مقدمـة:
تعد مسألة الإحالة من أهم موضوعات القانون بصفة عامة، و القانون الدولي الخاص بصفة خاصة، و ذلك كون أن قواعدها تعالج موضوعات تخص الأفراد من جهة، و الدول التي ينتمي إليها هؤلاء الأفراد من جهة أخرى، و نظرا لكون العلاقات الإنسانية و الدولية بتعقيداتها و إشكالاتها القانونية، تمس في جوانب عديدة منها مبادئ السيادة الوطنية للقانون، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالأشخاص و أهليتهم، أو أموالهم و تصرفاتهم إلى غير ذلك من الأعمال التي يقوم بها الأفراد داخل الإقليم الذي يعيشون فيه، لذلك فالإحالة في القانون الدولي الخاص تحاول إيجاد حلول قانونية لمعالجة هذه الإشكالات، و لتحقيق العدالة أولا، وذلك بإعطاء كل قانون و الاختصاص الممنوح له، و بالتالي لا يجد القاضي نفسه سوى أنه يطبق على كل نزاع القانون الخاص به، و ثانيا تجنب النزاعات القانونية ما بين الدول، حيث أن مجال الإحالة يظهر من خلال استبعاد كل دولة الاختصاص المقرر لها أو ما يسمى بالتنازع السلبي، و بالتالي تجد القضية نفسها أمام فراغ قانوني، فالإحالة أدرجت لسد الفراغ الذي قد يحدث في العلاقات الدولية التي يكون موضوعها خاصة الأفراد، ومن هذا المنطلق كان اختيارنا لموضوع الإحالة في القانون الدولي الخاص، وفقا لما ورد في القانون المدني الجزائري، كونه لم يحض باهتمام وفير على غرار باقي الإشكالات القانونية الأخرى، إضافة إلى بيان مختلف الإشكالات التي طرحها و مازال يطرحها هذا الموضوع، نظرا لتعلقه بآليات جد دقيقة في القانون الدولي الخاص، وما يتطلب من القاضي المعروض عليه النزاع نوعا من الجدية و البحث الدقيق لمعرفة القانون الواجب التطبيق على تلك المنازعة.
ولعل أبرز التساؤلات التي تطرح هنا: كيف عالج المشرع الجزائري الإحالة الدولية؟ وما هو الهدف الذي سطره من خلال إدراجه في المادة 23 مكرر01 الفقرة الأولى من القانون المدني لقبول الإحالة، ثم رفضها في الفقرة الثانية ؟
و لمحاولة الإجابة عن مختلف التساؤلات التي قد تطرح في هذا المجال، اعتمدنا على خطة من مبحثين، جاء المبحث الأول بعنوان القبول الخاطئ للإحالة من طرف المشرع الجزائري ، وعنونا المبحث الثاني بالرفض المبدئي للإحالة من طرف المشرع الجزائري.
ففي المبحث الأول الذي جاء بعنوان ″القبول الخاطئ للإحالة من طرف المشرع الجزائري″، حاولنا التطرق من خلاله إلى قبول المشرع الجزائري للإحالة بالرغم من أنه لم يقصد قبولها، إلا أنه كرسها من خلال قانونه المدني، و بادئ ذي بدء، حاولنا أولا أن نحصر المفهوم القانوني للإحالة و ذلك ضمن منظور القانون الدولي الخاص، بتعريفها والصور التي يمكن أن تأخذها، إضافة إلى ظهورها و تبلورها من خلال الدول التي تعترف بها، ثم بينا أن المشرع الجزائري و من خلال الحقبة الاستعمارية التي مر بها كان يقبل الإحالة آنذاك، على اعتبار أن القضية الشهيرة فورجو كانت فرنسا داخل الأراضي الجزائرية و بالتالي ألزم بالأخذ بها، كما أنه من خلال الدراسة العميقة للمادة 23 مكرر1 الفقرة الثانية من القانون المدني الجزائري الجديد، يتبين بأنه نص صراحة على قبوله الإحالة.
أما المبحث الثاني و الذي جاء تحت عنوان ″الرفض المبدئي للإحالة من طرف المشرع الجزائري″، فقد حاولنا من خلاله أن نبرز أن هذا الأخير، و بصفة أولية يرفض الإحالة، وذلك من خلال القانون المدني في أحكامه العامة ، حيث نجد أنه ذكر الإحالة الداخلية في المادة 23 من القانون المدني المعدل، دون ذكره للإحالة الدولية، مما نستشف معه بصفة ضمنية رفضه لها، على أساس أنه من المتعارف عليه و عملا بالقاعدة الكلية التي تنص على أنه: "عندما يؤكد النص القانوني قاعدة ما فمعناه أنه ينكر عكسها", إضافة إلى عدم وجود نص في القانون المدني يتحدث عن الإحالة الدولية، و ما ذلك إلا دليلا على رفضه لها، و بعد إضافته للمادة 23مكرر1 من القانون المدني الجديد في الفقرة الأولى، رفض الإحالة مطلقا، وجعل الرفض في الفقرة الأولى، دليلا على أنها هي القاعدة العامة، أما الأحكام الخاصة و التي نجد أن المشرع الجزائري ذكر أنه لا يمكن الأخذ بالإحالة مطلقا في بعض التصرفات، و ذلك عندما يكون القانون الواجب التطبيق هو قانون إرادة المتعاقدين، على أساس أن الأفراد أحرار في اختيار القانون الذي يحكمهم في تلك التصرفات، و الثاني هي التصرفات الواردة على العقار، ذلك أن هذا الأخير يخضع لقانون موقعه، و بالتالي لا تصح الإحالة في هذا الفرض.
وقد اعتمدنا في إنجازنا لهذه المذكرة، على جملة من المراجع و التي تباينت ما بين قوانين الدول ، خاصة أن هذا الموضوع يتضمن اللجوء إلى القانون المقارن، كان أبرزها القانون المدني الجزائري من خلال نصي المادتين 23 و 23 مكرر01، والقانون الفرنسي، لأن معظم القوانين الجزائرية مستمدة منه ، إضافة إلى كون أن الإحالة ظهرت على يد القضاء الفرنسي، و بالتالي يجب علينا أن ندرسها من خلال جذورها.
إضافة إلى قانون المعاملات المدنية الإماراتي، كون أن مادته التي تتحدث عن الإحالة متطابقة مع المادة 23 مكرر01 من القانون المدني الجزائري، و القانون التونسي, وهذا الأخير رفض الإحالة من خلال مجلة القانون الدولي الخاص التونسي ، إضافة إلى اعتمادنا على كتب فقهية، وكان أهمها كتاب للدكتور على على سليمان في دراسته لشرح القانون الدولي الخاص الجزائري , و الدكتور هشام علي صادق في كتابه تنازع القوانين ، و الدكتور اسعد موحند في القانون الدولي الخاص ، قواعد التنازع في طبعتيه الفرنسية و العربية المترجمة، و المرجع الفرنسي للمؤلفين Paul lerbous.pigeonnière- Yvon loussouarn الذي أخذنا منه النظرية العامة للإحالة .
و قد واجهتنا في إعداد هذا الموضوع جملة من الصعوبات، لعل أبرزها التناقض الموجود في المادة 23 مكرر01 من القانون المدني ، خاصة أن المشرع الجزائري لم يذكر لنا قصده من ذلك ، إضافة إلى صعوبة الموضوع ، حيث وجدنا أن كل دولة لها موقف خاص بها تجاه الإحالة ، فمنها من تقول أنها ذات أهمية بالغة فتأخذ بها ، و هناك من تقول أنها دون ذلك فتستبعدها، و هذا ما أضفي على الموضوع نوعا من الصعوبة ، وما زاد من صعوبة الموضوع، قلة المراجع التي تتحدث عن هذا الموضوع، و إن وجدت فإنها تذكر فقط المبادئ العامة للإحالة دون أن تقدم تفسيرا واسعا لها، إضافة إلى عدم وجود أي حكم قضائي أو قرار يتحدث عن الإحالة، بمعنى انعدام التطبيقات القضائية له.
تعد مشكلة تطبيق قواعد الإسناد ] التي يتضمنها القانون الواجب التطبيق، أو ما جرى الفقه على تسميته بمشكلة الإحالة، والتي تعتبر من أهم الموضوعات النظرية العامة لتنازع القوانين ] من أبرز المواضيع التي ما زالت محل نقاش من طرف فقهاء القانون الدولي الخاص، و لجلاء مضمون تلك المسألة ارتأينا أولا التعريف بماهية أو ما المقصود بالإحالة؟ ثم ظهورها فأنواعها.
المطلـب الأول: مفهـوم الإحالة:
إن للإحالة مفهوم واسع على الصعيد الدولي و الداخلي، وعلى الرغم من عدم وجود تعريف محدد ودقيق لها ، إلا أننا نجد بعض الفقهاء والمؤلفين من أعطاها تعريف ولو أنه سطحي وذلك استنادا إلى الوظيفة العامة التي تقوم بها .
الفـرع الأول: تعريف الإحالة:
لكي نتعرف على ماهية الإحالة ينبغي أولا التذكر بأن لكل دولة قواعد موضوعية داخلية تطبق على رعاياها في علاقاتهم الداخلية، والى جانبها قواعد أخرى خاصة بتنازع القوانين، و داخلة في القانون الدولي الخاص وتطبق على العلاقات ذات العنصر الأجنبي[1]، و هي تختلف من دولة إلى أخرى نتيجة لخصوصيتها لاسيما في مجال الأحوال الشخصية والتي تحدد بضابط الإسناد، بحيث تسندها بعض الدول لقانون الجنسية، بينما تخضعها دول أخرى لقانون الموطن، وهذا الاختلاف يطرح مشكل التنازع بين قواعد الإسناد الوطنية، و قواعد الإسناد الأجنبية[2].
فإذا طرح نزاع أمام القاضي الوطني بشأن منازعة ذات عنصر أجنبي، فان أول ما يقوم به هو تكييف تلك العلاقة[3]، وذلك ضمن طائفة من طوائف قانون القاضي، ثم يذهب إلى قاعدة الإسناد الوطنية، فإذا أشارت هده الأخيرة إلى تطبيق القانون الأجنبي، تعين حينئذ معرفة القواعد الواجبة التطبيق في هذا القانون، لأن هذا الأخير شأنه في ذلك شأن القانون الوطني، بحيث يشمل على نوعين من القواعد : قاعدة إسناد تحدد القانون الواجب التطبيق في المنازعات المشتملة على عنصر أجنبي، و قاعدة موضوعية تتكفل مباشرة بإعطاء الحل النهائي للنزاع، أما إذا أشارت قاعدة الإسناد الوطنية إلى تطبيق قواعد التنازع في القانون الأجنبي، فنكون بصدد الحل جديد و هو التذرع إلى الحل الذي تمليه قاعدة الإسناد فيه.
و الجدير بالذكر أنه في حالة ما اتفقت قواعد الإسناد في قانون القاضي مع قواعد الإسناد في القانون الأجنبي، فلا مجال للتنازع بينهما بخلاف لو اختلفت فيما بينهما[4].
وبناءا على هذا فان التنازع حاصل مهما كانت نوع القاعدة، والذي يأخذ إحدى الصورتين:
ا)-التنازع السلبي:
وهنا تكون قاعدة الإسناد في قانون كل دولة لها علاقة بالنزاع، تسند الاختصاص إلى قانون أجنبي غير قانونه، فمثلا لو تعلق الأمر بأهلية انجليزي متوطن في الجزائر، فوفقا لقاعدة الإسناد الجزائرية، فان القانون الانجليزي هو المختص، على أساس أن المشرع الجزائري يطبق قانون الجنسية على أهلية الأشخاص و حالتهم، و ذلك طبقا لنص المادة10 من القانون المدني الجزائري، ووفقا لقواعد الإسناد في القانون الانجليزي، فإن القانون الجزائري هو مختص، كون أن المشرع الانجليزي يطبق قانون الموطن على أهلية الأشخاص وحالتهم[5]. و بالتالي فإن كلا من القانونين يرفض الاختصاص، وهذا هو التنازع السلبي.
ب)-التنازع الايجابي :
و هنا نكون بصدد الحالة العكسية للتنازع السلبي، بحيث تكون قاعدة الإسناد في قانون كل دولة لها علاقة بالنزاع ، متمسكة باختصاص قانونها، فمثلا: إذا توفي شخص من جنسية ألمانية في فرنسا، أين يوجد موطنه الأخير، و ترك أموالا منقولة هناك ، فإذا عرض النزاع على القاضي الألماني ، فانه يتمسك بالاختصاص على أساس أن قواعد الإسناد فيه تقضي بخضوع الميراث في المنقولات إلى قانون جنسية المتوفى، لكن لو عرض النزاع على القاضي الفرنسي لتمسك هذا الأخير أيضا بالاختصاص، بحجة أن القانون الفرنسي يخضع الميراث في المنقولات لقانون موطن المتوفى.
إلا أنه و في هذه الحالة الأخيرة، لا يثار أي إشكال، فكل قاض يطبق قانونه، ففي المثال السابق، فإذا عرض النزاع على القاضي الألماني، فانه يطبق قانونه أي القانون الألماني طالما أصبح مختصا دون اللجوء إلى قواعد الإسناد فيه ، وإذا عرض النزاع على القاضي الفرنسي، فانه هو الآخر يطبق قانونه أي القانون الفرنسي، و ذلك لاختصاصه[6] ، وبناءا عليه فان هذه الحالة لا يثور بشأنها تتنازع القوانين، طالما أن الحل متوفر، و هو كل قاضي يطبق قانونه.
