعلوم ووسائلها وأدواتها في إطار الصراع الطبقي وما يحشده من طرائق، ففي المرحلة المركنتيلية ساعدت صناعات القرون الوسطى باتساع الملاحة البحرية والاكتشافات الجغرافية وبالتالي الوصول للأمريكيتين ورأس الرجاء الصالح... الأمر الذي عزز المنهج التجريبي لجاليلو ونظريات كوبر نيكس بما مهد لقوانين الميكانيك التي استخدمها ديكارت في فهم العالم والظواهر مؤكداً على أن العالم مادي، وصندوق ضخم مترامي الأطراف، وأن حركة الأجسام الميكانيكية هي مصدر حركة الكون وتغيراته وأن الوجود بعد أن خلقه الله أصبحت له قوانينه الخاصة الميكانيكية... وديكارت مهد لنيوتن وقوانينه ومفاهيمه كقانون أن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار، وأن الكتلة كمية من المادة وأن القوة هي المصدر الخارجي للحركة والحركة هي الانتقال الميكاني للكتلة من مكان إلى آخر بتأثير جسم أخر مستخدما قانون الجاذبية في تفسير حركة الأجرام السماوية، ليأتي كانت ويضع فرضية عن النجوم والكواكب التي تشكلت من سديم تجاذب بناء على قوانين الميكانيك قائلاً بوجود مجرات أخرى بما تقاطع مع نظريات لابلاس الفلكية... وقد سادت هذه التفسيرات ليأتي لومونوسوف ولافوارزية ويتحدثان عن قانون حفظ المادة وتحولاتها وأن المادة بشكليها كتلة وطاقة لا يفنيان وإنما يتحولان ليدحض انجلز نظرية الموت الحراري للكون، وقد طور ماكسويل الكهرطيسية للضوء استناداً إلى أبحاث فرادي لتأسيس نظرية الالكتروديناميك واثبات أن للضوء بفوتوناته خاصيات مهدت لبراهين ليبيديف أن للضوء كتلة وأن مجموع كتلة الإلكترون والبروتون يساوي كتلتي فوتونين والأمر نفسه ينطبق على طاقتهما، والأمر نفسه يقال في حالة الاتحاد وبالتالي فلكل شيء كتلة وطاقة بما يؤدي إلى عدم فناء المادة ... وإضافات اينشتاين هنا (النظرية النسبية) إنما ذهبت أبعد من ذلك عن تفكك النواة بعناصرها وانطلاق طاقتها، وصولا إلى الصلة الجدلية بين الكتلة والسرعة، الحركة والزمن ... وبالتالي الالتباس الفيزيائي عن انفصال الحركة عن المادة كاشفاً عن قانون الكتلة والسرعة بتلازمهما وتكافئهما، أي أن الحركة صفة ملازمة للكتلة وأن لمقدار معين من الكتلة مقدار معين من الطاقة... بما مهد لاستخدام الطاقة. وقد تم تجاوز الآراء الأولى للفلاسفة الإغريق: ديموقريط، ابيقور، لوقراط بان المادة تتكون من ذارات وأن الذرة هي أصغر جزء في المادة ولا يمكن تجزئتها.
ولو تطرقنا للمعارف الكيماوية والبيولوجية والاجتماعية... الخ لغزلنا على نفس المنوال. فالمعارف سياق تراكمي تصوب وتستصوب وتضيف باستمرار... والحركة أنواع وقد تراكمت المعارف البشرية وهي تمحص وتدرس هذه الأنواع الميكانيكية، الفيزيائية، الكيماوية، البيولوجية، وأكثرها غنى الاجتماعية. وهنا تقف عاجزة قوانين الميكانيكا عن تفسير الأنواع الأخرى من الحركة، بل والعلوم كلها لا تفعل أكثر من كشف هذه الحركة.
ما سقناه أمثلة تدليلية على الحركة للأمام، ولكن ماذا عن الحركة الارتدادية. فالتغير لا يشمل التطور فقط بل والارتداد أيضا وأن كان التطور هو الاتجاه الرئيسي في الحركة، أما الارتداد فهو ثانوي... مثل الحروب التي تدمر وتهدم ما راكمه التطور علما أن عملية البناء السلمي هي المظهر الرئيسي الأمر الذي يفسره انتقال المجتمع البشري من مراحله الأولى سيما الرعوية إلى الزراعة وبالتالي المدينة المعاصرة بمؤسساتها وانجازاتها أي تعاقب التشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية وأقواها اليوم التشكيلة الرأسمالية التي اخترقتها التحولات الاشتراكية في غير بلد كبير كالصين الشعبية التي تشكل 22% من البشرية بما يناهز 1,3 مليار نسمة وبلدان عديدة أخرى (فيتنام، كوريا الشمالية، كوبا، كازاخستان، أذربيجان، مقاطعات هندية... الخ حركات وفكر اشتراكي في كل مكان منها القوي كما الحال في روسيا، أوكرانيا، البرازيل، زيمبابوي، إيطاليا... أو المرض الذي يستنزف العملية البنائية للجسم وصولا إلى موجات الطاعون والسل والإيدز... التي حصدت الملايين، ولكن في المقابل لقد تطور الطب وعلم التغذية وتوافرت شروط صحية وغذائية هي أفضل بما لا تقاس... أو التصحر الذي يقتل الخضرة والزراعة التي كد فيها الإنسان لتتضاعف خبرات وأدوات وعلوم الزراعة بحيث ينتج الدونم الواحد أضعاف أضعاف ما كان ينتجه في زمن الزراعة التقليدية، بل ولتندثر المجاعات –باستثناء مناطق في افريقيا- رغم أن البشرية تجاوزت 6,2 مليار نسمة... وهذا كله يبرهن على وحدة الأضداد إذ لا يوجد الإيجاب إلا والسلب معه...
مرة أخرى في هذه المداخلة التي ستستغرق أكثر من لقاء، لن أتعرض فيها إلى النظريات والمنظورات الفكرية في حقل السياسة، الاقتصاد، الاجتماع... الخ وإنما سأحصر نفسي في المنهاج من قوانين ومبادئ، في الوسيلة، الدربة، وحسب، أما أي تعريج فهو للتدليل وتوضيح الشرح وحسب .
وهـذه مسألة مفتاحيه، فهي الأسـاس والجوهر ومنهـا البدايـة، بدايـة الإتفـاق وبدايـة الخـلاف، المرجعية الموجهة للنظريات المتباينة والمتصادمة...
وكل معمار المنهاج إنما يتأسس على قاعدة التناقض ففي حقل الممارسة المجتمعية، ثمة الحرب والسلام، العمل الشعبي والعمل النخبوي، المقاومة والاحتلال، الحرية والعبودية، اليسار واليمين، الحياة والموت، الوعي والمادة، الذكورة والأنوثة، القدريين والجبريين، البرهان والبلاغة اللفظية، العلم والخرافة، العقل والنقل، الحداثة والتقليد، الماضي والمستقبل، التقدم والتخلف، كما ثمة المعتزلة والحنابلة، السلطة والقرامطة، تفسيرات بن خلدون وتفسيرات السحرة، النص وعقلانية أبن رشد، الفلسفات القديمة والفلسفات الحديثة، حرية السوق والخطة المركزية، الإنتاج والاستهلاك، الأغنياء والطبقات العليا والفقراء والطبقات الدنيا، التنمية والتبعية، التعددية والأحادية، الملكية الخاصة والملكية الجماعية، الاشتراكية والرأسمالية... وفي علم النفس، وهناك الحب والكراهية، النوم واليقظة، الشجاعة والجبن، الحياة والموت، الصداقة والكذب، المواجهة والانسحاب، الوضوح والحيرة، النعومة والخشونة، الاستقامة والاعوجاج، الغيرية والأنانية، الشبع والجوع، الحزم والرخاوة، الطفولة والشيخوخة، وفي الأدب هناك الرومانسية والأدب الواقعي، الخبر والتحليل، المقدمة والخاتمة... الخ وفي الطبيعة، هناك الشموس والكواكب، الكل والجزء، البروتون والإلكترون، الجاذبية وقوة الطرد، الاتحاد والتحلل، المد والجزر، الصلابة والغازية، الليل والنهار، العتمة والضوء، النشوء والاندثار، الحركة والسكون...
أن الكون مفعم بالتناقضات،(فالتناقض هو الحياة) بتعابير مهدي عامل وهو مصدر الحركة، جريا على نهج ديموقريطس (لا يمكن أن تستحم في مياه النهر مرتين). وهنا لا يفوتني التكرار الممل أن في داخل كل من قطبي التناقض شيء من صفات القطب الآخر وهذا يجعلهما يتصارعان ويتلاقحان وأبعد من ذلك فحينما يلد شيء جديد إنما يحمل بعض ما هو إيجابي في القطب المهزوم و مثالنا أن الإشتراكية تتسع للكثير من العناصر التقدمية لمنجزات الرأسمالية.
وبداهة أن التناقضات في المجتمع هي أغنى وأكثر تشعبا منها في الطبيعة الجامدة... وهي معطى أول وتسبق إدراكها كمعطى ثان... ولا يمكن تكوين أدراك صحيح، معرفة صحيحة، بدون أدراك التناقضات وماهيتها، فالمعرفة الصحيحة هي أدراك هذه التناقضات والتعمق فيها وتصويب معرفتها أكثر فأكثر... فلئن تحدثت الفلسفة الإغريقية عن الذرات فقد برهن عليها رذرفورد ليكشف اينشتاين مكوناتها وطاقتها، وليتابع علماء الفيزياء من بعده الخوض في جزيئاتها... وبالتالي استخدام هذه المعارف...
وهـذه الصـيرورة تنطبـق علـى أيـة معرفـة أخرى تتنـاول الانثربيولوجيـا وتطـور المجتمعـات، أو علـم الاقتصاد أو الفلك أو الدماغ... الخ.
والتناقضات اشتراطية ومتواقفه، فلا توجد حياة إلا والموت معها، الأسياد الذين يملكون ويستعبدون والعبيد الارقاء المملوكين، عملية الهدم والبناء في البيولوجيا، المعرفة الحسية والمعرفة المنطقية في الدماغ، صفات الذكورة وصفات الأنوثة في الإنسان الفرد أو بين الرجل والمرأة، الحرية والضوابط...الخ.
والتناقض هو علاقة بين ضدين في سماتهما الأساسية، الجوهرية، متباينين، وأن كانت تجمعهما سمات مشتركة أخرى... فالرأسمالي والعامل لا يوجد أحدهما دون الأخر، بل وهما طبقتين رئيسيتين في المجتمع الرأسمالي الصناعي، الأول يملك وسائل الإنتاج ويحكم ويستغل الثاني، فيما الثاني يكدح ويبيع قوة عمله وهو مستغل ومحكوم... وطالما ثمة رأسمال استغلالي ثمة عمال مستغلين... تجمعهما صفات أخرى ويتوحدان معاً في نفس علاقات الإنتاج والبنية الاجتماعية والمشهد الانساني وفي غير جانب.
العقل التقليدي الذي يحفظ النصوص، التقاليد، ويتبعها، والعقل الخلاق الذي يجتهد ويجدد ويتمرد على منظورات وتقاليد الأمس... إنهما يتزامنان، الثقافة العصرية بعلومها وقيمها وفنونها، والثقافة التقليدية بمعتقداتها ومحرماتها. يتزامنان، ويتزاملان في عقل الفرد كما في الوعي الاجتماعي، أحدهما أقوى من الأخر وأكثر تأثيراً بما يفضي للقول إن فلانا عصري أو تقليدي، والمجتمع العلماني رأسمالي أو اشتراكي أو ما قبلهما...
الوعي والدماغ حيث الدماغ المادي المكون من مخ ومخيخ ونخاع كمركز للأعصاب يحيط به قشرة دماغية موزعة على حقول ومساحات مختصة بالحواس والذاكرة... معارف حسية تنشأ عن انعكاس الأشياء في الجهاز العصبي عبر العين، الأذن، الأنف... وصولا إلى النخاع والمخ، أو معرفة منطقية حيث يقوم الدماغ بفهم وتركيب المعلومات والإشارات الحسية بدون وجود الأشياء، ويصل إلى تحليلات واستنتاجات عن ترابط الأمطار والنباتات والمناخ والتربة... أو التدريبات الرياضية والفريق والخطة والفوز... الخ.
بات جلياً أن الممارسة المجتمعية هي أساس المعرفة والارتقاء بها من حسية إلى منطقية بما تجاوز كثيراً معتقدات ديموقراطيس الذي قال بتفتت الذرات وتطاير قشرتها إلى أن تصادف إذن أو عين فتشكل وعياً وأن كان استمر مبدأ الانعكاس، فالمعرفة انعكاس للموضوعي... وبالطبع هي على غير ما قال أفلاطون أن الوعي عالم روحي فيه أفكار تحل في الإنسان فيصبح قادراً على التذكر، أو كونفوشيوس الذي قال أن الوجاهة شأن الثروة والعظمة هي من السماء ...
والممارسة المجتمعية متشعبة اليوم بما لا يقاس وهي حياة البشر ومتدرجة في مستوياتها، وقد أنطلق الإبداع بأوسع صورة، ولكن المعرفة تاريخية أيضا ذلك أن الفلسفة عصر محاط بالفكر، كما أن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي في التحليل الأخير ونشاط الناس هو العامل الحاسم دوماً.
الصناعة الحرفية والصناعة التكنولوجية، الأولى أفضت للثانية بعد تراكم طويل، ولكنها لم تنفك موجودة جزئياً في المجتمع الصناعي وهي نمط إنتاجي مسيطر مع الاستثمارة الفلاحية وينتشر في المجتمعات المتخلفة، بما يرتبط بالصناعة من علوم وقيم وبنى طبقية ونظم سياسية وثقافية وهذا حال المجتمع الزراعي وفي المحصلة نستطيع المقارنة بين طوكيو وبكين وباريس وبين أرياف الهند والبرازيل ومصر... حينها يمكننا الوقوف على الخصائص الأساسية في غير ميدان في كل من "العيّنتين".
وبعد الاتكاء على قاعدة المنهاج المؤسسة على التناقض يتعين القول أن المنهاج يقوم على قوانين ومبادئ تنتج عن المتناقضات ذاتها... فالعالم المكون من متناقضات إنما تنظمه قوانين ومبادئ أيضا هي جزء صميمي، بادراكها وبواسطتها يمكن الوقوف على أسباب الحركة في الكون، وولادة الجديد من القديم... أي كيف تنشأ الأشياء والظواهر وكيف تتطور وكيف تنطفئ وتخلي الطريق ليس في مسألة هامشية أو جزئية صغيرة بل أن الحركة تشمل كل الموجودات المادية والثقافية، الطبيعية والمجتمعية. فالحركة تشمل كل شيء سواء كانت حركة فيزيائية أو كيميائية أو ميكانيكية أو اجتماعية ببناها التحتية والفوقية...
فهل هناك قوانين تتخلل وتضبط إيقاع كل ذلك؟ أجل.
القانون: هو علاقة ضرورية أصيلة بين أطراف التناقض، وطالما هي موجودة فهو موجود، يحضر في الظواهر والأشياء ومكون بنيوي في طبيعتها. أي أنه ليس مختلفاً أو مسقطاً أو وهماً، بل هو في صميمها، وأدراكه عقليا إنما هو انعكاس ذاتي لوجوده الموضوعي، بل وعدم ادراكه يحول دون تكوين معرفة صحيحة علمية… ومن هنا أهمية المنهاج الذي يقوم على قوانين ومبادئ، فهو كلية للقوانين والمبادئ والمقولات الموجودة أصلاً في الواقع… وبصرف النظر عن مدى أو عدم الاتفاق أو الخلاف مع هذا المنهاج وأركانه، وبصرف النظر عن الاستناد أو عدم الاستناد الواعي لهذا المنهاج وركائزه، فجميع البشر يستخدمونه في الممارسة بهذا القدر أو ذاك، سواء كانوا رأسماليين، غيبيين، اشتراكيين، عقلانيين، أذكياء، جهلة،… علما أن الأعداء الفكريين لهذا المنهاج ونظرياته يدأبون وبمثابرة على ومهاجمته وتفنيده بل وينظرون له ولنظرياته كعدو أول الأمر الذي يثير سؤال: لماذا؟
1. القانون الأول: أ=أ+ب أي وحدة وصراع الأضداد بما يخالف منطق أرسطو طاليس الذي قال أن أ=أ.