و لكن المشكل الذي يثار و هو في الحالة الأولى، ألا وهو التنازع السلبي، حيث نجد أن كل من القانونين يدفع بعدم الاختصاص ، فما هو الحل ؟ و ما مصير العلاقة المشتملة على عنصر أجنبي؟ ومن هنا و في هذه الحالة نكون بصدد مسالة أو نظرية الإحالة، و التي و بالرغم من عدم إعطاءها المفهوم الدقيق لها ، إلا أنه يمكن أن نستدل ببعض الفقهاء الذين عرفوها تعريفا سطحيا، على أنها:″ النظرية التي تقضي بتطبيق قواعد التنازع في القانون الأجنبي المختص طبقا لقانون القاضي في حالة اختلاف ضابطي الإسناد في القانونين″ [7] ، و الإحالة بالرغم من الانتقادات الموجهة إليها ، فقد جاءت من جديد من طرف الأستاذ فرانسكيس في بحثه " نظرية الإحالة و تنازع الأنظمة في القانون الدولي الخاص " باريس1958
"la théorie du renvoi et les conflits de systèmes en droit International privé ,Paris 1958"
و هو يرى أن هذه النظرية هي وسيلة أو إجراء تنظيمي ، و الذي يعطي الفعالية التي لا بد أن تكون مراقبة في ارتباطها مع الهدف المسطر ، الهدف الذي يضبط بصفة جيدة، فالإحالة لا بد أن تكون محصورة في المفهوم الذي تجعل الهدف المسطر يفي بتطبيقها المهم[8].
و إذا أردنا أن نحلل مصطلح الإحالة في حد ذاته، فيمكن أن نقول أنه أطلق عليها باعتبار أن القانون الأجنبي الذي أشارت بتطبيقه قاعدة الإسناد، لا يتكفل مباشرة بإعطاء الحل النهائي في النزاع، و إنما تحيل حله إلى قانون آخر، و غني عن البيان، و كما اشرنا إليه سابقا، فمشكلة الإحالة لا تثير أدنى صعوبة فيما لو اتحدت قواعد الإسناد في كل من دولة القاضي والدولة الأجنبية ، و إنما تعد الصعوبة فيما لو اختلفت قاعدة الإسناد في القانون الأجنبي عنها في القانون الوطني.
فالقاضي الفرنسي المعروض عليه النزاع المتعلق بأهلية إنجليزي مثلا، هل ينصاع إلى قاعدة الإسناد الانجليزية التي تحيل إلى أحكام القانون الفرنسي ، أم يطبق القواعد الموضوعية في القانون الانجليزي دون أن يعبأ بما تشير به قواعد الإسناد في هذا القانون[9] ؟ وهذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا البحث.
إلا أن هذه النظرية (نظرية الإحالة) لم تأت عبثا ، و إنما كانت وليدة عدة نزاعات و قضايا ، و قد أكدت كتب القانون الدولي الخاص الإنجليزي، إلى أن المحاكم الإنجليزية، و منذ عام 1841 قد طبقت نظرية الإحالة في قضية متعلقة بوصية انجليزي متوطن في بلجيكا، و طبقت المحكمة الانجليزية المفاهيم البلجيكية إحالة من القانون البلجيكي إلى القانون الإنجليزي، و اعتبرت المحكمة الانجليزية نفسها كما لو هي في بلجيكا ، { القضية الإنجليزية الرائدة الصادرة في عام 1841 و تعرف ب colière v ring } و التي واجهتها هذه الأخيرة بشأن الوصية و قد كان القانون البلجيكي و الذي هو نفس المادة 13 من القانون الفرنسي المدني (قانون نابليون)، يشترط على الأجنبي أن يترك وصية في بلجيكا ، و حتى يخضع إلى القانون البلجيكي، أن تكون له إقامة قانونية مشروعة، أما وصية الأجنبي الذي ليست له إقامة قانونية مشروعة فإنها تخضع إلى قانونه الشخصي، و كانت هذه الوصية قد تمت في بعضها وفق القانون البلجيكي و ليس وفق القانون الإنجليزي .
لكن هذه القضية لم تصمد لفترة طويلة حتى تم نقضها عام 1861 بقضية (v. Freemen bremer)، بحيث رفضت المحكمة الانجليزية الاعتراف بوصية تمت في فرنسا من قبل انجليز مقيمين فيها (وفق القانون الانكليزي للموطن) أما في انجلترا ( أي الموطن)، فأن الموصية لم تطبق المادة 13 من القانون المدني الفرنسي، لأنها نكرت بأن الوصية قد تمت وفق الشكل الإنجليزي ، وليس وفق الشكل الفرنسي، و هذا هو القرار الأول الذي طبقت فيه النظرية الإحالة ، أما القضية الأولى فقد طبقت فيها قاعدة الرجوع البديل (rulle of alternative ) , كما أن هناك قضية أخرى طبقت فيها المحكمة الانجليزية الإحالة، وذلك عام 1903 في (johnson inre)[10]،غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن نظرية الإحالة كان لها الفضل في الظهور عن طريق القضاء الفرنسي بالرغم من أنها طبقت لأول مرة في أنجليرا، وإنما استعمالها و توظيفها كان في فرنسا[11]، وذلك من خلال القضية المشهورة "فورجو" و التي كانت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، وهي من أولت الاهتمام بالنسبة للقضاء و الفقه في آن واحد.
و تتلخص وقائع القضية في أن ولد طبيعي يدعى "فورجو" ولد في إقليم بافاريا، ولكنه عاش في فرنسا وهو صغير، وأقام هو وأمه إقامة فعلية فيها، دون أن يكون لهما موطنا هناك، وكان القانون الفرنسي في ذلك الوقت، يتطلب الحصول عل ترخيص إداري بالتوطن القانوني الفرنسي، وهذا الأمر لم يكن فورجو و أمه يحوزان عليه ، إلا أنه وبعد كبره، تزوج من امرأة فرنسية ثرية، والتي ماتت وتركت له ثروة طائلة، بعدها توفي هو الآخر وترك تلك الثروة، فطالب حواشي أمه تلك التركة، في حين كان القانون الفرنسي لا يعطي الحق في ميراث الولد الطبيعي(أي الولد الغير الشرعي)، إلا لأبويه وأولاده وإخوته فقط، فاعتبرت الدولة الفرنسية تلك الأموال كأموال شاغرة، واستولت عليها مصلحة الأملاك الفرنسية، لكن حواشي أمه استندوا إلى القانون البافاري، الذي يعطي الاختصاص إلى قانونه، وهذا الأخير يسوي في الميراث بين الولد الشرعي والولد الغير الشرعي[12]، فقضت محكمة الاستئناف "بو" "peau" برفض طلبهم في 11-03-1874 على أساس أن فورجو كان متوطن في فرنسا، و بالتالي فإن القانون الفرنسي هو الذي يسري عليه، فنقض حواشي أمه في هذا الحكم، وحكم لهم على أساس أن فورجو لم تكن لديه رخصة التوطن، وبالتالي إقامته كانت فعلية غير قانونية في فرنسا، ولذلك يطبق عليه القانون البافاري، وأحيلت القضية من جديد إلى محكمة بوردو، والتي حكمت لصالح الورثة تطبيقا لقواعد القانون البافاري الداخلية، إلا أن مصلحة الأملاك الفرنسية طعنت الحكم على أساس أن القانون البافاري يسوي في الميراث، بين المواطن القانوني والمواطن الفعلي، فنقض الحكم مرة أخرى في24-06-1878، لأنه كان عليه أن يطبق قواعد التنازع في القانون البافاري، التي تحيل بالنسبة لميراث المنقولات إلى قانون موطن الهالك الفعلي وهو القانون الفرنسي.
و على اثر ذلك أحيلت القضية مرة أخرى إلى محكمة الاستئناف تولوز والتي قضت في22-05-1880 بما أشارت إليه محكمة النقض، إلا أن الورثة طعنوا في هذا الحكم مرة أخرى بالنقض، لأنه طبق قواعد التنازع في القانون البافاري دون قواعده الداخلية، ولكن محكمة النقض رفضت الطعن في 22-02-1882[13]، ومن هنا تبلورت فكرة نظرية الإحالة وبرزت إلى عالم القانون الدولي الخاص.
والمتمعن في هذا الحكم يتضح له أمرين:
1)- أن محكمة النقض، رأت قبول الإحالة التي بعث بها القانون الأجنبي الواجب التطبيق وأنه يتعين على القاضي الفرنسي أن يتلق هذه الإحالة ويطبق القواعد الموضوعية في قانونه المحال إليه.
2)- أن الحل النهائي للنزاع، لا شك مختلف بحسب ما إذا كنا نأخذ بالإحالة أم نرفضها، فلو أن محكمة النقض رفضت الإحالة، وأيدت محكمة استئناف بوردو ذلك ، لآلت التركة إلى حواشي فورجو ، إلا أن المحكمة أخذت بالإحالة، وألغت حكم الاستئناف وطبقت الفانون الفرنسي، فلم يثبت للحواشي الحق في الإرث، وغدت التركة شاغرة، فآلت من ثمة إلي الدولة الفرنسية[14].
ومنذ قرار فورجو ومحكمة التمييز الفرنسية وهي في هذا الاتجاه، حيث صدر عدة قرارات على هذا النحو :
1)- قرار سولييه، أول آذار 1990 ويتعلق بالتركة.
2)- قرار بيرشال ت 10 آيار1938، وقرار براد فورد تاريخ أول نسيان 1954 و يتعلقان بطلاق بين زوجين انجليزيين مقيمين في فرنسا.
3) قرار سومر: في 08 كانون الاول1953 ويتعلق بالبنوة الطبيعية[15].
و قد سارت معظم الدول على هذا النحو، فمنها من قبل الإحالة، وهناك من رفضها على النحو الذي سنبينه لاحقا.
الفـرع الثاني: صـور الإحالة:
إذا كان النظام القانوني لدولة القاضي المختص بنظر النزاع ذي الطابع الدولي، يأخذ بالإحالة، أي إعمال قواعد الإسناد في القانون الواجب التطبيق ، فإن الإحالة التي تقدرها هذه القواعد لها نوعين و هما :
أ)- الإحالة من الدرجة الأولى :
و هذا النوع أطلق عليها اسم الإحالة الحقيقية[16]، أو الضرورية ، أو إحالة الرجوع [17]، فوفقا لهذا النوع من الإحالة ، تحيل قاعدة الإسناد الأجنبية النزاع المشتمل على العنصر الأجنبي إلى قانون القاضي ، وعلى ذلك فإن هذه الصورة تتحقق إذا توافرت المقتضيات الآتية:
- أن تشير قاعدة الإسناد في قانون القاضي إلى تطبيق قانون أجنبي.
- الإحالة تعني أن المقصود بالقانون الأجنبي المختص، القانون الأجنبي في جملته بما يتعين معه على القاضي الوطني أن يبدأ أولا بمخاطبة قواعد الإسناد فيه، فهنا يجد أنه يتخلى عن اختصاصه، و يرده إلى قانون القاضي نفسه، ومثال هذه الحالة أن تثور أمام القاضي الجزائري منازعة متعلقة بميراث منقولات خاصة بفرنسي متوطن في الجزائر، فإذا طبق القاضي الجزائري قاعدة الإسناد، فإنه سيعقد الاختصاص للقانون الفرنسي، بوصفه قانون جنسية المتوفى وقت الوفاة، فإذا رجع القاضي إلى قاعدة الإسناد الفرنسية، لوجد أنها تعقد الاختصاص في الميراث الوارد على منقول لقانون آخر موطن للمتوفى، و هو القانون الجزائري[18] .
و قد طرحت هذه المسألة(أي الحالة من الدرجة الأولى) لأول مرة أمام القضاء الفرنسي، في القضية الشهيرة "فورجو" ، فقد كانت هذه الإحالة من الدرجة الأولى، لما أحال القانون البافاري الاختصاص للقانون الفرنسي[19].
ب)- الإحالة من الدرجة الثانية
و يسميها البعض بالإحالة المطلقة[20] ، و هذا النوع يكون في حالة إحالة النزاع إلى القانون الأجنبي بمقتضى قاعدة إسناد وطنية، مثلها مثل الحالة الأولى، لكن القانون الأجنبي هنا لا يتعقد الاختصاص ، وإنما ووفقا لقاعدة الإسناد فيه، يحيلها إلى قانون دولة ثالثة[21] ومثال ذلك: إنجليزي متوطن في الدانمرك، وعرض نزاع متعلق بحالته الشخصية على القاضي الجزائري، فوفقا لقواعد الإسناد الجزائرية، فإن الاختصاص يعقد للقانون الإنجليزي بوصفه قانون الجنسية ، لكن قواعد الإسناد في هذا القانون ترفض الاختصاص وتعقده للقانون الدنمركي، باعتباره قانون الموطن، فإذا كان القانون الجزائري يقبل الإحالة من الدرجة الثانية ،فإنه سيطبق على هذا النزاع القانون الدنمركي، الذي أحالت إليه قواعد الإسناد الإنجليزية، وهذا بشرط أن تقبل قواعد الإسناد في القانون الدنمركي هذا الاختصاص[22]،و يمكن للقانون الأجنبي أن يحيل الاختصاص إلى قانون دولة ثالثة ،والذي يقوم بدوره بالإحالة إلى قانون آخر، و هكذا وبما أن أي قانون لا يمكن أن يطبق دون أمر صادر عن قاعدة تنازعيه ، فإن كل طرف يكتفي بإحالة الكرة، و هذا ما أطلق عليه كاهن اسم "غرفة المرايا" وبوراتي باسم لعبة" كرة المضرب الدولية"[23].