فالمنطق الطاليسي لم يستوعب التناقض الداخلي وظن أن الماهيات مطلقة. وبصرف النظر عن إسهاماته في المنطق حيث المقدمة والنتيجة والبرهان بما مهد للمنطق البرهاني لدى ديكارت الذي قام على التحليل والتركيب كخطوة ساعدت هيجل على فهم تاريخية الفلسفة بأنها المدرك، لتأتي القفزة الماركسية ومنهاجها الديالكتيكي – التاريخي وحاملها الاجتماعي الطبقي... فأرسطو، ضمن معطيات زمانه ومكانه، لم يكشف التناقض في الماهية. فاعتقد أن المجتمع الإغريقي العبودي أبدياً علماً أنه كاد يباع كرقيق بسبب مواقفه السياسية وهذا حال معلمه أفلاطون، فلم يدرك الصراع بين الأسياد والعبيد في الكلية الاجتماعية، شأنه في ذلك شأن فلاسفة زمانه الذين لم يدركوا التناقض داخل الذرة فاعتقدوا أنها أصغر جزء في المادة ولم يصل تفكيرهم إلى التناقض الداخلي بين خصائص البروتون الإيجابي وخصائص الإلكترون السلبية وما بينهما من طاقة متولدة مهدت لاحقا لاستخدام الطاقة الذرية. والمنطق الطاليسي لم يمت، فهو يتجلى بصور شتى لهذا اليوم، وإلا فما معنى نظريات علم الاجتماع الرأسمالي التي تنكر الصراع بين الرأسمال والعمال أو بين المركز والمحيط، وتعتقد أنه برشاوى بسيطة يمكن تدجين العمال والشغيلة وبالتالي التغطية على تقاطبيتها التي بلغت درجات فلكية، وتفسير النزعات الاستقلالية والتنموية في المحيط بأنها مؤامرات خارجية... الخ.
وما معنى الاعتقاد الذي دام طويلا بأن الذكورة مطلقة والأنوثة مطلقة ليأتي علم البيولوجيا ويؤكد أنه في داخل كل رجل امرأة وفي داخل كل امرأة رجلا، فالمولود الأنثى يزيد كروموزوم واحد، فهو 46 لدى الأنثى و45 لدى المولود الذكر بما تحمله الكروموزومات من جينات وراثية وملامح، حيث تتشارك الصفات الذكوره والأنوثة على نطاق واسع في الكروموزومات، إلى درجة أن يتحول رجل أنجب أطفالا إلى أنثى في مرحلة لاحقة، والعكس صحيح أيضاً نتيجة تنامي صفات وتراجع الصفات الأخرى... والصفات المتناقضة تتزاملان وتتجاذبان وتتصارعان في ذات الوقت ضمن التكوين الإنساني... وفي زمن سابق كانت هذه الظاهرة تفسر بشتى التفسيرات إحداها أن عفريتا أو شيطاناً سكن "الضحية". وقبل جاليلو وكوبرنيكس كان العقل العلمي عاجزاً عن تفسير أسباب تعاقب الليل والنهار وفصول السنة وبالتالي مناخات الكرة الأرضية والبيئة النباتية والحيوانية أما وقد عرف دوران الأرض حول الشمس، فبات متاحا الإجابة عن الأسئلة، وقبل لابلاس ونيوتن كان العقل العلمي عاجزاً عن تفسير أسباب حركة الكواكب والنجوم وخصائص الكوكب وخصائص النجم تمهيداً لاكتشاف ترابط ووحدة الكون أما بعد اكتشاف قانون الجذب والطرد فقد شكل ذلك منصة انطلاق لكثير من الكشوفات وصولا إلى الوزن الذري واكتشاف جدول مندليف. وبطبيعة الحال لقد ملأت الإجابات الغيبية والخرافية عقول البشر ما قبل الاكتشافات العلمية... فكلما تقدم تراجعت الخرافة.
الأمر نفسه يقال عن النباتات والحيوانات وولادة أصناف جديدة، وهنا تقدم داروين بنظرياته التي نقدها وأضاف عليها علم البيولوجيا محافظاً على مبدأ أساسي: الاختيار الطبيعي بالقدرة على التأقلم أو الاندثار كما أن الصفات الجينية سواء بفعل عواملها الداخلية أوالظروف الخارجية إنما يتنحى بعضها ويسيطر بعضها الأخر وتنشأ خصائص إضافية وتنبثق أصناف جديدة... والإسهاب هنا يتطلب أهل الاختصاص3، وهذا كله يساهم في انتاج اصناف جديدة وصولاً إلى الاستنساخ ومعرفة جينات بعض الأمراض...
ولو اعتمدنا أمثلة قريبة وشواهد حية من واقعنا لقلنا... أن حركة التحرر الفلسطيني ودولة المشروع الصهيوني هما تجسيد ساطع لقانون وحدة وصراع الأضداد... فخصائص وأهداف كل منها تناقض الأخرى إلى حد التناحر، مثلما أن لدى كل منها تناقضاته الداخلية الطبقية والفكرية والسياسية... إذ يتعذر تصور مشروع صهيوني كولونيالي إجلائي دون حركة تحرر فلسطينية تسعى للعودة والاستقلال، كما يتعذر تصور أن يكون المجتمع اليهودي خاصية واحدة (العلمانيين - الدنييين - الفقراء ورأس المال – الروس - الخيار الحربي - الخيار السلامي...) في انسجام تطابقي. كما يتعذر تصور انسجام تطابقي بين (اليمين- اليسار- الإسلاميين- النخب العليا- الطبقات الشعبية- أوسلو ودعاة الكيان-اللاجئون وسعيهم للعودة) في فلسطين، وكيف يمكننا تفسير ما أصاب اليسار الفلسطيني من تحلل وتهميش والتباس فكري إن لم نفهم قانون أ=أ + ب فهذا الاتجاه إنما يحمل أبعاد يسارية وأخرى يمينية، صلابة ورخاوة، جذرية واصلاحية، ويتكون من مثقفين وطلبة وعمال وبرجوازية صغيرة، رجال ونساء،... الخ وفي مراحل المد وتوافر قيادة أكثر يسارية وموهبة طغت الأبعاد اليسارية عليه وتهمشت الأبعاد اليمينية، أما في مرحلة الجزر والفشل، سيما وقد أنهار المعسكر السوفيتي، فقد تعوّمت هويته الفكرية وغاب العنصر العمالي عن قيادته، وزاد ارتباطه بالقيادة اليمينية البيروقراطية وإحدى آليات ذلك حاجته للمال، وتنامت العلانية والرخاوة، وبالتالي سيطرت الأبعاد اليمينية فيما ضعفت الأبعاد اليسارية فتفكك وتقزم حجمه ودوره التاريخي.
أي لقد طرأت على مكوناته تحولات. وعلى نحو مغاير حصل في كوريا الشمالية وكوبا بانتقال حزب العمل وحركة 26 تموز من مواقع ديموقراطية ثورية إلى مواقع ماركسية اشتراكية. والوظيفة التاريخية لليسار تكمن في بناء أداة طليعية جماهيرية تحول دون تصفية المسألة الوطنية وحق العودة كما التعبير عن قضايا الطبقات الشعبية والمرأة والفكر العقلاني الجذري وترسم طريق سياسي مستقل واطلاق إبداعات وتحليلات شتى كمقدمة للهيمنة الثقافية وقيادة الشعب نحو التحرر والعدالة الاجتماعية، والانتقال من الحلول الوسطية والترقيع إلى الحلول الجذرية.
روج الأمريكان في أواسط القرن الماضي أن المجتمع الأمريكي هو مجتمع الطبقة الوسطى وبالتالي لقد انتفت الطبقات العليا والدنيا والصراع فيها بينهما... لنكشف حسب الإحصاءات الأمريكية أن 1% يملكون 50% و3% يملكون 90% من وسائل الإنتاج والثروة الاقتصادية، وبالتالي فالمسألة الطبقية في اتساع ورأس المال الاحتكاري والتنظيمات النقابية العمالية في صراع... والأمر نفسه ينطبق على تقاطبات وامتيازات المركز وسياسات الاحتكار الرأسمالي النهبية لشعوب العالم الثالث والرابع إلى درجة تمرير اتفاقية التجارة الحرة والمنافسة بين احتمالات: أمركة العالم حسب رأي الكسندر هيج وعولمة العالم حسب بريجنسكي وقيادة العالم حسب كيسنجر. بما يتطلبه ذلك من بطش حد الغزو العسكري الصريح (غرينادا، أفغانستان، الصومال، العراق...).
أي أن الأضداد متجسدة في أمريكا ذاتها وبين أمريكا "والعالم" أيضا. والمنهاج الذي يقول بالتناقضات والوحدة والصراع ليس علميا فقط بل وثوري أيضاً ذلك أنه يدعو في التحليل الأخير القطب، الضد، المنهوب والمقهور والمستغل والمهمش والمغترب لتنظيم صفوفه والصراع بجذريه لتغيير الوضعية، الكلية المركبة، أي الثورة (والثورات قاطرات التاريخ) إنجلز، وتسليح المعذبين بأمل مستقبلي لتغيير الظروف بما يتطلبه من وعي وبرامج وإرادة ومهارة وتصميم وإبداع... ولولا ذلك لبقي النظام الإمبراطوري القطاعي الدموي المتخلف في الصين ولولاه لما أطيح بنظام باتيستا الاستبدادي والتجويعي الذي حوّل هافانا لماخور، ونظام جنوب فيتنام العميل للأمريكان الذي أورث الشعب 5, مليون عاهرة كما صرحت رئيسة اتحاد المرأة الفيتنامية عام 89. وذات الشيء يقال عن الأدوية للأمراض التي تشمل الأنسان والحيوان والنبات... وأمراض التخلف وتكميم الأفواه ومصادرة العقل...
وخصائص الوعي الروحية المضادة لخصائص المادة، في ذات الوقت انعكاس لأشياء الواقع عبر الجهاز العصبي بحواسه الخمس في الدماغ المادي ولولا هذا الفهم الجدلي لشاعت الخزعبلات عن مصدر الوعي (وكفى الله المؤمنين شر القتال) الوعي الذي يوجه ويقود الممارسة المجتمعية بأعقد صورها وفي ذات الوقت من نتاج الممارسة، فتدأب البشرية ليل نهار للاستزاده المعرفية والتثاقف وو... واليوم ينتصر العلم باختراع الروبوت والكمبيوتر كمزيج لوحدة المادة الصماء والوعي.
وصفات الطفولة – الفتوة الفوارة وصفات الشيخوخة الهامدة، في الأولى يبني الجسم والأحلام والطموحات... وفي الثانية يضمر الجسم والأحلام والطموحات، فتأتي الفترة الشبابية لتطيل نفسها، يسعى الناس للعمل الدؤوب، والغذاء الجيد ومزاولة الرياضة ورسم الأهداف ووو... غير مرحبين بفترة الشيخوخة، بل ويعرضون عن عادات وتصرفات كيلا تأتي الشيخوخة التي تزحف إليهم بتثاقل...
وإدراك التناقض بين الذاتي والموضوعي، أي إرادة الإنسان ومطالبه المتنامية والواقع الموضوعي بمفرداته، حفز الإنسان – الجماعة الإنسانية لأوسع ممارسة مجتمعية لتطويع الموضوعي وتسخيره لتلبية الاحتياجات المتنامية بما صاحب ذلك من مهارات وعلوم وصناعة أدوات عمل وبناء مدن وخدمات... وفي ثنايا هذا المنجز الحضاري، بل مسيرة البشرية، دار الصراع بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وبين البناء التحتي والبناء الفوقي، بين الطبقات الحاكمة وفكرها ومنظوراتها والطبقات المحكومة وفكرها ومنظوراتها... كل ذلك صنع تراكمات هائلة وتغيرات ثورية...
لنتصور حال البشرية لو أنها تبنت معتقداً أخر بأن صنع التاريخ ليس من إرادة الناس، أو ما قاله هيجل بأن الوعي هو محرك التاريخي، رغم الأهمية المحفوظة لدور الثقافة... فالصراع موجود أولا في الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية يعبر عنه بصراع فكري وسياسي، في علاقة تبادلية، وهذا الصراع يوجب اكتشافات علمية متنوعة ووو...
مثل هذا الصراع دفع العرب للتآلف ومحاربة الإمبراطورية الرومانية والانتصار عليها، وهو ذاته تجسد في الاقتتال الدامي بين النهج الذي مثله علي بن أبي طالب ونهج معاوية أبي سفيان، بين القرامطة والحكم في بغداد، وهو ذاته الذي دفع أبو ذر الغفاري لدعوة الفقراء للثورة بأن قال أنني أعجب لا مريء يجوع ولا يخرج إلى قومه شاهراً سيفه وهو ذاته الذي دعا جان جاك روسو للثورة لقلب النظام الملكي الفاسد بعد أن أصبحت الضرائب 80% من الدخل، ولتكريس الديموقراطية قال مونتسيكيو بفصل السلطات الأمر الذي جعل فولتير يطمئن طالما أن سلطة القضاء مستقلة... وصراع الأضداد هو الذي يدفع إرادة الشعوب والمجتمع المدني لإبداء الممانعة للعولمة الرأسمالية الأمريكية، التي يتوقع لها أن تتعاظم في قادم العقود في عملية متصاعدة للتحرر من التبعية والنهب والاستغلال والتهميش والاحتكار... كما من المتوقع بطبيعة الحال أن يكشر الرأسمال الاحتكاري عن أنيابه، وما نراه من سياسات حربية وإنفاق هائل على الترسانات العسكرية، واحتكار للتكنولوجيا المتطورة، ومديونية متفاقمة وتقاطبية حادة وفقر ومجاعات... مجرد تمظهرات...
والقفزات الطبية الهائلة التي وصلت حد إعادة البصر وإطالة العظام وتركيب قدم وإجراء عمليات في الدماغ والقلب... إلى درجة اكتشاف جينات الأمراض وخارطة D.N.A كلها لمواجهة نقيضها من الأمراض...
وعليه فالأضداد يجمعها التناقض كما الوحدة. وللتناقض وتائر متفاوتة. فهو قد يتجلى في شكل تناحري. الاستعمار والشعب المستعمر، الصلابة والغازية، التصحر والغابات، الحب والكراهية، البناء والهدم... الفاشية والديموقراطية، الرأسمالية والاشتراكية، اسلوب التعليم التلقيني (البنكي) واسلوب التعليم النقدي الذي يشجع على التفكير والمشاركة والإبداع ... الخ.
أو غير تناحري بدرجاته، مثل البروتون والنيترون، البرجوازية الصغيرة والعمال، فصل الصيف وفصل الخريف، تعدد الآراء والاجتهادات في الفكر الواحد، الأباء والأبناء، اللون الرمادي واللون الأسود، موديلات الأزياء أو موديلات السيارات، أو الأفلام الرومانسية، أو روايات الأدب الواقعي، أو أنواع الحمام أو أنواع الخراف...
وفهم التفاوت في وتائر التناقض يقتضي من الإرادة الإنسانية اجتراح وسائل ملائمة في إدارة التناقض والصراع. وحسبنا تذكر أن إصلاح مزرعة شاخت شجراتها يتم بتشبيبها وبقليل من السماد، أما أرض البور فتتطلب استصلاحاً وزرعاً يتناسب مع التربة والمناخ...الخ وصديق اختلفت معه يتطلب حواراً أما عدو فيتطلب صراعاً، والتناقضات بين قوى سياسة تجمعها أهداف مشتركة يجري تسويتها بالسجال وكسب التأييد الشعبي، أما التناقض مع الجماهير فيتطلب التوعية وتسجيل المآثر وقوة المثال... الخ .
ولا شك أن التناقضات متحركة، فالثانوي قد يرتفع ويغدو رئيسا، أو العكس، في ظروف معينة... وهذا يستدعي المتابعة بقراءة الحالة الملموسة وعدم التهوين أو التهويل... كاختبار لمقدرة العقل وصحة الممارسة.