و يمكن لهذه الحالة أن لا تتوقف، و يستمر كل قانون بإحالة الاختصاص إلى قانون آخر، أو يرتد الاختصاص من أحد هذه القوانين المتعاقبة، إلى قانون سبق استشارة قواعد الإسناد فيه، فلا مناص في هذه الحالة من الرجوع عن فكرة الإحالة، وتطبيق الأحكام الموضوعية في القانون الأجنبي الذي أشارت قاعدة الإسناد باختصاصه إبتداءا ، ويرى الإستاد باتيفول أن الإحالة يمكن ردها في الأحوال التي تؤدي فيها هذه الفكرة إلى الحلقة المفرغة ، و يقول أنه إذا أدت إلى تسلسل طويل، والذي يتم الانتقال بمقتضاه من قانون إلى أخر، فإن الإحالة تكون غير واقعية وغير منطقية، كون أنها تبنى في حد ذاتها عن الصعوبات العملية المتعددة التي يمكن أن يواجهها القضاء في هذا الشأن، بل و إن الأخذ بفكرة الإحالة من الدرجة الثانية، سيؤدي إلى صعوبة العلم المسبق بالقانون الواجب التطبيق ، مما يخل باستقرار المعاملات الدولية، إذ يتوقف الأخذ بالإحالة على موقف القاضي في كل حالة على حدا، ووفقا لما تؤدي إليه من حلقة مفرغة من عدمه، وعلى هذا النحو يشير الأستاذ باتيفول إلى أنه، إذا عرض على القاضي الفرنسي نزاع يتعلق بأهلية دانمركي مثلا متوطن في إيطاليا ، فإن قواعد الإسناد الفرنسية، ستقضي باختصاص القانون الدانمركي بوصفه قانون الجنسية، و عند استشارة قواعد الإسناد في هذا الأخير، نجدها تؤدي إلى تطبيق القانون الإيطالي بوصفه قانون الموطن، فإذا رجعنا إلى قواعد الإسناد فيه، نجدها تقضي باختصاص قانون الجنسية ، و هو القانون الدنمركي في حالتنا، و في مثل هذا الفرض، الذي يرتد فيه الاختصاص لقانون سبق استشارة قواعد الإسناد فيه، و يقرر الأستاذ باتيفول من أنه لا مناص من تطبيق الأحكام الموضوعية في القانون الدانمركي بوصفه القانون الذي أشارت قاعدة الإسناد في قانون القاضي (الفرنسي) باختصاصه إبتداءا [24].
كما أن الأستاذ يرى أن الأخذ بالإحالة من الدرجة الثانية، لا يتصور إلا في الفروض التي تتطابق فيها قاعدة الإسناد في كل من الدولة المحيلة و الدولة التي تمت الإحالة إلى قانونها (فكرة الحلقة المفرغة) ، و إذا أردنا أن نوضح الأمر نسوق المثال الأتي ، إذا عرض على القضاء الفرنسي نزاع يتعلق بأهلية إنجليزي متوطن في الدانمرك ، فإن إعمال قواعد الإسناد الفرنسية سيؤدي إلى تطبيق القانون الانجليزي[25] بوصفه قانون الجنسية، ولكن باستشارة قواعد الإسناد فيه إعمالا للإحالة(أي استشارة قواعد التنازع في القانون الإنجليزي أولا) فإنها ستشير في هذا الفرض بتطبيق قانون الموطن، وهو القانون الدنمركي، ولكن وبالرجوع إلى قواعد الإسناد في هذا القانون الأخير نجدها تتطابق مع قواعد التنازع الإنجليزية، لأنها تشير بدورها بتطبيق قانون الموطن، أي القانون الدنمركي نفسه، وعلى هذا النحو تنتهي الحلقة المفرغة لصالح القانون الدنمركي، لتطابق قواعد الإسناد فيه مع قواعد الإسناد في القانون الإنجليزي، الذي أحال إليه[26]، فمن هنا يتعين أن نطبق القواعد الموضوعية في القانون الدنمركي دون اللجوء إلى قواعد التنازع الدولية.
غير أن تسمية الإحالة(أي المصطلح ) من الدرجة الثانية هو مجرد تسمية فقط، ذلك أنه يمكن إحالة القضية إلى محكمة ثالثة و رابعة كما سبقت الإشارة إليه.
و هذا النوع من الإحالة لاتأخد به معظم الدول، إلا أنه يوجد هناك حكم لمحكمة النقض الفرنسية07 مارس1938، والذي لاحظ فيه الأستاذ باتفول من عباراته، ملامح تطور جديد نحو إمكان الأخذ بالإحالة من الدرجة الثانية، فقد أكدت المحكمة في معرض حيثياته:« وجوب الأخذ بالإحالة التي يقررها قانون جنسية الأجنبي إلى القانون الذي يحكم الميراث من دولة أخرى، والذي يمكن أن يكون القانون الفرنسي، كما هو الشأن في مثل هذه الحالة» وهذه الملامح التي لاحظها الأستاذ تكمن في أنه وبالرغم من أن الحكم يتعلق بالإحالة إلى القانون الفرنسي، وهي إحالة من الدرجة الأولى، إلا أن عباراته جاءت مطلقة فهي تتضمن معنى التسيلم بالإحالة إلى قانون آخر غير القانون الفرنسي، أي التسيلم بالإحالة من الدرجة الثانية[27].
غيران هناك حكم جديد لمحكمة النقض الفرنسية والصادر بتاريخ15 ماي1963، والذي أقرت فيه صراحة ما انتهى إليه قضاة الموضوع، بالنسبة لرفض الحكم بتطليق زوجين يتمتعان بجنسية دولة«بوليفيا»أخذا بإحالة قانون هذه الدولة، والمختص بموجب قواعد الإسناد الفرنسية، إلى القانون الإسباني الذي يرفض الطلاق، وبوصفه قانون محل إبرام الزواج ، حقا أن حكم محكمة النقض السابق يتسم بطابع خاص، باعتبار أن الإحالة إلى القانون الإسباني، لم تتم بناء على إعمال قواعد الإسناد في دولة بوليفيا، وإنما استنادا إلى ما قررته الأحكام الموضوعية في هذه الدولة، وهي التي علقت الاعتراف بالطلاق في هذا الفرض على شرط أن يكون ذلك جائزا بمقتضى قانون محل إبرام الزواج و هو القانون الاسباني في القضية المطروحة، ومع ذلك فالملاحظ أن محكمة النقض الفرنسية قد اعتبرت شرط الرجوع إلي قانون يلد إبرام الزواج ، والمقرر بمقتضي الأحكام الموضوعية في قانون دولة بوليفيا من قبيل (الإحالة الجزئية )، و هو ما دعا جانبا في الفقه الفرنسي إلى الاستناد على هذا الحكم باعتبار أنه يكشف عن بداية ملامح تطور جديد نحو الاعتراف بالإحالة من الدرجة الثانية .
كما أن هناك حكم آخر اعترف صراحة بالإحالة من الدرجة الثانية ، و هو الحكم الصادر بتاريخ 19 مارس 1965، حيث طبقت المحكمة، القانون التركي بشأن الدعوى المطروحة أمامها رغم أن قواعد الإسناد الفرنسية قد أشارت بتطبيق القانون الانجليزي، و أقامت المحكمة قضائها السالف على أساس أن قواعد الإسناد الانجليزية ترفض الاختصاص المعروض عليها و تشير بوجوب تطبيق القانون التركي[28].
ويمكن أن نقول أنه مهما كان الهدف الذي ترمي إليه الإحالة من الدرجة الثانية، إلا أنه يعاب عليها مبالغتها في طول الإجراءات والتسلسل الطويل الذي ينجر عن إتباعها، لأنها تتعلق بإحالة قضية من دولة إلى أخرى ، و هذا ما يجعل المعاملات الدولية غير مستقرة، حيث أن الأستاذ باتيفول قدم نفس الانتقاد الذي وجهناه إليها.
ومن الدول التي أخذت بالإحالة نجدها قد ركزت عليها في درجتها الأولى دون الثانية ويتضح ذلك من خلال عدم وجود أي حكم قضائي أو قرار ينص على ذلك، إلا في فرنسا و التي بدأت تعترف بالإحالة من الدرجة الثانية كما سبق الإشارة إليه، حيث أننا نجد أن الحكم السابق الذي أدرجناه، هو فقط الموجود على الساحة القانونية و الذي يمكن الاستدلال به.
و منه يمكن أن نقول أنه لتطبيق الإحالة بصفة عامة و بنوعيها لا بد:
1- أن يكون النزاع الذي طرح أمام القاضي الوطني، نزاع مشتمل على عنصر أجنبي.
2- أن يكون قانون القاضي يتضمن قاعدة تنازعية مختلفة، عن القاعدة التنازعية في القانون المختار من طرف القانون الوطني :
أ)- سواء ترجع هذه القاعدة الاختصاص إلي القاضي الوطني نفسه الناظر في الدعوى، ومن هنا نكون أمام الإحالة من الدرجة الأولى
ب)- سواء تحيل الاختصاص إلى قانون دولة أخرى غير قانون القاضي، و نكون هنا أمام الإحالة من الدرجة الثانية[29].
المطـلب الثاني: تكرس الإحالة من طرف المشرع الجزائري.
لقد تكلم المشرع الجزائري عن الإحالة و جسدها في قانونه، وذلك إما من خلال، إلزامية خضوعه للقانون الفرنسي إبان الاستعمار، و الذي كان يعترف آنذاك و إلى حد كبير بالإحالة ، أو من خلال القانون المدني، حيث نجد أن القانون المدني الجديد قد تحدث عن الإحالة وقبلها ، كما سيأتي بيانه.
الفرع الأول: قبول المشرع الجزائري للإحالة من خلال إلزامية خضوعه للقانون الفرنسي إبان الحقبة الاستعمارية .
إن مشكلة الإحالة عرضت على القضاء الانجليزي مند عام 1841 و على القضاء الألماني مند عام 1861[30]، إلى أن استقرت و عرفت مجراها في القضية المشهورة لدى القضاء الفرنسي، و هي قضية « فورجو» والتي كانت سنة 1875، أي أثناء الحقبة الاستعمارية للجزائر[31]، حيث و كما تعلم أن الجزائر كانت محتلة (مستعمرة) من طرف الدولة الفرنسية مند سنة 1830، و بالتالي فانه بعد هذا التاريخ أصبح إقليم الجزائر إقليما فرنسيا، و كل القوانين الفرنسية كانت تطبق على الجزائريين آنذاك، و هذا ما يدل على أن قضية « فورجو » والتي طبقت فيها الإحالة كانت تطبق على الجزائريين، حتى بعد سنة 1875، حين قامت الدولة الفرنسية في الفترة الممتدة من 1925 إلى1975 بإعطاء الجنسية الفرنسية للجزائريين، و اعتبرت الجزائر مقاطعة فرنسية بصفة نهائية، و قامت بإدماج الجزائر في فرنسا .
و بالتالي فان القوانين الفرنسية كانت آنذاك سارية المفعول و تطبق على الأشخاص المتواجدين في إقليمها، حتى بالنسبة للجزائريين كونهم كانوا يتجنسون بالجنسية الفرنسية، و ذلك من منطلق أن القانون الداخلي هو قانون الأفراد (وفي هذه الحالة يخاطب كل من الجزائريين و الفرنسيين ) داخل نطاق دولة معينة، وهي الدولة الفرنسية التي كانت مستعمرة للجزائر[32] حتى وبعد صدور دستور الجزائر سنة 1947 و الذي جاء من أهم بياناته : الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا، فقد كرس هو الآخر تطبيق القانون الفرنسي. فمن خلال كل هذه المدة، كانت الجزائر تطبق نظرية الإحالة داخل إقليمها و على الأشخاص المتواجدين فيها خاصة بعد إلغاء المحاكم الجزائرية و استبدالها بالمحاكم الفرنسية و مثول الجزائريين أمامها، ومن هنا يمكن أن نقول أن الجزائر قبلت الإحالة بصفة ضمنية طيلة الاستعمار الفرنسي، فإذا أردنا أن نوضح الأمر أكثر نورد المثال الآتي مثلا لو تعلق الأمر بأهلية انجليزي مقيم بالجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي، والنزاع المعروض أمام المحاكم الفرنسية في الجزائر، فالقاضي المعروض عليه النزاع يستشير أولا قاعدة التنازع الأجنبية أي الانجليزية، و التي تشير إلى تطبيق قانون الموطن، و الموطن هنا هو الجزائر، أما القانون الذي يحكمها هو القانون الفرنسي، و يكون نفس الأمر لو تعلق النزاع بميراث منقولات لجزائري، فان القاضي الفرنسي هنا يطبق الإحالة على ذلك النزاع، و يمكن أن يؤول الاختصاص إلى قانون دولة أخرى.
و بصفة عرضية نكون قد طبقنا الإحالة داخل إقليم الجزائر، و السبب في ذلك إن خضوع الجزائريين للقانون الفرنسي نابع من علاقة الموطن، و الذي كان آنذاك فرنسيا فالعلاقة بلا وطن هي كالجنسية المنعدمة، و الإبقاء على هذه العلاقة دون قانون، يتتبع المساس بمبدأ إحقاق الحق، فليس من علاقة أوـ فرد ـ يستطيع البقاء خارج فلك النظام القانوني[33]، وعلى ذلك لا يمكن للجزائريين البقاء دون قانون يحكمهم، فكان عليهم لزوما الخضوع للقانون الفرنسي مما يستلزم معه الخضوع لنظرية الإحالة، فمن هذا المنظور نجد أن الجزائر والتي كانت خاضعة للقانون الفرنسي ، طيلة فترة الاستعمار، كانت تعترف بالإحالة من الدرجة الأولى تبعا للقانون الفرنسي.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث أن الجزائر حتى وبعد الاستقلال كانت تعترف بنظرية الإحالة إلى حد ما، لأن معظم القوانين الفرنسية آنذاك ظلت سارية المفعول، إلا ما تعلق منها بالدين الإسلامي، وظل العمل بدستور فرنسا لفترة وجيزة، إلى غاية إلغائه و استبداله بالقانون الجزائري، و معنى كل هذا أن انطلاقة الجزائر كانت نحو قبول الإحالة كما صورها المشرع الفرنسي.
الفرع الثاني: تكرس الإحالة من خلال نص المادة 23 مكرر 01 فقرة 02
المضافة بموجب القانون رقم 05-10 من القانون المدني.
تنص المادّة 23 مكرر01 من القانون المدني الجزائري على أنه « إذا تقرر أن قانونا أجنبيا هو الواجب التطبيق، فلا تطبق منه إلا أحكامه الداخلية دون تلك التي تتعلق بتنازع القوانين من حيث المكان.
غير أنه يطبق القانون الجزائري إذا أحالت عليه قواعد تنازع القوانين في القانون الأجنبي المختص » وهذا النص مستحدث بموجب القانون رقم 05 - 10 المؤرخ في 20 يونيو 2005 ، فالقارئ للفقرة الثانية دون أن يتمعن في الفقرة الأولى له، يرى أن المشرع الجزائري قد أخد صراحة بالإحالة، كون أن النص شمل على عبارة "إحالة قواعد التنازع إلى قانون الجزائري" ، ونعلم أن الإحالة هي نظرية تقضي بتطبيق قواعد التنازع في القانون الأجنبي المختص طبقا لقانون القاضي في حالة اختلاف ضابطي الإسناد في كلا القانونين[34]، فهذا الحل الجديد لتنازع القوانين هو حكم لا يؤثر في تطبيق القانون الجزائري على الجزائريين المقيمين في الخارج مادام ضابط الإسناد للأحوال الشخصية في الجزائر هو قانون الجنسية[35]، فإذا عرض على القاضي نزاع مشتمل على عنصر أجنبي، فإنه يرفض الاختصاص ويحيله مرة أخرى إلى القانون الجزائري، و هذا طبقا للحل الوارد في الفقرة الثانية من المادة 23 مكرر1 من القانون المدني الجزائري.
و لكن إذا ما قمنا بقراءة المادة بكاملها، لكي نرى المركز القانوني للفقرة الثانية منها، لوجدناها غير مبررة، كون أنه نص في الفقرة الأولى على رفض الإحالة مطلقا بمعنى أن القاضي الجزائري عندما يعرض عليه نزاع مشتمل على عنصر أجنبي، فانه يطبق القواعد الموضوعية فيه دون أن ينظر في قواعد التنازع ، كما نصت الفقرة الأولى على ذلك، ثم ينص في هذه الفقرة الثانية على أنه يطبق الإحالة بمعنى أنه ينظر في قاعدة التنازع للقانون الأجنبي، ألا يعتبر هذا تناقص من طرفه، خاصة وأنه لم يبين أسباب وضع هذه الفقرة، وما هو الهدف الذي يريد الوصول إليه، أو بعبارة أخرى لماذا كرس المشرع الجزائري الإحالة في هذه الفقرة ؟ أيعتبر ذلك قبولا استثنائيا للإحالة نظرا و أن بعض الفقهاء أكدوا على ضرورتها ، و أكدوا أن الجزائر هي دولة مصدرة و مستوردة للسكان ، وأكثر من مليون من سكانها مثلا يوجدون في فرنسا[36]، و بدون الإحالة يجد القاضي نفسه أمام معضلة معرفة كل القوانين الداخلية للدول، أم أنه سهو من طرف المشرع الجزائري ؟ ويمكن الرٌد على هذا التساؤل بعدم وجود أي حكم أو قرار أو قضية تقضي بالإحالة ،فنقول أن المشرع الجزائري قد تأثر بالقوانين المقارنة، ووضع الفقرة الثانية من المادة 23 مكرر 01 من القانون المدني ،ولكنه لم يوفق في وضعها، على أساس انه كيف يمكن للقاضي الناظر في الدعوى أن يطبق حكمين متناقضين، فمتى يجب عليه أن يطبق الفقرة الأولى ومتى يطبق الفقرة الثانية، ومن هنا نقول أن المشرع الجزائري بتكريسه للإحالة في الفقرة الثانية يكون قد أخطأ في حكمه ، و لم ينتبه إلى ما هو مقصود في هذه الفقرة، بحيث تعتبر هذه الأخيرة كتحصيل حاصل، وما هي الفائدة التي تلقاها حين أدرجها، فيكون قد زاد على القاضي من عناء التعب، في الذهاب إلى قواعد الاسناد الأجنبية، فكان على المشرع الجزائري أن لا يضيف هذه الفقرة كليا، وترك فقط الفقرة الأولى لوحدها، ورفض الإحالة مطلقا.
ولا نرى أن المشرع الجزائري فقط من اكتفى بهذا الحكم، حيث نجد المشرع الإماراتي قد نص كذلك في نفس المادة على حكمين متناقضين، وذلك في مادته 26 من قانون المعاملات المدنية، والتي جاء فيها على النحو الأتي: «إذا تقرر أن قانون أجنبيا هو الواجب التطبيق، فلا يطبق منه إلا أحكامه الداخلية دون التي تتعلق بالقانون الدولي الخاص، على أنه يطبق قانون دولة الإمارات العربية المتحدة إذا أحالت على قواعده نصوص القانون الدولي الخاص المتعلقة بالقانون الواجب التطبيق »[37] ،ونعتقد أن المشرع الجزائري قد تأثر بالمشرع الإماراتي في نص هذه المادة كونها جاءت متطابقة ، إلا أن هذا الأخير لم يترك الأمر هكذا، و إنما قام بالتعليق بوجود الفترة الثانية ،على أنها توحي بإحدى المعنيين وهما الأول: قبول دولة الإمارات العربية المتحدة الاختصاص التشريعي المسند لقانونها طبقا لقواعد التنازع في القانون الأجنبي، والثاني: هو قبول إحالة القانون الأجنبي على قانون دولة الإمارات العربية، وأكد على ذلك بوجود عبارة«على أنه» والي تفيد معنى التحفظ عن الفترة الأولى، حيث أننا نجد ذلك في مذكرته الإيضاحية لقانون المعاملات المدنية على أنه أورد قاعدة عامة والمكرسة في الفقرة الأولى من المادة26من نفس القانون ، وأورد عليها استثناء منصوص عليه في الفترة الثانية من نفس المادة، كما أكد على أنه يعمل بهذه الأخيرة كلما دعت قاعدة الإسناد لذلك، وهو حكم أيضا غريب كون أنه، لا يمكن أن نأمر القاضي في الدعوى أن يستبعد الإحالة، ثم ننص في فقرة ثانية على الأخذ بها كلما دعت قاعدة الإسناد إلى ذلك, معناه أن القاضي دائما يرى قواعد الإسناد الأجنبية، ويرى ما هو مفيد لحل النزاع، فهذا يعتبر مجهود مبالغ فيه بالنسبة للقاضي، حيث يجد نفسه في كل مرة يقارن فيها بين قاعدة الإسناد الأجنبية، على من تحيل النزاع و القواعد الموضوعية لذلك القانون، فهذا فيه تعب بالنسبة للقاضي و المتقاضي.
ويرى بعض الفقهاء أن للإحالة أهمية بالغة، و أوردوا مثال قضية فورجو والتي بموجبها تمكنت الدولة الفرنسية من الظفر بالتركة، و التي اعتبرت شاغرة تطبيقا للقانون الفرنسي[38]، إلا أنه يجب أن ننظر من جانبين كي نتأكد أن للتقنية أهمية، فإذا نظرنا من جانب آخر لوجدنا أن التركة لولا الإحالة لألت إلى حواشي ًفورجوً ففي هذه القضية فقط أين ظفرت الدولة الفرنسية بالثروة، ولكن إذا سقنا مثالا عكسيا لآلت التركة إلى حواشي فورجو، وبالتالي تكون الإحالة هنا لغير صالح الدولة الفرنسية ، ومن هنا نقول أنه ليس في كل الأحوال الإحالة تؤدي إلى نتائج هامة.
ونجد أن بعض الدول العربية قد أخذت بالإحالة و لكن في درجتها الأولى، ومنه المشرع العراقي من خلال المادة461 من القانون التجاري العراقي، و المادة 28 منه و المعدلة[39] ،
حيث نجد أنه في كل المراحل التي قام فيها بتعديل قانونه نص على الأخذ بالإحالة، فالمادة 28 نصت على أنه: "يرجع في تحديد أهلية الالتزام بمقتضى الحوالة، إلى قانون الدولة التي ينتمي إليها الملتزم بجنسية ، فإذا أحال هذا القانون إلى قانون دولة أخرى كانت القواعد الموضوعية في قانون تلك الدولة هي الواجبة للتطبيق"[40]، فمن خلال هذا النص نرى أن المشرع العراقي قد أخد بالإحالة من الدرجة الأولى ، كون أن معظم الدول المؤيدة للإحالة تقبلها في درجتها الأولى دون الثانية[41] .
أما بالنسبة للمشرع الأردني ، فنجده قد أتى بحكم خاص، بالرغم من أنه أخد هو الآخر بالإحالة، في حالة وجود نص خاص أو اتفاقية وذلك في نص المادة 24 من القانون المدني الأردني[42] ، و التي نصت على أنه : " لا تسري أحكام المواد السابقة إذا وجد نص في قانون خاص أو معاهدة دولية نافذة في المملكة الأردنية الهاشمية يتعارض معها" إلا أنه في المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الأردني جاء فيها أن الحكم الخاص يحد من إطلاق الحكم العام[43].
- كما أن هناك نص خاص يقضي بالإحالة وهو الفقرة (ح) من المادة الرابعة من قانون رقم 08 ، ففي الفقرة (أ) من هذه المادة أخضع توزيع الأموال المنقولة للمتوفى إلى قانون بلاده، ثم وفي الفقرة (ج) منها أجيز الأخذ بالإحالة إلى قانون محل الإقامة أو القانون الديني بنصها : ًإذا كان قانون البلاد الذي ينتمي إليها المتوفى، ينص على تطبيق قانون محل الإقامة أو القانون الديني، يطبق القانون المنصوص على تطبيقه بهده الصورة"[44].
أما بالنسبة للدول الأجنبية الأخرى، فنجد إنجلترا، فقد أخذت بالإحالة، ولكن بالنظرية المسماة الإحالة الكلية و التي يسميهاTheory foreign court، فطبقا لهذه النظرية، على القاضي الانجليزي أن يفصل في النزاع المشتمل على عنصر أجنبي طبقا للحل الذي كان من المفروض أن ينتهي إليه القاضي الأجنبي ، و لتوضيح الأمر نسوق المثال الآتي: فمثلا لو كان انجليزيا متوطنا في ايطاليا ،توفي عن تركة تنحصر في مال منقول ، فقاعدة التنازع الانجليزية تقضي بأن يطبق على ميراثه آخر موطن له ، و هو القانون الايطالي , و لو كان القاضي الايطالي هو الذي ينظر في هذا النزاع ، فلسوف يطبق على هذا الميراث قانون جنسية الموروث، طبقا لقاعدة التنازع في قانونه، وهو القانون الانجليزي , في حين أن هذا الأخير يحيل على القانون الايطالي باعتباره قانون موطن المورث، لكن القاضي الايطالي لا يقبل الإحالة، و ذلك طبقا لنص المادة30 من قانونه المدني، فهو مضطر حينئذ أن يطبق على هذا الميراث القواعد الموضوعية في القانون الانجليزي الواجب التطبيق في هذا المثال ، و على القاضي الانجليزي أن يأخذ بنفس الحل و يفصل في النزاع طبقا لقانونه الذي كان على القاضي الايطالي تطبيقه، وقد أخذ القضاء الانجليزي بهذا الحل ، في بعض المسائل المحدودة، و هي الميراث في المنقول و الطلاق و تطبيق حقوق عينية على عقارات كائنة في الخارج[45]، و لا نجد أن القضاء الانجليزي وحده من أخذ بهذه النظرية فقط، بحيث أخذ القضاء البلجيكي بها وذلك منذ قضية فورجو الشهيرة في فرنسا[46].