كتب هيجل أن الشيء يعرف بضده. هذا صحيح، إذ بمعرفتنا خصائص رأس المال يمكننا معرفة خصائص العمال، وبمعرفتنا الشعر العمودي يمكننا معرفة الشعر الحر، الأدب الليبرالي والأدب الواقعي الاشتراكي، بل ويتعذر معرفة الرجل إلا بمعرفة المرأة بما لهما من خصائص وتأثير متبادل. وهكذا دواليك، ولا يمكن تكوين معرفة صحيحة إلا بالإلمام بالتناقضات وسمات الأضداد وحركتها وترابطها، وأعظم إسهامات ماركس أنه اكتشف قانون فائض القيمة وأقام عليه تحليلاً كاملاً أكد فيه على حتمية الثورة الاجتماعية وزوال الرأسمالية كمرحلة في التاريخ، والرأسمالية ليست نهائية كما يعتقد الأمريكي من أصل ياباني فوكياما في كتابة (نهاية التاريخ). هذا هو العام أما الخاص فسوف تتجاوز الأمم رأسمالياتها وتبني مجتمعاتها الخالية من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ضمن خصوصياتها وظروفها، إذ لا يوجد نمذجة أو طبعة واحده، وقد شرعت بعض الأمم بالسير في هذا الدرب الطويل. وقانون الأضداد إنما ينسجم مع مقولة (لقد اكتفت الفلسفات القديمة بتفسير العالم بينما المطلوب تغييره) وانتصار الضد الثوري إنما يغير الواقع وهذا يقتضي الاصطفاف بجانبه من قبل الثوريين.
وليكن جلياً أن صراع الأضداد (التناقضية) هو مصدر الحركة، سواء كان التناقض داخلي أو خارجي، وهو مفتاح الحركة والتطور، وهذا يمهد لقانون:
2. أ= أ َ التراكم الكمي: لما كان الواقع سلسلة متصلة من التراكمات والتحولات، إذ لا شيء يبقى ستاتيكا على حاله، ولا شيء أبدي وخالد، فكر أو واقع، فمن الطبيعي أن يغالط المنطق الطاليسي منطق الحياة حينما يزعم أن أ =أ فتبقى ثابتة بدون إضافة أو تغيير. وهذا الخلل مصدره الخلل الأول بإنكار التناقض داخل أ. أي أن المجتمع يبقى على حاله والفن يبقى على حاله والوعي يبقى على حاله والشموس تبقى على حالها واليورانيوم يبقى على حاله، والأنعام والنباتات... الخ. بينما كافة العلوم وتجريداتها النظرية تقول غير ذلك والمشاهدات اليومية والتجربة الحسية تقولان غير ذلك.
حرّي تعريف بعض المقولات:
الكم: درجة خصائص الشيء أو الظاهرة من طول وسرعة ووزن... و س من الناس وزنه 180كغم وطوله 178سم ولونه أبيض... والماء سائل بدون لون أو رائحة ويغلي بدرجة حرارة 100م...
والكيف يعكس وحدة الخواص الأساسية الداخلية التي تميز شيء عن أخر، وقد تشترك عدة أشياء في خواص معينة. فالصقر ليس الخاروف رغم أنهما يشتركان في عضويتهما الحية ويتكاثران، الأول يطير وله أجنحة وو... أما الثاني فيكسوه الصوف ويجتر طعامه ويمشي على أربع... والحزب غير الجامعة رغم... الخ.
والقفزة هي تحول في الماهية، أي تبدل في الخواص بكسر السياق السابق وحلول كيفية جديدة وسياق جديد... فهي ليست مجرد تراكم كمي بل تبدلاً كيفي، وهذا يتجلى في ولادة أصناف بيولوجية جديدة كالفبل الذي تناسل من الماموث وثمرة الافوكادو التي جرى تهجينها وتشكيلات اقتصادية-اجتماعية جديدة كالرأسمالية التي انبثقت من ارحام الاقطاع والاستقلال بمشروعه التنموي الذي نشأ في المستعمرات.
أما المعيار فمقولة تعكس حالة الكيفية ومحتواها ضمن مستويات معينة، وكلما تحولت الخواص وعناصر المحتوى المكونه للشيء تحولت الحالة وانتقلت من مستوى إلى مستوى، ما أن يكتمل المعيار حتى تنتقل الكيفية. فخلية الحيوان المنوي تلقح خلية البويضة فيتغير لون الأخيرة وتروح تنشطر وتتكاثر وتشكل الأنسجة، وفي غضون شهور تنشأ الأعضاء ويكتمل الجنين، وبالتالي تتحول الخلية إلى جنين يخرج من الرحم كمولود وينمو المولود الغض ويكتسب مهارات وقوة ووعي وتتعثر خطواته إلى أن يمشي ويشتد ساعده وإذا به شاب راشد أو صبية بالغة بما لهما من مواصفات...
وبطبيعة الحال فالخلية غير الجنين والمولود غير الشاب أو/والصبية رغم العناصر المشتركة... والحب بما يتميز به من رقة وعذوبة وتفتح وعاطفة جياشة ولهفة متبادلة وتملك متبادل واستشعار بالالتزام... غير كلمة مرحباً على مقاعد الدراسة... فقد تتحول مرحباً إلى حب غامض... الخ.
لو تناولنا حجراً ورتبنا بجانبه حجراً أخر فثالث فرابع وأسمنت وترسانة خرسانية وعقدنا وجهزناه لأصبح لدينا شقة سكنية. والشقة في خصائصها الأساسية ومعيارها واستخدامها... ليست حجراً أو إسمنت... رغم المشتركات بينهما، وإنما هي تراكم يتواصل إلى أن تحصل الطفرة. والأمر نفسه يقال عن التذمرات التي قد تتحول لاحتجاجات واحتشاد غاضب ومواجهات... ومنها قد تتراكم العناصر وتندلع انتفاضة... والانتفاضة ليست التظاهرة أو الإضراب أو المتاريس أو الزجاجة الحارقة أو العمل النخبوي أو مقاطعة سلع أو... أنها كل ذلك في ترابطه ضمن سياق وظروف يكتمل فيها المعيار وخواص الانتفاضة بطابعها الشعبي المتحدي وأهدافها المحددة... فالانتفاضة قفزة نوعية أرقى من عناصرها كل على حده.
وكولون ويلسون الشاب المبدع الذي كتب اللامنتمي، هو نموذج عن فك التزام الفرد بالجماعة حيث ينكفيء ويستغرق في وحدته ويتوحد في مشاعره ويغوص في حفرة معتمة...الخ يبدأ بخطوته الأولى وتتوالى التحولات إلى أن يجد نفسه وقد نأى بنفسه عن محيطه محبطاً كئيبا وغير مكترث واللهم نفسي... هو بخلاف الشخصية التي أسسها مكارنكو حين ارتبط الفرد بالجماعة من خلال العمل المشترك والاهتمام المشترك والأهداف المشتركة والوعي الجمعي المشترك، فتلد شخصية ثورية مسؤولة تعبأ بحرارة بما يدور حولها وتدأب على التأثير فيه ضمن علاقة تبادلية...
وشتان بين اللامنتمي والمنتمي، بين الفرداني المهزوم والجمعي الفاعل... فكل منهما قفزة، الأول للوراء قياساً بالإنسان العادي، والثاني للأمام قياساً بالإنسان العادي أيضاً...
لنقارن ما كانت عليه فرنسا قبل ثورة 1789 والصين قبل ثورة 1949 . حيث الإقطاع والأمية وتخلف المدينة والتعليم البسيط وغياب الحريات والقهر السلطوي و... وبين ما أصبحت عليه فرنسا من تطور تكنولوجي وحريات وو... الخ وما أنجزته الصين من مدن حديثة وثقافة وتعليم وخطوات على طريق العدالة الاجتماعية...الخ.
إنها قفزتان نوعيتان لكل منها خصائصه ومشتركاته... ولنقارن الفكر العصري بالفكر التقليدي... ولو حافظت أ على أ لما نشأ الفكر العصري ولما انتج العصر بما له وعليه... بل ولأن الفكر مرتبط بالممارسة الاجتماعية بأبعادها الاقتصادية – السياسية – الاجتماعية – الثقافية – العلمية... فبالضرورة أن تجد المتغيرات الواقعية صدىً وانعكاساً في البنية الفكرية، والعكس صحيح أيضا... ولو بقيت أ على حالها لما تحول اليورانيوم والبلوتونيوم كعناصر مشعة بعد التبديلات التي تحصل على وزنهما الذري، مع مرور الزمن إلى نحاس ورصاص... ولما تحولت الحرارة والكهرباء إلى حركة ميكانيكية في السيارات والمصانع والغابات إلى نفط والنفط إلى ملابس... ولما انبثق من المجتمع الإقطاعي المجتمع الرأسمالي ومنها مجتمع التحولات الاشتراكية السائرة نحو الاشتراكية... ولما تحول بعض المناضلين إلى عملاء وسقط المتاع والمدرس والموسيقى جياب إلى جنرال وكاسترو المحامي ابن العائلة الاقطاعية إلى كاسترو القائد الثوري المنتمي للطبقات اليشعبية ورجل الدولة اللامع وحبة اللوز إلى شجرة منتجة والأرض البور إلى مزارع وحدائق والفلسطيني الذي اقتلع من وطنه طريداً ذلولا إلى مكافح وقد عرف التأطير والتنظيم وروح الاستشهاد، كما عرف مرحلة تلاحم القيادة مع المقاتلين ومرحلة (صالح قادتنا الأعداء ونحن نحارب) مظفر النواب وتجاوزت بعض أوساطه جزئيا مقولة نزار قباني (لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية)، ولبقيت المعرفة الجغرافية على حالها بان العالم ثلاث قارات أما وقد اكتشف كولومبوس الأمريكيتين وتوغل أمريكيو فسبوتشي فيها ودار ماجلان حول أمريكا الجنوبية وفاسكا ديجاما حول رأس الرجاء الصالح فأصبح العالم خمس قارات أضيف عليها استراليا وانتراكتيكا الجليدية.
ولما تطور القانون، منذ عصر ما قبل القانون إلى قانون حمورابي ونواظم الهندوكية مروراً بالقانون الروماني فالديني وصولا إلى استفاضات وتشعبات القانون المعاصر. حيث يتواشج النص القانوني بالصيرورة المجتمعية.
ولما عرفت البشرية الانتقال من جمع الثمار والأعشاب إلى تقليد الطبيعة بزراعة الأرض بطرق بدائية، مروراً بالحرث وشق القنوات في الهند وبلاد فارس إلى الزراعة الحديثة وبناء السدود واستخدام الأسمدة والكيمياء وصولا إلى ثورة الجينات وإنتاج أصناف جديدة.
والأمثلة لا تنتهي، فهي مسارات لمكونات الوجود، كلها تقطع بالقول أن كل شيء يتحول أي أن أ=أَ والمهم تشخيص التناقضات التي تؤدي للتحولات وقراءة ملموسة ومستوى التحولات... فلا يعني أن يخطئ المرء خطأ صغيراً، فيصار لتشخيصه بأنه مجرم ومرذول أو أن يفشل طالب مجتهد في امتحان فيصبح غليظ الدماغ وكسول، أو أن يخسر الحساب الاقتصادي لمشروع كدليل على أنه لا يلائم السوق وأن أدارته فاشلة تماما، أو أن حركة ثورية أخفقت في موقف بأنها أصبحت رجعية وقد تجاوزها التاريخ... الخ واكبر تحدي هو قراءة ملموسية ودرجة التحول.
إذ يتعين تحليل الظاهرة وأسباب حدوثها وتقييمها ضمن اللوحة الكلية وبالتالي توجيه الجهد لتجاوزها أي تعزيز نقيضها الإيجابي.
3. أ = ب أي قانون التبدل والقفزة، وهذه يتحق بعد توافر المعيار المكتمل للتحول... فالتحول كمي أما القفزة فنوعية. والمنظور الميكانيكي لا يستوعب القفزة ويظن أن أ تبقى بما يدخله في مفارقة وإرباك فيعجز عن تفسير ميلاد الجديد.فمثلا مع نشوء الصناعة الحديثة تنامت أعداد العمال ونظموا صفوفهم في نقابات، غير أن أرباب الصناعة تعاملوا بعدائية وحاولوا إحباط هذه العملية... ونشط النضال التريديوني النقابي الذي حصر نفسه في تحسين شروط العمل سيما في بريطانيا... وبلا شك أن الانتظام النقابي الجماعي قد تطلب جهوداً وخبرات وقيادات وروح تضامنية وأحرز مكاسباً للعمال بما شكل طفرة قياسا بالتبعثر العمالي والاستغلال المضاعف، وصولا إلى استصدار قوانين العمل وحقوق العمال... وعلى هذا النحو بدأت تسير الأمور في البلاد العربية اليوم.
والمسألة لا تتوقف هنا... بل إن الصراع بين العمال ورأس المال أي بين أ + ب في البنية أ قد دفعت العمال لاكتساب مهارات ووعي... كما حال رأس المال الذي طور التكنيك بغية الحصول على أرباح أعلى وقد اضطر لتقليص ساعات العمل إلى 8 ساعات يوميا وحسّن الأجور... ودفع إجازات سنوية وإجازات مرضية... وأيضا العمال تكونوا من أ + ب داخل بنيتهم الطبقية، الذين أرادوا تحطيم الآلات التي حلت محلهم وبين الذين استوعبوا المتغير التكنولوجي وراحوا ينظمون صفوفهم، بين الأكثر جرأة على تنظيم الإضراب والأقل جرأة... بين التبعثر والانتظام... إلى أن تعززت جبهتهم الداخلية... وفي النهاية ولدت حركة نقابية منظمة دفعت 5 مليون عامل وطالب للتظاهر في شوارع باريس عام 97 بما أجبر الحكومة الفرنسية على التراجع عن قرارها بفصل بضعة آلاف من عمال التلغراف والسكك الحديدية. هذا بلا شك قفزة، فأصبح حال العمال ب وليس أ... ولكن في ب هذه تناقضات سارت على نفس المنوال... فهل تنحصر الحركة في البعد النقابي أم تحمل وعيا سياسيا واشتراكيا بغية قلب علاقات الإنتاج والنظام السياسي؟
من هنا تواصل الصراع… فالرأسمال ذهب بعيداً إلى حد قمع العمال والشعب وإشعال فتيل حربين عالميتين علاوة على الحروب الإقليمية… والعمال والشغيلة بدروهم انتقلوا للممارسة السياسية فأطاحوا بالنظام القيصري وعدة نظم في بلدان أوروبا الشرقية، وهذا حال جماهير الشعب الصيني الذين أطاحوا بالنظام الإمبراطوري...
هذه قفزة ثانية... وقد شرعت هذه البلدان ببناء مجتمعات جديدة في كافة الميادين... وهذه قفزة ثالثة... أي أن أ تتحول إلى ب ومنها إلى ج فإلى د... ضمن سلسلة تطورية لا تتوقف... وبالتالي فكل ولادة جديدة إنما تنفي الكيفية السابقة وتستولد كيفية أرقى منها، أي نفي النفي، الذي يحمل على الدوام ايجابي الأمس. وطريق ولادة الكيفية الجديدة متعرجة وطويلة بلا شك. فالجهل قد يسود طويلاً قبل سيطرة العلم، والنظام الاقطاعي صمد ثلاثة آلاف عام في الصين، أما البرجوازية فصمدت نصف قرن تقريباً بينما صمدت 120 عاماً اليابان حتى اللحظة...
ومن خلال هذا القانون نفهم كيف تحولت الكرة الأرضية من كتلة ملتهبة هي اتحاد شطرين لشمسنا والشمس النظيرة حسب التفسيرات الفلكية، وقد بردت بتدرج، وتحولت بتواتر إلى أن صنعت جبالا وبحاراً... وخلال 4-5 مليار سنة أصبحت بيئتها صالحة للحياة... بما يشكل سلسلة قفزات قياسا بما كانت عليه في البدايات... وهذا القانون يفسر تحول التذمر الجنيني إلى نقد، والاحتجاج الفردي إلى جماعي، والوعي الساذج إلى مشروع فكري تاريخي والعمل النخبوي المعزول إلى أحزاب جماهيرية والفردانية الأنانية إلى انتماء جماعي، والتمردات المحلية إلى ثورة عارمة...
وكيف تدرج الإنسان من الكهف الحجري الذي صنعته انكسارات وانهيارات القشرة الأرضية إلى كهوف يحفرها بمعاول حجرية ومعدنية، مروراً بالبيوت الطينية وبيوت القش، إلى الشقق الحديثة فإلى المدينة العصرية بضخامتها ومرافقها وخدماتها... وهذا حال صناعة السلاح من عظام مدببة وحجارة مسنونة إلى معالجة المعادن إلى سيوف وخناجر فعربات تجرها أحصنة ومنجنيق إلى سلاح ناري وفردي، فمدفعية... فجيش متطور بما يملكه من سلاح صاروخي وطيران وأسلحة غير تقليدية... الخ .