كما نجد أيضا القانون الإسباني قد تبنى الإحالة وذلك في مادته 12 من القانون المدني والتي تقبلها إذا كانت تؤدي إلى تطبيق القانون الاسباني ،أي قانون دولة المحكمة التي تنظر في النزاع ،وهذا الحكم هو نفسه الوارد في المادة 04 من القانون المجري، أما القانون الدولي الخاص النمساوي ،فقد ذهب هو الآخر في المادة 05 منه بنظرية الإحالة إلى أقصى درجاتها، ويتوقف بالقواعد الموضوعية للقانون الذي يقبل الاختصاص لنفسه بحكم النزاع أو الذي يتلقى الإحالة أولا.
أي أن المادة 05 تقبل الإحالة إلى تقدرها قاعدة الإسناد الأجنبية للقانون النمساوي (القواعد الموضوعية منه)، كما أنها تأخذ بالإحالة من قبل المحاكم النمساوية، إلى قانون دولة ثالثة أو رابعة[47].
إضافة إلى قبولها من طرف كل من ألمانيا و السويد و اليابان و بولونيا ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وكذلك سويسرا[48].
أما من جانب الاتفاقيات الدولية، فنجد اتفاقية لاهاي للزواج لعام 1902، واتفاقية لاهاي الخاصة بنفاذ الزواج لعام 1976، و التي تنص على أن" الحق في إبرام الزواج يحكمه قانون جنسية كل من الزوجين ، إلا إذا كان هذا القانون يشير صراحة إلى تطبيق قانون آخر" .
كذلك اتفاقية جنيف بشأن الكمبيالات و السندات الأذنية في المادة 02 منها لعام 1932 الخاصة بتوحيد الأحكام بهذه الأوراق لكونها أداة وفاء للتجارة الدولية، والتي نصت على أنه : "إذا كان قانون الجنسية يحول الاختصاص لقانون آخر ، فإن هذا القانون الأخير هو الذي يسرى " فكلا من هاتين الاتفاقيتين نصت على الإحالة.
فنلاحظ من خلال الدول التي أخذت بالإحالة، فمعظمها قد أخذت بها في صورتها الأولى.
المبحث الثاني: الرفض المبدئي للإحالة من طرف المشرع الجزائري.
لقد رفض المشرع الجزائري نظرية الإحالة كباقي التشريعات الأخرى، وذلك بعد استقرار قوانينه، و إلغاء القانون الفرنسي الذي كان يعترف بها آنذاك، و بالتبعية اعترفت الجزائر بها إبان الاستعمار الفرنسي، وقد عبر عن رفضه بطريقتين الأولى المنصوص عليها في القانون المدني ، والثانية المنصوص عليها بموجب مواد خاصة.
المطلب الأول: الأحكام العامة لرفض الإحالة في القانون المدني:
لقد كرس المشرع الجزائري رفضه للإحالة من خلال نصوص القانون المدني، سواء قبل التعديل بموجب القانون رقم 05-10 المؤرخ في 20 يونيو 2005 أو بعده.
الفرع الأول: الرفض الضمني من خلال المادة 23 من الأمر رقم 75-85 المتضمن القانون المدني.
تنص المادة 23 من القانون المدني على أنه "متى ظهر من الأحكام الواردة في المواد المتقدمة أن القانون الواجب تطبيقه هو قانون دولة معينة تتعدد فيها الأنظمة التشريعية فإن القانون الداخلي لتلك الدولة هو الذي يقرر النظام التشريعي الذي يجب تطبيقه"
غير أن هناك من علق على هذه المادة، وقال أنه يوجد خطأ فيها ،أي في الصياغة الفنية لها وذلك باعتماده عبارة الأنظمة التشريعية، و أكد على ضرورة استبدالها بتعدد الشرائع،مسببا رأيه على أن المقصود هو اختلاف الطوائف الدينية، و بالتالي اختلاف القانون الشخصي تبعا لذلك[49]، إلا أنه يعاب على هذا التحليل كون ذكره فقط لتعدد النظام الشخصي باختلاف الطوائف الدينية المعترف بها في الدولة التي ينتمي إليها الأشخاص، ولم يذكر تعدد الأنظمة التشريعية، فمثلا في الدولة الفيدرالية حيث تتمتع كل دولة أو مقاطعة بنظام قانوني داخلي خاص.
وبالتالي نقول أن المادة 23 من القانون المدني القديم كانت تشمل المعنيين، سواء تعدد الأنظمة التشريعية أو تعدد الشرائع، وكل حسب مفهومه، ففي هذه الحالة تنص على توزيع الاختصاص داخليا على مختلف الأنظمة التشريعية أو الشرائع، لكن هذه المادة لم تعالج الحالة التي تكون فيها الدولة متعددة تشريعيا ولا يوجد نص في القانون الأجنبي يوزع هذا الاختصاص فهنا نكون أمام فراغ قانوني.
و إذا أردنا أن نفسر نص المادة 23 من القانون المدني القديم ، لوجدنا أنها تتكلم عن الإحالة الداخلية فقط، و التي أخذ بها معهد القانون الدولي في دورته المنعقدة في 1880، إضافة إلى بعض التشريعات الوضعية مثل القانون البولوني الصادر في 1926 و القانون السويدي الصادر في 1997، فطبقا لهذا النص إذا وجب تطبيق قانون أجنبي على نزاع متعلق بالأحوال الشخصية، و كان البلد الذي يجب تطبيق قانونه من بين البلاد التي تتعدد فيها الشرائع الداخلية، سواء إقليميا أو طائفيا ، فإن قواعد التنازع الداخلي هي التي تتولى تحديد الشريعة الواجبة التطبيق من بين هذه الشرائع المتعددة، و من هنا نجد أن المشرع الجزائري لم يتحدث عن الإحالة الدولية و التي بموجبها يتخلى القانون الواجب التطبيق عن حكم العلاقة القانونية التي تخضع له، وإحالة الحكم إلى قانون دولة أخرى، و إنما تحدث عن الإحالة الداخلية و التي لا يتخلى فيها القانون الأجنبي الواجب التطبيق عن حكم العلاقة، وإنما هو يعين الشريعة التي يجب تطبيقها من بين الشرائع المتعددة في دولته، و يجري هذا التعيين طبقا لقواعد التنازع الداخلي بين الشرائع.
ومن هنا نلاحظ أن المشرع الجزائري قبل إضافته للمادة 23مكرر 01 من القانون المدني ، سكت عن الإحالة الدولية و لم يحدد موقفه القاطع منها مما يعتبر ذلك على أنه رفض لها بنوعها[50]، على أساس أن السكوت لا يمكن الاعتداد به خاصة في ميدان القانون الذي لا يجيز القياس، و يمكن تفسيره على أن الأصل هو عدم الأخذ بالإحالة الدولية لأنه نص في المادة 23 من القانون المدني على الإحالة الداخلية فقط ، والإحالة هي استثناء من الأصل ، وبالتالي فإذا عرض على القاضي الجزائري نزاع مشتمل على عنصر أجنبي، فإن عليه أن يتخلى عن القانون الجزائري في الحكم والرجوع إلى القواعد الداخلية في القانون الأجنبي، و تطبيقها على هذا النزاع ، دون الرجوع إلى قواعد التنازع في هذا القانون[51]. و الذي يؤكد رفض المشرع الجزائري الإحالة الدولية هو عدم وجود أي اجتهاد قضائي ينص على ذلك لا على مستوى محاكم الدرجة الأولى، لا وعلى مستوى الاستئناف ، مما يدل على قصده في رفض الإحالة مطلقا[52]، وكما يلاحظ على الصعيد الدولي نقص في القضايا التي تبرز الإحالة خاصة بالنسبة للدول التي تأخذ بها، و هذا ما يوحي على بداية الاستغناء عنها .
إلا أن المادة 23 من القانون المدني تضمنت أفكارا غير كافية لتطبيق قواعد التنازع الواردة في المواد من 10 إلى 20 من نفس القانون. و يعتبر هذا قصور من جانب المشرع الجزائري و يجب تفاديه [53].
ويرى الأستاذ علي علي سليمان : على أنه حبذا ولو أخذ المشرع الجزائري بالإحالة من الدرجة الأولى، وذلك في مجال الأحوال الشخصية، حيث أن الجزائر هي دولة مستوردة للأجانب وليست مصدرة لأهلها ، وكثيرا من هؤلاء الأجانب من أصل أنجلوساكسوني، وبلادهم تنيط الأحوال الشخصية بقانون الموطن ، فالمشرع الجزائري يرفضه للإحالة يكون قد طبق على هؤلاء الأجانب قوانينهم الشخصية و هي عديدة، و ترهق القاضي الجزائري بحيث يجب الرجوع إليها ، كما أن ذلك يؤدي إلى تضييق مجال تطبيق القانون الجزائري[54]. إلا أن هذا الرأي يعاب عليه، كونه لا يعرف الواقع الجزائري، حيث أن الجزائر هي دولة مستوردة للسكان و مصدرة لها، فنجد أن أكثر من سكانها متواجدين في فرنسا، إضافة إلى أن غالبية الجالية الأجنبية المقيمة في الجزائر ليست من أصل أنجلو أمريكي[55] .
و إذا جئنا إلى تحليل باتيفول والذي يرى أنه مادام أن المشرع الجزائري يعرض على القاضي الرجوع إلى القانون الداخلي الأجنبي لتحديد النظام القانوني الذي سيطبقه من بين الأنظمة المتعددة فيه ، فلماذا يرفض ذلك، لما يكون القانون الداخلي الأجنبي هو الذي يعين نظاما قانونيا أجنبيا[56]، فمثلا إذا توجب على القاضي الجزائري أن يستشير القانون الداخلي الأجنبي أي القانون الاتحادي ، كالقانون الفيدرالي الأمريكي لتحديد ما إذا كان القانون الواجب التطبيق هو قانون فلوريدا أم كاليفورنيا ، فإنه نفس الشيء إذا عين ذات القانون الإنجليزي أو الإيطالي، وكما هو الحال في بلدان الشرق الأوسط العربية، حيث يكون القانون الواجب التطبيق، سنيا، شيعيا، درزيا ، كاثوليكيا ، فإذا تعلق الأمر بالحالة الشخصية لمواطن لبناني أو سوري ، فإن تحديد و تطبيق القانون الدرزي أو اليوناني الأرثوذكسي من قبل القاضي الجزائري ليس أسهل عليه من تحديد و تطبيق القانون الفرنسي أو الألماني المعين بناءا على إحالة قاعدة التنازع الأمريكية[57].
وبناءا على ذلك نرى أن المشرع الجزائري، قبل تعديل القانون المدني لم ينص على الإحالة الدولية مطلقا، وبالتالي نفسر ذلك على أنه رفض لها.
ومن هذا المنطلق نرى أن الإحالة من الدرجة الأولى تطرح قضية صعبة بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط، والتي تضم داخل حدودها تنوعا دينيا ، ولأنه ليس بوسع القاضي معرفة الطائفة التي يرتبط بها الأجنبي، فهذا الأخير يظهر في القانون الدولي بانتهائه الوطني، لا الديني ومن المعتذر ربطه بأخذ الحقوق الوضعية التابعة لقاضي الدعوى[58].
و من هنا ، وما دام أن المشرع الجزائري تحدث فقط عن الإحالة الداخلية و لم يتحدث عن الإحالة الدولية، مما يفسر ذلك على أنه رفض ضمني لها، و إذا أردنا أن نِؤكد ذلك، على أساس سكوت المشرع الجزائري ، نرى بأنه منذ صدور القانون المدني إلى يومنا هذا لا توجد أية قضية أو حكم ينص على تطبيق قواعد التنازع الأجنبية، إضافة إلى أنه و من خلال دراستنا للإجراءات التي يقوم بها القاضي الجزائري عندما يعرض عليه نزاع مشتمل على عنصر أجنبي، لا نجد احتكامه لقواعد التنازع في ذلك القانون، و إنما يطبق القواعد الموضوعية فيه مباشرة، و هذا ما يؤكد لنا استبعاد المشرع الجزائري للإحالة.
الفرع الثاني: الرفض من خلال المادة 23 مكرر 01 الفقرة الأولى
من القانون المدني الجديد:
تنص المادة 23 مكرر 01 من القانون المدني على أنه:« إذا تقرر أن قانون أجنبيا هو الواجب التطبيق فلا تطبق منه إلا أحكامه الداخلية دون تلك الخاصة بتنازع القوانين من حيث المكان.