والنظام السياسي من زعيم عشيرة فزعيم قبيلة إلى أمراء فملوك على إمارات وإقطاعات إلى دولة قومية جمهورية إلى نظام برلماني بقيادة الأقلية الرأسمالية فنظام ديمقراطي شعبي مجالسي لم يتبلور بعد ليعبر عن تطلعات الأغلبية والشعب بأسره، وما بينها من صيغ انتقالية...
هذه هي القوانين الأساسية، كمنظورات وأدوات فلسفية عامة ترشد العقل، وليست مساطر خشبية تقاس بها جزئيات الحياة اليومية... وباستخدامها إنما يحفز العقل للبحث والتقصي، فالأشياء والظواهر ليست ناجزة وأبدية وليست جوهر ثابت، بل متحركة، وعلى الإنسان إعمال الفكر. الفكر والعمل بغية الفهم، ليس الفهم فقط بل والتغيير أيضا فغرض المنهاج في التحليل الأخير تنفيذ أعظم عملية تغيير ارتقائي في كافة المجالات. وهنا يجد نفسه في حالة سجال وصراع مع المناهج الأخرى التي تسعى لتكريس الواقع ومحاصرة وإقصاء إبداعات ونظريات المنهاج التغييري، حيث تدور معركة فكرية محتدمة على نطاق الكرة الأرضية لكسب العقل البشري وذائقة وعواطف الناس. ومن جهة أخرى تصطدم قوى التغيير بضدها بما ينجم عن ذلك من صراعات. ولما كانت السيطرة للقوى الاجتماعية المعادية للتغيير بما تملكه من وسائل قوة اقتصادية –عسكرية – إعلامية – سياسية، فبوسعنا تصور ما تتطلبه عملية التغيير من نضالات وصراعات لا هوادة فيها.
فالمنهاج يحاول أن يمسك الثور من قرنيه، بتعريف الأسباب الحقيقية للبون الشاسع بين المركز والمحيط، بين الاحتكارات والطبقات الشعبية، الاغتراب، الاضطهاد والجنسي، التخلف والجهل، العقل النقلي التقليدي... الخ ومع كل موقف وجزئية كما في القضايا الكبرى تشتعل التناقضات والإشكاليات.
ومن المقطوع به أن السعي لفهم وتحليل التاريخ والبحث عن أسباب الأحداث والظواهر سيقضي إلى انقسامات كبرى بين اتباع المنهاج اللاهوتي الذين يبحثون عن إجابات في ملكوت السماوات وبين اتباع المنهاج الواقعي الذين يبحثون عن إجابات في التاريخ. ومن هنا جاء قول فولتير (أترك الأشياء الإلهية لأولئك الذين أوكلت لهم هذه الشؤون) في غمرة الثورة الفرنسية التي دشنت عهداً تاريخيا جديداً للبشرية. ومن هنا جاءت انتقادات ديدرو للتفسيرات الساذجة لتطور العالم، أما عالم الاجتماع – الاقتصاد الذي تقدم بنظريات عديدة عن حركة المجتمع ومسيرة البشرية فهو ماركس مسترشداً بمقولة (النقد الصارم لجميع الأشياء الموجودة، النقد الذي لا يخشى نتائجه الخاصة).
وهذا يقودنا إلى التعرض لجملة مبادئ ومقولات، هي الأهم، التي يستخدمها المنهاج استناداً إلى قوانينه. وهنا لا يمكن القفز عن هيجل فهو العقل الألمعي المبدع الذي تحدث عن جدل الواقع كتناقضات وحركة تلد الجديد، وكان قد عزى ذلك للعقل المطلق، ليرد عليه انجلز( كان ديالكتيك هيجل يقف على رأس فجعلناه على قدميه)... والبذرة الحاذقة هنا هي ما كتبه هيجل (أن جميع الأشياء المتناهية مآلها الدمار الذاتي، الجدلية هي الروح المحرك لأي تقدم)، ولكن ليسقط سقطته الشهيرة التي تنافي جدليته بالقول أن الدولة القومية هي المرحلة الأخيرة في التاريخ، لتأتي الوحدة الأوروبية هذه الأيام تجاوزاً لسقطته وأكثر انسجاما مع جدليته...
مبدأ كلية الارتباط: يكاد يرقى هذا المبدأ إلى مستوى القانون من ناحية شموليته، والمفكر الهنغاري لوكاش أولاه رعاية خاصة بالاتكاء عليه في تقديم تحليل إبداعي للوعي الطبقي. والمبدأ واضح في معناه فهو يكشف ترابط الأشياء والظواهر والعمليات، والعقل مجبر على إدراك الترابط للوصول لوعي صحيح.
وهنا يتحدث علم البيولوجيا عن ترابط الشمس والعين في الكائنات الحيوانية، إذ بدون استثارة حرارة وأشعة الشمس ما كان بالإمكان تشكل غدة تستجييب لهذه الإثارة وصولا إلى قدرتها على نقل الارتكاسات الخارجية، شأنها شأن الإذن أو حاسة الشم... وهانحنذا ذا نرى الخلد الذي يعيش في أنفاق تحت سطح الأرض يقضم البصل والبطاطا... دون أن يكون له عين فيما يتمتع بحاسة شم عالية. أما الضفادع فأصناف منها تعيش مذ مئات آلاف السنين في كهوف البحر الأسود تتمتع بعيون طبيعية من ناحية تركيبها غير أنها لا تبصر، فيما نفس الأصناف في السويد والبحر الأدرياتيكي تبصر، ذلك أنها برمائية تعيش في الماء والبر وتتعرض لأشعة الشمس...
ولو أخذنا عملية التمثيل الكلورفيلي في النبات، إذ بفضل ضوء أشعة الشمس ينشط فيمتص ثاني أكسيد الكربون، بينما تقوم الجذور بامتصاص المواد الأولية الموجودة في التربة، وهذا يتم بمساعدة الأمطار فيحصل التفاعل والتغذية وتمتد الجذور والشعيرات أكثر في التربة وتتفرع النبتة وتثمر أكثر بما يعطي الإنسان مردوداً ليستأنف مسيرته في رعاية حقله، وهكذا دواليك.
مثال آخر: ما الذي يحدد سعر السلعة؟ عربة أو ثلاجة أو رطل بندورة أو قلم رصاص أو بنطال… أنه بشكل أساس مجموع الجهد المبذول فيه علاوة على الربحية… فمن المناجم يتم استخراج المعادن وفي مصانع أخرى يتم تصنيع الجلود والعجلات… وفي ثالثة البطاريات وو… الأمر الذي يكلف مبلغا معينا علاوة على أجور العاملين ونسبة اهتراء المكائن وما انفق على الخدمات وما دفع للبنك من فائدة على القرض… والأمر نفسه يقال عن رطل بندورة الذي يدخل فيه تكاليف الحرث والزرع والسماد وأجرة العاملين ونفقات النقل… الخ أنها سلسلة من الحلقات الواحدة ترتبط بالأخرى...
واتفاق أوسلو ما كان له أن يمر لولا التحولات الطبقية – الفكرية –السياسية التي طرأت على قيادة م.ت.ف وغياب جماعية القرار وهامشية الجماهير وهزال مجتمعها المدني وعدم استقلاليتها... وتواطؤ النظام الرسمي العربي سيما توقيع كامب ديفيد عام 78، وذبح البندقية في الأردن ولبنان، وانهيار السوفييت بما أتاح لأمريكا التفرد... الخ .
إنها إبعاد متعددة واشتراطات كثيرة تضافرت لإملاء هذا الاتفاق الكارثيالمشروع الأمريكي الاسرائيلي التفكيكي، وأهم عامل هنا هو الشرط القيادي الفلسطيني.
والاعترافات – الانهيارات أو الصمود البطولي في أقبية التحقيق يطال الطفولة وتربية الأهل والمدرسة فيما إذا عززت الثقة بالنفس واحترام الكرامة أم هزّت شخصية الطفل وزرعت الخوف في نفسه، وما تلقاه من تعبئة ثورية ومعارف أمنية، ودرجة انتماؤه للمشروع الثوري، وخبرته ونضج شخصيته وحسه الأخلاقي التمردي الذي يأبى الانصياع وتحدي الظلم... طبعا يقف في المقدمة التربية الثورية والخصائص الفردية...