غير أنه يطبق القانون الجزائري إذا أحالت عليه قواعد تنازع القوانين في القانون الأجنبي المختص »
من خلال الفقرة الأولى من المادة، نرى أن المشرع الجزائري قد رفض صراحة الإحالة من خلال مصطلح « دون الخاصة بتنازع القوانين من حيث المكان »، معنى ذلك أنه إذا عرض على القاضي الجزائري نزاع مشتمل على عنصر أجنبي، فإنه لا يطبق قاعدة الإسناد المقررة في ذلك القانون، و إنما يطبق القانون الداخلي له، وهذا الحكم هو حكم جديد تم تعديله بموجب القانون رقم 05 - 10 المؤرخ في 20 يونيو 2005، وبموجبه خرج عن الغموض الذي كان سائدا حول الإحالة، بحيث أنه قبل التعديل لم يتخذ موقفا منها سواء بالرفض أو القبول، إلا أن الفقهاء فسروا ذلك الصموت على أنه رفض لها، باعتبار أن الإحالة هي استثناء من القاعدة العامة ألا وهي تطبيق القواعد الداخلية للقانون الأجنبي دون قواعد الإسناد فيه، لكن إذا اتخذ المشرع الجزائري موقفا من الإحالة على أساس رفضها مطلقا و بنوعيها، فما هو الأساس القانوني للفقرة الثانية من نفس المادة، والتي تنص على قبول الإحالة، ألا يعتبر ذلك تناقصا، فمن جهة ينص في فقرته الأولى على رفض الإحالة مطلقا، ويوجب على القاضي عندما يعرض عليه نزاع مشتمل على عنصر أجنبي أن يطبق القواعد الموضوعية في ذلك القانون دون قواعد الإسناد فيه، ثم يأتي في الفقرة الثانية بحكم آخر يقضي فيه بقبول الإحالة، فما هو الحل الذي يعمل به القاضي، هل حكم الفقرة الأولى، أم الفقرة الثانية من المادة 23 مكرر 01 من القانون المدني ؟
ومن هنا نجد أن بعض الأساتذة قام بالإجابة عن هذا السؤال، حيث حلل الأستاذ الطيب زروتي في دراسته لأحكام تنازع القوانين الدولي في الجزائر بقانون 05-10، و الذي يؤكد على أن المشرع الجزائري عندما يعرض عليه نزاع مشتمل على عنصر أجنبي ، فانه يكون أمام حلين أو احتمالين، الأول هو قبول الاختصاص أو رفضه و يكون هنا قد طبق الفقرة الأولى من المادة 23 مكرر 01 من القانون المدني، بمعنى رفض الإحالة على أساس أن القاضي يطبق القانون الأجنبي المعين بواسطة قاعدة التنازع الجزائرية ، أما الاحتمال الثاني، و هو رفض ذلك القانون الاختصاص، و في هذه الحالة يحيله مرة أخرى إلى القانون الجزائري بوصفه قانون القاضي، و هنا يطبق القانون الجزائري عملا بالفقرة الثانية من المادة 23 مكرر01 من القانون المدني ونكون هنا قد طبقنا الإحالة من الدرجة الأولى[59].
و لكن هدا التحليل يفتقد نوعا ما إلى الوضوح ، خاصة وأنه أكد على أن القاضي يكون أمام احتمالين، الأول هو رفض الإحالة، و الثاني هو قبول الإحالة ،ولكن السؤال الذي سيبادر دائما إلى أذهاننا، و هو متى نكون أمام الاحتمال الأول، ومتى نكون أمام الاحتمال الثاني، فإذا طبق القاضي الجزائري القواعد الموضوعية في القانون الأجنبي عملا بالفقرة الأولى من المادة 23 مكرر 01 ،فلماذا عليه أن يذهب إلى قواعد الإسناد فيه (القانون الأجنبي)، وعملا بالفقرة الثانية من المادة 23 مكرر01 ، وبعبارة أخرى عندما يطبق القاضي الجزائري القواعد الموضوعية في القانون الأجنبي، فما هي الفائدة حينئذ من الرجوع إلى قواعد الإسناد فيه، و لو فرضنا أنه رجع إليها، فيكون بالتالي أمام حلين، فإما أنه يجد نفس الحل، و هذا لا إشكال فيه، و إما أنه يجد حلا مغايرا، ففي هذه الحالة يصعب عليه حل النزاع المعروض أمامه.
ومن خلال كل ما سبق نستنتج أن المشرع الجزائري قد رفض الإحالة مطلقا وبنوعيها، إلا أنه وضع الفقرة الثانية اعتباطيا و دون قصد وضعها، كونه نقلها من القانون المقارن فلا مبرر لوجودها، فالقاضي الجزائري يطبق القواعد الموضوعية في القانون الأجنبي دون الرجوع إلى قواعد الإسناد فيه، و يكون بهده الحالة قد رفض الإحالة، و هذا الرفض ناتج لعدة أسباب و التي تستبعدها الإحالة، حيت أنها تؤدي إلى حلقة مفرغة في بعض الأحيان خاصة إذا كانت في كل مرة تحال القضية إلى قانون يرفض الاختصاص، فيجد القاضي نفسه في كل مرة يحيل الاختصاص إلى قانون دولة أخرى، و هي بدورها تحيله إلى قانون دولة ثالثة، و هذا ما يؤدي إلى عدم استقرار المعاملات و ضياع الحقوق،
إضافة إلى أنها تؤدي إلى نتائج غير منطقية، خاصة في دول الإسلامية و التي تتعلق بعض قوانينها بالديانة ، فيمكن أن نطبق على مسيحيين الديانة الإسلامية وهذا غير منطقي،إضافة إلى أنه لا يمكن أن نطبق قانون دولة ما على أشخاص متمتعين بجنسية أخرى بسبب أنهم متوطنين فيها فقط.
وإذا أردنا أن نوظف نظرية نبواييه، و الذي يؤكد نظرية بارتن في السيادة كأساس لحل النزاع، و مبدأ الإقليمية في تطبيق القوانين، فنقول أن السيادة مؤيدة بفكرة الإقليمية ، ويمكن الوصول إلى نتيجة مماثلة عبر طريق آخر غير الإحالة ، بحيث يرى أن استقلال الدول وحريتها الكاملة في وضع القواعد التي تراها اكتر ملائمة لحل النزاعات سواء ما تعلق باختصاصها أو ما يتعلق بالصلاحية الأجنبية، كفيل بنظرية الإحالة (أي كفيل برد نتائج الإحالة ) ، و يقول أن قبول الإحالة يصطدم دائما بفكرة السيادة ، ويهدف إلى استبدال السيادة الوطنية بسيادة أجنبية ، و هو ما يتناقض بالمبدأ الأساسي و هو قانون الشعوب،
(droit des gens ) فيقول أن أية دولة عندما يعرض عليها نزاع و ترفض الاختصاص، فيعتبر ذلك الاختصاص غير مؤسس، إذا قررت اختصاصا أجنبيا في النزاع كون أنه الأنسب لحكم العلاقة ، ويرى أن هذه النظرية على ضوء مبدأ الإقليمية في تطبيق القانون، principe de territorialité خاطئة، و يمكن الوصول إليها دون المساس يهدا المبدأ الذي هو أساس قاعدة النزاع، و ذلك بطريقتين :
- إما عن طريق قاعدة مفردة الاتجاه، بحيث يتعين على قاعدة التنازع أن تحدد اختصاص قوانينها الوطنية دون الاهتمام بتحديد اختصاص القانون الأجنبي ، فهي تعلن إما اختصاص قانونها الوطني أو عدم اختصاصه، فقاعدة الإسناد الوطنية تحدد قاعدة الإسناد الوطنية، و قاعدة الإسناد الأجنبية تحدد قاعدة الإسناد الأجنبية [60].
- وإما على أساس قاعدة مزدوجة الاتجاه، و هنا يكون اختصاص القانون الأجنبي بمجرد عرضه و يسقط بمجرد رفضه[61] .
و بالتالي فان الإحالة تصطدم بمبدأ الإقليمية و مبدأ سيادة الدول، و هذا من أسباب رفضها.
ولعل أهم أسباب رفض الإحالة هو مجال الأحوال الشخصية، و التي تعرف على أنها مجموعة العناصر المتعلقة بالوضع القانوني للشخص بصفته الخاصة و بعلاقته بأسرته، و التي يحكمها قانون الدولة التي يرتبط بها الشخص بواسطة الموطن أو الجنسية[62].
ولقد نص المشرع الجزائري في المادة 10من القانون المدني الجزائري على انه :«تسري القوانين المتعلقة بالحالة المدنية للأشخاص و أهليتهم على الجزائريين ولو كانوا مقيمين في بلاد أجنبية» و هكذا أناط المشرع الجزائري الأحوال الشخصية بقانون الجنسية، حيث أنه وضع قاعدة تنازع فردية كما فعل المشرع الفرنسي في المادة 03 من القانون المدني، و أخضع أهلية الجزائريين و حالهم للقانون الجزائري، و بمفهوم المخالفة فانه يطبق على الأجانب قانون جنسهم، وقد سار عكس المشرع المصري و الليبي و غيرهما من القوانين العربية و التي جعلت قاعدة التنازع ازدواجية فيما يتعلق بالأحوال الشخصية لا سيما في المواد التالية الخاصة ببقية الأحوال الشخصية و غيرها، و سار على جعل قاعدة التنازع ازدواجية وخالف القانون الفرنسي و الجزائري في ذلك[63].
إلا أن نظرية الإحالة لا يمكن تصورها في هذا الفرض، لان الجزائر مستمدة قوانينها الشخصية من الشريعة الإسلامية، التي تعرف تطبيقها تعددا طائفيا ـ سني ـ درزي ـ شيعي ـ مالكي ـ حنفي، وتطبيقها بالنسبة للأجانب صعب، و قد يكون ذلك لصالحهم كتعدد الزوجات مثلا[64]، كما أن الأفراد المتواجدين في بلد معين يسعون دائما إلى الخضوع بما تمليه عليهم أحكام الديانة التي يعتنقونها.
أما الأستاذ علي علي سليمان فيرى عكس ذلك، إذ يرى ضرورة الأخذ بالإحالة في مجال الأحوال الشخصية، بحجة أن الجزائر هي دولة مستوردة للسكان وليست مصدرة لها و كثيرا من هؤلاء الأجانب من أصل أنجلوامريكي، إلا أن هذا التحليل يعاب عليه أنه يجهل الواقع الجزائري فمتى كانت الجزائر دولة مستوردة لسكانها فالمعروف عليها أنها دولة مصدرة لهم ، إضافة إلى أن ذلك غير صحيح بأن الجالية الأجنبية المقيمة في الجزائر من أصل انجلوامريكي.
- كما أن الدكتور الطبيب زروتي، يرى بأن سبب رفض الإحالة هو كون الأحوال الشخصية مرتبطة بالديانة، ويرى أنها هي المجال الواسع لها، ويرى أنه مادامت هي وسيلة للتنسيق بين أنظمة قانونية مختلفة، و الجزائر تؤكد بقانون الجنسية في الأحوال الشخصية ، ونظرا لوجود جالية أجنبية في الجزائر لبلاد سند الأحوال الشخصية لقانون الموطن، فإن الأخذ بالإحالة سوف يوسع من نطاق تطبيق القانون الجزائري على هؤلاء الأجانب، وهذا الحكم لا يؤثر في تطبيقه على الجزائريين المقيمين داخل الوطن[65]، و لكن يمكن أن نطبق قانون الشريعة الإسلامية على غير المسلم، كأن يكون مسيحيا أو يهوديا.
كما أن بعض الفقهاء و المناصرين للإحالة رفضوها في مادة الأحوال الشخصية خاصة إذا اختلفت الأسس التي يقوم عليها كل من قانون القاضي و القانون الأجنبي المختص، الذي أحالت قواعد الإسناد إليه، خاصة بالنسبة للدول التي ترتبط فيها الأحوال الشخصية بالعقائد الدينية، والتي تتعدد فيها الشرائع الداخلية المنظمة لها باختلاف الطوائف الدينية، كما هو الشأن في كل من مصر و لبنان، فمثلا إذا تعلق الأمر بانجليزيين متوطنان في مصر أو الجزائري، فانه يطبق عليهما القانون الانجليزي بوصفه قانون الجنسية، أما إذا أخذنا بالإحالة، فإننا نرجع إلى قواعد الإسناد في القانون الانجليزي، و التي تسند الاختصاص لقانون الموطن، وهو القانون الجزائري و الذي يطبق هدا الأخير الشريعة الإسلامية، فإذا كان الزوجان مسيحيان فمن المنطقي أن يؤدي ذلك إلى نتائج غير مقبولة و غير منطقية[66].
ومن الأسباب أخرى لرفض الإحالة من طرف المشرع الجزائري، هي مسألة توسيع نطاق اختصاص القاضي الجزائري، و الذي يعد عملا سلبيا، كون القانون الجزائري في بعض الأحيان لا يكون في صالح الأجانب، إذا طبق على كافة القضايا ذات العنصر الأجنبي، إضافة إلى أنه قد تؤدي هذه النظرية إلى نتائج سلبية ففي المثال السابق فالزوجان المسيحيان طبقا عليهما القانون الجزائري المستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية، بمعنى يصبح المسيحيان يعملان بقواعدها، وهذا غير منطقي، و يمكن أن يكون في غير صالحهما.
و على هذا الأساس نجد أن أغلب الدول العربية قد رفضت الإحالة بنوعيها، إلا أن كل دولة قدمت الأسباب التي من وراءها قررت هذا الرفض، ومنها المشرع المصري[67] بحيث رفضها أولا في مادة الأحوال الشخصية فقط، ثم تراجع على هذا الحكم ورفضها في جميع المسائل[68]، على اعتبار أن مصر هي الأخرى تأخذ بالشريعة الإسلامية في مجال الأحوال الشخصية، إلا أنه و بعد فترة، رأى أن الإحالة تكون غير منطقية في جميع الحالات، كون أنها تؤدي إلى الإنقاص من سيادة الدولة المحيلة، لذا تم استبعادها مطلقا من مجال التطبيق.
وقد أخذت بعض الاتفاقيات الدولية بهذا الاتجاه، ومنها اتفاقية لاهاي المنعقدة في:
15-06-1955 ، و التي قضت بقبول الإحالة فيما يتعلق بالأحوال الشخصية على أن تكون من قانون الجنسية إلى قانون الموطن ، ورفضها في الحالة العكسية، ( أي رفض الإحالة عندما تؤدي إلى إحالة الاختصاص من قانون الموطن إلى قانون الجنسية )، كون أن الحالة الأولى يترتب عليها رجوع الفصل في النزاع إلى قانون القاضي، و مثال ذلك انجليزي متوطن في فرنسا، يقوم بتصرف مرتبط بأهليته، فالقاضي الفرنسي سوف يطبق عليه قانون جنسيته طبقا لقاعدة التنازع في القانون الفرنسي، و لكن قاعدة التنازع في قانون جنسيته، و هو القانون الانجليزي، تقضي بتطبيق قانون الموطن، و هو القانون الفرنسي فتجوز الإحالة، أما لو حدث العكس فان قاضي قانون الموطن يطبق قانونه دون إحالة[69].
ومن خلال ما سبق نجد أن استبعاد الإحالة مطلقا، من طرف المشرع الجزائري ، هو أمر محتوم ، كون أن هذه النظرية، بقدر ما تحقق من أهمية، بقدر ما تؤدي إلى نتائج غير منطقية.
أما بالنسبة للدول العربية التي رفضت الإحالة مطلقا، فنجد القانون المصري المشار إليه سابقا، حيث رفضها في نص المادة 27 منه ونص على أنه "إذا تقرر أن قانونا أجنبيا هو الواجب التطبيق فلا تطبق منه إلا أحكامه الداخلية دون التي تتعلق بالقانون الدولي الخاص".
وكذلك القانون الليبي يرفضها في مادته 28 منه[70]، و السوري في مادته 29 من القانون المدني[71]، و المادة 28 من القانون المدني الأردني[72]، و المادة 72 من القانون الكويتي رقم 05 الخاص بتنظيم العلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي.
أما القانون التونسي، فقد رفض الإحالة هو الآخر، و ذلك من خلال المادة 35 من مجلة القانون الدولي الخاص التونسي[73]، و أكد على أن هذا الرفض راجع إلى النتائج السلبية التي يمكن أن ترتبها الإحالة خاصة بالنسبة للدول التي تتعلق قوانينها المرتبطة بالأحوال الشخصية بالعقيدة الإسلامية شأن في ذلك الجزائر، بينما أخذ المشرع المغربي بما أخذت به باقي تشريعات القانون المقارن.
ـ غير انه لا نجد أي حكم قضائي أو قرار أو حتى قضية، تنص على تطبيق القاضي للإحالة، و هذا ما يدل على أنها لم تكن تحضى بأهمية الفقهاء، نظرا لعدم جديتها و أهميتها، و هذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أنها في زوال و انقطاع ، و بالتالي كان على الدول أن تقوم برفضها، و تكرس ذلك الرفض في قوانينها.
المطلب الثاني: أحكام خاصة برفض الإحالة
لقد رفض المشرع الجزائري الإحالة في القاعدة العامة المقررة في القانون المدني إضافة إلى أنه استبعدها بشأن بعض التصرفات القانونية، حيث نص على ضابط الإسناد الذي يحكمها دون التمسك بالإحالة، و يكون ذلك في حالتين.
الفرع الأول: استبعاد الأخذ بالإحالة لما يكون القانون الواجب التطبيق هو
قانون إرادة المتعاقدين:
إن المقصود بقانون الإرادة الصريحة أو الضمنية، هو الأحكام الموضوعية في القانون المختار[74]، وهذا المبدأ أطلق عليه مبدأ سلطان الإرادة، و يقال أن سافييني هو أول من استعمل هذا الاصطلاح في القرن التاسع عشر، كما قيل أن الفيلسوف أوجيست كونت هو أول من استعمله، وكان الفضل لديمولان في فصل موضوع العقد عن شكله و إخضاع شكل التصرفات فقط لقاعدة لوكيس locus، وهكذا نشأ مبدأ سلطان الإرادة، و أول ما نشأ كان في نطاق القانون الدولي الخاص، ثم تلقنه فقهاء القانون المدني و توسعوا في تطبيقه كما أخذت به اتفاقية لاهاي 1954 بشأن التنازع بين القوانين في البيوع.
أما المشرع الجزائري فقد نص في المادة 18 من القانون المدني الجزائري على أنه:
" يسرى على الالتزامات التعاقدية القانون المختار من المتعاقدين إذا كانت له صلة حقيقية بالمتعاقدين أو بالعقد و في حالة عدم إمكان ذلك يطبق قانون الموطن المشترك أو الجنسية المشتركة".
فطبقا لهذا النص استبعد المشرع الجزائري كباقي تشريعات القانون المقارن، الإحالة من هذا المنطلق، و ذلك بسبب أن أطراف العلاقة حينما يختارون قانونا يحكم عقدهم، فالمفروض أنهم لا يعرفون هذا القانون، و أنما اختاروه لثقتهم فيه، كونه الأقدر على حسم المنازعات التي قد تثور بخصوص علاقتهم، و قاعدة الإرادة هي قاعدة إسناد لها جانب موضوعي، بمعنى أنها ترمي إلى تحقيق غاية مادية معينة، و لو كان أطراف العقد يريدون اختيار القانون الذي تشير إليه قواعد الإسناد في القانون المختار من قبلهم، لاختاروا هذا القانون مباشرة بمقتضى قانون الإرادة، و الذي يقول خلاف ذلك يفقد الحكمة التي وضعت من أجلها قاعدة الإسناد، و المتمثلة في احترام توقعات أطراف العلاقة وحمايتهم[75]، فلو اختار المتعاقدان القانون الفرنسي، و استشرنا قواعد الإسناد في هذا القانون و قبلنا إحالتهم إلى قانون آخر، ففي ذلك تجاهل واضح لضابط الإسناد الذي وضعه المشرع لاختيار القانون الواجب التطبيق على الالتزامات التعاقدية، و الذي قد يؤدي إلى إحلال قانون آخر غير القانون الذي اختاره الأطراف ، لكن لو حدث أن اختار المتعاقدان قواعد القانون الدولي الخاص للقانون الأجنبي، فإن قبول الإحالة في هذه الحالة ممكن على أساس أنه يعبر عن احترام لإرادة المتعاقدين كما أنه يتفق وهدف قاعدة الإسناد[76].
و هذا هو الضابط الأساسي و هو القانون المختار، إلا أنه و طبقا للمادة 18 من القانون المدني، فقد وضع المشرع الجزائري ضوابط أخرى استثنائية في حالة عدم وجود القانون المختار، كعدم النص صراحة عليه، فهنا نعتد بالموطن المشترك للمتعاقدين، و إذا كان لكل واحد منهما موطن مختلف، فهنا نعتد بالجنسية المشتركة، أما في حالة عدم توفر كل هذه الضوابط، فإن نص المادة 18 الفقرة الثالثة من القانون المدني الجزائري تقول بتطبيق مكان إبرام العقد.
إلا أن محكمة التمييز الفرنسية وعلى غرار المحكمة الاتحادية السويسرية، اعتبرت أن القانون المطبق على العقود سواء فيما يتعلق بالشروط الموضوعية للعقد، هو القانون الذي اعتمده أطراف العلاقة، و في الحالة التي لا تظهر الإرادة الصريحة لأطراف العلاقة، فلابد من الرجوع إلى ظروف العقد، و هو نفس تفسير محكمة الاستئناف في بيروت التي ترى اللجوء دائما إلى نية المتعاقدين، ثم إلى ظروف أو طبيعة العقد و محتوياته[77].
كما نجد كذلك المشرع الإماراتي ذهب هو الآخر إلى نفس الحكم الذي ذهب إليه المشرع الجزائري، و هو استبعاد الأخذ بالإحالة في مجال العقود، و كرس ذلك في نص المادة 19 من قانون المعاملات المدنية الإماراتي، فنص في الفقرة الثانية على الأخذ بالإحالة لكن بتحفظ، كما جاء في مذكرته الإيضاحية لقانون المعاملات المدنية الإماراتي، و بالتالي استبعد الإحالة في هذا الفرض لنفس الأسباب التي اعتمدها المشرع الجزائري، إضافة إلى المشرع المصري الذي نص على هذا الحكم في نص المادة 19 من القانون المصري، إلا أنه لا يؤثر في قانونه، على أساس أن هذا الأخير لا يأخذ بالإحالة مطلقا، بعدما كان يرفضها فقط في مجال الأحوال الشخصية، إلا أنه تراجع عن هذا الموقف و رفضها مطلقا و بنوعيها.
إضافة إن أن اتفاقية لاهاي لسنة 1955، و التي رفضت الأخذ بالإحالة في البيوع الدولية في الميدان العقاري نصت في المادة الثانية على أن البيع لا بد أن يخضع للقانون الداخلي و الأطراف تكون معنية إما بصفة صريحة أو ضمنية[78].
إلا أن هذا المبدأ لم يسلم من الانتقادات الموجهة إليه، و من بينها أن القانون هو الذي يقرر التصرفات التي تخضع له و ليس الأفراد من يقرر القانون الذي تخضع له هذه التصرفات، كما أن قواعد التنازع في كل دولة يتولي المشرع وحدة وضعها، و هو وحده و ليس للأفراد تنظيمها ، إذ هو الذي يتولى تحديد القانون الواجب التطبيق في كل حالة.
غير أنه لا يعتبر العقد شريعة المتعاقدين، ويكون ملزما لهم بمقتضى القانون فكيف تتوقف قوته الملزمة على اختيار قانون من المتعاقدين يخلع عليه هذه القوة.
ونجد أيضا الفقيه داربيه استغرب في الأمر أن من اعتمد المفهوم الموضوعي لقاعدة الإرادة، يستثني الإحالة من مادة العقود، ويقول أن باتيفول رغم نظرته في التركيز الموضوعي للعلاقة العقدية يستثني العقد من نطاق الإحالة، مع أن النظرة الموضوعية في الإرادة تفترض إطلاق الإحالة في مادة العقود كما في الحالات الأخرى[79].
ويمكننا الرد على هذا الرأي بأن الهدف من وضع قاعدة الإسناد، هو من أجل حفظ سير معاملات الأفراد، فأطراف العلاقة عندما يختارون قانون معين، فيفترض فيهم أنهم يعرفون ذلك القانون جيدا ويثقون فيه، وبالتالي لا يمكن أن نفرض عليهم قانون لا يعلمان بأحكامه، فيمكن أن يؤدي إلى إبطال عقدهم، وهذا يتنافي مع الهدف الذي أولاه المشرع من قاعدة الإسناد، و استبعاد الأخذ بالإحالة، وحسنا ما فعل المشرع الجزائري وغيره من القوانين المقارنة ، من تطبيق هذه الحالة لما يكون القانون الواجب التطبيق هو قانون إدارة التعاقدين، لأننا نكون أمام تعارض واضح بين نتيجة الإحالة والحرية الممنوحة لهؤلاء الأطراف[80].
وقد عملت الاتفاقية الأوروبية للالتزامات التعاقدية في 19-06-1980 في جنيف على وضع لجنة من الخبراء من عام 1972 وانتهت في جنيف عام 1980، تشترط أن تعمل هذه اللجنة في الدول الأعضاء، [حتى بالنسبة إلى العقود التي تعود إلى دول غير أعضاء في الجماعة الأوروبية ] وإنما تطبق في كل العقود الدولية وذات الأبعاد أو الصفات الأجنبية، وتتوقف قواعد التنازع الوطنية عن النفاذ، وتؤكد الاتفاقية على القانون المتفق عليه مابين أطرافه، كما تؤكد على أنه لا يجوز المساس بالنصوص الآمرة المقررة في قوانين الدول ذات العلاقة، والتي يمكن أن يتم تطبيقها، ولها العلاقة المباشرة، وعند عدم وجود قانون متفق عليه يتم تطبيق القانون الأكثر علاقة والأكثر ارتباطا، والذي يفترض فيه أن يكون بالنسبة للأطراف مكان السكن المعتاد، وللشركات مكان الإدارة المركزية، و ذلك بشأن العقود التي يتم فيها التنفيذ العيني لها، أما بالنسبة للتاجر، فإن العقد يخضع إلى قانون مكان تعاطي الأعمال الرئيسية، أو مكان تعاطي الأعمال من خلال مكان تنفيذ العقد.
وهكذا يكون معيار القانون المتفق عليه هو الغالب في العقود الدولية، على أن لا يكون هناك احتيال للإفلات من النصوص الآمرة المقررة في قوانين الدول المعنية[81].