ومبدأ كلية الارتباط لا يعكس الترابط الواقعي فقط الظاهر والباطن، الأساسي والثانوي، الدائم والعارض... ، بل ويستحدث العقل لكشف هذا الترابط أيضا. بما يدفع العملية المعرفية خطوات للأمام وهو أبعد مدى وأكثر تشعبا من الإجابات المبسطة التي تحصر الإجابة في السماء أو تختزلها في عامل واحد قد يكون صحيحاً أو غير صحيح، فهو ضد التفسيرات الجزئية والتجزيئية.
المبدأ التاريخي: يجمع التاريخ الزمان والمكان كمقولتين هامتين، وأي حدث أو ظاهرة إنما يتم فهمها بدراستها في إطار ظروفهما، أي زمانهما ومكانهما، وظروف الراهن إنما هي امتداد جدلي للماضي، أي ما تبقى من زمان ومكان الأمس إضافة للتحولات والقفزات، فلا حاضر يبدأ من الصفر، كما أن للحدث أو الظاهرة جذور نشأت ضمن زمان ومكان، أي لها سياق، والفهم يتطلب تتبع السياق.
فلئن أردنا فهم الصراع الفلسطيني – العربي – الصهيوني لا مهرب من الوقوف على البدايات، سعي بريطانيا لتأسيس قاعدة يهودية تفصل المشرق العربي عن شمالي أفريقيا، كما كتب بالمرستون وزير خارجية بريطانيا في 1840 بعد هزيمة مشروع محمد علي، وتدرجات نشأت الحركة الصهيونية في أواخر القرن19، وحال الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والصراع الفرنسي – البريطاني حينذاك... والهجرات اليهودية الكولونيالية وتسهيلات الخارجية العثمانية والحرب العالمية الأولى وصعود النازية في الثلاثينات كمقدمة للحرب الثانية والمحرقة... مروراً بنكبة عام 48 والتطهير العرقي، وقيادة أمريكا للمعسكر الرأسمالي... وصولاً إلى اللحظة...
أما قراءة وضع المخيمات الفلسطينية في لبنان أو اجتياح القوات العسكرية الإسرائيلية لمدن الضفة وتوغلاتها في غزة، وخنق الاقتصاد الفلسطيني... بمعزل عن المبدأ التاريخي فهذا تجديف وضرب من التخبطات.
وهل يمكن فهم حال الفكر اليساري في فلسطين دون ربطة بنشأته ولبيئته الفكرية – الاجتماعية – الاقتصادية التقليدية الأبوية كجزء من ثقافة عربية تواطأت على وكنست النزعات العقلانية في فلسفات ابن رشد وابن المقفع والمعتزلة كما ومضات التنويريين في القرن التاسع عشر...ومحدودية دوره النقدي والإبداعي، كما التباس مواقفه السياسية وتقهقر قواه المنظمة وتذيله الطويل للقيادة اليمينية، ومحاصرة الجغرافية – السياسية له، ... الخ وهناك مبدأ الحركة المستمرة والتطور الدائم، وهذا سقناه فيما أسلفناه... الخ.
ومن المقولات البارزة: السبب والنتيجة، كعلاقة اشترطيه، فلكل نتيجة سبب أو أسباب... فلماذا واقعنا العربي مفوّت ومفتت وخامد قياساً بالغليان الصاخب في أمريكا الجنوبية في العقدين الأخيرين: سقوط أنظمة العسكرتاريا وانتعاش المجتمع المدني وفوز قوى شعبية ويسارية في فنزويلا والبرازيل، واشتداد ساعد الحركات المقاتلة في كولومبيا، بيرو، السلفادور... وبالطبع صمود كوبا بمنجزاتها الساطعة، ... وهذا حال المد الثوري والمشروع التنموي الشعبي في الصين وفيتنام وكوريا الديموقراطية...الخ فلم يكن هذين الإقليمين أكثر تطوراً من العرب... ألا يجدر فحص الأسباب، بدءاً بنظم التبعية القطرية، مروراً بمصادرة وتغييب الإرادة الشعبية وبالتالي أزمة الشعوب، عرجاً على الثقافة التواكلية غير المبادرة التي تصبر على المظالم وملاحقة والغاء الرأي الأخر، انتقالا إلى عجز وطغيان الشعارات على الحركة السياسية التي أصبح خطابها السياسي أقرب للإعلام السياسي منه إلى الفكر السياسي، وصولا إلى المخطط الإمبريالي _ الصهيوني، دون أن ننسى قرون المرحلة العثمانية... الخ ، ما حجم تأثير العامل الموضوعي وما حجم تأثير العامل الذاتي، ما حجم تأثير العامل الخارجي وما حجم تأثير العامل الداخلي، ما حجم تأثير الراهن وما حجم تأثير التاريخ، الأنظمة والشعوب الاقتصاد والفكر...الخ.
سؤال أخر: لماذا يموت 5 مليون طفل في أفريقيا سنويا؟
وبالنظر لجدلية هذه المقولة فالنتيجة تتحول لسبب أيضاً، فعدم توافر الغذاء الصحي ينتج عنه أمراض، والأمراض تسبب تدهور في الإنتاجية والوضع الغذائي… الخ وهذا حال الديكتاتوربية العوائلية التي تصادر الديمقراطية فتتحول هذه إلى تغييب للجماهير والتنمية المستقلة وهذه إلى التبعية والتخلف...الخ.
ومقولات الخاص والعام، الجزء والكل، والاحتمال والأمكان،الشكل والمحوى، المظهر والجوهر، الثانوي والرئيسي، الصدفة والضرورة، الضرورة والحرية... الخ فهذه كلها أدوات معرفية تحتاج إلى شرح، ولكن يمكن الاستزادة والاغتناء بدرس كتب فلسفية...، أما في محاضرات ارتجالية فحسبي التركيز على جوهر الأشياء والتدليل عليها...
يكمن امتحان المنهاج، اليوم، في مقدرته على إرشاد العقل النقدي في تحليل وتفسير المرحلة الراهنة بتناقضاتها التي لا حصر لها، مرحلة العولمة الأمريكية واسقاطاتها وتجنيد الإرادة الشعبية – القطب الثوري للتصدي لها، فالقوى الاحتكارية العالمية وركائزها المحلية بما تجنده من ترسانة عسكرية، ومؤسسات ثقافية وإعلامية...الخ تدافع بدأب عن هيمنتها، ولن تتردد في الكذب وحياكة المؤامرات وشن الحروب ضد إرادة التغيير. فلئن كانت عناصر الوراثة تقاوم عناصر التبدل في البيولوجيا، فالأمر أكثر تعقيدا في الحياة الاجتماعية وقد يكون أكثر درامية ودموية، ومن هنا حاجة قوى التغيير لمنهاج تغييري يعبئ ويقرأ ويحشد بغية التغيير، التغيير الذي يتسع للعناصر التقدمية في ماهيات ومراحل الأمس فتأتي ولادات جديدة أكثر تطوراً، استمرار وانقطاع في آن. والذي لا يتمثل هذه الصيرورة فيتجدد يتخلف ويطويه الزمان مهما خلع على نفسه من ألقاب.
على هذا النحو لا تتحقق مقولة (أن الفلسفة عصر محاط بالفكر) بل ومشرط لفهم كنة الأمور ومنصة تركيم وتبديل وتغيير الحياة أيضا. "ولكي تؤمن يجب أن تفهم" كتب لينين، والفهم درجات حيث تتنامى المعرفة الجزئية والنسبية أكثر فأكثر في إطار المعرفة الكلية المطلقة.
بهذه الكلمات أكون قد أكملت مداخلتي التي استغرقت مني ثلاث محاضرات مستدركا أنني كنت قد عرضت هذا الموضوع في السجن في بيئة أخرى وشخوص أخرين، حتى أنني استخدمت أمثلة مختلفة، بل وقد ختمت حديثي باستكشاف وتطبيق القوانين والمبادئ والمقولات على مقطع نوعي، الجيشان الانتفاضي. وعلى قيمة الجمال الأخلاقية والألبسة والأزياء. وهذا لا أراه ضرورياً هنا.
أحمد قطامش، كاتب ومفكر فلسطيني - رام الله / فلسطين