الفرع الثاني: استبعاد الأخذ بالإحالة بشأن العقود المتعلقة بالعقار:
لقد قرر المشرع الجزائري كشقيقه المصري، إخضاع العقد الذي أبرم بشأن العقار لقانون موقعه، فبعد أن نص في المادة18 /01 من القانون المدني على أن الأصل في إخضاع العقود بصفة عامة لقانون الإرادة، أورد في فقرته الأخيرة على أنه يسري على العقود المتعلقة بالعقار قانون موقعه، و هو نفس الحكم الذي أوردته باقي تشريعات القانون المقارن، حيت أخضعته هو الأخر لقانون الموقع، إضافة إلى كل ما يترتب من حق المستأجر، والذي نقل عن القانون البولوني الصادر في1926، و لو رجعنا إلى هذا القانون لوجدنا أنه يخضع للقانون البولوني وحده، كل عقد يترتب أو يغير أو ينهي الحقوق العينية على العقار في بولونيا ، سواء من حيت شكله أو من حيت شروط صحته، إلا أنه في القانون الجزائري، استثنى ما ينشئ مثل هذا العقد من حقوق شخصية، فيجب إذن أن يتحدد نطاق الاستثناء المنصوص عليه في المادة18 من القانون المدني الجزائري، مما ينشئ العقد الوارد على العقار من حقوقه العينية أو نقلها أو إنهائها، ولا يجب أن ينطبق على ما ينشئ من حقوق شخصية[82]، و هذه الفقرة الأخيرة جاءت كاستثناء على مبدأ قانون الإرادة، اقتضته اعتبارات استقرار المعاملات العقارية و الحفاظ على حقوق الغير، إلا أن هذا الحكم لا يطبق على الأهلية والتي تظل خاضعة دائما للقانون الشخصي، إضافة إلى عقد الإيجار فإنه يظل خاضعا دائما لقانون الإرادة، و لو اقتضى الأمر التأشير بالإيجار إذا تجاوزت مدته حدا معينا بالمحافظة العقارية التابع لها العقار، لأن ليس من شأن ذلك تغيير طبيعة الحق من حق شخصي إلى حق عيني[83]، و في هذا الفرض فإنه لا مجال للأخذ بالإحالة لأنه سيبتعد عن الهدف المتوخى من هذه القاعدة.
و قد أتى نبواييه بنفس الحكم، وهو ضرورة استبعاد الأخذ بالإحالة وإخضاع العقد الواقع على عقار لقانون موقعه، سواء من حيث الموضوع أو الشكل، على أساس أن هذا الأخير إجراء جوهري و ركن رابع لصحة التصرف، و هو نفس مذهب دارجنتريه، غير أن هذا الأخير كان يضيف الحكم حتى على الأهلية، وقد اتبعت المدرسة الهولندية هدا الرأي، وأخذ به كذلك الفقيه الأمريكي ستوري ، و أصبح خضوع العقد الواقع على عقار لقانونه موقعه هو المعمول به، و استبعاد الإحالة في هدا الفرض، لأنه إذا طبقنا هده النظرية، فيمكن أن نطبق قانون غير القانون الموجود فيه العقار، و هذا متناقض مع استقرار المعاملات العقارية و الحفاظ على حقوق الغير .
إضافة إلى أن القضاء الانجليزي أخد بالقاعدة نفسها، أما القانون الفرنسي ففي البداية كان القضاء متأثرا بفقه دارجنتريه، الذي يخضع العقار لقانون موقعه ، ولكن اعتبر هده القاعدة غير آمرة ويجوز للأفراد أن يتفقوا على إسناد العقد الوارد على العقار لقانون آخر.
ومنذ أن أصدرت محكمة النقض الفرنسية حكما في 09-10-1956، أصبح العقد الوارد على العقار يخضع لقانون موقعه، فيما يرتبه من حقوق عينية عليه فقط، أما شكله فيسري عليه قانون المحل، و أما موضوعه فيخضع لقانون الإرادة[84]، و بالتالي أصبح نفس حكم القانون المدني الجزائري ، و الهدف الذي أولاه المشرع من خلال استبعاده للإحالة في هذه الفروض هو تجنبه للآثار السلبية التي قد تحدثها الإحالة، فمن غير المعقول أن يؤدي ذلك إلى إبطال العقد، في حين أن قانون موقع العقار يجيز ذلك، و هذا غريب عن الهدف الذي يتوخاه المشرع الجزائري،وقد أكد بعض الفقهاء على أن الإحالة لا تطبق فقط في العقود الثنائية ، ولكن يمكن أن نطبقها في جميع الحالات الأخرى، غير أنها تستثنى عندما تكون قاعدة التنازع تتضمن أحكام لا تتطابق و هدف الإحالة[85].
ويمكن أن نرد على هذا الرأي، على أن العقود المتعلقة بالعقار تخضع لقانون موقعه، هي من قبيل الاستثناء الذي أكده الفقيه، بقوله عندما تكون قاعدة التنازع تتضمن أحكام لا تتطابق و هدف الإحالة.
الخاتمــة
إن المشرع الجزائري و كباقي تشريعات القانون المقارن تكلم عن الإحالة في القانون الدولي الخاص، و ذلك في المادة 23 مكرر 01 من القانون المدني المعدل بالأمر05- 10 و المؤرخ في 20يونيو 2005، بعدما كان في القانون القديم ينص فقط على الإحالة الداخلية في المادة 23 منه، بمعنى أنه كان يرفض الإحالة الدولية ، لكن هذه المادة المستحدثة ، بالقدر الذي وضحت فيه موقف المشرع الجزائري من الإحالة الدولية، ولم تترك المجال أمام سكوت المشرع الذي كان سائدا من قبل ، بالقدر الذي فتحت فيه باب النقاش أمام الغموض الذي يسود المادة ، فقد رأينا من خلال بحثنا هذا أنه نص في نفس المادة على حكمين متناقضين ، ففي الفقرة الأولى من المادة23 مكرر01 من القانون المدني الجزائري، نص على رفض الإحالة مطلقا و بنوعيها ، أما في الفقرة الثانية من نفس المادة نص على قبولها، في درجتها الأولى، ولم يبين لنا ما هو سبب هذا التناقض ، هل أنه تعمد الفقرة الثانية على أساس أنها استثناء من القاعدة العامة، كما فعلت أغلب تشريعات القانون المقارن ، أم أن ذلك وقع سهوا منه.
إلا أنه و بدراسة مختلف الجوانب القانونية للمادة السالفة الذكر في مستهل بحثنا، استنتجنا أن المشرع الجزائري ، وضع الفقرة الثانية اعتباطيا، على أساس أن القاضي الجزائري عندما يعرض عليه نزاع مشتمل على عنصر أجنبي، فإنه يطبق القواعد الموضوعية في ذاك القانون دون اللجوء إلى قواعد التنازع فيه، وذلك طبقا للفقرة الأولى من المادة، ولكن ما هو المركز القانوني للفقرة الثانية، التي تنص على أن القاضي الفاصل في النزاع لابد عليه الرجوع إلى قواعد التنازع في القانون الأجنبي ، فمن غير المنطقي أن ينصاع القاضي الجزائري في آن واحد إلى قاعدتين آمرتين و متناقضتين فيما بينهما، فالقارئ للفقرة الأولى من المادة السالفة الذكر ، يفهم أن القانون الجزائري، يرفض بصفة مطلقة الإحالة، على اعتبار أنه و من المتعارف عليه و عملا بالقاعدة الكلية التي تنص على أنه إذا ذكر النص قاعدة قانونية فهذا يعني أنه ينكر عكس ذلك ، ففي معرض بحثنا هذا، نرى أن المشرع ذكر و دائما في الفقرة الأولى من المادة السابقة، على أن القاضي الفاصل في النزاع المشتمل على عنصر أجنبي، يحتكم إلى القواعد الداخلية لذلك القانون، بمعنى أنه لا يذهب أبدا إلى قواعد التنازع فيه، و لكنه يصطدم بالقاعدة الآمرة المنصوص عليها في الفقرة الثانية، و التي تنص على وجوب الاستعانة بقواعد الإسناد في القانون الأجنبي، فهنا يجد القاضي نفسه أمام حلين لا يعرف الأصح فيهما ، أما إذا قام هذا الأخير بالاحتكام إلى الفقرة الأولى دون أن يعبأ بوجود الفقرة الثانية ، فما هي الفائدة من وجودها، على أساس أن القاضي يطبق إحدى الفقرتين، إما أنه يطبق القواعد الموضوعية في القانون الأجنبي و بالتالي لا يأخذ بالإحالة مطلقا، أو أنه يستشير قواعد الإسناد فيه، وبالتالي يطبق الإحالة ، بمعنى آخر إذا ذهبنا إلى حد بعيد، فإن إحدى الفقرتين لا بد أن تلغى، كون أنه إذا اشتمل النص على عنصرين متناقضين ، فمعنى ذلك أنه دون فائدة ، إلا أنه في رأينا أنه إذا ما قرر المشرع الجزائري أن يحذف أحدى الفقرتين فلا بد عليه أن يحذف الفقرة الثانية التي تنص على الأخذ بالإحالة، لأن هذه الأخيرة هي استثناء من الأصل، و هو تطبيق القواعد الداخلية للقانون الأجنبي، إضافة إلى كونها وكما سبقت الإشارة إليه تؤدي إلى نتائج غير منطقية، و خاصة إذا تعلق الأمر بالحالة الشخصية للأفراد.
و يمكن أن نستدل بأكبر دليل على استبعاد المشرع الجزائري للإحالة على غرار باقي تشريعات القانون المقارن ، وذلك بانعدام التطبيقات القضائية من أحكام و قرارات تنص على الإحالة، سواء قبل إضافة المادة23 مكرر01 بالأمر 05-10 المستحدثة أو بعدها، وهذا ما يدل على نية المشرع في رفضه للإحالة ، و يبرر أكثر عدم جدية الفقرة الثانية
و كان على المشرع الجزائري أن يتخذ موقفا مطلقا، و ينتبه أكثر إلى الفقرة الثانية من المادة المذكورة ، وحبذا لو أخذ بما أخذت به التشريعات المقارنة و الرافضة للإحالة
المراجع المعتمدة
القوانيـــن:
1- القانون المدني الجزائري المعدل بموجب الأمر 05-10 المؤرخ بتاريخ 20يونيو 2005
2- قانون التجارة العراقي.
3- القانون المدني المصري.
4- قانون المعاملات المدنية الإماراتي.
5- مجلة القانون الدولي الخاص التونسي.
6- القانون المدني الليبي .
7- القانون المدني الأردني.
8- القانون المدني السوري.
الكتب الفقهية :
أ)- باللغة العربية:
1- الدكتور الطيب زروتي، القانون الدولي الخاص الجزائري، تنازع القوانين ، الجزائر ،مطبعة الكاهنة
2-.الدكتور أعراب بلقاسم، القانون الدولي الخاص الجزائري، تنازع القوانين ، الجزء الأول ، الطبعة الثامنة 2006، دار هومة.
3- الدكتور حسن الهداوي، القانون الدولي الخاص ، تنازع القوانين ، المبادئ العامة و الحلول الوضعية في القانون الأردني، دراسة مقارنة ، دار الثقافة للنشر و التوزيع2005.
4- الدكتور سامي بديع منصور، الوسيط في القانون الدولي الخاص ، تقديم البروفيسور فايز الحاج شاهين، دار العلوم العربية، بيروت لبنان1994 .
5- الدكتور سامي بديع منصور و الدكتور محمد عكاشة عبد العال، القانون الدولي الخاص، طرق حل النزاعات الدولية الخاصة، الحلول الوضعية لتنازع القوانين، الجنسية، الإجراءات المدنية و التجارية الدولية، الدار الجامعية..
6- الدكتور على على سليمان, شرح القانون الدولي الخاص الجزائري, ديوان المطبوعات الجامعية , طبعة 03 1991 .
7- الدكتور عكاشة محمد عبد العال، الإحالة في القانون الدولي الخاص، و الموقف منها في ضوء وظيفة قاعدة الإسناد (دراسة مقارنة في القانون المقارن و دولة الإمارات العربية المتحدة ).
8-.الدكتور ممدوح عبد الكريم ، القانون الدولي الخاص ، تنازع القوانين، الاختصاص القضائي الدولي ، تنفيذ الأحكام الأجنبية، دار الثقافة للنشر و التوزيع2005
9--الدكتور محند اسعد، القانون الدولي الخاص ، قواعد التنازع، الجزء الأول ، ديوان المطبوعات الجامعية ، ترجمة فائز أنجق..
10 الدكتور هشام على صادق، تنازع القوانين، دراسة مقارنة في المبادئ العامة و الحلول الوضعية في التشريع المصري, توزيع دار الكتاب الحديث 1993، منشأة المعارف الإسكندرية.
11- الأستاذة حسينة شرون، محاضرات حول علاقة القانون الدولي بالقانون الداخلي ، جامعة محمد خيضر ،بسكرة.
12- الدكتور عبد الله عز الدين ،القانون الدولي الخاص، تنازع القوانين، القاهرة.
المجلات القضائية
1- مجلة المحكمة العليا ، العدد01، سنة 2006
ب)- باللغة الفرنسية:
1)- Paul lerbours, pigonnière -Yvon loussourn, droit international privé ,9eme édition, précis Dalloz ,1970
2)- François Rigaux, Marc fallon, droit international privé, 3eme édition, précis de la faculté de droit de l’université catholique de lomvin, larcier 2005
3)- Mohamed Issad, droit international privé, les règles de conflits, office des publications universitaires, Alger